| |
ü . ثقافة الحُوْمة والدراسات الثقافية:
لمّا تأسّس النقد الثقافي كان مدينا في تأسيسه لمركز برمنغهام للدراسات الثقافية بإنجلترا العام 1964، إذْ كان لهذا المركز الفضل في توجيه اهتمام النقد الثقافي إلى ثقافة الجماهير وتفاعلها مع وسائل ترويجها وطرائق استهلاكها، ومن هذه الجماهير حتما سنجد المؤسسات الرسمية وغير الرسمية سواء بسواء، ونقل هذه المؤسسات الرسمية ــ مثلا ــ لثقافة جماهيرية ما، وترسيخها لأشكالها التواصلية والتعارفية وطرائق تفكريها ومعيشتها إلى مقرات عملها الرسمية، إلى أن تكاد أن تصبح جزء من قانونها الداخلي (ينقصها فقط الإعلان عنها في الجريدة الرسمية، لكن لا يتم ذلك) أجل فعندما تحتضن المؤسسة الرسمية ثقافة الحومة التي هي عبارة عن مجموعة من العادات والتقاليد تبناها حي من الأحياء ـــ ليس بالضرورة أن يكون شعبيا ـــ وقد تعايش أفراده مدة من الزمن وتآلفوا إلى أن تعدى ذلك إلى رعاية مصالحهم ومنافعهم كعائلة كبيرة درءا للأخطار التي تأتيهم من الخارج. ثم إنه من الصّعب عليهم بعد ذلك مفارقة العواطف وأوهام الداخل التي وضعتهم فيها العادة، والجامعة التي تشبه في حجمها تقريبا حجم الحومة، وكأنّها نقلت ساحة الواقع إلى فضائها وأدمجته بجعله مكملا لواقعها النظري العلمي، وغدت تدور في ساحة المؤسسة الرسمية تلك حومتان: حومة العلم وحومة العادات والطقوس السوسيو ــ ثقافية. ولعلّ هذا السلوك يبدو عاديا واعتياديا لدى جميع السياقات المشابهة في المنطقة التي تعتز بثقافتها المحلية، لكن هناك من يغتّر بهذا الاحتضان فيتحول إلى ثقافة مضمرة فحولية، شاعرا شعورا واهما بأن ثقافة حومته هي الأفضل لهجةً، وتقاليدا وتطورا حضاريا وهلم جر، وإذن هي التي إن لم تقود جميع الثقافات المحلية الأخرى المحيطة بها في الواقع فهي تصبح مثلا لها، وهذا ما يتصوّرُه العاصميون في بلدنا حتى نخبة النخبة منهم، وللأسف هو تصور يحلو لهم، وما يحلو هو وهم أيديولوجي لا يصْدُق على المؤسسة الجامعية التي اختصاصها بطبيعته ذاتي مفارق لِما فيه من افتخار بروح الجماعة وإعلاء للتكتل زائدٍ عن اللزوم وعن قيّمه غير الصافية العلمية. وإلا فإنها ستعود لقيم القبيلة الجاهلية وهير غير شاعرة. ونعني بهذا الاختصاص النقد والأدب، وفي الجامعات التي تنتشر فيها ثقافة الحومة بدل ثقافة المدينة وهي العاصمة، ووهران، وقسنطينة، وعنابة،.. أي المدن التي تفاعلت في تاريخها مع الأجانب؛ وأخطارهم المحدقة بهم وبمصالحهم؛ كالوندال، والإسبان، الرومان، والفرنسيين، وحتى الأتراك والأمازيغ، فاكتسبت بتكتل الحومة منعة ثقافية ضدهم، أي ضد ثقافة الآخر، ومع مرور الوقت رحل الآخر الأجنبي، وبقي فقط الآخر المحلي في مدينة كبرت وأصبحت مترامية الأطراف. لكن شاء أم أبا احتلّ هذا الآخر المحلي نفس موقع الآخر الأجنبي في نظر ثقافة الحومة لأنها استمرت استمرارا غريزيا يصعب لجمه، ثم إن الأساس الذي قامت عليه وهو الاختلاف موجود موجود حتى ولو كان هذا الآخر ينتمي لنفس المدينة ونفس القطر. وسنجد أن في أقسام ومعاهد هذه المدن الكبرى، بخاصة لدى أساتذتها الذين يُنشِّطون الدراسات العليا في مجالات التخصصات التي تعنى بالجوانب الفنية كالأدب والنقد (والآن ماستر ودكتوراه) اتخذوا تلك الثقافة ــ ثقافة الحومة ــ مبادئ تأسيسية تخالط المنهج العلمي ومعها تضيع هويتها كمراكز اشعاع علمي لتخلو من صرامة ونزاهة البحث إلى الاحتفاء بالحميميات والرموز وشعارات السلطة والهامش الأيديولوجيتين المتحكّمتين في نشر وترسيخ لثقافة براغماتية وفكرية/أيديولوجية ما، وهم فرحين فخورين مستفيدين مستمتعين لا شعوريا، نتيجة التثقف عليها منذ بداية نشاطها في السبعينيات، تغربل وتصنّف تلك المؤسسات نفسها بحسب مبادئ الحومة الثقافية؛ إسداء غير منطقي للتملقات يتدخل فيه حتى الحراس وأعوان الأمن، تشعر