إحالة: التوليد اللغوي لدى المغاربة

 

بوزيان bouziane


ليس من عادتنا النسخ، بل نحن فكر من محض أسلوبنا وتحريرنا الخاصين، لكن كان لزاما علينا الاتيان بشاهد لموضوع يعد من أهم موضوعاتنا البحثية الراهنة، وهو القصور اللغوي بالفصحى، ومما شجانا حقا أن صاحب هذه المقدمة وهو مغاربي يتحدث عن البليغ الثقافي لكنه يولد ألفاظا مالها في العربية (الكلمات المسطَّرة) اشتقاق ولا وزن؛ ألفاظ هجينة لتناسب النظرية اللسانية لا البلاغية: ونسخنا هذه المقدمة ههانا في موقعنا لنحيل إليها كشاهد في موضوعاتنا التي تتعلل دوما وهي بصدد دراساتها النقدية بإشكالية المغرب العربي الأساسية وهي ليست منهجية، فليست إشكالية الواقعة التاريخية ولا الاجتماعية ولا الثقافية في تحليل النصوص الأدبية هي إشكاليته الجوهرية لكنها الواقعة اللغوية. 

 

مقدمة كتاب: "النقد الثقافي من النسق الثقافي إلى الرؤيا الثقافية" ع المصباحي

 

       ما القيمة المضافة لمشروع النقد الثقافي في المشهد النادي العربي الحديث؟ وهل إعلان موت النقد الأدبي واتخاذ النقد الثقافي بديلا منهجيا عنه كاف لتحقيق طفرة في هذا المشهد؟ وإلى أي حد تمكن النقد الثقافي من التأسيس الأدوات نقدية قادرة على استكناه المضمرات النسقية للخطاب؟ هل تستطيع الأداة النقدية الثقافية. وهي تؤسس نقلتها المصطلحية والإجرائية، ادّعاء الانفلات من ربقة الأنساق الثقافية؟ ثم كيف تلقى المشهد النقدي العربي مشروع النقد الثقافي. من زاوية أخرى، هل بمقدور مصطلحي الرؤيا الثقافية والبليغ الثقافي، اللذين تستسعفهما هذه الدراسة، تقديم مقترب ثقافي للنص الشعري يأخذ بالاعتبار خصوصيته المضادة للتنميط والحد المانع؟

     إن النقد الثقافي نشاطية نقدية غايتها تفكيك الأنساق الثقافية المضمرة وفعلها المضاد للوعي وللحس النقدي، في سعيها إلى إعادة إنتاج قيم التمرکز والنسخ والاحتواء القسري، والمتسربة بوساطة أنظمة ثقافية متحكّم في غاياتها ومراميها، والثقافة هنا بمعناها الأنثروبولوجي التي تعني، كما عند كليفورد غيرتز Geertz، إنتاج آلیات الهيمنة والإخضاع "بإسقاط سماتنا الذاتية على (الغرباء) حتى يتحول الأخر إلى صورة مستنسخة من الأنا"[1]، وليس فقط مجموع الأعراف والعادات والتقاليد، وهو ما يوازي مفهوم المؤسسة الرسمية التي تتحكم في الخطاب ورعية الخطاب وتستهدف إخضاع المخالف وإسكاته وتدجين المعارض والجامه عن طريق تنميط الخطاب ضمن تراتبية معينة للتحكم. دون وعي من المستقبِل الثقافي. في طبيعة التفاعلات التي ينفرز عنها الصراع بين الأفراد والطبقات مع المؤسسة الرسمية التي تسيطر عليها النخبة. والنقد الثقافي يقدم نفسه بوصفه خطابا نقديا يحتفي بالاختلاف والغيرية ويناهض أشكال التنميط والتدجين أو "قبحيات الخطاب" التي لم يستطع النقد الأدبي في كل تاريخه الطويل أن يسائل حركيتها القاتلة والمتملكة لبنيات خطاب متنوعة، إبداعية وفکرية بسبب من العمى الثقافي الشامل الذي خدّر أدواته نتيجة خضوعه للاستهلاك الجمالي دون نقد متعته أو تقويضها

