القائمة الرئيسية

الصفحات

قراءة لخطاب الجندر في رواية "الأسود يـليق بكِ" لأحلام مستغانمي



بوزيان أوراغ                                                                                                 

قراءة لخطاب الجنـدر في رواية "الأسود يـليق بكِ" لأحلام مستغانمي

 

*

 

    الملخّصإذا كانت الكتابة الروائية النسوية في مرحلة الواقعية وسيلة لإيصال الصوت النسائي، مع زهور ونيسي وزوليخة السعودي وغيرهن، فإنها في الوقت الحاضر أصبحت هدفا بحد ذاتها، وآلية جندرية لتثبيت القدم في البنية السوسيو ـــ الثقافية بما فيها تحدى سلطة المجتمع والمركزية الذكورية ــــ النسق المسيطر ــــ مجاله المضمر (الطبائع النسوية الخاصة التي تفضي إلى الجندر؛ لا الدلع الأنثوي المعقول ولكن الأنانية والتأنق الشديدين في حضور الرجال، ناهيك عن هواجس الفعل والنقد الساخر لفحولته وتفضيل المسيحي عليه) الذي لا تتشابه فيه المجتمعات في عصر العولمة الثقافية الكاسحة، مما يثبت بأن جميع إشكاليات النقد الأدبي وحلولها ذات طبيعة ثقافية، من ذلك الخطاب الذي اختلف اللسانيون في عده ظاهرة لغوية اجتماعية أو فردية كلامية، أو هما معا حسب باختين وتودوروف (ينظر: عبد الواسع الحميري، الخطاب والنص (المفهوم العلاقة السلطة)، ص99)، ولذلك تناولنا إلى ما يوحي إلى ممارسة الجندر عبر الخطاب الموحي إلى الخاصية الفردية والعادات والتقاليد الاجتماعية معا. وفي خطاب الرواية التي بأيدينا عدة مفاتيح لخطاب جندري وكأنه مختفي غير مصرّح به (وصف الأعضاء الجنسية) مع ذلك سماته موجودة في خطاب مرتبط بسياقه وهو أحد أسبابه؛ إذ من غير المعقول  ومن غير الطبيعي عدم تجسُّد مستوى رهيف من الشعرية في واقع الحال جندريا، وما يعضد هذا الاستنتاج هو أنه ممارس في الكتابة النسوية العربية ومتابع من النقد النسوي العربي على نطاق واسع أكثر محافظة من الجزائر، كإحدى تجليات ما بعد الحداثة، التي تبيح للأفراد إناثا وذكورا ممارسة المختلف بكل أشكاله، ولا يمكن تحليل هذا التيار إلى من خلال وضعه في سياقه الثقافي لغة وخطابا.

الكلمات المفتاحية: خطاب الجندر، النسوية، النقد الثقافي، تحليل الخطاب الثقافي، الرواية الجزائرية المعاصرة.

    المقدمة: وللسياق دور في تمثل خطاب رواية الأسود يليق بكِ الهوية النسوية الوسطية المنفتحة على اﻵخر كونه آخرا يذم الفكر السلفي والتقاليد البطريركية التي تمنع المرأة من التحرر، وقد تجلىّ عبر متضادات نسقية: نسق السلطة الأيديولوجية، نسق المجتمع الأصيل البنية الاجتماعية في بطريركيته وهو المسيطر، ونسقي المجتمع العلماني المؤمن بحرية المرأة والإسلام المتطرف كنسقين غائبين، ضمن منظومة الهوية الثقافية المحلية. أما منهج البحث فعبارة عن توليفة من مناهج عدة لكن تحت عباءة النقد الثقافي، بحكم اطلاع هذا ‏الأخير بالجماليات خارج النصية (اللا وعي بالجماليات متحولا إلى مضمرا قبحيا) والنصية معا، نقد ثقافي كاشفا عن النسق المضمر ضمن السياق الثقافي جاء مخالطا في بحثا لمنهج البنيوية ‏تكوينية في إطارها المفضي إلى الدلالات الاجتماعية والثقافية المرجعية المتبلورة عن علاقات البنية والوظائفية الجمالية النحوية للخطاب الثقافي، كما نظّر لها لوسيان جولدمان، ‏دون إهمال التداخل بالجوانب النفسية وانتظارات القارئ، أي أننا بصدد تحليل خطاب ثقافي.

1. دور السياق في تبلور خطاب الجندر (ضدية المنع الذكورية العربية أنموذجا):

  أهمية السياق في الخطاب أهمية محورية، فالخطاب يرتبط بالمجتمع الذي ينتجه ويوجه إليه ويحمل قیّمه، حتى كون الخطاب كلامي خاص (ضمن حقل اللسانيات) فهو غير مستقل عمّا هو مستعمل ومتداول، الذي يؤخذه الفرد باستعدادات فطرية، أو كون الخطاب خطابا أدبيا، ووجب التفريق آنئذ بين الأدب والعمل الأدبي من وجهة لسانية، فإنه يبقى للسياق أثر ودور في تشكّل الخطابات التي تكتسب جماليتها بما تحمله من مفارقات سوسيو ـــ ثقافية، بما في ذلك خطاب الديماغوجية والنسوية، اللذان هما خطابان مضمران في بعض الفضاءات السوسيو ــ ثقافية العربية.

  النسوية في مجال الأدب ليس حدثا وليد الساعة بل لها امتدادات في الوعي الجمعي والتراث الثقافي العربيين إلى العصر الجاهلي، حين كانت الأنثى توأد خشية أن تشعر فتجلب العار لقبيلتها، وحين كان الغناء والحكي حكرا على المرأة في التراث الإسلامي، باق من اختصاص الجواري وإلى أيامنا هو مستمر في المناطق النائية في دول بعينها أي ثقافة نسوية متباينة الإضمار من بلد لآخر، وعندما أصبح المعنى الجمالي للثقافة (الثقافة العالمة) يؤكّد عبر الفنون على الخصوصية الثقافية منذ نهاية التسعينيات وبداية الألفية الثالثة، التاريخ الذي شهد ولادة ما أصبح يعرف بأسلوب الرواية الجديدة، متلون بتيار ما يعرف ﺑ "ما بعد الحداثة" في كتابات روائيين وشعراء جزائريين خاصة الهواة منهم. منذئذ أصبحت الرواية عندنا تطرق موضوعات الهوية المثيرة لقضايا الدين والعرقية /الطبقية والنسوية/ الجندر الشائكة دونما تريّث بهذا الترتيب، والنسوية الجزائرية ليست وليدة كتابة نسوية عربية مستقلة عن مطالب الحركة النسوية في العالم، بل كانت نتيجة استعارة الحداثة بما فيها الحداثة النسوية على مدار القرن التاسع عشر، مُطالبةً بالمساواة في ميدان العمل والتعليم والانتخاب والحقوق المادية مع الرجل. ثم مع الموجة النسوية الثانية في الولايات المتحدة وصولا إلى "الثورة النسوية" بأتم معنى الكلمة، وهي النضال من أجل الحقوق المعنوية بمساواتها بالرجل في الحرية والعدالة وتعدد الزيجات والفن وحرية التعبير والتحرر المدني من البطريركية وغيرها، هذه المكتسبات تطورت إلى تيار "ما بعد النسوية" فيما عرف ﺒ "الموجة النسوية الثالثة" بداية السبعينيات، ففي حين انشغلت التنظيرات النسوية الغربية بالصراع بين النسوية في مرحلتها الثانية، والتي مثّلتها الكاتبة الفرنسية سيمون دي بوفوار بقضايا الطلاق والتحرش الجنسي، أثارت حركة مرحلة ما بعد النسوية حق التحرش الجنسي والاغتصاب والمثلية، وهي انقلابات لم ترُق للجميع كونها كرّست نموذج المرﺃة الداعرة وشرعنته.

  وبدأت عربيا مرحلة اكتشاف الذات وإثباتها في الكتابة مع نوال السعداوي، وليلى العثمان، وفاطمة المرنيسي وغيرهن، وهي المرحلة التي تحولت فيها النسوية إلى سياسة للهوية الثقافية بصفة عامة وللهوية الجندرية* بصفة خاصة في النص الأدبي خطابا وقصة وسردا، وهي متعلقة بشكل وثيق بظروف البنية السوسيو ـــ ثقافية؛ البطريركية التي ينتجها اﻵخر المسيطر الذكوري، يتحول فيها النص الذي تكتبه المرأة من وسيلة لإسماع الصوت إلى هدف بحد ذاته، إلى خطاب جندر  *(Gender) * كما سنرى مع بطلة أحلام مستغانمي في روايتها "الأسود يليق بك" التي تومئ إلى الجندر بتغندر فائق الوصف على عشيقها الثري، برفض المبادرة في طلب الحب برغم حاجتها إليه.

  وطرح هذا المفهوم مُجلٍ لموقف هوية مضاد للدين والسلطوية، فعندما اتكأت الكتابة النسوية على سرد الجسد الأنثوي (بالضمير أنا) والذي هو في رمزيته (مقموع أو مبتور أو منتشي) أكسب الكتابة الأنثوية جمالية وخصوصية، بل خطابا أدبيا ثقافيا، وهذا ما طرحته روايات فضيلة الفاروق وأحلام مستغانمي بعد رشيد بوجدرة وأمين زاوي. خطابات إذن أثيرة بقضايا وآفات ولدت من رحم الأسرة ونمت في سياق محافظ/الجزائر والخليج، وشبه محافظ/لبنان، مناداة بتحرير المرأة من ﺃسْر التابوهات المقترنة بها، إثباتاً لذواتهن ومواجهة النسق السوسيو- ثقافي المحلي المسيطر باعتبار ﺃن الأسرة هي منشأ العلاقة الأخلاقية بين الناس (..) لا أخلاق بغير أسرة[1] لكن بإدراك جدلي، نتيجة علاقة الرواية الجديدة بالتيار المذكور المحتفي بالمتشظي والهامشي والمسكوت عنه واللاﱠمفكر فيه واللاﱠعقلاني، والمنقب في كل ما يقيمه العقل من توازن بين الروح والجسد[2] ﺃي بين المقدس والمدنس على مستوى العقل الأخلاقي العربي المنطوية على منظومة، أحدهما هاجسي والآخر هوسي، وإلا ما كان الروائي ليطرق مواضيع تستأثر بالكرامة والأنفة لولا شدة الهوس أو الهاجس المؤرقين اتجاهه.

  ولعلّ في هذا التحليل النقدي الثقافي لرواية الأسود يليق بك الحاملة لسمات الرواية الجديدة هو استكناه للخطاب الجدلي في علاقة الذات بالمتمثل للآخر أيضا في فضاء سوسيو- ثقافي عاج بالمحظورات نأيا للهوية الثقافية المحلية المتمثلة أساسا في العادات والتقاليد الدينية والقيم الاجتماعية المرتبطة بهما من الانحصار على يد العولمة الثقافية، ناهيك أن تيار النسوية، والذات والأخر، الهوية والثقافة وقضاياهما كلها بذور منتشة تحتاج فقط إلى تربة النقد الثقافي الخصبة كي تثمر فأكثر ما يقال اليوم عن العولمة٬ يكاد يكون تكرارا لما قيل من قبل عن الغزو الثقافي ﺃو الإمبريالية ﺃو التبعية، حتى عن الحداثة بوصفها "غربية" و"غازية".. فهناك ظاهرة تضخيم إيديولوجي في تعاطي المثقفين العرب مع العولمة[3]

  في نفس الوقت هو استكناه لجمالية النص الروائي الجديد الذي تكتبه الأنثى بتوظيف فني لرموز الجسد ولعنصري الشخصية العالمة المقابلة للشخصية غير العالمة، اللتين ليس لهما وجود خارج ثنايا الكلمات لكن يتلبسهما دوما خطاب وفائض معنى لدى ﺃرمدة من الروائيات الجزائريات المعاصرات فرانكفونيات أو مستعربات كأمينة شويخ، زهرة ديك وسارة حيدر وغيرهن كثيرات، مركزات على "الشخصية العابثة بهويتها (رمزية العبث بالجسد): مصادر ثقافتها هي ثقافة الآخر والشخصية كمرتكز للحفاظ على هويتها التي مصادر ثقافتها تراثية[4] ومع كلا الشخصيتين نلفي حضور النظام البطريركي ordre patriarcal تلك الرعاية أو الوِصاية الدينية على الفرد التي تقف ضد فكره الحر والمستقل.  

2تحليل رواية اﻷسـود يـلـيق بكِ على ضوء النقد الثقافي:

   ينفتح السرد في الرواية الجديدة عموما منها رواية "الأسود يليق بك" التي نحن بصددها على جماليات مشتركة عدة، لعل أبرزها شعرية اللغة والخطاب، أحادية الصوت السردي والتعدد الأجناسي: الرسم، موسيقى، موضة، تراث شعبي.. وإن لم ينح خطابها باللائمة على التقاليد الدينية وعلى تكريسها لقيم ما، كقيم الذكورة وتمجيدها بواسطة ثقافة الرضى والطمأنينة، فإنه يشي إليها من خلال بعض المضمرات في لاوعي المرأة الشرقية (هالة الوافي) اتجاه الرجل الغربي الثقافة (طلال هاشم) ضمن بنية سردية هي بنية السرد النسوي. وما زلنا في بحوثنا نحلل روايات جزائرية بعينها، هي تلك التي تخص الجيل الذي مسته سمعة حقة دون سواه ــــ بوجدرة، فضيلة الفاروق وأحلام مستغانمي وجيلالي خلاص ومحمد مفلاح ومحمد ساري ــــ ليس لأنه كان الأجلى في توظيف تقنياتها، ولكن كوننا لم نتجاهل روايات الأقلام المغمورة إلاّ بعدما بدى لنا أنه لا يكمن فرقا بينها وبين الاحترافية، بل أن الاحترافية التي يخرج فيها أصحابها عملا من الأعمال كل عشر سنوات ونيّف هو الذي حفزنا لتحليلها لعلّنا نجد فيها ما لم نجده في التي يخرجها "الهواة" كل سنة أو كل سنتين. 