كأنك في أيام أعياد لا تنتهي؛ لا بل مجاملات وصيّغ تزلّف وعبارات تملّق وإشارات شعور بالانتماء لنفس الحومة لا عين رأت ولا أذن سمعت، والكل راض، وعلى طالب الدراسات العليا الغريب القادم من السهوب والذي لم يفعل مثلهم ولم يرضى بالحارس وعاملة النظافة، وهما يحاورانه في كل حين بحميمية غير منطقية، سيجد نفسه ليس خارج حومتهم بل خارج حلقة البحث العلمي! كلا والله، إلا اللغة العربية وآدابها، فإن بها الشعور الذاتي الذي إذا تجاوُزَ فقدت هويتها، وأصبحت لا تختلف عن قيم الأيديولوجيا التي في علم اجتماع أو فلسفة أو تاريخا واقعا محل إشادة تاريخية وطنية، فما يميز الأدب والنقد هو روحه أو مزاج الإرادة والتجربة الشخصية المعبرة عن الذات، في قول الشعر، وكتابة القصة، ونقدهما، ولا يمكن أبدا أن تستوي هذه الذاتية حينما يقال لها امدحي فلان واهجي علان خارج ارادتها الشعرية، وإذا حصل ذلك (من خلال ثقافة الحومة المقننة تلك) حتما يفقد الأدب والنقد بريقه ويهبط إلى مستوى العام المشترك بين أفراد الحومة، والنقد كما الشعر يضعف ويضمحل حيث يكون هناك مشترك عام، ويتلألأ حيث يكون هناك بعد عن ثقافة الحومة.
ü . يدرسون ويقرؤون العربية بالفرنسة!
عندما يكون لدينا مؤلف في النقد المعاصر بنسختين، سواء كان مصدره فرنسي، وقد راجت نسخته العربية المترجمة كثيرا في العالم العربي لأنّ مترجمها شُهد له بالكفاءة، أو العكس، كانت نسخته الأصلية عربية تتناول موضوعات نقدية معاصرة وحداثية تهم الباحثين، لكن يميل أسلوبها إلى نوع من التطعيم بمسكوكات البلاغة شأن أغلب النقاد المشارقة، ووُجدت لهذا الأصل ترجمة فرنسية من ناقد ما لبناني أو مصري أو حتى مستشرق، فإن الناقد المغاربي؛ الجزائري أو المغربي سيسارع في الحالتين إلى الاطّلاع على المؤلف الجديد بالنسخة الفرنسية، فلماذا ويحه؟ الإجابة لا تكمن إلا في التطبع على الفرنسية، أما أي قول آخر فمحاولة للتنصل من واقع ثقافي مر. أما إذا تحدثنا بأسلوب أو بمصطلحات النقد الثقافي فإنه هناك نسق ناسخ[†] في النقد الأدبي النصي، وقد سعى عبد الله الغذامي إلى التحرر منه، حيث هذا التحرر هو في نفس الوقت تحرر من مؤسسة نقدية باتت لا تعرف ملامح جسدها من كثرة ما تجردت من واقعها، وذلك بتمثل نقد جديد دعاه النقد الثقافي وهو نفس الاسم الذي حمله حينما اكتشف بمراكز بحث أنثروبولوجية ولسانية أوروبية، من أجل تحليل النص الثقافي ونقد وظائف اللغة في اللسانيات، لكن في المغرب العربي الذي كانت تربته أول من تهيأت لتنتش من هذا الفرع من النقد النصوصي العام (تونس وفاس مولدا والخليج ومصر ترعرعا) نجد ناقدا أكاديميا بعد عشر سنوات من ظهوره يعاكس خطاب هذا النقد على نحو كارثي، ونقصد بالكارثي، أولا عدم وضوج المنهج ،وثانيا اختلاط المفاهيم إما لغياب الخطة أو لعدم القدرة على التعبير عن المعاني المترجمة والمفهومة من مصادرها، أما عدم وضوح المنهج وارتباكه، فكليهما في النقد الأدبي المعاصر، وفي النقد الثقافي المعاصر الذي حرفه الغذامي ليخدم به النمط الثقافي السائد المنغلق على نفسه. وخطابهما عربيا إما خطاب تماهٍ[‡] (نتحدث عن مناهج الشكل) غير معطي لاختلاف السياق أهميةً، إذن هو خطاب حداثوي، وإما خطاب متمركز كالذي حرّفه الغذامي عن مدرستي فرانكفورت وبرمنجهام. إن نظرية النقد الثقافي العربية لم ترَ النور بعد، والأجدر بها الدرس والمناقشة العربيين بدل نظرية عبد الله الغذامي الحداثوية {التي حرفت مبادئ مناهج الحداثة وما بعد الحداثة، البنيوية وما بعد البنيوية، لخدمة نمط ثقافي يعيش فيه الغذامي، وقد حلا له الانتقال فيه شرقا وغربا لتوفُّر الظروف الحداثوية تلك لنظريته؛ فقد اغتنم فرصة ولع المغاربة بالمناهج البنيوية من أجل المقايضة: مقابل أن يعترف بما أقدم بعض نقاده أخرج لهم نظريته تلك المشيّدة على أرضية