     لعل هذا هو طرح الناقد السعودي عبد الله الغذامي منذ كتابه الذائع "النقد الثقافي: قراءة في الأنساق الثقافية العربية" المتضمن مشروعه في النقد الثقافي باعتباره بديلا منهجيا عن النقد الأدبي الذي أعلن الغذامي عن موته في ندوة حول الشعر عقدت في تونس سنة 1997، واضعا بذلك المشهد النقدي العربي في حمأة صراع جديد بين مناهج النقد الأدبي ونظرية النقد الثقافي كما يتمثلها. والصراع النقدي أمر صحي يسعف في تحريك المياه الراكدة وإثارة السؤال النقدي القلق الذي لا يركن إلى الأداة النقدية اللوغوسية الثابتة والإبدالات السكونية، مما هو قمين بإحداث قطائع إبستيمولوجية وإجرائية.

     إن تاريخ النقد والنظرية مفعم بحوادث الصراع الطويلة بين المقاربات التي يسعى كل منها إلى بناء مشروع قرائي يحظى بالمقبولية في تأويل النص والخطاب واستكناه أنساقهما؛ غير أنه "في المعركة من أجل السطوة التي تخوضها القراءات المتصارعة، هنالك حالتان متطرفتان ومستهجنتان على حد سواء، هما الاستبداد والفوضى"[2]، وذلك بسبب الرغبة في امتلاك النص وتجريده من آخريته. بمعنى أن النقد في سعيه إلى تقديم مقترب نقدي بصدد النص يكون خاضعا للنسق الثقافي الناسخ الذي لا يعترف للآخر بأحقيته في الوجود وفي تقديم قراءة مختلفة، حدث ذلك في فرنسا بين رولان بارت وريمون بیکار الذي كان يعتبر راسين ملكا له، بينما كان يطالب رولان بارت بحقه في قراءة خاصة. وحدث أيضا، بين ماثيو أرنولد وويليام ووردزوورث في إنجلترا حول حق النقاد في مساءلة الشعر. وهذه حوادث ثقافية لا تزال تستعاد بطرق مختلفة كلما تجددت الرؤى والمناهج والآليات والمفاهيم التي تربك القديم فيبدي مقاومة شرسة لحماية مصالحه ونفوذه، نعم نفوذه، لأن كل قراءة نقدية قد تقع، من حيث لا تحتسب، في خرم الاستبداد وتحاول تأمين حوزتها تجاه منافسيها. ولن يكون غريبا في هذا الصدد أن تتدافع نظرية النقد الثقافي مع النقد الأدبي في صراع حول المواقع داخل المشهد النقدي العربي، وهو ما قد تكون نجحت نسبيا فيه جراء المتابعة الإعلامية الكبيرة التي حظيت بها خاصة أنها ترتبط بعبد الله الغذامي، الناقد المتمرس والخبير في النظريات النقدية الأدبية المختلفة، وأحد الذين قدموا استراتيجية التفكيك للقارئ العربي في بداياتها، وهو الناقد المتجدد الذي يطور أدواته النقدية بقدر ما ينوع في الموضوعات والخطابات المختلفة التي يقاربها[3]

     إن تجدد المنجز النقدي عند عبد الله الغذامي ورهانه الذي يقوم على الجمع بين الرصانة والجماهيرية هو ما يحفزنا، في هذا الكتاب، على دخول غمار قراءة مشروعه في النقد الثقافي، خاصة أنه حقق تراكما مهما في السنوات الأخيرة التي تلت صدور كتابه (النقد الثقافي: قراءة في الأنساق الثقافية العربية) سنة 2000، إذ صدر كتابه (الثقافة التليفزيونية: سقوط النخبة وبروز الشعبي) سنة 2004، وكتابة (الفقيه الفضائي) سنة 2011 وكتابه (اليد واللسان) في السنة نفسها، وهي جميعها كتب تطبق آليات ومفاهيم النقد الثقافي على بنیات خطابية متنوعة (الشعر، النص الديني والمدونة الفقهية، ثقافة الصورة، ظواهر القراءة والأمية والأكثر مبيعا..( وهذا التراكم يغري باستثماره لتتبع فاعلية الأداة النقدية الثقافية في مقاربة هذه الظواهر، وقراءة الفرضيات المنطلق منها وطبيعة النتائج المتوصل إليها، فضلا عن التحقق من مدى تمكن النقد الثقافي وأولياته عند عبد الله الغذامي من الفكاك من ربقة الأنساق الثقافية نفسها التي يعتبرها عبدالله الغذامي أزلية وتاريخية. أي مدى قدرته على ربح رهان الوجود داخل الأنساق وخاربها في الوقت نفسه.