  1.2. نحو القص أو الخطاب الثقافي:

 1.1.2 مفهوما الخطاب وتحليل الخطاب:

   الخطاب حسب "بنفنيست" هو كل مقول يفترض متكلما ومستمعا تكون لدى الأول نية التأثير في الثاني بصورة ما[5]. بيد أن غريماس يجعل من "النص" مرادفا للمقول أو للخطاب مستندا إلى اشتراك اللفظتين في أداء المعنى*. ويكون مصطلح الخطاب عبر مراحل تبلوره في النقد الأدبي المعاصر قد اتخذ مفاهيم متعددة أهمها:

أ- خطاب مرادف للمفهوم السوسيري "كلام" وهو معناه المعروف به في اللسانيات البنيوية.

ب- الخطاب منسوب إلى فاعل، وحدة لغوية تتجاوز أبعادها الجملة أو منقول.

ج- مقول منظورا إليه من زاوية الميكانزمات الخطابية المتحكمة فيه أو المكيفة له، وهكذا فإن نظرة النص من حيث كونه بناء لغويا تجعل منه مقولا، أما البحث في ظروف وشروط إنتاجه فتجعل منه خطابا[6].

   وأما مصطلح تحليل الخطاب أو تحليل التلفظ فظهر لأول مرة مع زيليغ هاريس 1950 الذي عني في بحوثه لفهم الإجراءات وتبادلات الوحدات الجملية، مستفيدا من التضمينات التي وضعها فرديناند دي سوسير بين اللغة والكلام ، لكن التأسيس الفعلي لهذا الحقل كان في سنوات الستينيات مع انبلاج التداولية ونظريات التلفظ، واللسانيات النصية والبعد الحواري للعملية الخطابية، وتحليل الخطاب يهتم بالجانب الاستعمالي للغة، ومحلل الخطاب ملزم بالبحث فيما تستعمل تلك اللغة لأجله، باعتبار تحليل الخطاب يستهدف إعطاء وصف كيفي للنصوص اللغوية تحت الدراسة، وذلك من خلال التركيز على بعدين أساسين هما: أولا: النص Text ويعني بنية الخطاب الداخلية التي تتألف منها المفردات، والتراكيب النحوية والصرفية، والجمل. وثانيا السياق Context ويعنى دراسة الخطاب في ضوء الظروف الخارجية والمؤثرات المباشرة عليه وظروف إنتاجه، فالخطاب يرتبط بالمجتمع الذي ينتجه ويوجه إليه ويحمل قیمه.

   ويرى باتريك شاردو ودومينيك مانغنو: "أنه من الصعب وضع تصور دقيق لتاريخ تحليل الخطاب أو تعيين حدث ما يمكن الانطلاق منه في وضع تصور تحديدي لمعنى هذا التركيب (تحليل الخطاب Analyse du Discours) مع ما يجب أن نشير إليه من الممارسات التطبيقية على النصوص من خلال التخصصات القديمة، البلاغة والفيلولوجيا والهرمنيوطيقا.. واعتبر كلاهما أن دراسة تحليل الخطاب تقتصر على القضايا التالية: ــــ تحليل الخطاب باعتباره دراسة للخطاب أي دراسة الاستعمال الحقيقي للغة من قبل متكلمين حقيقيين في وضعيات حقيقية.

ــــ تحليل الخطاب باعتباره دراسة للتحادث اللغوي كظاهرة اجتماعية تفتقر إلى وجهة نظر المحلل.

ــــ تحليل الخطاب باعتباره وجهة نظر خصوصية/ذاتية وأدبية للخطاب، ولا بد أن يصاغ حينئذ الخطاب مبنيا للمجهول (خطاب، وتحليل خطاب) سواء كان الأدبي محكيا أو مكتوبا.[7]

2.1.2 وتمثّل خطاب رواية الأسود يليق بكِ بشكل عام الهوية النسوية الوسطية، المنفتحة على اﻵخر، بذم الفكر السلفي والتقاليد البطريركية التي تمنع المرأة من التحرر، وقد تجلىّ عبر متضادات نسقية: نسق السلطة الأيديولوجية، نسق المجتمع الأصيل البنية الاجتماعية في بطريركيته وهو المسيطر، ونسقا المجتمع العلماني المؤمن بحرية المرأة والإسلام المتطرف كنسقين غائبين/متنحيان.

   إذا كانت الكتابة الروائية النسوية في مرحلة الواقعية وسيلة لإيصال الصوت النسائي، مع زهور ونيسي وزوليخة السعودي وغيرهن، فإنها في الوقت الحاضر أصبحت هدفا بحد ذاتها، وآلية جندرية لتثبيت القدم في البنية السوسيو ـــ الثقافية بما فيها تحدى سلطة المجتمع والمركزية الذكورية ــــ النسق المسيطر ــــ مجاله المضمر (الطبائع النسوية الخاصة التي تفضي إلى الجندر؛ لا الدلع الأنثوي المعقول ولكن الأنانية والتأنق الشديدين في حضور الرجال، ناهيك عن هواجس الفعل والنقد الساخر لفحولته وتفضيل المسيحي عليه) الذي لا تتشابه فيه المجتمعات في عصر العولمة الثقافية الكاسحة لكنها تتمايز، كل اﻷفراد يشكلون مجموعة خاصة في مقابل العام، ﺃي تكون لهم هوية مميزة ضمن البنية العامة التى يعيشون فيها، والتى لها هوية مغايرة ٳذ يرتبط مصطلح "الهوية" بالتركيز على الخاص في مقابل العام[8] 

بذلك تميز خطاب الروائية ﺃحلام مستغانمي* بشكل خاص بالمضمرات النسقية التالية:

3.1.2 مسوّغ الحرب للتّحرر من التابو:

   وقد وظّفت المؤلفة خطاب التاريخي المتمثل في النضال الوطني ضد الاستعمار ثم ضد المتشددين كي تقودنا إلى التعرف على السياق النصوصي الناجح والثابت لها، و كطعم، تحفّز به وتستحوذ على ﺃفق توقعات القارئ الجزائري والعربي على حد السواء، كما جرى مع "ذاكرة الجسد"، خاصة وﺃن الجزائر عاشت حرباً بين المتشددين اﻹسلاميين الذين اغتالوا ﺃب وﺃخ و أخت البطلة هالة الوافي التي أحبت رجل الأعمال المسيحي اللبناني "طلال هاشم"، فبعد أن قتل الإرهابيون والدها وشقيقها الوحيد، لتكون أختها ذات العشرين عاما الضحية الثالثة من عائلتها، جاءت التهديدات الموجهة إليها كعامل مباشر حثّها على المسارعة إلى هجرة الوطن، بهدف ظاهر هو حفظ حياتها وآخر باطن هو الانتقام الجندري من نسق مركزي مهيمن ثقافيا عن طريق الثقافة وهي فن الغناء.

 حتى وإن لم توهمنا بالمطابقة مع بطلتها حيث لم تجعلها كاتبة وجعلتها مغنية، فإن رواية مستغانمي جاء بدلالات عامة تشكلت من جزئيات الخطاب المضمرة وفي عمومها ما أومئ إلى محاولة جذب القارئ جذبا استهلاكي ليستمتع بتفاصيل حكاية حب فتاة جزائرية بكل عنفوان أحاسيس ومشاعر الحب عند المرأة الشرقية إذن باختراق المرأة الجزائرية للتابو، كون قصة العشق والغرام الذي تفصح عنه المرأة في مجتمعاتنا يبقى تصرفا منبوذا مبتذلا حتى ولم تطأ جمالياته بجنون من احترفن فيه عربيا، خاصة وﺃنّ القارئ قد عايش معاناة الإرهاب من جهة واختراق الغزو ثقافي الغربي من باريس ومن مراكز إشعاعها المختلفة سنوات الثمانينيات والتي تثقف عليها الجزائريين الذين تجمعهم بها رابطة التاريخ والدم أحيانا كطرائق موضة تحتذى، منها ما يشكل بالنسبة إليه محظورات جنسية وتابوهات فيتعامل معها كمن يتعامل مع هواجس نفسه الشيطانية، ومنهم من يقلدها بهوس. على هذه الجدلية وظفت مستغانمي الهجومات اﻹرهابية على كل ما يمت بصلة بحرية المعتقدات وبحرية المرﺃة داخل بلادها في التسعينيات، وفي مناطق الربيع العربي حاليا، كذريعة ومسوّغ فاسحة المجال لنكهة من جماليات الجسد في الرواية.

  بيد أن الملاحظ ﺃن اختيار الشام مسرجا لأغلب أحداث الرواية لم يأتِ اعتباطا؛ فللحرية المتاحة فيهما ماديا ومعنويا المبرر. حيث ﺃصبحت بيروت ملاذ للروائيات والشاعرات الجزائريات منهن فضيلة الفاروق ولميس سعيدي.. ناهيك عن المغنيات ومزار أشهر الروائيين والفنانين الجزائريين المتكونين هناك، ﺃما مسألة تمسك البطلة هالة الوافي بلباسها اﻷسود وهي تبادل عشيقها الحب المجسد والموصوف بدقة وحرارة٬ فهو مربط الفرس في الخطاب العام الرواية، مع ملاحظة أن البطلة لا تتجاوز السبعة وعشرون عاما ﺃما طلال فيكبرها بعقود. وما يجلي هذا الخطاب مضمرات عدة ضمن نصية كالنسق الثقافي الذي يرمز فيه الجسد إلى رموز عدة على سبيل المثال كما تقول نزيهة الخليفي: أن الجسد مكون مركزي في الرواية يبوح بوظائفه، ورموزه وطقوسه وتضاريسه، فقد تحوﱠل من ملازم مادي محدود ٳلى موضوع فعال، تتظافر جميع العناصر الروائية (الشخصيات الزمن، والمكان، واللغة، والحوار..) لإكسابه خصائصه البنائية[9]، إنه خطاب ديدنه المرﺃة الشرقية والجزائرية التي تردعها قيم المجتمع الذكوري والبطريركي/السلطة اﻷبوية، والذي تزايد أهمية في الآونة الأخيرة عندما ﺃصبحت الهوية تضع نفسها في مواجهة حتمية مع العولمة الثقافية خاصة ما تعلق بنبش المرﺃة في المحظور ﺃمام مرأى سلطة المجتمع التي يتقاسمها المجتمع الديني والنظام الاشتراكي فأضحى هو النسق المسيطر بهذا الشكل التي تنعت بـ"الوطنية"، بعد ﺃن منيت المرﺃة بخيبة ﺃمل قصوى في إمكانية تحريرها من نير التقاليد الفاسدة، كما تحررت البلاد من براثن الاستعمار الغاشم[10]، فتاريخ اﻹرهاب المؤلم في الجزائر الذي استرجعته مستغانمي على لسان هالة الوافي المغنية المحترفة والعاشقة لأحدث صالونات الفن الغربي رسما وﺃلوانا موسيقية ليس ﺃكثر من محاولة تسويغ وآلية للتأثير الخطابي على القارئ بغية تقبَل اختراق المحظور؛ لعل العادات والتقاليد اﻹسلامية في زمن ثورة التحرير الجزائرية كانت تلزم المرﺃة الخضوع للرجل خضوع طاعة، وكان تأثير الاستعمار الثقافي غير مؤثر في خضم ذلك الخضوع وقد لعبت دور تلبية حاجات الثوار والمجاهدين المختلفة دون اعتراف بحقوقها كأنثى خارج ذلك الدور لكن العلاقة تحولت وجسر التحول هو ثقافة الاستعمار السابق، التي يمكن أن تنسجم مع مستجدات تحولات المنظومة الثقافية التي اخترقتها واختزلتها العولمة.

  ﺃجل، فاليوم قد انقلبت الموازين فالرجل الغني الواقع بغرام هالة المحزونة على ما جرى و يجري في بلدها إذا تركها قافلا إلى شركته فكأنه العائد إلى وكره وإلى الفقر نتيجة بعدها عنه[11] في خضم تحولات العصر الثقافية تشبثت الساردة بأنوثتها وهي مصرة على اﻷسود لآخر القصة، كرمز يومئ لوجود مضمر ثقافي يقهر المرأة العربية؛ فاستعملته كغلاف يحجب حقيقتها: هالة /الجزائرية والمثقفة المتمردة على التسلط الذكوري الذى يستقيه من العرف الاجتماعي؛ وتمارس حريتها كالوقوف بفحولتها ﺃمام التقاليد وبانتهاز فرصة الحرب وفرصة استبداد مركزية الذكر لها لتخلعه كما يخلع الرأسمالي عامله، إلا الفوضى واللاأمن وحدها تمكّنها من استبداله باللازوردي (الدبلوماسي عز الدين) وﻷن الكل منشغل عما هو ﺃهم من الحب وموضات الغرام والاغتصاب وغيره من ملذات السلم، فالمظهر ــــ الفستان اﻷسود ــــ لا يعكس الباطن الممتلئ تحررا وانقياداً للذات؛ في عدم التفريط في عزتها ﺃمام الرجل طلال هاشم، مهما كان ثرائه وغواياته من جهة، ومن جهة ﺃخرى تماهيها مع الثقافة والفن وطرائق حياة الغربيات وانما يعكس التعبير عن هواجس التسلط الذكوري على الأنثى في الثقافات المقابلة للثقافة الغربية.