بنيوية كي يعترفوا بها دون جدال كمقابل بمقابل (وهذا الصنيع ليس بغريب عن ثقافتنا إذ بعد النكسة صعد التيار الإسلامي مهددا أنظمة الحكم الوطنية، مما جعل هذه الأخيرة تقيم تحالفا استراتيجيا معها على حساب قيم الحداثة الحقة)} إن نظرية النقد الثقافي تقوم على كشف نسق جمهرة استهلاكية مضادة للوعي الحداثي، لا التقليدي أو ما يبدو أنه حداثي شكلا فقط أي منتقي للحداثة بما يحفظ نمطية ثقافية محلية، إذن يجب أن تقوم على نشاط يكشف مضمرات الجماليات التي ليس مصدرها بنية أخلاقية ذهنية، لأن التي مصدرها أخلاقي ذهني (الفحولة الشعرية) هي ظاهرة بنيوية مرتبطة بوجود ما يعارضها، وهو الالتزام الأيديولوجي/بل الأكثر من ذلك الالتزام الردعي الاجتماعي بكل أنواعه، وليس لمحلل بنيوي أو ثقافي أن يقف في نظام البنية، كل ما مصدره تفاعل عناصر البنية، ليقف او يميل الى جانب احداها على حساب الأخرى فهذا يعارض مبدأ من مبادئ البنيوية وهو الكلية والتنظيم الذاتي للبنية من دون تدخل خارجي، وفي هذه الحالة ما المضمر اللا شعوري أو القبح الجمالي إلا إحدى تجليات/ معاني انتظام البنية الذهنيةـ وخير ما فعلوا تحليلا اجتماعيا من سبقوا الغذامي، لوسيان جولدمان وم. باختين في تحليل هذه المخرجات الاجتماعية الخارج نصية في إطارها البنيوي بأنها إضافة جمالية ذهنية بنيوية وليست قبحا جماليا وهي أبعد ما تكون عن المضمرات، لأن الثقافة الأوروبية منفتحة لا تغلقها نمطية معينة. أما كشف نفس المضمر من قبل الغذامي ضمن مبادئ ما بعد البنيوية فغير منهجي ومشوّه كذلك لأنه سيصطدم بحرية المتلقي في تلقي ما يشاء من الجماليات، حتى تلك التي تتعارض مع الاخلاق العامة. ولعلّ ما يقع بحق ضمن أخلاق المعاملة أو السلوك الاجتماعي هي القبحيات الحقة الخاصة بالنمط الثقافي العربي المنغلق وهي مضمرة فيه لأنه لا يشعر بها وهي بالذات التي لها علاقة وطيدة بثقافة خطاب النص أي ببنية خطاب النص ووظائفه الجمالية لا بثقافة ما هو خارج النص أي وجود علاقة تربط كل العناصر التي لها علائق بنية مادية نفسية[§]؛ في إنتاج وتلقي النص، وهي سلوكيات منحطة يهابها الغربي وينفر منها، بعكس العربي الذي يأتيها بكل حيثياتها لأنها ليست من كبائر المحرمات وهي السرقة الأدبية في النقد، الغش الأدبي في النقد، ضياع الضمير المهني والأخلاقي، بيع الذّمة أو شرائها بإزاء النص، الانغماس في التزلف والتملق لصاحب نص (أو ناقد النص) يتمتع بالجاه والنفوذ أي هناك احتيالا لأن نصه لا يحظى بجماليات تستحق التنويه والإشادة.. وهذا لا يدعى قيمَنَة الشّعرية كما يدّعون بل هو من صميم شعرنة القيم[**] ،.. وذيوع "الإمعة" ذات العلاقة بالنص، يعني انتشار الضعف الأدبي والنقدي، والأسلوب الجمالي، وهذه تجليات معاني القبح النسقي الثقافي الذي ما بعده قبح، التي تستأثر بأصحابها لا شعوريا وهم بإزاء النص، كي يعلوا منازل ومراتب الآخرين ويسطون بذلك على أرزاقهم. فالنقد الثقافي في حقيقته ليس حامٍ للنمط، وإنما محطّم له بتركيزه على الهامشي والشعبي المفارق الذي وعيه وعي استهلاكي ليس جمالي فحسب، ولكن أيضا ثقافي استهلاكي للثقافة الجماهيرية المتمركزة؛ في الفيلم، والموسيقى، والوجبات، والديكور والهندسة.. بكشفها وتقديمها مضمرا ثقافيا حداثيا. حيث يقول هذا الباحث: "لقد ركزت بعض الدراسات النقدية التقليدية، في دراسة النص على البعد النحوي والمعجمي للغة، ولم تركز على البنى والدلالات، كما أنها راهنت على البراعة في عرض الموضوع، وانحصرت في المستوى الاخباري المباشر، عوضا عن الالتفات إلى المستوى الإشاري التضميني، واستقرار نظام العلاقات الدلالية ووظيفتها في النص، وهم بذلك يقاربون بعض اهتمامات التحليل الأسلوبي للنص الأدبي دون الالمام بخصائص الأسلوب الأدبي ومكونات النص اللغوية والأسلوبية" ولم يحدد بالضبط ما يقصد بالبراعة؟ ولم يأت بتلك الخصائص حتى تكتمل "خطيئته" لأنه من يأتي بمثل هذا الاتهام ولا يأتي بالحجّة والبرهان البين يعتبر قاذفا، ومرتكبا لجنحة بغض النظر لنوعها في حق من اتّهمهم. غير أنه قد علمنا أن هذا الناقد ما هو في الحقيقة إلا ناقد وأكاديمي مزيف ضمن سلسلة طويلة من أشباهه (أساتذته وطلبته) بدأت حلقاتها بداية الثمانينيات ونهاية سبعينيات القرن الماضي لمّا اكتسبت المناهج البنيوية ثقة المغاربة لأنها تخلّصهم من مشكلة المغرب العربي التاريخية مع اللغة العربية الفصحى، وبالضرورة مع انتاجها الأدبي ونهائيا، لذلك أولا تلاحظوا نبرة العداء غير المفهوم اتجاه ما يعتبرونه مناهج تقليدية، وهي المناهج: التاريخي، والنفسي، والاجتماعي، والمعيارية اللغوية والبلاغية، لأن المكون اللغوي العربي طاغ، وهو مكون يحمل معانيه من النحو والمعجم، بدل مكون التوصيف والتصنيف. وثانيا في أغلاطهم النحوية، وقصورهم المعجمي، وبساطة تعبير الدكتور فيهم حتى لكأنك تحسب كلامه كلام تلميذ ثانوي في مشرق الوطن العربي، ولو تمعنت في تصويتهم للغة العربية الفصحى ستجد أنه تصويت لا تخالطه عجمة أخرى غير عجمة التطبع على لغات أخرى في مراحل ترعرعهم التعليمي ضمن سياق ثقافي غير صاف الأعراق والهويات، وهي اللغة الامازيغية واللغة الفرنسية يالأساس، والتي تلعب دورا كبيرا في ذلك العداء الظاهر أعلاه، لأنه كثير منهم تطلع عندما نال بكالوريته بأن يدرّس الفرنسية أو أي فرع يوده إلا اللغة العربية، لكنه للأسف وجد نفسه موجها إلى تخصص اللغة العربية وآدابها، فسعى بعد أن تيقن بأنه لا يمكنه فعل شيء سوى الارتزاق بدل طلب العلم. ولعله في إيحاد مورد رزق في هذه اللغة سيكون عبر قراءتها باللغة الفرنسية! ولا مانع في ذلك بأن يواصل تحصيلها بهكذا طريقة إلى القمة. ثم يعرف كيف يُخِلّف أثار منه، ومن سلفه في طلبته، بأن يجعلهم يتنافسون لتملقه، ومن تملقه أفضل يورثه شرفه ومنصبه، ولا يخجل عندما يظل يلح على تحييد المبدع ناقدا أو كاتبا عن نصه في النقد، وهو مثلهما ناقدا ومبدعا لا يحيّد نفسه عن المدح والاطراء! وفي الحقيقة أستاذ كهذا مازال يهُمُ بالجامعة في الجزائر المعاصرة سيستحق منّا المنافسة على تملقه نحن أيضا، أولا لو أنه كان في مستوى أستاذ النقد، وهو أمر لن يحدث أبدا لأن من كان في هذا المستوى لا يفعل ذلك أبدا، وثانيا لو كان متواضعا على الأقل للعلم، وهو أمر لن يحدث أيضا، لأن المتواضع يضع البرنامج ويشرحه ويطبقه أمام طلبته، أسئلة ًوأجوبةً، وكأنه خادم لطلبته لمّا يكون خادما للعلم، محصلا في الوقت نفسه لمرتبه، فالتقييم يكون بالأبحاث والمؤلفات والنظريات وليس بالمجاملات وتجهيز الأصوات الانتخابية. وهناك علاقة مطابقة ومشابهة بين المناهج التي يعز علينا تسميتها بالمناهج الحداثية، لكونها في الواقع الحقيقي[††] "حداثوية"، وبين فساد النظام السياسي وسياقه السوسيو ــ ثقافي الذي يشغله فيه النقد الأدبي الأكاديمي على سبيل المثال لا الحصر، وهي استعمال الحيلة الثقافية، لا توظيفها دلالاتها تعبيرا عن بنية التنوع الخلاق، من أجل الخروج من شرنقة التخلف، التخلف الذي هو بادي لدى المستويات الشعبية، وهي الأكثر ديمغرافيا ومغضوب عليهما من قبلهم، وما أدراك بالمستويات الفوقية: المتوسطة والنخبوية، خذ حارس في البلدية مثلا ستجد هناك سمات التخلف، من الخداع والغش والتملق الزائد الغير مبرر لمرؤوسيه، كأنه لن يأكل خبزا إلا بتلك الطريقة، ويعونه في هذه الوضعية الكارثية السياق سوسيو ديني والسياسي للمجتمع، فيغدو كحمأة تغطي عليها بركة آسنة لم تتحرك منذ عقود، والكل راض بصاحبه ويّا "الخدمة" الحَمَأ والمياه الراكدة الآسنة. الوضع نفسه تحفل به مؤسسات النخبة كالجامعات، بل هي الأكثر نتونة لأن المكر والاحتيال والغش فيها يبلغ مداه، لكن العكس هو الظاهر يا ناس! أي