      إن ما نقترحه في هذه الدراسة، يتمثل في تتبع آليات النقد الثقافي عند عبد الله الغذامي من زاوية قدرتها على كشف الأنساق الثقافية المضمرة داخل الخطاب الشعري والذهنية النسقية المتعاملة مع الدولة الفقهية والأنساق الجماهيرية المنفرزة عن عصر الصورة وثقافتها، ومدى نجاحها في تلافي تعميمية الأحكام وبوركسيتها أثناء بحثها المضني عن الأنساق الناسخة وكشف حركيتها، بعبارة أخرى قدرتها في آليات النقد الثقافي، على جعل الخطاب المقارب في حال (التابع المختلف) الذي طرحه بول أرمسترونغ، والذي يعني "علاقة النصوص بمن يحكم عليها بأن تكون تابعة لمقاصده وغاياته وقناعاته، ومستقلة عنها في آن واحد"[4]، ما يعني تلافي امتلاك الخطاب في استبداد مغرق وديكتاتورية متمركزة، ولعل هدفنا هو جعل الأداة النقدية الثقافية موائمة لقصديتها. أي أن تجسد ما البيئية والفكرية والاختلاف دون التخلي عن حقها الخالصة في قراءة خاصة، وهو الرهان الذي نطمح إليه من خلال استسعاف مفهومي "البليغ الثقافي والرؤيا الثقافية" اللذين تطرحهما بوصفهما مصطلحين إجرائيين نستسعفهما في قراءتنا الثقافية لديوان محمود درويش "كزهر اللوز أو أبعد". ونعني بالرؤيا الثقافية بنية دلالية/ جمالية تستضمر حالات وجودية تسائل العوالم الكائنة نتشرف أخري ممکنه بكثير من الحكمة التي تقدم بأسلوبية متجددة وتستحضر، بوعي نافد آفاق التلقي القرائي بنوعيه الجماهيري والنقدي، وتسعى إلى التسامي على شرط الأنساق الثقافية مع الوعي بجبريتها ومسعاها إلى التنميط والهيمنة، تجسيدا لاختلافنا مع ما طرحه الغذامي حول ضرورة ابعاد الجمالي الذي يخفي في نظره الأنساق الثقافية ويتواطأ معها.

واني أتقدم بالشكر الجزيل للدكتور بن عيسى بوحمالة الذي أولى لهذه الدراسة عناية خاصة. وقوّمها ملاحظات منهجية ومعرفية ولغوية أسفعتني واسعة في استغوار أعمق للمتن الثقافي.



[1]. الرويلي والبازعي، دليل الناقد الأدبي، ص145.

[2] . بول أرمسترونغ: القراءات المتصارعة: التنوع والمصداقية في التأويل، ترجمة فلاح رحيم، دار الكتاب الجديد، ط1، بيروت، 2009، ص20.

[3] . للتعرف أكثر على عبد الله الغذامي ومشاريعه النقدية، ينظر الكتاب المهم (الغذامي الناقد: قراءات في مشروع الغذامي النقدي)، الذي أنجزته مجموعة من الباحثين المتميزين في العالم العربي، الصادر عن كتاب الرياض ع 97و ،98 ديسمبر 2011 يناير 2002.

[4] . بول أرمسترونغ: القراءات المتصارعة، مرجع مذکور، ص150.

 

 نموذج ثان عن ركاكة في الأسلوب/ في التركيب لا نلمسه لما نلمسه إلا بازاء التنظير أو التحليل وفق المناهج البنيوية:

 1. صاحبه جزائري: محاضرات في النقد الأدبي الحديث، السنة الثانية ليسانس، سداسي 1، جامعة سطيف، ص1.

 يحل زمن القطائع و الانفصالات بمجرد وصول الأفكار إلى مأزقها وعجزها عن احتواء الواقع من جهة، واتساع الهوة التي تفصل بينه و بين الإنسان من جهة أخرى، فالقول بهذا المبدأ في كل حالاته مرجعه الإنسان، حتى و إن اعتقد يوما أنه عبد مسير بيد الآلهة و تلك شروط الاستمرار في الزمن، إذ يحدث الجمود و الركود والتراجع إذا ارتبط الزمن بالثبات وانتفى عنه الحادث، وقمة الوعي بهذه الشروط ميزت العالم بعد سنوات من العجز ارتبط بثبات الأفكار، عرفت تلك الفترة بالقرون الوسطى، تلتها مرحلة انعطاف شديد كان التركيز فيها منصبا على الفكر بما هو الأصل في كل تغيير.

وكان اسم عصر النهضة كافيا لإيجاز مجمل التغيرات التي أصابت العالم، إذ كان استيقاظ الإنسان إيذانا بإدراكه لمكامن العجز في تفكيره، و للثغرات التي توسطت علاقته بذاته و واقعه و الزيف الذي شمل مرحلة زمنية كاملة كانت تحكمها التصورات الماورائية، وجملة هذه المعطيات قادت العالم لبر الأمان أخيرا... و صار الإنسان مركزا بعدما استعاد هويته وكيانه و أناه، و صار ممكن هو الحديث عن فلسفة عقلية و عن علم تجريبي في ظل تحرر الإنسان من سيطرة العالم الماورائي إلى عالم يحيط به الوضوح و إرادة الوصول إلى اليقين بما هو هدف موضوعي، فما كان من أمر هذا العصر إلا أن كان فاتحة لعلوم عديدة كان النقد في ضمنها مستفيدا من مناهجها، فتميز عن غيره بتبنيه لقواعدها منفصلا عن الذوقية و الذاتية التي أغرقت في اختزال جمالية النص.

و منه صار منظورا إلى النص بوصفه صورة تعكس مجالات في الحياة مختلفة و تطور النقد في نفس الحقبة الزمنية ليتجاوز الظروف الخارجية و التمركز حول النص بوصفه كيانا لغويا جماليا في ذاته و لذاته، و هو آخر ما وصل إليه التصور النقدي في العصر الحديث، فكانت المناهج السياقية في النقد الأدبي الحديث بوابة دخل من خلالها العالم عصر التصور النسقي و المناهج الحداثية وما بعدها... فلا يمكن تصور تفكير نقدي حداثي دون بأهم المنعرجات التي قادت النقد إلى هذا التفكير، و لتحقيق هذا الهدف جرى الحديث عن تناول هذه المناهج بالوصف و التفصيل بغية وضع حدود دقيقة لها من جهة و من جهة أخرى للبحث عن مكامن التميز ومواطن الإرهاص التي تحكمت في وتيرة خطى النقد باتجاه الأمام .

2. صاحبه سوري: تحليل الخطاب الأدبي على ضوء المناهج الحداثية، ص9.

و(الإشكال) الذي أوقعتنا البنيوية فيه هو أنها اندلعت علينا دفعة واحدة مع المناهج النقدية الحداثية الأخرى التي استقلت عنها فيما بعد. وقد أشاعت هذه (التعددية) الاضطراب المنهجي، أثناء تلقينا لهذه المناهج التي جوبهت بالعداء منذ وصولها، لأنها زعزعت الثوابت النقدية المطمئنة التي كنا نستند إليها، مما أصاب الكثيرين منا بعسر هضم مفاهيمها ومصطلحاتها.

 

 بوزيان bouziane
بواسطة : بوزيان bouziane
موقع تنويري فكري وشبه أكاديمي، يتغيا تقديم إضافات نقدية تخص تحليل الخطابات الثقافية ونظرية النقد والأدب متوسلا بجماليات التلقي والنقد الثقافي، كما يعنى بنشر إبداع قصصي جديد ليس له ما يماثله على الساحة الجزائرية، والمقال المتناول للشؤون السياسية والإعلامية والاجتماعية المقاربة للظاهرة الأدبية والمحاكية المكملة لها.
تعليقات