4.1.2ـ توظيف الجندر لمكتسباته القبلية:

   يعني أننا بصدد جندر حقيقي مستثمر لفرصة وقوف المنظمات العالمية مع حقوق المرأة في الشرق الأوسط في سبيل الحصول على مكتسبات نسوية ثالثة جديدة، في عز التأخر الحضاري بسبب عدم الاستقرار السياسي وحروب الهمجية التي لا تنتهي والتي تشبه الحروب القروسطية في استغلالها لحقوق الإنسان أطفالا أو نساءً من باب الجنس، فهي تمثل بجسد المرأة بعد أن تغتصبه، دون التفريط في المكتسبات القبلية بمساواتها في العمل، فنانة ومغنية وراقصة... وسنرى أن خطاب البطلة سينعكس على سمعة المؤلفة إيجابا بعد سنوات من الابتعاد عن التأليف حتى خلّف لغطاﹰﹰﹰﹰ إعلاميا، وإذا بها تسكتهم بالأسود يليق بكِ، والتي حملت عدة رموز وفكّكت عدة أنساق، لعل أقواها جميعا تأكيدها على أسلوب لا رجعة ولا محيد عنه في الكتابة النسوية وهو توظيف خطاب الجندر لمقتضيات تطلبتها طبيعة المرحلة؛ فأمام قمع الأنثى بطريركيا بإبقائها في البيت، والمنع تحت رسوخيات ثقافية كـ "التبرج" و"رفع الصوت العورة" في المجتمعات المحافظة، وأمام البطلة هالة الوافي التي " لم تكن تشبه أحدا في زمن ما عادت فيه النجوم تتكون في السماء بل في عيادات التجميل. لم تكن نجمة. بل كانت كائنا ضوئيا، ليست في حاجة إلى التبرج كي تكون أنثى. يكفي أن تتكلم[12]، ستعوّل على على حاجة المسيحيين في لبنان والأوروبيين الفضوليين إلى صوتها لممارسة ما تهوى، من أجل الحصول على مكاسب أخرى أكثر مساواةً تحت "قناع" هو ثوب أو فستان أسود يسمى بالموسِلين اختصارا لأنه مصنوع من قماش الموسلين.

   لِعلاقة المثقفة بمجال عملها دور في استقصاء نظرة المجتمع لها وللمعوقات والخطوط الحمراء التي يضعها ﺃمامها، فالمثقفة غير الفنانة محافظة ﺃو متحضّرة مثلاً، يكون الصدام الثقافي بينها والمجتمع ﺃقل حدة بخصوص الموقف من الزواج و حياتها المتعوية، ﻷنها تعايشها في الهامش الشعبي؛ فإذا كانت مثقفة محافظة على هويتها انتهى اﻷمر؛ ستقبل على الزواج ثم تنظر ٳلى كل متحضّرة عانس نظرة ريبة، والعكس بالعكس بالنسبة للمتحضّرة التي ترفض الزواج التي ترى أنه يكبل حريتها٬ الصدام الحقيقي مع المجتمع تمثله الفنانة بحكم نوازعها اتجاه حاجياتها الجمالية وطاقاتها الفنية؛ هنا حتى بالنسبة الفنانة المحافظة في حال الإصرار على امتهان حرفة الفن تكون محل مواربة ورفض من قبل مجتمعها وما بالك بالفنانة المتحضّرة أو على الأقل المثقفة كهالة الوافي؛ ستعامل حينئذ كأنها دنس ٳذا عزفت عن الزواج؛ مقابلتها بغير الفنانة المتزوجة شبيه بمقابلة المدنس بالمقدس، وبين المقدس والمدنس ينتظم العالم ويستقي العنصر البشري كنهه واستمراره. ولعلّ الانعتاق من مجتمع يبتر المرأة أبسط حقوقها إلى مجتمع أقل بترا لها ويحلو لها فيه أن تفعل ما تشاء هو ما سوّغ للبطلة هالة الوافي مقابلة سلوك الأغنياء في عدم الثقة بالنساء المعاملة بالمثل.

   وهو سلوك عادي جدا لو تأملناه من جميع جوانبه، بينما غير العادي هو ما يشي عن تجندُر فتاة جزائرية الأصل حامت حولها الشكوك وهي بعدُ معلمة في مسقط رأسها، بعدما أصبحت مطربة في سوريا وبيروت رغبة في إبكاء رجل جندريا! فأين تركت الأصول؟ ألم تمنعها ذاكرة البؤس والشّقاء في مجتمع أذاقها مر وويلات الالتزام بالعرف، ألم يمنعها الانفلات الأمني، ألم تحمد ربها أنها بإزاء رجل غني ساقه لها قدرها لتطلب أكثر من ذلك (بكاؤه عليها)! هذا النسق المفارق موجود كثيرا في المجتمعات الشرقية وسببه المباشر ثقافة الحرمان، وهو نسق في انعتاقه الحر شبيه بانعتاق الدواب من رباطها إلى حقول الزرع، لكن سرعان ما يصبها ما لا تتوقعه من سوء عقاب.

قالت له يوما: " لا أثق في رجل لا يبكي" اكتفى بابتسامة.

لم يبح لها أنه لا يثق في أحد. سلطة المال كما سلطة الحكم، لا تعرف الأمان العاطفي... لذا لن يعرف يوما أن كانت حقا قد أحبته لنفسه (..) هو يرتاب في كرمها، يرى في إغداقها عليه مزيدا من الكيد له. أوليست الحياة أنثى في كل ما تعطيك تسلبك ما هو أغلى؟"[13]

   لا مندوحة من رسوخ الانعكاس السلبي لسلطة اﻷب في نفسية الأنثى وذاكرتها ضمن تقاليد اﻷسر العربية مهما كانت ثقافتها، اﻷسرة البطريركية تعلم ﺃطفالها الطاعة والخنوع تعده ليكون فردا من الرعية. هي مدرسة لتعليم الأطفال منذ الولادة الكبت الجنسي[14] بدءً من سلطة اﻷخ والعم والخال، ٳلى سلطة الإمام، والشيء نفسه مع ﺃعراف المجتمع وتقاليده في القبيلة أو الحي مضافاً له النظام السياسي في كل قطر عربي على حدا، هذه اﻷبوة تقف عائقاﹰ في وجه حتميات بيولوجية في اﻹنسان[15] تجعله يتمرّد وينتقم للحرمان أول ما ينتقم عندما يجد الفرصة من نسق الجندر المسيطر، أولا باعتبارها إزائه الأنثى مضطهدة ومهمشة، وتاريخ اﻷبوة ــــ الذكورة ـــ بوصفه معطى نهائيا إهتزﱠ في لحظة وعي بعد ﺃن تسرب الهدم ٳلى منظومته السوسيو ثقافية بالتالي لحظة ارتطام وعي اﻷنا بالآخر٬ زاد من تقليب ﺃوجاعها وهواجسها حاملاً في داخلها خطابا منشقاﹰ ومنحرفاً عن المسارات اﻷنساق التقليدية ليؤسس منطقا معرفياً بديلاً[16] وهالة الوافي قد خرجت من بلادها في عمر 27 عاما لكن مضى بها العمر إلى أرذل العمر كما تقول، يعني خروجها من مرحلة الشباب رويدا دون أن تحقق رغباتها أو حتى الاستحواذ على شخصية مرموقة. فكيف لا تستغل فرصة طلال هاشم لتضرب عصفورين بحجر؟ الانتقام للحرمان الذي تعرضت له في سياق المجتمع التقليدي بالأوراس، وقضاء عمرها مع أصدقاء من ثلة الذكور الفنانين، فضاء البذخ والنجومية والدبلوماسية الذين ليس لهم أي سطوة أو اعتراض على الاختلاط بالغرباء أو حتى مصفحاتهم وتقبيلهم في المضارب المعدة لذلك، وهي محافل الغناء والسّمر بالقاهرة وباريس وفييّنا وإلا ما كانت لتأخذ ابنة خالتها نجلاء معها.

  ولعلﱠ الميزة السردية التي احترمت خطاب عام في الرواية الجزائرية الجديدة هي في اللعب على تيمة الجسد إلى حد التشبع ـــــ التشبع الذي ارتكزت عليه الكاتبة ليكون خاتمة متعة البطلة تأتي على إثرها القطيعة، ليفسح لتبلور خطاب جندر، كان معدا سلفا؛ بعد أن تقاسمه السرير في تلك الليلة بشقته الباريسية باعترافها « أريد أن أكون أما لابنك » يكون ذلك آخر الحب بينهما ـــــ سواء لدى الشخصية البطلة/هالة ﺃو مع شخصية طلال وحتى السارد وهذه هي جزئيات ما دعوناه "الجندر" عندما يتعلق اﻷمر بالكتابة النسوية وأخرى: أولا، تلك التي تكمن في طبيعة النص السردي المماثل الذي يكتبه الذكر دائما هناك فيه التقابل بين الشخصية الخيّرة التي تمارس الحب وترضى به والشخصية الشريرة التي ترفضه غير أن الجندر في النسوية هو عكس ذلك تماما. وثانيا، إذ قبل أن يتعرى طلال لهالة أعطى مسوغ التعري وهو خيانة زوجته له (وهي في حكم الشخصية الرافضة للحب) كذلك الأمر بالنسبة لمقتل علاء شقيق هالة وأحد أسباب "تسودها بالموسولين"، فقد انضم للإرهابيين ثم رغب بالانشقاق فقتلوه أيضا، لِعلاء صديق اسمه اندير، شاب جزائري بائس حاول الفرار إلى أوروبا لكنه غرق بالبحر، وهو شقيق هدى حبيبة علاء، المذيعة التلفزيونية التي هجرها ليلتحق بالمقاتلين بالجبل. فالشخصية الأصولية مكون أساسي لتبلور بنية ما تود طرحه من أفكار نسوية، وهي تعطي شرعية الاستمتاع مع عشيق يُعيّشها كأميرة في النمسا دون زواج بالأساس لأنها فنانة وليست امرأة عادية وفكرة الزواج فكرة غير ثقافية من أساسها في فضاء الفنانين على الطريقة الغربية، فحين التماس خاصية الفن ضمن الثراء والبذخ يصبح الكل يتحاشى الحديث عن الزواج، وهذا ما تؤكده عندما التحقت بالدبلوماسي عز الدين خلعت الأسود مُلبسةﹰ إياه لعشيقها السابق طلال «الأسود يليق بكَ» قائلة أنه لا يليق بالدبلوماسي إلا لون اللازورد، رمز للذة العابرة مرة أخرى، مع أنها فحلة شاوية غير أن حديثها عن الارتباط يعد ضربا من ضروب الخيال، فالزواج معيار تستطيع تمييز به المجتمعات البورجوازية العلمانية عن المجتمعات المحافظة بغض النظر عن علاقته بالفن، وعنه يقول الناقد مفقودة صالح:" لم تعد الرواية الجديدة تحدد الزواج كهدف وثمرة للحب، بل صار الحب يكفي وحده، بل لم يعد الحب ﺃيضا هدفا وإنما هو مظهر للإتفاق واللاﱠوعي المشترك"[17] والحب على هذا الفهم من قبل هالة الوافي هو خطاب جندري بالنظر لأصولها.

5.1.2 أيقونة اللون وشعرية المغايرة:

  ما ضر البطلة هالة الوافي لو أنها بقيت مغنية في بلدها؟ هل كانت ستلقى نفس مصير ﺃبيها وٲخيها وأختها؟ لا شك في ذلك كون اﻹرهابيين كان شنوا حربا شعواء على الفنانين. لكن البطلة تومئ ٳلى شيء آخر هو الاغتصاب، الذي هو "خصلة ثقافة" ذكورية ﺃيام الحروب قائلةً: لقد حير تهديد اﻷقارب سلم مخاوفي. ﺃنا امرأة لا تخشى القتلة تخاف مجتمعا يتحكم حماة الشرف في رقابه، ثمة ٳرهاب معنوي يفوق جرائم اﻹرهابيين[18] فالعلاقة بين الرجل والمرﺃة زمن السلم تحكمها السلطة اﻷبوية والعرف خشية جلب العار إن كانت المرﺃة عادية فما بالك بالمغنية في زمن الحرب! فهنا نحن بإزاء بطلة متماهية مع العولمة وثقافة اﻵخر لتقابل الآخر المحلي/ اﻹسلاميين في مجتمعها اﻷصلي المحافظ٬ بغض النظر عن تطبيق الشريعة على المرﺃة، هناك تقاليد ليست ﺃصولية بل متفتحة على اﻵخر، أصحابها في أنساقهم العربية يدعون بالوطنيين على شاكلة الخليجيين بخاصة طائفة الأمراء ورجال الأعمال (الطلاليون)، وهم يشكُّون في نسق ثقافي وهو الجنوسة ويتوجّسون منه أيّما توجُّس نتيجة سيادة انساق ثقافية دينية على حساب الأنساق المدنية الديمقراطية المقهورة أو المتنحية، فهم عندما يُخضعون النّساء خاصة المثقفات المتجاوبات مع ما يأتيهن من الغرب من ثقافة، للمراقبة والاضطهاد، فذلك تحصيل حاصل لثقافة المجتمع المحافظ الذي يخشى تلطيخ شرفه والمس بالنخوة والرجولة العربيتين، والمقاومة معناه و قوعها في الاغتصاب والإذلال الذكوري، كأنما التمييز النوعي الجنسي البيولوجي بين الذكر واﻷنثى، هو تمييز تركيبي مؤسساتي ثقافي، وليس خاصية طبيعية بيولوجية ولهذا تصبح الجبرية البيولوجية مجرد إسقاط ثقافي، لا علة فطرية له لدى البشر[19] من هنا يتكون رد فعل عند هؤلاء النساء الواقعة في حالتهن هالة الوافي.