كل شيء طبيعي مغطى وبذريعة العلم والتقنية، فإذا ما رمزنا لمستوى العالي ثقافةً برمز النص البنيوي (الداخل) ولمستوى الانثروبولوجي بما هو خارج الداخل، أي خارج النص في المناهج البنيوية النصية، فإنه سيظهر جليا تعزيز الأسوار الفاصلة بين (الداخل) و(الخارج) بذرائع ومصطلحات عريقة قد لا تغيب دلالاتها عن أي مستوى ثقافي، وهي تغطية عن الشر عريقة الحيلة، بإظهار ما هو شر أو ما يقع داخل حلقته، بأنه هو الخير كله. تلكم هي الحداثوية التي نعني، وقد تبناها العرب، والجزائر الجديدة والمستجدة عن كل قديم جديد بالنسبة لتزييف الحداثة بعدم التماسها إلا في ثوبها الحداثوي، أخذ القشور وترك اللب، وكلاهما القشور واللب ليس لهما منفصلين حيز من الواقع الحقيقي. هذا الداخل، وقبل أن يتبلور أقنوم الذات، ويتم تشريح (الأنا) سيكولوجياً، ظلَّ معقل الكائن ومسكَنَه الحميم، يرتبط به بدون أية علاقة، ويحسُّ به لصيقاً به ودفيناً فيه دون واسطة. هذا الحدس المطابق لموضوعه، دون أية نتوءات من هذا أو ذاك، لا يُفَرَّطُ به بأي ثمن. ليس ذلك لأنه يعني البقاء أو الحفاظ على الفرد أو النوع، كما سوف تترجمه التجريبيات الحديثة، بل لأنه هذا الداخل الذى يتعلق به المرء بدون أية علاقة، سابقة على كل توصيف، بما فيه تحديد الخير أو الشر. فاللاشعور أمسى له موقع ما من الكينونة الإنسانية، لكنه ظل مع ذلك يحتل منطقة اللا منظور كعادة التغييب العريقة إلاّ أنه صار مُدجَّناً [وتأهيلياً] إلى حدٍ ما. حتى فرويد لم يجرؤ، ليس على تسمية الشر باسمه المباشر فحسب، ولكن على تعريته من كل ترميزاته المتداولة؛ لم يقاربه وهو خام صريح. أَوْكَلَه إلى اللاشعور، سلّمه إلى غموضه الأزلي دون أن يُفقِدَه حقّ العودة. ومع ذلك، فالشر أقدم الأقانيم المشغول عليها حضارياً؛ حتى لم يعد بالمستطاع التعرّف على هيأته الأصلية. لذلك كان من المريح باستمرار لكل المواقف والمذاهب تصنيفُه تحت صيغة النسبيات التي تضمّه وسواه معاً. لكن تغييبه موقعياً بقي استراتيجية ثابتة. إذا كان التغييب يعني إقصاء الشر كمخلوق ما يسكن عالماً نائياً، إلاّ أنه في الوقت عينه يجري الاعتراف بأفاعليه ومؤثراته ضمن منطقة (الداخل). ومن هنا تأتي مختلف المفاهيم المجردة، والأفاهيم الحميمية، وهي تحرص على استمرار التخطيط الجهوي [‡‡] ü . ثلاثة أوجه للثقافة:
لسنا نعني بالثلاثة أوجه للثقافة أنواع الثقافة، وهي المادية التي تعرف بالثقافة الحضارية والتكنولوجية، والثقافة الأنثروبولوجية التي تعرف بالثقافة، والثقافة الإبداعية التي تشرّح الثقافتين السابقتين بالتماس الفن؛ أدبا، مسرحا، رسما أو موسيقى..، لكننا نعني بها كيف للثقافة الحقة وصاحبها من أن يصون نفسه من الصراعات التي لا تنتهي إلا بانتهاء الحياة على وجه الأرض، وهي بالذات الصراعات التي ديدنها الانتماء الثقافي (إلى هذا التيار الرجعي أو الماركسي أو الاشتراكي التقدمي) وينأى بنفسه عما قد يعلق بفنّه، وابداعه، وتنويره العلمي إذا كان ناقدا أكاديميا، وقد قامت بالفعل في كل الأقطار العربية بعد استقلالها واضطرم بعد النكسة، وانتهى في بعضها صراع الأنساق والتيارات الثقافية والفكرية الآن، وتراجع في بعضها ولكن لدى البعض الآخر، مازال فرعها ذابلا سقيما تحت رحمتها الخفية المضمرة ولم يُبقِ فيها غير سلاطة اللسان، ونعني بذلك الجزائر طبعا. ومقال قرأته منذ مدة في مجلة عربية عريقة، يحمل نفس العنوان، 3 أوجه للثقافة، لكن طبعا سيختلف عن مقالنا في موضوعه ومنهج تسلسل أفكاره، لأني وإن كنت احتفظت في ذهني بعنوانه كل هذه المدة، فلأنه أثار في نفسي ذلك الوقت قريحة إنشائية لكن متكئة على تجربة الواقع والقراءة، ولكن لم يكن عندي متسع من الوقت حينذاك ولا انسياب فكري سلس بقابل قاموس لغتي كي يسلمه لجامه، وقاموس اللغة الذي نعنيه هو تداعي حر للألفاظ التي كنت استعملها في كتاباتي عندما كنت لا ألاقي ضغوطا في الوقت كما كنت ألاقيه بالفعل في تلك الفترة، وعندما خلى لنا الجو لم تستدعي ذاكرتنا قاموسها فحسب لكن استدعت معها ما بقي في حوزتها من بريق عناوين المقالات الدسمة البريق الإعلامي، مما يثبت أن اللغة هي الفكر والفكر هو اللغة، لكن الذاكرة تجعل من الفكر أسبق من اللغة، أما اللغة التي نتحدث عنها فليست اللغة العربية كما يُصطلح عليها بـ Arabic بل نعني بها العربية الفصحى، وشتان ما بينهما من فرق، والتي بقي في عهدنا الكثير من يقع في فخها؛ النقاد الأكاديميون فضلا عن المثقفين العضويين في هذا السلك الإعلامي أو التيار اليميني أو اليساري من أهل المغرب العربي، متناحرين حولها، من يحوز القدر الرصين الرزين منها؟ لكنهم وكعادتهم مستعينين بالمكر دوما، لا يُظهرون ذلك للرأي العام حتّى لا يكتشف ضعفهم معا أمام الأجانب، مبقين على الأسباب السياسية والثقافية فقط. ويقال أن الناقد محمد مندور ومحمود أمين العالم كانا اشتراكيان ماركسيان، وقد مكثا غير قليل في سجون عبد الناصر ، بيد أنه لا أحد يعلم بموقع حياة اللهو من سيرتهما العلمية غير ما تناثر هنا وهناك في سيّر بعض الأدباء والمثقفين والإعلاميين الفصحاء، والفصيح شخص يهون عليه كل شيء عدا مقاربة الحقيقة في شهاداته أو بحثه، ومن غير الإسلاميين طبعا الذين هم أعداء الماركسيين في الأصل، فيقال أن سبب فشل محمد مندور في نيل الدكتوراه من جامعة السوربون التي بعثه إليها طه حسين في بعثة العام 1930 هو كثرة لهوه في مدينة الجن والملائكة، ممّا جعل بعض أساتذته الفرنسيون ينتبهون لهذا المعطى ويرسبونه أكثر من مرة، في وحدات شهادة اللغة اللاتينية وآدابها رغم امتلاكه لناصية الفرنسية مثل طه حسين أو أحسن منه، لأن الحصول على الدكتوراه مشروط بالليسانس والحصول على الليسانس من السوربون مشروط بدوره بالحصول على أربع شهادات فرعية طبقا للنظام المعمول به وقتئذ: الأولى في اللغة اليونانية وآدابها والثانية في الأدب الفرنسي، والثالثة في فقه اللغة الفرنسية والأخيرة في اللغة اللاتينية وآدابها. ومكث مندور في فرنسا حتى قيام الحرب العالمية الثانية حيث عاد إلى مصر عام 1939، لينضم إلى سلك التدريس الجامعي عوض العام 1934، بيد أنه أفاد هناك من ثقافة واسعة خولته معرفة أسرار الحضارة الأوروبية وآدابها. وقد استشاط طه حسين غضبا منه، واعتبر ذلك إهانة ليس لمندور بل له ولمصر لأنه لم يذهب بماله الخاص بل ذهب ضمن بعثة وزارية، فاضطر لإعادته والإشراف على رسالته شخصيا بعد ان لفق له أسبابا قائلا أن مندور لم يتمكن من الحصول على درجة الدكتوراه بسبب الأوضاع السيئة وبدء الحرب في أوروبا، وطلب منه أولا بضرورة تعويض الشهادة الأخيرة بدبلومين: أحدهما في الصوتيات التي افتتن بها مندور وأجرى فيها بحوثا مفيدة على عروض الشعر العربي في معمل الصوتيات بباريس، أما الدبلوم الثاني فكان في الاقتصاد والتشريع المالي. وإذا كان هكذا تستر طه حسين الكيس عن تلميذه فإن تستر تلميذ محمود أمين العالم عن أستاذه ليس في شؤون النقد والأدب فحسب بل أيضا في شؤون السياسة التي أدخلتهما الاثنين سجون عبد الناصر فكان تسترا سياسيا فيه دبلوماسية، بزعمه أن مندور لاقى ما لاقى في صعوبة الحصول على الدكتوراه (من السوربون) والتدريس في جامعة القاهرة بعدها، لأنه كان ابن التراث الإنساني العقلاني، والتراث العربي الإسلامي العقلاني خاصة، والثقافة العربية التقدمية في مصر بوجه عام وهي أشد خصوصية، ولم يكن المفكر العقلاني متعالي عن مجتمعه وعصره، بل كان متفهما لمجتمعه وعصره، وملتزم بهمومه، والمشارك مشاركة فعالة في الفعل التاريخي التنويري التغييري، فهو لم يكن مثقفا تقليديا فوضِعت أمامه العقبات مثله مثل المثقفين التنويريين آنذاك العقاد وزكي مبارك وغيرهما..