   فالجنسانية الغيرية لدى الرجل هي من تخلق جندرا في شكل الإصرار على اللون الأسود ثم الزمردي والشاعرية المفرطة المنطوية على chagrin d’amour! وهي طريق نحو تأمين الجنسانية الأنثوية الغيرية/الحرة، فالتراتبية الجنسية هي التي تنتج الجندر وتعزُّزِه وهي خاصية المجتمعات المحافظة والبدوية العربية كما تقول الناقدة جودت بتلر: " إذا ثُبِّتت بوصفها صفة للشخص، تأخذ اللامساواة الجنسية شكل الجندر؛ فإذا ما حُرِّكت باعتبارها علاقة بين الناس، هي تأخذ شكل الجنسانية. إنَّ الجندر إنَّما ينبثق بوصفه الشكل المتجمِّد من عملية تجنيس اللامساواة بين الرجال والنساء." [20]

  لطالما اقترن الجسد بالكشف عن هويته، وعن علائقه بالتاريخ والسلطة والقمع والإخضاع واللذة، من خلال ثنائيات المهيمن والخاضع، المنع والإباحة، الفضح والتخفي، والقوة الضعف، الإشباعي والحرماني، والمضمر في خطاب البطلة هالة/ الكاتبة هو انتهازية وذرائعية خطاب المرﺃة العربية المثقفة بشكل عام، تارة حجتها الأصولية وتارة حجتها اﻵخر الذكوري بغض النظر عن قيمه الإنسانية وطورا تجد ذريعتها في قهر تعاسة الفقر! تلون خطابها كهكذا تلوُن حِربائي إنما ينم عن معايشتها الحرمان والمنع لدرجة التثقف فيهما ﻓالجنسانية لم تخضع للقمع والحظر في المجتمعات الرﺃسمالية البورجوازية، بل استفادت من نظام ثابت للحرية[21] أمام هذا الوضع سوّغت الجنوسة عفر ﺃنف اﻷنا اتجاه تقييد حريتها بمجتمعها (الجزائر) برغم كونه معتدلاﹰ ومنفتحا قياسا بالسعودية مثلاﹰ  ﺃو حتى مصر ـــــ ﻷن الرواية كتبت بعد سنوات من استرداد الجزائر لعافيتها (في 2012) ــــ بدون تجاهل الاختلاف العرقي في المجتمعات العربية فخطاب هالة إنما يمتح أيضا من أثنيتها الشاوية وهو ما ألفيناه في سياق شعرية لهجتها المحلية كما في قولها: « لفرط انخطافه بها » ، كلمة الانخطاف تستعمل في اللهجة البربرية للتعبير عمّن خطفه الجن.

   لكن يبقى الهدف المُضمر الرئيس هو مواجهة النسق المسيطر (المركزية الذكورية) وسياق الهوية المحلي، بتمردها وتعولمها في الشام ٳلى ما يتجاوز الحب العفيف وهذا ما نستشفه من خطاب عشيقها الحميمي طلال هاشم، والذي تظهر فيه البطلة كجارية عنده وراضية به: " لكنه ليس نادما على ما وهبها خلال سنتين من دوار اللحظات الشاهقة ٬ وجنون المواعيد. حلق بها حيث لن تصل قدماها يوما"[22] ولكن بعد مدة تنزع لباس الحداد وترتدي لباس الحرية ـــــ اللاﱠزوردي ـــــ ما يعني ﺃن البطلة انتهزت حالة الحرب التي كانت جارية في بلدها كي توظفها لصالح ﺃنوثتها، ولابد من القول ﺃن الحرب ساهمت مساهمة فاعلة في تعزيز الحركة النسوية الجندرية. وساهمت في جعلها إحدى سياسات الهوية اﻷكثر تطرفا (..) وتم التعبير عليها بنصوص روائية عديدة[23] فارتداء اﻷسود الموسلين كأنما هو شفرة وحيلة ﺃسلوبية ثقافية تكمن شعريتها في مونها نسوية ومغايرة ومُفتعلة جراء مقتل والدها الذي منعها من الغناء جاذبة بالرجل/طلال الغني إليها لمواساتها وكسب ودها والدخول النهائي لحلقة الفن والشهرة، فلو ﺃرادت الفن للفن مثلاﹰ ﻷرتحلت مع ﺃمها ٳلى القاهرة، وهي اﻷقرب واﻷنسب لفنها وللباس الحداد اﻷسود هناك ترحيب، لكن تمنّعها وهي راغبة هي حيلة وغنج نسوي شرقي كي تحقق مآرب أنثوية خاصة، كالشبق باللبنانيين اﻷثرياء لكنهم ناقصون سيطرة رجولية على ﺃمثال هالة الوافي: " ــــــ ﺃحب ﺃن ﺃنفق ثروتي في إغراء الحياة.. ما دام مالي سينتهي لدى رجال سيبرعون في إغراء نسائي.

ــــــ نساؤك؟..

ــــــ ﻷنني لا ﺃثق في النساء، لا ﺃمي انتظرت ﺃبي ولا تلك الفتاة التي ﺃحببتها انتظرتني يوم سافرت إلى البرازيل"[24] وهنا تكمن شعرية الصوت السردي الأنثوي زد عليه ثقافتها النسائية في إغراء الرجال إذ هناك تصور السياقي "إغراء الرجال للنساء المتزوجات" غير موجود لدى الذكر المحلي (الشاوي) المحافظ على هويته فهو خاص بسياق بذخي. وفي الوقت ذاته طعم اصطياد، مع ذلك تعمد الساردة هالة الوافي ٳلى إهانته وذر الرماد في عينه ــــــ بمثل لباس لونه يرمز إلى العفة والطهر والذي قد تشترك فيه مع المنقبات ــــــ ارتداء اﻷسود ثم اللازوردي هو تمويه للآخر بل صراع بواطن الذوات جنوسيا وبدبلوماسية مراوغة، كون أن زوجها المستقبلي هذا غير رافض لها عندما تمارس الغناء الرقص والموضة مع سواه ولسواه، ينم عن صراع أضداد الحرية مقابل المنع أو الإكراه، الحزن مقابل الفرح، الالتزام والتزمت مقابل الانحلال وهي أضداد هوية ثقافة المغايرة أو شعرية صوت الأنثى المغاير لصوت الذكر، كالذي تقول له فيه :

« ظننتك أحببت حدادي حين كتبت لي "الأسود يليق بك" » لكن هل فيه إنسان في الدنيا يحب لون الحداد؟! ويأتيها جوابه، لكنه الجواب المفارق للطبيعة ولجماليات الأشياء في الثقافة السائدة، حيث الأسود يختار عبيده لا سادته. " ـــــ ربّما كان عليّ أن أقول إنك تليقين به.. الأسود يا سيدتي يختار سادته" وعندما سألها الصحفي:

"ــــــ هي دعوة للحب! قالت له: ـــــ طبعا، وكيف ﺃرفض للحب دعوة؟"[25] ثم هل الشاوية "أخت الرجال" تعري خصرها مثل "ماريا كالاس"؟ كما تقول: ".. ثم ﺃطلت كبجعة سوداء داخل ثوب ﺃسود من الموسلين، لكأنها "ماريا كلاس" في ثوب ﺃوبيرالي، لا يزينه ٳلاﱠ جيدها العاري وشعر ﺃسود مرفوع.."[26]

 الهدف الأسمى المساواة مع الرجال في الجنسانية الغيرية، والطريق هو التأكيد على قيم اﻷنوثة التي تلتمسها من الغير وانتقاد تراثها المجتمعي مشكلة خطابا ثقافيا نسويا جندريا وممارسة له متى حانت الفرص. فهي تفهم الثراء والفقر في حالة الزواج على طريقتها التي هي جندرية شئنا أم أبينا في قولها "إن الفقير ثري بدهشته، أما الغني فهو فقير لفرط اعتياده على ما يصنع دهشة الآخرين"[27]، كثير ما أُثيرت قضايا مثل هذه في تراثنا الإسلامي منذ عهد الخلافة، فعثمان ابن عفان كان رجلا غنيا تزوج من بنات الرسول رقية وأم كلثوم وهما على قد الحال ثم زاد على كليهما الجواري ولم تقولا له حتى أفٍ، ما بالك أن تنزعا ثياب سِترهما التي كانت تزينهن لديه! ولعلّ خير من وصف هذا الموقف الذي وقعت فيه هالة الوافي و"الجندر المتمركز حول الذات رفض السلطة الذكورية والبحث عن الحرية "[28] هو علي ابن أبي طالب في قوله: "يعز غني النفس إن قل ماله ويغنى غني المال وهو ذليل" يمكن تأويل غنى النفس هنا بعذوبة النفس أيضا التي تقف ضد نُبل النفس، وكلاهما رهافة النفس والغنى الفاحش يلعبان دورا سلبيا مخدرا.

 3.2 القـصــة:

     تدور حول حكاية عشق وردية وحالمة، قصة حب مليونير لبناني ناهز الخمسين يدعى طلال٬ بدﺃ رحلته مع عالم المال والبذخ من البرازيل، تزوج وٲنجب ولدين، ﺃعجبته مطربة جزائرية هي هالة الوافي في الـ 27 من العمر عندما شاهدها صدفة في برنامج تلفزيوني موسيقي، فجاهد للإثراء معرفة بالموسيقى والفن والشعر، وٳلى وضع خطة للإيقاع بهذه الحسناء التي ترتدي الأسود الموسلين حداداً على مقتل والدها المطرب (في حلب) وﺃخيها ثم أختها التي لم تكمل العشرين، كانت معلّمة حينها، لكنها عندما تحولت ٳلى سوريا ثم بيروت مع ﺃمها السورية اﻷصل تركت التعليم وتحولت ٳلى مطربة؛ يرسم طلال خططا وميزانية للإيقاع بالصبية في حباله، ﺃزهار ورسائل غرام وباقة التوليب المكتوب عليها عبارة (الأسود يليق بكِ)... ٳلاﱠ ﺃنها تكابر موظفة الشهرة التي بدأت في اكتسابها مع العلم أن مداخيلها بقيت متواضعة ووظفت ﺃنوثتها للحصول على  ما تريد، وعندما لا تنجح تنفصل عنه مستبدلة اﻷسود باللاﱠزوردي متذرعة بغنائها الخيري للعراق في ميوﹸنيخ. تتخلى عن الأسود (الدال: طلال/المدلول: عدم القدرة على وهب الفرحة) وتلتحق بالدبلوماسي حبيبها الجديد، كأن ارتدائها للأسود كان استراتيجية جندرية للتعامل مع الحب اﻷرستقراطي، وعندما فشلت قررت ﺃن تعود ٳلى وضعها السابق، وفي الارتداء والخلع يكمن مضمون الرواية المضمر ــــ وليس مضمون الحبكة، فحبكة الرواية أبعد ما تكون عن حبكة "ذاكرة الجسد" أولاﹰ في أن الحدث الرئيس المؤدي إلى تلبيس طلال للأسود عوض هالة الوافي غير معروف بدقة؛ أي أثناء تحول الدلالة الرمزية من « الأسود يليق بكِ» إلى «الأسود يليق بكَ» قد تشظى السرد إلى مجموعة أحداث متفككة خالية من حبكة متماسكة، وثانيا في جدية المضمون غير المطابق للأخلاق العامة لمتعودة عند للقارئ العربي اليوم في عمومه وكأنها حكاية جديرة فقط بالنسوة فيما بينهن ــــ وما ساعد على تشفير البطلة هالة له هو الحدث الأخير في الحكاية/النوتة الأخيرة وغنائها للعراق المتحرر حديثا من ربقة الاستبداد، فإنما ﺃرادت ﺃن تقول فيه ﺃنها عادت لحريتها وٳلى مباهج اللاﱠزوردي وﺃجواء الموسيقى والسيمفونيات المتناغمة مع اﻷلوان التي تلغي احتمال ﺃن تكون الحياة غلطة بالقرب من الموسلين. وقسّمت الكاتبة قصتها ٳلى ﺃربع حكايات في شكل ﺃربع حركات ﺃو نوتات: 

ـــ الحركة اﻷولى (ثلاث مقاطع): الإعجاب هو التوأم الوسيم للحب.

هي سيمفونية الإعجاب والحب المتبادل بين العشيقين٬ مع خاصية البذخ المفتعل من قبل الراوي /الكاتبة كل ما تعلق اﻷمر بطلال لإيجاد نوع من المعادلة الفنية، ٳذ ﺃن الفنان يرنوا للجمال والغنى كذلك ولو بعيدا عن الإحساس به. الطموح إلى الغنى ذوق وهي تضع ذوقها في مقابل غنى /إعجاب طلال هاشم.

ـــ الحركة الثانية (ثلاث مقاطع): من ﺃي نجوم ﺃتينا لنلتقي ثانية، من تلك السيمفونيات الممتزجة بالسرد واﻷلوان، هي محاولات العاشق طلال إغراء هالة للانصياع له.

ـــ الحركة الثالثة (ثلاث مقاطع): الحب هو عدم حصول المرء فورا على ما يشتهيه، إرهاصات الخلاف بين هالة وطلال، قد يكون الحب شاق وصعب المنال.

ـــ الحركة الرابعة (ثلاث مقاطع) لم ﺃنلها مرة بكاملها كانت تشبه الحياة؛ حدوث القطيعة النهائية بين العاشقين طلال وهالة عندما شك في تصرفاتها عند الحديث من الدبلوماسي الجزائري الذي التقته أكثر من مرة، بدأ يغضب فأراد أن يحذرها بسطوة ماله، يذلها ربما أو يذكّرها، فأبت ذلك بعز جندري وعنفوان ينم عن تشبعها بالرجال فكان الفراق الحتمي.

   متأثرةً بالتقاليد السينمائية الغربية، جاءت نهاية الرواية فنيا في شكل مقطوعة موسيقية مطولة، كأنّ الكاتبة بصدد سيناريو نص ليُمثل ويُسمع وليس ليُقرﺃ. ﺃما اﻷحداث والخطاب، ﺃدارت من خلال الحوار والزمن الاسترجاعي وهرم الزمن المقلوب (النهاية ــ التطور ــ البداية) عجلة اﻷحداث التاريخية لتصب في صالح رؤيتها للعالم وخبرتها الشخصية: سوّغت من خلال العنف والسيطرة الاجتماعية للإرهابي والسياسي والذكوري لتنتقم من هؤلاء جميعا بأداة الحرية وممارستها لحقوقها على الطريقة الغربية، كمثل هكذا ﺃنثى تنزع وترتدي لباسها والذي رمز ﻟ "لباس الجسد" متى تشاء،عندما لا تليق بها ظروف الرجل الجزائرى واللبناني تنزعهما وترتدى لباس الحرية على طريقة العولمة خطاباً ووظيفة جمالية مُكمِّلها البنيوي نسوي، ففي دلالة موسيقى الخاتمة خطاب، مفاده أن الحب موسيقى تستمع إلى نبضاته تكرارا ومرارا، وفي دلالة الثراء خطاب، مفاده ﺃن القارئ البيروتي والدبياني والظبياني (نسبة إلى دبي وأبو ظبي) على اﻷقل يباركون انتصار الفن وانتصار حق المرﺃة في العيش على الطريقة الغربية، وفي الخليج ﺃين يوجد اﻷثرياء على شاكلة اﻷمراء "الطلاليون" ممن شبقت الجزائريات بهم، انتقاما من البضاعة المحلية شكلاً ومضمونًا، ٳن تحول الجسد من قيمة جنسية ٳلى قيمة ثقافية، ﺃدى ٳلى ظهور نموذج نسوي فريد، هو بمثابة الإبداع النوعي في جنس النساء وفي ثقافتهن[29] يستدعي اختفاء الكاتبة وراء شخصية الراوي العليم في قوله:" الانتقام لم يعد يعنيها ﻷنه يسمح لمن نريد الثأر منه ﺃن نبقى ﺃشقياء"[30] ووراء الساردة/البطلة عندما تصف طلال تصف شكله قائلة: «.. شكله الخارجي ليس جميلا × دون أن تتواصل مع جمهورها بخطاب مباشر بسرد الأنثى للمحظور بضمير(أنا) مثل فضيلة الفاروق، يستدعي إلى الأذهان أسلوبا جندريا من نوع آخر وهو أسلوب نسوي بامتياز «يمتنعن وهن راغبات» ولعلّ ما حققته لها روايتها الأولى من سمعة عربية زادت خطابها سموقا وعفّة وكأنها هي عاشور رضوي الجزائرية.

   ولذات السبب تواصلت مع الموسيقى كلما عزﱠ عليها ولوج المحظور سرديا ﺃو الإطالة فيه حين وصفها لمواعدهما الحميمية ﺃسوةً بالساردة باني بسطانجي/فضيلة الفاروق في "اكتشاف الشهوة" مثلا كقولها بضمير هو كبيانو أنيق منغلق على موسيقاه، منغلق هو على سره.. هو لا يعرف للحب خارج مذهب التطرف.. يضحك منه الحب كثيرا، ويرديه قتيلا، مضرجا بأوهامه"[31] ، قد يكون في ملامستها للتابو دون إغراق إمّا تجربة فنية خاصة عن اقتناع أو أسلوب عارض مخصص بالتحديد لرواية الأسود يليق بكِ فقط دون غيرها مع التحفظ، كوني لم أقرأ روايتاها عابر سرير وفوضى الحواس قراءة كاملة*، تكون درجت عليه الكاتبة مختفية ككتلة من مشاعر أنثى ملتهبة وراء مقطوعات موسيقية جميلة، ووراء فيلم سينمائي موسيقي حالم، ووراء الراوي والسارد عندما يكون هو البطلة، التي تعرف جيدا عواقب تمرد الأنثى ، وهذا التأويل استشفيناه من تعابير شاعرية عدة منها قولها: "..حدائق بهندسات جميلة مُبالغ في الاعتناء بتصاميمها "[32] وهذا التعبير أنما يُحيل إلى أن الاعتناء بجمالها بشكل مفرط في مجتمع شرقي تحوّل إلى هاجس لا شعوري في نفسية البطلة/الكاتبة، عن هذه اﻵلية تقول شهلا العجيلي:" فحين تكون الراوية امرأة يصير التلقي، حكماﹰ بمرجعيته النسوية، ويبحث المتلقي عن الشفرات النسوية المقاربة للتابو، ﻷنه إعتاد ﺃن تكون الكتابة مقاربة للتابو الاجتماعي فصارت مع التجربة والعادة كل كتابة نسوية توجسا و مصدر ارتياب"[33]. لا مراء في أن التعاطي مع موضوعة الجسد لولا تبلوره كفاعلية إشكالية، وبوصفه النص المتعالي الذي يحوز على تشابك الدلالات المضمرة والصريحة والنسقية، وبوصفه نسقا جامعا لمقاربات تمس المضمر في التاريخ والوجود واللغة والسوسيولوجيا لمَا تبلور خطاب الجندر أصلاﹰ مع مستغاتمي وغيرها كثيرات من الروائيات العربيات والحقوقيات بخاصة في المجتمعات المحافظة مثل السعودية، الكويت، غزة، الشاوية بالجزائر، اليمن..

 1.3.2 جـمالية الخطاب الســردي:

   يمكن اختزال جماليات خطاب رواية أحلام مستغانمي السردي والمفارق بعض الشيء لجماليات رواياتها السابقة في صورة: شعرية اللغة والخطاب، تعدد أجناسي في نطاق أحادية الصوت، الحوار الخارجي، كسر بنية الزمن، الفضاء والأمكنة المفتوحة وغلبة السرد الموضوعي: راوي عليم ينظر من الخلف إلى شخصياته محيطا بهم لمّا يحيط الكاتب بحيثيات أدق.

 1.1.3.2 خصوصية لغة الأنثى الشعرية:

    ﺃولى الملاحظات حول خطاب نص "الأسود يليق بك" اللغوي نجده يعكس خصائص الرواية الجديدة، انسيابات شعرية خاصة بالتلفظ النسائي، عذبة منسجمة في عذوبتها بمفردات الموسيقي كالنوتة والسيمفونية والمقطوعة وغيرها ومع اﻷحلام الوردية ومشاعر الرهافة، المقابلة كلها لمشاعر النسق المسيطر/الرجل في بنية الخطاب المضمر، ولمّا اتّخذتها منذ البداية شعرية غاية لصقل الذات وجعل الآخر الذكوري يحتاج إليها(هدف جندري) سقطت من الوهلة الأولى في فخها (رتابة الاصطناع أو الافتعال)، أي في فخ أيديولوجيا النسق المزهو بذاته، وكأننا بها ونتيجة لمعايشتها لشعور لأنوثة وفائض الرقة دور في تخدير إحساسها بواقع التصرف بالألفاظ والتعابير كما يجب، فأصبحت لغتها الشعرية ولغة المتصوفة سواء، نتيجة ما هي واقعة فيه من لهف واشتياق، ولوعة والحقل الدلالي الدال على ذلك هو قولها وهي في هيأة الراوي المشارك : الحب سلطان/ وسعادتهم القصوى/ وزايدوا على الحب حبا، فضاعت من أمامها المفردات المناسبة كما في قولها في الإهداء « التي تعيش على الغبار الذهبي لسعادة غابرة » لكن أي سعادة التي تبقى مُعاشة بعد حدوثها منذ مدة طويلة؟ انها ولا شك نشوة أنثوية لا يستشعرها غير معشر الإناث، لعلّ ما يبين أنها سعادة غاية (أنثوية) وليست وسيلة (الرجل) ولما كانت كذلك فهي ليس بمعادل للغبار الذهبي بل للغبار الفضّي أن هذا التعبير يدل أن صاحبه واقع في نشوة تلك السعادة وقد سبق هذا التعبير جمل مُحيلة إليه (المزاج الغائب ورفض الرقص) إذن هناك ما هو أجمل شاعرية حينئذ من ذلكم التعبير لا يدل على انتشاء صاحبه، وهو هنا في أي حال من الأحوال كل نكرة إنما تتبعها نكرة في كلام العرب أي « التي تعيش على غبار ذهبي لسعادة غابرة »  وهنا يبدو الروائي الجزائري بشير مفتي محق عندما ينتقد نصوصا جزائرية جديدة عديدة بقوله « غير ﺃنﱠ الاشتغال على اللغة شيء وشعرية اللغة شيء آخر» فليست طاقة التعبير على ما يدور في وجدان المرء طاقة متاحة للجميع، بل هي طاقة متحولة بحسب مراج النفس وتبدلها وهذا ما اختصّت به هالة الوافي في حزنها الحبوبي المتقلب chagrin d'amour. وضاعت كذلك في قولها: " كما يأكل القط صغاره، وتأكل الثورة أبناءها، يأكل الحب عشاقه[34] والحق أن القطة تلتهم صغارها، ولفظة الالتهام ههنا تحمل دلالة إيجابية حتى لا يعانون أمامها، كونهم غير مكتملي الخلقة فتضحّي القطة بهم من أجل شبارقها الآخرين، كذلك تلتهم الثورة أبناءها، المقصود النيران الصديقة والذين يذهبون ضحايا في جزئيات عابرة من المدنيين وغيرهم فيها. أما الحب فيجُب عشاقه جبًّا عندما يحاول حفظ كرامة النفس البشرية وهو بصدد حفظ النوع، النفس التي قالت عنها الأديان ما قالت: ﴿من قتل نفسا بغير نفس أَو فساد في الأَرض فكأنما قتل النَّاس جميعا ومن أَحياها فكأَنما أحيا النَاس جمِيعا﴾

   بالنتيجة لمسنا انعكاس شعرية اللغة على الخطاب العام للرواية كنتيجة الصدام النسقي، فكل تعارض وتعال ثقافي يصطنع لغته الخاصة، فهالة كمن عرفت أنها مع أمها مجرد معلمة سابقة في سياق الشاوية المحافظ، ورموز المواجهة السياقي هو افتعال مباهج الشعر والموسيقى واللون الأسود ولعلّ اﻷطباق الزاهية من الموسيقى المستعارة وإصرارها على تأنقها ﺃمام الجمهور برغم اﻷسود٬ دليل تعلقها بمتع المرﺃة المدنية التي لا تأتي إلاّ من خلال المبالغة في مشاعر الرقة والرّهافة إلى درجة التثقف في الموضة نتيجة ذلكم الحرمان.  بالنتيجة إعلاء للذات اﻷنثوية ـــــ كمرحلة نسوية ثالثة (اكتشاف الذات) التي ميزﱠت تاريخ الكتابة النسوية العربية محاكاةً لنظيرتها الغربية ــــــ ﺃمام الآخر وﺃي آخر؟  إنه الرجل الذي جميع الأديان تقول ﺃن الله ﺃكرمه بنصفه الثاني حواء. لكن في ﺃحداث انفصال هالة عن طلال نلفي وكأنه العكس هو الصحيح، بيد أن عبد الله الغذامي يرى ﺃنه لا هذا ولا ذاك: "هي إحالة إلى الوهم الثقافي الذي يجعل اﻷنوثة مادة مصنوعة من ﺃجل اﻵخر (..) حسب زعم الثقافة ولا يوجد ذلك في أي نص ديني"[35]، وطبيعي ﺃن الغني تعشقُه فطرة المرﺃة لكن ليس إلى الحد الذي" تتغندر" فيه مغنية على ميليونير بنرجسية قائلة: " ـــــ تدري.. كثيرا ما ﺃتمنى ﺃن تفلس فينفض الجميع من حولك فلا يبقى لك سواي"[36] يرجع التحليل النفسي متمثلا في" جون لاكان John Lacan" ذلك إلى الهاجس الذاتي لدى المرﺃة المتأتي من مرحلة المِرآة، فحسب الناقدة نهال مهيدات: "وعي الذات بذاتها يتم من خلال صيرورة تتصف بالصعوبة والتعقيد، فالذات ليست جوهراً معطى، ولكنها ما يتكشفه الطفل ويتعلمه من خلال التفاعل مع الاۤخرين، من خلال صراع مرحلة المراۤة؛ التي يرى فيها الطفل نفسه فعليا واستعارياً ﻷول مرة كاۤخر"[37]

     إسراف الكاتبة في توظيف تلكم المفردات الناضحة بالرومانسية الحالمة مع تناوب الاسترسال السردي بين الراوي العليم والراوي المساعد/البطلة بغية الوصول ٳلى تشكيل لوحة شعرية زاهية، غير ﺃن "استهلاكية" ما يكتبه القلم اﻷنثوي، يكون هو الذوق الشافع في تبلور بنية خطاب مستغانمي النسوي، ٳذ النسوية من حيث هي تيار روائى ظل يوصف بأنه جديد في مرحلة طفت فيها قضايا المحلية والاختلاف مقابل العولمة الثقافية قد كشف عن الرؤية الثقافية للنص ووعي صاحبته٬ كون ﺃن الكاتبة انتمت في مرحلة شبابها لسياق توصف المرﺃة فيه بالتخلف والمازوخية، مرورا بالاختناق جراء العنف في التسعينيات والثمانينيات، اختزنت في ذاكرتها صورة المرأة المتعة في يد ذكر إرهابي عندما ترتدي لباس أوروبي ويد ذكر بوليس النظام عندما تلف شُبهة النقاب حولها، "ٳنما ما يحدد الخصوصية النسوية السردية ليس لغته، وٳنما الرؤية التي تتحكم به وتديره، فهي رؤية ذات خصوصية نسوية بجدارة، ﺇذ تبدو الروائية حاملة لكاميرا تنقلها من زاوية ﻷخرى طابعة ٳياها ببصماتها الرؤيوية[38] الوعي بالذات من الوعي بالجسد؛ الوعي بالذات ليس شعور نفسي بالأنا منفصل عن الظاهر، بل ما هو في الحقيقة إلا بنية فوقية لبنية تحتية هي الجسد، كمادة ونشاط متبلور وكممارسة فعلية إن صح التعبير (لما كان الوعي مفهوم جدلي في الفلسفات الحديثة في فلسفة هيجل المثالية الجدلية وفلسفة ماركس المادية الجدلية من بعده) من يغذي الذاكرة وبالأحرى من يجعلها تأتي؟ إنها إحساسات الجسد من سمع، وشم، وفرح، وحزن.. فالجسد المادي هو الذي يرسّب التاريخ والثقافة في وعينا. لذلك لم تختار الكاتبة لبنان فضاءً لروايتها وفضاءً لبلورة وعيها بذاتها أيضا اعتباطا، بل نتيجة للحريات المتاحة في هذا البلد، بلد غادة السمان ومي زيادة وقوافل نسائية يوصفن في غير لبنان بالمروق والانحلال الأخلاقي.

   لعلّ القارئ سيلتمس كل ما تعلق اﻷمر باﻷدب النسوي ثنائية اللغة القاذعة (فضيلة الفاروق) والشعرية الأكثر حميمية (أحلام مستغانمي) ﻷنها بإزاء تقابلي مع نسق مركزية الذكر كتابة وثقافة، حتى وٳن كانت بعض خطاباتها الجديدة من الرؤية النسوية الخاصة بما لا يتصور٬ كرواية وطن من زجاج لياسمينة صالح. فإن القارئ الذكر على العموم يستلذها بمتعة قرائية استهلاكية ٬ كأنها لغة كشف جسد الثقافة عندما أصبحت الثقافة رهن المتعة، والدليل هو نفاذ طبعات الرواية التي تكتبها الروائية الجريئة في الأسواق، وكثرة الردود النقدية حولها في مواقع التواصل الاجتماعي مقارنة بما يكتبه غيرها، لأن الجسد يكشف عن البنية العميقة، بنية المرجعيات، البيئة، الأثر، وحتى الكشف عن القبحيات النسقية التي يتستر عليها الجمالي كما يقول الغذامي.

 


  اللغة الشعرية



كتابات المرأة السردية                                            سلطة التقاليد ومركزية الذكورة

خطاب الجسد

    

 

   ضمن هذه الرؤية النسوية تمت إثارة ﺃمور مختلفة تخص ذات المطربة هالة٬ كائتلاف هوية سردية نسوية تُستشف من خلال ثقافة النسق النسوي المختلف متبلورا بنيويا في الصوت الأحادي (المنولوجية) من منطلق تلك الرؤية النسوية. ولو حدث العكس لتحولت أصوات: نجلاء ابنة خالة هالة وعز الدين وصوت الأم وصوت اندير وهدى وغيرهم، من النقيض إلى النقيض أي من أيديولوجيا النسق المقابل إلى التعدد والحوارية، النسق المسيطر الذي له ما للذكر وعليه ما على الذكر، ولعلّ شعرية اللغة وحميميتها لا تتحقق من خلال علاقة اللغة باللغة٬ بل بغيرها من مفردات خصوصية حياة المرﺃة وجسدها، فاﻷنثى تكتب (ادراك الجسد، الجنس، التجربة،  اللغة) وفق مقاييس التحرر من الصمت والاحتفاء بالبعد الحميمي والاعتراف والبوح[39]، وهو ما قاربته لغة ﺃحلام مستغانمي الشعرية المتناوبة الإيقاع برهافة ﺃنثوية في الملبس والموسيقى، مقابلةﹰ لخطاب الذكر المركزي جماليا عكستها تعالي شخصية "هالة" على "طلال" لا معقولية غنج، وعلى العادات والعرف الاجتماعيين لبلدها اﻷصلي معا، محفزة ﻷفق انتظارات قراءها: "غنج لغوي" ورقص بالكلمات وعطور وورود..؛ بيد ﺃن في انتقاء مفردات خاصة بالحميمية وباللهجة اللبنانية ما ينبغي الوقوف عنده مطولا، لأن الأمر يحتاج أولا لتجربة وثانيا لمعرفة كاملة بلهجة البلد حتى لا نسقط في الأسلبة السردية، بين ثنايا الشاهد التالي مفردات غير منتقاة بدقة٬ افتعلت الساردة لهجة ليس لها وجود في الواقع، تذكرنا بلغة السنيما الجزائرية عندما أرادت أن تقرّب اللهجة الجزائرية الصعبة للعرب فسقطت في فخ التهجين:" ــــــ مَنّي مرتاحة لسفرك لَمصر ولأجوائها* الفنية.. ولا بدّي مصاري من حفلاتك..

ـــــــ كرامتنا مصونة* يا إمّي.. وأنا ما أكسب* كثير من هاي الحفلات.. حتى هاذ* الحفل حفل خيري لَنجمّع* مبلغ لإنشاء* قسم طبي للأطفال المرضى بالسرطان."[40]

في المفردات المؤشرة بنجمة في الشاهد يقول اللبنانيون بدلها على التوالي: لِحْوالتهُن الفنية ـــ إحنا بكرامتنا ــــ أحَصّل ــ هاي ــ لَلنُّط ـــ نِبني بيه. ففي النص أسلبة سردية شأنها شأن عامة نصوص الرواية الجزائرية الجديدة لكن وقع شعرية السرد غطى عليها كثيرا.

 لم يحتف هذا التهجين اللغوي باللغة الأجنبية كثيرا على غير العادة، بيد ﺃن الكاتبة استعاضت عنها اللسان الدارج الجزائري ذو النكهة الدزيرية شأنها شأن ﺃغلب الروايات الجديدة لأنها لهجة العاصمة: " وهاذي واش راهي؟  ـــــ هاذي تقول واحد دعا عليها دعوة الشر! يرحم باباك.."[41]

2.1.3.2 الارتكاز على التفاصيل الفنية كالتجنيس والسرد المباشر والتناص..:

   من خلال شخصيات الرواية المختزلة في صورة بطل ونائبه أمكننا استجلاء النمط السردي الغالب، فحسب تزيفتان تودوروف "الحكي الذي يقوله السارد من ﺃحداث  معلومات والعرض: ما تقوله الشخصيات"[42] ومستغانمي زاوجت بين النمطين، لذلك قد يعتري القارئ الشك في تغير بنية خطابها السردي مقارنة بسياقها النصوصي السابق، لكن التجريب ليس بعسير على كاتب من الجيل السابق لجيل الرواية الجديدة تجاهله، خاصة بعد ما حققته هذه اﻷخيرة من تميز على المستويين الفني الجمالي عربيا والاتجاه الثقافي ـــ الفكري، محاكية لنظيراتها من الروائيات الجزائريات كفضيلة الفاروق والعربيات كالروائية الكويتية المثيرة للجدل ليلى العثمان والسعودية رجاء بنت الله الصانع وسلوى النعيمي وليلى بعلبكي وليلى سليماني، بخاصة تجسيد هواجس الذات وإسقاطها على مركزيات السلطوي والمقدس.

   ﺃما التلاعب بالضمائر السردية فتمثل في انسحاب تعدد اﻷصوات لصالح تعدد ﺃلوان الموسيقى في قالب استعاري، منسجم مع ما تطرحه العولمة من اكتساح الفنون وإحلالها مكان اﻷفكار الأيديولوجية والهوية النسوية كثقافة إنما نمت مع سياق عولمي وما بعد حداثي، تفتت الأيديولوجيات لزم فوضى الحروب التي تلتزم فنيا فوضى خلاقة وهو الهوس بالمتع. وثقافة الاستمتاع " الصغير" بالحب والجسد كما دعته، وهي ثقافة نسائية راهنة في ظل التطور الاتصالي الحاصل في أيامنا المستشف من قولها: «.. تفضّل اﻷلم الكبير على المتع الصغيرة..»

  ﺃما تقريرية السرد المباشر، من منطلق ﺃن المؤلفة صحفية سابقة، تدخل الراوي المساعد/ البطلة ليحد من حين لآخر من تدخل الراوي العليم المحيط بالشخصيات بأحكامه التقريرية مثل قوله: " في الثمانينيات قصد والدها حلب لدراسة الموسيقى٬ فعاد منها بعد سنتين، كأنه تخرج من مدرسة الحياة "[43] ولعلّ ذلك أحد تجليات السردية الجديدة: " تبدو اللغة ﺃولى مستلزمات هذه الهوية السردية التى تستخدم ضمير المخاطب، الذي تتراجع فيه اﻷنا الفردانية الطاغية في حضورها المصاحب للخاصية الشعرية والوظيفة الانفعالية التعبيرية للكلام٬ لتحل محلها ﺃنا ﺃخرى مثقلة بوعيها التاريخي"[44]

   والشعرية في السرود غير الكلاسيكية ليست حكرا على اللغة طالما أن في تظافر جميع عناصر شعرية الخطاب السردي تبلور بنيوي لجماليات منقطعة النظير، والتركيب الذي يعتصر دلالة الخطاب يقوم أساسا على التجزيئ والتقسيم، أولوية التفاصيل الدقيقة في العمل الروائي هو ﺃسلوب الرواية العالمية الراهنة كما يذكر الناقد بلقاسم مسروق:" لكل كاتب رﺃس مال خاص: هناك من يشتغل على شعرية السرد وهناك من يشتغل على الموضوع وهناك من يشتغل على التفاصيل الدقيقة"[45] غير أن شعرية مستغانمي ذات الطاقة المتفجرة بحق في "الأسود يليق بكِ" ذخيرتها سنوات من التأمل وحشد الرؤى بعد الصيت الهائل الذي لحق روايتها الأولى، بُصمت في "هوية نسوية" في الكتابة لا يمكن المرور من أمامها مرور الكرام في الرواية الجزائرية المعاصرة. لكن فيما عدا ذلك تشترك مع الكثير من صنواتها اللائي يعطين الأهمية بالضرورة لرأس مال واحد: إما شعرية السرد، إما لمضمون الخطاب وإما للتفاصيل الدقيقة التي تجمع بينهما كالحوارية والتناص٬ هذا ما يعطي الملاحظ رؤية تشابه سياق جمالية السرد في الرواية الجديدة؛ نصوص تحتفي بالتقرير الصحفي المباشر وبرؤية الراوي العليم المحيط بالشخصية نفسيا إحاطة تجعله وكأنه يريد استنطاق الفكرة استنطاقا من شخصياته ــــــ وهو أسلوب غير محبب في السرود التقليدية ويسميه روبرت همفرت في نظريته الشهيرة المسماة تيار الوعي، تقديم المحتوى النفسي للشخصية و لو باستخدام المجاز ـــــ كما يتيح هذا الأسلوب الرؤية لاصطفاء بعض التفاصيل السردية عن البعض الآخر، وجعلها تحظى بالأهمية كالتي بين أيدينا: "لن يعترف حتى لنفسه بأنه خسرها٬ سيدّعي ﺃنها من خسرته٬ وﺃنه من ﺃراد لهما فراقا قاطعا كضربة سيف، فهو يفضّل على حضورها العابر غيابا طويلا، وعلى المتع الصغيرة ﺃلما كبيرا، وعلى الانقطاع المتكرر قطيعة حاسمة"[46] ولعلّ هذه التفاصيل التي هي هنا شعرية المغايرة النسوية وعي تجريبي انتقلت إليه مستغانمي متكئة على أكثر من ثلاثين سنة كتابة، وهي ليست بالتجربة الهينة.

  وفي بنية شعرية السرد/جمالية الخطاب ﺃمكن رصد الإيقاع الزمني للسرد بيُسر حيث نجد الكاتبة في معرض سياق سرد اﻷحداث التاريخية التي مرّت بها الجزائر تعمد ٳلى تكسير بنيته بتقنية متراوحة بين الوقفة والخلاصة، ليسمح لها ذلك التمادي في الانتقال من حين إلى آخر إلى الوصف فالسرد والعكس وضعا للقارئ في الحسبان بخصوص بعض الأحداث التي سبقت وأن قفزت عليها كوصف حدث موت ﺃبيها ووصف فتاوي السلفيين من أصحاب الدعوة والجهاد[47]، ثم سرد قصة هِجرتها فيما يشبه السيرة الذاتية في صفحات معدودة، لتنتقل للحيز اﻷكبر (عالم الموسيقى) بتوظف تقنية المشهد  (la scène) مع المناجاة (المنولوج) تحت  الإيقاع اﻷركسترالي الهادئ والإيقاع الحر المناسب للموسيقى المتسارعة المتداخلة مع أصوات ﺃحداث الشجار (ديالوج) في المكان المجاور، ناهيك عن التحاور المشهدي اللطيف المزدان بكياسة لفظية من الجانبين، لأن طلال يسعى بأن يكون حديثه شاعري مثل حديث حبيبته. وفي تلكم النبرة الحوارية الشعرية والموسيقية الأركسترالية والفنية الوردية تقاطعات أجناسية دور في استكناه معان بعينها، فتعطيل السرد شكل يفسح لمضمون مفاده استهداف "طلال" دون غيره من الرجال، هذه القدرة على توليد المعاني نسج من طبيعة خيال المؤلف (بنية الخطاب) كما يظهر من خلال الحديث الهاتفي:" ـــــ اۤلوا. ردﱠ صوت رجل على الطرف الاخر: ــــــ ﺃهلاﹰ.

ساد بينهما للحظات صمت البدايات، قال فاتحاﹰ باب الكلام: ــــــ سعيد بالحديث ٳليك.

وجد نفسه يستعجل: ــــــ كنت ﺃستعجل هذه اللحظة.

ردﱠت بنبرة لا تخلوا من الدعابة في ٳشارة ٳلى بطاقته السابقة: ــــــ ظننتك تملك كل الوقت"[48]

ﺃو يظهر في عزف طلال في شكل إيقاعات سريعة وبطيئة، متماهيًا معها جسد هالة راقصةً، ﺃو في إيقاع العزف اﻷوركِسترالي البطيء في خاتمة الرواية، التي كسّرت بهما خطية الزمن، وجعلت زمن اﻷحداث ينحصر في الحاضر.

  لعل السؤال الذي يطرح نفسه، بعد عشرين سنة عن نصها المشهور، هل امتلكت مستغانمي بهذه الجمالية السردية قارئ "ذاكرة الجسد"؟، الجواب لا. الدليل واضح، في الحبكة على ضعف نموها المطرد لم تستثمر في التفاصيل الجمالية للسرد تبعها بما فيه الكفاية، التّقطّعات السردية التي ﺃحدثها محاكاة الإفصاح والبوح لألوان الموسيقى في انسيابه مثلاﹰ، فضلا أنه أضحى تقعرا لما تجاوز الحدود المسموح بها (كان على الكاتب تأليف مقطوعة موسيقية والواح تشكيلية بدل كتابة رواية بالموسيقى والصور التشكيلية) خلخل ذهن القارئ وشتته بخاصة إذا اقترن بالتناقض في ﺃقوال الراوي حولها، اﻷمر نفسه مع الفراغات السردية، تقعُّر وفراغات ﺃحاطت في الأخير بنوع من الشبهة في السلوك اﻷخلاقي لعائلة هالة الوافي وهي بعد في التدريس: لماذا تغاضت الكاتبة عن ذكر الأسباب الحقيقية لاغتيال والدها في حلب بسوريا هل فقط لأنه مغني؟ كذلك جدها على يد النظام السوري بمذابح حماه في 1982؟ ثم كيف يعطي المثقف (مدرس ﺃو روائي ﺃو مطرب) الحجة للاۤخر في سياق الهوية الداخلي (المتطرفين واﻹرهابيين)؟ كون بقاء بيت العائلي "الشاوي" بدون بعل: لا اﻷم اختارت لها بعلاﹰ، ولا هي البنت المعلمة فعلت، لا شك ﺃن للبطلة ﺃقارب شاويون، رمت بعرضهم عرض الحائط مستسلمة ﻷهوائها، إننا لن نتوقع بعد ذلك ٳلاﱠ المعاملة السيئة من لدن المجتمع لهذا السلوك وما بالك بمعاملة اﻹرهابيين، كان على العائلة اختيار البعل ثم مواجهة اﻹرهابيين  والانتقام، ﺃما التوجه ٳلى الغناء في مثل هكذا حالة فإنها تعد مواجهة المرﺃة للتقاليد المعتدلة وتمردًا على الأعراف السوسيو ـــ ثقافية، غايتها الفن الغربي الذي يسمح للمرﺃة بأن تمارس حريتها في بيروت وفي ﺃفخم الفنادق اﻷوروبية، ولهذا التأويل علاقة بالانبهار بنسق ثقافي عولمي ومحاكاته فيه ولا علاقة للإرهاب ومقتل والد البطلة بذلك ـــــ اﻷسود مجرد تمويه ذرائعي نسائي عن فقد المحبوب chagrin d’amour  "فهي بالعكس تعيش حالة فرح داخلي يفسره  ميلها للأثرياء"[49] وعن الحرمان الطويل ــــــ  فسلوك البطلة المتناغم مع تقاطيع الجسد الذي ستبدﺃه ببيروت، كان قد اتضح في تحويم الشكوك حولها قبلاﹰ، دون ﺃن تحرك ساكنا، ولعلّ في هذا السلوك ما يوحي ﺃن الصدام الحضاري الثقافي بين اﻷنا (سياق الهوية الداخلية) والآخر (العولمة الثقافية المتفشية في الأنا إعلاميا) الذي تحدث عنه هنجنكتون ﺃصبح واقعًا معاش.

  كما قرأنا في خضم هذه التفاصيل الحضور الطاغي للسارد الكلي المعرفة (الرؤية من الخلف) والذي يتدخل في ﺃعماق شخصية طلال ويقرﺃ تطلعاتها النفسية، ما ﺃضعف البناء الفني لشخصية البطلة هو في تحوّلها إلى سارد مشارك يروي سيرته تارة ويعلق طورا على مكنونات طلال النفسية، والخطاب العام للرواية يوحي بتفكيك أدوار الشخصية لصالح الرؤية الأحادية للصوت السردي٬ فهو يعلم وعلم من ﺃن البطلة تشارك البطل كأسه وﺃنها تريد ﺃكثر من ذلك! والبطل طلال النسواني العلاقات قد قرر ﺃخيرا الالتفات لعمله فقط من اين استشف الراوي ذلك، لاندري، ما ضرّ الكاتبة لو تركت كل تلك اﻷخبار التقريرية تنثال من ﺃفواه الشخصيات نفسها٬ وبتسلسل منطقي. لعلﱠ ما كشف عن موطن الزلل هذا هو التناقض في موقف السارد من البطل والبطلة كلما تقدم السرد في اتجاه الانفصال بينهما؛ كأنها تريد كرها إيجاد حجة القطيعة ولو ﺃحدث ذلك تناقضا مع ﺃقوالها السابقة ٬بيد لما كان النمط السردي موضوعي تمثيلا ﺃو حكيا من لدن الراوي من الخلف كلما تعلق اﻷمر بالبطلة ( شاوية وكرامة البطلة، وبطل يملك " الدانوب اﻷزرق"* لكن لا يملك إحساس هالة الوافي به!) ﺃبان عن ٳرادة الكاتبة في توجيه اﻷحداث والتحكم في مصائر الشخصيات. ونلمحه أيضا في تعبير الشخصية الغير عالمة اللغوي والفكري المُعبِّر عن مستوى لغة وخطاب الكاتب الثقافي. "طلال" في هذا الشاهد مثلا يتحدث بلغة تفوق مستواه الثقافي، فهذا الرجل الذي لم يطأ أبواب الجامعة يتمتع بذوق رفيع؛ يسمع لستراوش ويمارس طقوس النبلاء في تنقلاتهو يتحدث بالحكم:" ـــــ السعادة ليست فيما تملك.. لكن الشقاء فيما لا تملك. غالبا ليس بإمكان ما تملكه ﺃن يصنع سعادتك، بينما ﺃن ما تفتفده هو الذي يصنع تعاستك"[50] 

  والتمسنا أيضا حضور الحيز المكاني في نص اﻷسود يليق بكِ بما يعكس وظيفة البطلين، من نجومية وشهرة.. مراقص وموتيلات فخمة في فيينا وباريس، رمز الحرية الجنسية عند الذين ﺃلّفوها من النجوم الغربيين، وما بالك بمغنية قادمة من الجزائر ﻷول مرة، من (مروانة إلى قسنطينة فالعاصمة بالضبط) ٳلى الشام سوريا ولبنان مرورا بالقاهرة وباريس، إنها الأماكن نفسها التي يرتادها الصحفيون والمطربون ورجال اﻷعمال وحتى الروائيون المشهورون، غير ﺃن  لباريس لدى الكاتبة ضمن سياق نصها السابق "ذاكرة الجسد" دلالة خاصة، فباريس قد عجّت بالوطنيين والفنانين الذين آلمهم واقع بلدهم المتحدر لهاوية حرب التحرير وهاوية أزمة ما قبل فتنة التسعينيات الدامية، ﺃما اليوم ما يشغل الكاتبة ﺃكثر هو ليس ماۤسي الوطن، بقدر ما هو الترويح عن النفس، وإفساح المجال للتغيير على مستوى الخطاب نحو الاستمتاع بالنجومية، فاختارت لذلك باريس وفيينا اللتان تعدان رمزا ومعقلاﹰ للنجوم الذين يلتقون ظاهرياﹰ لإتمام ﺃعمالهم الفنية، لكن لا مجال ﺃبدا للهروب من المتع الصغيرة حسب تعبير الراوي ـــــ تمثُّل المتعة على  طريقة المثقفين الغربيين، خاصة فيّينا المعروفة تاريخيا بأن الحريات الفردية فيها تفوق الخيال ـــــ لا مناص من القول ﺃن كل اﻷمكنة والوظائف المذكورة  في نص "اﻷسود يليق بكِ" هي جزء من حياة الكاتبة الخاصة حتى بغداد لأنها كانت ومازالت تحت أعين الأمريكان، فالحفلات وأستوديوهات القنوات اﻹعلامية كثيرا ما تلعب دور في صقل حياة المثقف كاتبا ﺃوفنانا حتى قبل النجومية وتجعل هواجسه منصبة في تكييف هويته لتنسجم مع ثقافة الاۤخر قلبا وقالبًا، ثم أن مستغانمي اشتغلت كصحفية في الأقرب اطلاعا على حركية السرد الجزائري الجديد في عشرية الثمانينيات والتسعينيات أين ولجت أقلام إعلامية عدة تجربة الكتابة الروائية توثيقا للأحداث العشرية والتحولات السياسية المشهودة ولعلها كانت ممّن لفتوا انتباه المختصين والرأي العام، فاستمرت في الكتابة الروائية، لكن لم تغير أسلوبها التقريري الإعلامي الذي نهجته، لكن استدارت بزاوية معينة ناحية الخطابات الثقافية، سياسية ونسوية في ظل تشابك الظروف وتعقد والقضايا السياسية المستجدة وتعددها مع الآخر والغرب والعولمة. هذا الشكل الروائي الجزائري المتغير في ذلك الوقت كان غير خاف عن هذه الروائية، وربّما كان سببا في نضج غير مسبوق للرواية الجزائرية المعاصرة شكلا وخطابا روائيا جديدا يمتح من المتعاليات الفكرية والأيديولوجية المستقاة من مُعايشة القطاع الإعلامي، وهو ما حذا بجل الجيل الجديد خاصة النسوي منه إلى تقليدها فيه.

   وأخيرا وليس آخرا أوَليس من الثابت القول أن مُجمل الإشارات الفنية قد انسجمت إلى حد بعيد مع إشارات النسوية وإيماءاتها، وهي بمثابة خطاب جديد في الرواية الجزائرية المعاصرة؟ ناهيك عن إشارات وجود نية تطابق بين المؤلفة وبطلتها وهو المستشف من عديد العبارات آخرها القول:" ..عجب، وهو يراها ترتجل تلك الكلمة، ﺃن يكون اﻹرهابيون قد منعوها من الغناء، كأن عليهم إصدار فتوة تحرم عليها الكلام.."[51] باستعمال مفردة "الكلام" ههنا بدل لفظة الغناء يحيل ٳلى المؤلفة أحلام مستغانمي نفسها (الكلام = النضال بالقلم) فهي اﻷخرى تلقت تهديد بالقتل منتصف التسعينيات من قبل اﻹرهابيين، لتتحول ٳلى بيروت وتستمر بمقابلة الآخر (الذكر الأصولي) كتابةﹰ وخطابًا: مقابلة سياق اﻷنا المحلي تمرداﹰ على قيم الكبت والاضطهاد، ذلك السياق الذي يعتبر كتابة المرﺃة للرواية فقط تمرد وخروج عن الذوق العام وما بالك في ﺃن تنضوي تحت نسق المغنية التي تغني باللازوردي في بيروت وﺃوروبا، النسق الموصوف بالمجون والانحلال.

  الخاتمة: ﺃصبح بمجرﱠد رؤية اسم المبدع اﻷنثى على غلاف الرواية، حتى تتحدد في ذهن القارئ تيمته الرئيسية، ٳنها الكتابة النسوية التي اكتسبت هوية ثقافية، لها ما يقابلها في سياق الهوية الداخلية لغة وخطابا، ناهيك عن استفزازها المستهلك القارئ وإغراقه في "هبال الجسد" على حد تعبير واسينى اﻷعرج. في جميع اﻷحوال إنه نص لغة الجسد المكتسي لخصوصية ثقافية نسوية٬ حتى وٳن تعلق اﻷمر بالدفاع عن حقوق النساء (كما في روايات فضيلة الفاروق) دون الحديث عن الولوج الراقي ٳلى حلقة الإبداع من عدمه٬ ﻷن المتلقي اليوم ﺃصبح متعلقاﹰ بمرجعية الجسد، وهو نقطة مشتركة مع المبدع ما يجعله يتورط معرفيا في النص ﻷن المخيال السوسيو- ثقافي ﺃعلى من القيم الجمالية لجسد المرﺃة وفك شفرته المضمرة هو من المتعة بما كان ـــــ فمثلاﹰ في العنوان نلمس شفرة ازدواج المعنى لا تنكشف ٳلاﱠ بعد الانتهاء من قراءة الرواية : بحيث بتغيير الكسرة ٳلى فتحة يصبح  اﻷسود يليق بكﹶ: كل النساء اللائى تخلى طلال عنهن لابد ﺃن يلبسن اﻷسود له؛ اﻷسود ﺃصبح أليق بذلكم الثري ﺃما البطلة حريٌ بها اللاﱠزوردي، ٳنه الجندر المتمركز حول الذات ورفض السلطة الذكورية والبحث عن الحرية، والذي له طقوسه وإيحاءاته البيتية المستحبة، ﺃصبح التحدي مكوناﹰ من مكونات الهوية الثقافية في الكتابة النسوية٬ تحدي الرجل الذكر من خلال تيمة التحرر من عقدة التابوهات، سياسية كانت ﺃو جنسية ﺃو حتى دينية، بدﺃ بتمثل الروائيات الجزائريات الفرانكفونيات المقيمات بالمهجر منذ جميلة حبيب "حياتي ضد القرآن"، مليكة مقدم "المتمردة" ومايسة باي وغيرهن لقيم اﻵخر اﻷخلاقية والثقافية ومعايشتها محليا.

ــــ ﺇنﱠ مقابلة مركزية رؤية الذكر للمرأة ولجماليات الجسد في نص اﻷسود يليق بكِ ــــــ كغيرها من الروايات النسوية الجزائرية الجديدة ــــــ عن طريق وسيلة جندرية وهي اعتناق ثقافة الاۤخر وتجاوز قضية شرف وكرامة المرﺃة /اﻷسرة في البنية السوسيو - الثقافية المحافظة هو في الوقت ذاته تجاوز للهوية الدينية، في محاكاة اﻵخر في متعه دون سواها، تحت ذريعة تحرير المرﺃة من قهر واضطهاد المجتمعات الانغلاق والتقوقع عن الآخر، فهي تستعمله هوية ثقافية وشفرة  تتحدي به الكتابة الذكورية، ومضمر تنتقد به البنية الثقافية خاصة التقاليد الدينية التي هي بمعزل بالضرورة عن كل خطاب وجندر نسوي. أما بخصوص المطابقة السردية بين البطلة والمؤلفة؛ يعتبر ذلك خروجاً عن النظرية السردية حسب جيرار جينيت يشكل الإصرار على التطابق بين المؤلفين خروجاً عن النظرية السردية التي يستبعد مجالها المؤلف الحقيقي، ولكنه يتضمن المؤلف المفترض لكن الكاتبة كما رﺃينا قد حكت بتقريرية ﺃحادية الطرح الأيديولوجي فيما يشبه سيرة ذاتية تكتبها صحفية؛ برغم تعدد رموز توظيف أجناس عدة من الفنون، لكن في علاقاتها بالراوي الكلي المعرفة ما يوحي بوجود نية المطابقة بين الكاتبة وبين بطلتها. والمطابقة هي إعطاء الدليل القاطع عن تبلور خطاب نسوي في رواية أحلام مستغانمي هاته يُقارب الجندر.



* المؤلف المرسل: بوزيان بغلول


*.  مفهوم يدرك التنظيم الرمزي للحياة الاجتماعية ويميز فيها بين معنى الرجل والمرأة عن طريق استعمال الرموز والطقوس الثقافية الخاصة بكل منهما بما فيها ميدان الكتابة الروائية، فالنص يحفل كذلك بالشفرات الأنثوية وإيحاءاتها المعلنة عن الفروق الجنسية.  ونقدها نقدا إيجابيا في وجود سيطرة الطرف المقابل هو "النقد الجندري" .. ينظر النقد الجندري (6/3/2013)، تمثلات الجسد الأنثوي في الكتابة النسائية، دنيا الوطن، على العنوان:

https://www.alwatanvoice.com/arabic/news/2013/03/16/371834.html

**. الصفات المتعلقة والمميزة ما بين الذكورة والأنوثة اعتمادًا على السياق يمكن أن تشمل هذه الصفات الإنسان تشريحيا ذكر أو أنثى، وتشمل البنى الاجتماعية المعتمدة على الجنس (بما فيها من أدوار جندرية وأدوار اجتماعية أخرى أهمها المغايرة الجنسانية)، أو الهوية الجندرية، ظهر مفهوم الجندر في ثمانينيات القرن العشرين كمصطلح بارز استخدم في قاموس الحركات النسوية، حيث ظهر في أميركا الشمالية ومن ثم أوروبا الغربية عام 1988. ينظر موقع ويكيبيدياhttps://ar.wikipedia.org/wiki/ :  

[1]. طه، عبد الرحمن، روح الحداثة، ص100.

[2].  يسري، إبراهيم، فلسفة الأخلاق لفريديريك نتشة، ص267.

[3]. جورج، طرابيشي، من النهضة إلى الردة تمزقات الثقافة العربية في عصر العولمة، ص165ــــ166.    

[4]. بويجرة، محمد بشير، أزمة الهوية أم عبث الراهن في رأس المحنة، مقاربة حول تعالق راهنية الهوية٬ ملتقى رواية الراهن وراهنية الرواية بجامعة سطيف 2، 1/2/3 ماي 2006.

[5] . إبراهيم صحراوي، تحليل الخطاب الأدبي، دار الآفاق للنشر، الجزائر، ط1، 1999، ص9.

*. "من المستحسن أن نميز بين النص والخطاب باعتبارهما الوجهين المتكاملين لشيء مشترك تتكفل به اللسانيات النصية التي تفضل تنظيم السياق الداخلي والاتساق باعتبارهما انسجاما لغويا وتحليل الخطاب الذي يولى سياق التفاعل اللغوي والانسجام عناية أكثر باعتبارهما نفسه" ينظر باتريك شادورو ودومينيك منغنو، معجم تحليل الخطاب، ترجمة عبد القادر لمهيري وحمادي الصمود، المركز الوطني للترجمة، تونس، 2008، ص553.

"ومع الشكلانية الروسية تم الانتقال إلى مركز مغاير وهو الخطاب الأدبي، أي داخل النص،.. مع أن هذه الأدبية مختلف في حقيقتها، هل هي سمة نصية خالصة أم أنها رؤية منظورية من الجماعة القارئة التي تستعمل نصا ما بوصفه أدبا، وبالتالي لا يمكننا الجزم بالصفة الأدبية لأنها متعددة،.. وعليه نكون أمام شكلين من الأدبية: ــــ أدبية نصية تعمل على استجلاء السمات الأدبية في النص.                             

ــــ أدبية القراءة تكون انطلاقا من استعمال النص من طرف مجموعة من القراء، على اعتبار أنه كذلك، وهنا نكون قد انتقلنا إلى محور آخر وهو نظرية القراءة. وهنا نجد أن الأبحاث التي جرها تحديد الخطاب الأدبي تفرعت عبر مدارس مهمة أثرت النقاش والبحوث فيما بعد؛

. مدرسة باريس اهتمت بالبنيويات والسيميائيات.

. المدرسة الأنكلوسكسونية اهتمت بتطوير التداوليات.

. المدرسة الألمانية اهتمت بتطوير جمالية التلقي" ينظر تيري إيغلتون، نظرية الأدب، ترجمة ثائر ديب، دمشق: منشورات وزارة الثقافة، 1995، ص20.

[6]. إبراهيم صحراوي، تحليل الخطاب الأدبي، ص10.

[7] . Patrik Charaudeau, Dominique Maingueneau, Dictionnaire D'analyse du Discourse, edition seuil, paris, 2002, p: 41                                                            

[8]. شهلا، العجيلي، الخصوصية الثقافية في الرواية العربية، ص66.

*. روائية جزائرية من مواليد تونس عام 1953 لها "ذاكرة الجسد" 1993 و"فوضى الحواس" 1997 و"عابر سرير" 2001 و "الأسود يليق بك" 2012. حاصلة على جائزة نجيب محفوظ عام 1998.

ملخص الرواية: يتلخص مضمون الرواية التي تقع في 238ص في سرد فتاة جزائرية في ثمانينيات القرن الماضي لقصتها مركزة على السياقات التي هددت حياتها في ظل توسع حلقات وأشكال الإرهاب في بلادها ويكون سلاح هذه الفتاة الشاوية /هالة الوافي في مواجهة تلك الأهوال هو الذكر الغني طلال بكل لا وعيها الجندري ليكون سلاحها في تملكه الموسيقى والغناء، المظهر النسائي، التأنق والرهافة وعذوبة الكلام.. وطرائق معيشة الغربيين إجمالا وينظر المزيد أعلاه 3/القصة. 

[9].  نزيهة الخليفي (8/4/2010)، رمزية الاشتهاء...أسطورة الجسد٬ ديوان العرب، عنوان الموقع: http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=22834

[10]. سيليني، نور الدين، تيمة الجنس في الخطاب الروائي واسيني الأعرج بين الوعي القائم والممكن والزائف سيدة المقام نموذجا، ص397.

[11]. أحلام مستغانمي، الأسود يليق بك، ص13ـــ14.

[12]. المصدر نفسه، ص67.

[13]. المصدر نفسه، ص12.

[14].  بوعلي، ياسين، الثالوث المحرم دراسات في الدين والجنس والصراع الطبقي، ص25.

[15]. إبراهيم، الحيدري، النظام الأبوي وإشكالية الجنس عند العرب، من المقدمة.

[16]. عبد الوهاب، بوشليحة، إشكالية الدين والسياسة والجنس في الرواية المغاربية، ص213.

[17]. صالح، مفقودة، المرأة في الرواية الجزائرية، ص61.

[18] . المصدر نفسه، ص16. 

[19]. ميجان، الرويلي، سعد، البازعي، دليل الناقد اﻷدبي، ص151.

[20].  جوديت، بتلر(1/10/2016)، مشكلة الجندر، ترجمة فتحي المسكيني، موقع معابر، العنوان: http://www.maaber.org/issue_october18/books_and_readings1.htm. 

[21] . ميشيل، فوكو، تاريخ الجنسانية 1 إرادة العرفان، ترجمة محمد هشام، ص12.

[22]. أحلام مستغانمي، الأسود يليق بك، ص14.

[23]. شهلا، العجيلي، الخصوصية الثقافية في الرواية العربية، ص111. 

[24]. أحلام، مستغانمي، الأسود يليق بك، ص270.

[25]. المصدر نفسه، ص17.

[26]. المصدر نفسه، ص107.

[27]. المصدر نفسه، ص84.

[28] . شهلا، العجيلي، الخصوصية الثقافية في الرواية العربية، ص164.

[29] . الغذامي، عبد الله، المرأة واللغة، ص98.

[30] . أحلام، مستغانمي، الأسود يليق بك، ص 105.

[31]. المصدر نفسه، ص11ــــ12.

* . الأرجح أن كتابة الجسد بالنسبة لمستغانمي لها معه تجارب عن خيار جندري يختلف عما هو عليه عند فضيلة الفاروق، أي أن لها أسلوبها الخاص في أكثر من رواية ترويه بضمير الغائب بعفة وكبرياء بميزة خطاب جندر وكنجمة تؤثث لأنوثتها كي تضعها بضاعة للمزاد بين الرجال وأي الرجال؟ أنهم الرجال الأثرياء كطلال أو النجوم الثوريون كخالد في ذاكرة الجسد، ففي روايتها هاته ناقشت أحلام مستغانمي الموضوع نفسه على لسان حياة، بطلة الرواية، التي تجسد شخصية كاتبة، قدمت روايتها الأولى هدية إلى حبيبها، لكنه لم يهتم بالرواية نفسها، بقدر ما شغله الرجل الذي كتبت عنه بطلة القصة، وسألها عن هذا الرجل ومن يكون. فأجابت: " أتغار من رجل من ورق؟ فقال لها:" وهل تريدين أن أعتقد أنه رجل خيالي؟"، فتجيب حياة: "هناك فرق بين الأدب ومن نكتب عنهم" والمطابقة ها هنا بين حياة البطلة الكاتبة وبين مستغانمي الكاتبة تأويليا ما كان ليكون لو أن مستغانمي اختارت مهنة أخرى لبطلتها.

[32] . المصدر نفسه، ص267.

[33] . شهلا، العجيلي، الخصوصية الثقافية في الرواية العربية، ص155

[34] . أحلام مستغانمي، الأسود يليق بك، ص11.

[35] . الغذامي، عبد الله، ثقافة الوهم "مقاربات في المرأة والجسد واللغة"، ص75. 

[36] . أحلام مستغانمي، الأسود يليق بك٬ ص271.

[37] . نهال، مهيدات، الاخر في الرواية النسوية العربية في خطاب المرأة والجسد والثقافة، ص134.

[38] . شهلا، العجيلي، الخصوصية الثقافية في الرواية العربية، ص131.

[39] . خالد، وهاب (7/11/2015)، الرواية النسوية وخرق الأفق، أصوات الشمال، عنوان:     

http://www.aswat- elchamal.com/ar/?p=98&a=37913.

[40] . أحلام مستغانمي، الأسود يليق بك، ص104.

[41] . المصدر نفسه، ص94.

[42]. تزفتان، تودوروف، مقولات السرد الأدبي، ص63.

[43] . أحلام مستغانمي، الأسود يليق بك، ص60. 

[44] . جابر، عصفور، زمن الرواية، ص 274.

[45] . بلقاسم، مسروق، حوار مع الإذاعة الثقافية، بث يوم 28/10/2016، الساعة 17:30.   

[46] . ﺃحلام مستغانمي، الأسود يليق بك، ص13.

[47] . المصدر نفسه، ص25 ـــ24.

[48]. المصدر نفسه، ص48.

[49]. كارل غوستاف، يونغ (2/12/2006)، علم النفس التحليلي خفايا النفس خفايا النفس، موقع نرفانا، العنوان:

www.nirfana2000.blogspot.com/   

*. الدانوب الأزرق قطعة موسيقية شهيرة للموسيقي الألماني يوهان شتراوس ﺃلّفها عام 1867 سماها على نهر الدانوب الذي يمر بعدة عواصم ﺃوروبية.

[50] . أحلام مستغانمي، الأسود يليق بك، ص275.

[51] . المصدر نفسه، ص 84.

[54] . المصدر نفسه٬ ص 84.

author-img
موقع تنويري فكري وشبه أكاديمي، يتغيا تقديم إضافات نقدية تخص تحليل الخطابات الثقافية ونظرية النقد والأدب متوسلا بجماليات التلقي والنقد الثقافي، كما يعنى بنشر إبداع قصصي جديد ليس له ما يماثله على الساحة الجزائرية، والمقال المتناول للشؤون السياسية والإعلامية والاجتماعية المقاربة للظاهرة الأدبية والمحاكية المكملة لها.

تعليقات