محاولة السلطوية الإجهاز على ما تبقى من اللغات البربرية في الجزائر ü . انقذوا اللغة "الزناتية" من الانقراض"، رسالة موجهة إلى منظمة اليونسكو:
تقرير كتبته عن وجود لغة في طريقها إلى الانقراض، مجالها الحيوي الجنوب الغربي للعاصمة الجزائر، وكنت بعثت بالتقرير إلى منظمة اليونيسكو يومه الثامن من كانون الأول نوفمبر 2021 *: هناك في الجزائر اليوم عدة لغات أمازيغية، لعلّ أكبرها ترتيبا تنازليا اللغة الأمازيغية المنتشرة في القبائل الكبرى والصغرى شرق العاصمة الجزائر، ثم اللغة الشاوية المنتشرة في جنوب القطاع القسنطيني في الجهة الشرقية للبلاد شاملة باتنة، وخنشلة، وأم البواقي، وجزء من سوق أهراس، ثم اللغة التّارڨية في الهقار والطاسيلي، ثم المِزابية في غرداية والمنيعة، وبعد هذه اللغات الكبرى البعيدة نوعا ما عن خطر الانقراض تأتي مجموعة مِن اللغات كلها مهددة بالموت بتواطؤ السلطات المحلية بدءً من اللغة الشنوية في مرتفعات تيبازة إلى الشلحية في من مناطق عدة من البيض، ومن أدرار، ومناطق من بشار وصولا إلى اللغة الزناتية في منطقتها التاريخية التي تقع جنوب خميس مليانة، بالتحديد "بلاد مطماطة" في مرتفعات الونشريس الشرقية، والضواحي التي تضم "طارق بن زياد" كلها، وشمال "برج الأمير عبد القادر"، وغرب "دراڨ" فمن المعروف أن متعة اللغات تكمن في أنها تمكّن اللسانيين من التأكد تجريبيا من مصطلح ملكة اللغة، وهنا تبدو حاجة البشرية للتعرف على أكبر عدد ممكن من اللغات ومحاسبة من يسعى لقتلها، أو من يتواطأ على ذلك قبل أن تنقرض، فإذا ماتت ما جدوى محاولات البحث عنها أو آثارها وتاريخها المكتوب كما جارى في غرب مصر ودول الساحل الإفريقي، وقبلاً كانت تتوسّلكم التفاتة فقط، وهذا الصنيع يشابه التظاهر العنصري إزاء القامات الإبداعية؛ عندما تكون حية تكون مشتاقة لحبة، وعندما تموت يقيمون لها قبة، وهو صنيع مضمر كرها للتنوع والتعدد اللغوي، كالذي هو موجود في الجزائر لكن مغطى عليه بحذق بألاعيب ومكر السياسة. ذلك أن حسب دراسات اليونسكو المعمّقة أغلب اللغات المنقرضة في العالم كان سببها المباشر الكوارث الطبيعية والأوبئة الفتاكة والحروب الطاحنة، وليس كمثل حالة الجزائر التي يشتم تورط عنصرية[§§] غير ظاهرة للعيان في قتل اللغة الزناتية وهي الآن في مرحلة متقدمة للإجهاز النهائي عليها، بدعوى أن القبيلة البربرية "مطماطة" التي تنطق بهذه "اللهجة" تعرّبت من تلقاء نفسها، لو كان ذلك صحيحا فلِما أطلقت السلطات اسم طارق ابن زياد على بلدة "الكرُّوش" التي أغلب سكانها بربر، وهو الاسم الأقرب إلى تاريخها الثوري الحديث الذي صنعه مجاهدو "الكروش" متخذين من غابة الكروش سلاحهم، وليس الاسم البعيد تاريخيا والذي يعيد إلى الأذهان مناوشات السكان المحليين مع جنود الفاتح ابن زياد، ولماذا أطلقت اسم برج الأمير عبد القادر على بلدة "تازا"؟ وهو غني من أن تحمل بلدة معزولة اسمه، حتى أن قصره الذي بناه فيها لم يقطنه غير أيام معدودات. ولماذا أطلقت.. وأطلقت المسميات على البلدات الداخلية ذات الأصول البربرية أسماءً لا تتفق مع هويتها المحلية، لولا أنها خططت مسبقا لمسح أثار الهوية الثقافية المختلفة، وفي جميع المناطق النائية وغير المعروفة. وبالنسبة إلى اللغة الزناتية فإن الإجهاز على هوية شعبها عبر ممارسات تعسفية مخافة أن يستيقظوا ويتحضّروا فيحافظوا على لغتهم وتصبح الزناتية بمثابة شاوية جديدة في غرب البلاد، بخاصة وأنهم من ذوو المناطق العالية ــــ كما يقول ابن خلدون ـــ التي تسمح بالمعيشة البسيطة غير المكلّفة، وبالمراقبة لحفظ أمنهم، ولعلّ من أمثلة تلك الممارسات التعسفية ترحيلهم من مناطق تجمعهم الكبيرة كدواوير: دوار تيغزرت وأغبال وجبل اللوح بدعوى خطر الجماعات الإرهابية، لكن بعد زوال الإرهاب لا تساعدهم في العودة إلى قراهم ومداشرهم فيذوبون هنا وهناك؛ لغتهم بتراثهم، حيث ما إن يلج أطفالهم المدارس حتى تبدأ لغتهم في الضياع، والغلبة اللسانية تميل للعربية، لأن الأطفال سيجبرون أوليائهم على الحديث بالعربية وترك الزناتية، ناهيك أن اللغة المهيمنة وهي العربية لا بد منها حصولا على لقمة العيش. فعلا، إن موت أي لغة هو خسارة كبيرة، أولا وقبل كل شيء لأصحابها، أو لسلف أصحابها الذين لم يتعلموها، أو يأخذونها عن خلفهم، لكنه هو خسارة للمعمورة جمعاء، إذ هو خسارة في تنوع إحيائي وتراثي عالمي، أولا وقبل كل شيء، ذلك أن في علم البيئة الإحيائي لا يوجد جنس له أهمية بمفرده، إنما تعيش المخلوقات في شبكة من العلاقات المتبادلة، وإذا كان التنّوع مطلبا لحياة المجتمعات، فإن الحفاظ على التعدد اللغوي يعد ضرورية الحياة البشرية، فأي فقدان للغة جديدة يعد في الحقيقة مأساة؛ لأنها تمثل خلاصة فكر شعب کامل؛ ليس فقط لأن المجتمع يعتمد كثيرا على اللغة وسياقها الثقافي، الذي يخلقه بين أفرادها، والذي لا يخلقه مع غيرهم في عملية التواصل مهما تشابهت الظروف، بل كذلك اللغة هي منجز ضخم تعاقبت أجيال على الإسهام في بنائه.
ü . استرجِعي شعبك:
استرجعي شعبك يا جمهورية الصّحرا الغربية في أقرب وقت ممكن لعلكي تُفلحين: جاءت الفكرة وعندما حملنا القلم لتدوينها طارت الفكرة. تُرى ما وجه الشبه بين خطابين سياسيين؛ الواحد به بصيص من الخير فقط، والثاني شرير درجات؟ أو ما وجه الشبه بين نظامين سياسيين كلاهما شرير؟ إن هذا الالتباس في "شريرية" من "خيريرية" النظامان المعنيان بالمقارنة يكتسب دلالته من غموض معاني الخير والشر في مفاهيم المناهج التي أفضت إليها الحداثة؛ بدءً بفرويد الذي لم يجرؤ، ليس على تسمية الشر باسمه المباشر فحسب، لكن مكتفيا بتعريته من كل ترميزاته المتداولة؛ وحيث أن الشر كأقدم الأقانيم المشغول عليها حضارياً لم يعد بالمستطاع التعرّف على هيئته الأصلية، لذلك كان من المريح باستمرار لكل المواقف والمذاهب تصنيفُه تحت صيغة النسبيات التي تضمّه وسواه معاً. إنّ وجه الشبه بين النظامان بدون أدنى شك هو قابلية شعبهما بأن تفعل فيه الجماعات والأيديولوجيات الأفاعيل وهو راضٍ، متقَبِّلِ، ساكت سكوت مازوشية وهي مطمئنة، فلو خرج أي شعب في نظام سياسي أو آخر واعتصم في الشوارع، ولاقى ما لاقى فقط من لفح حرارة الشمس ولسع قزعات البرد لالتفتت إليه المنظمات الدولية، فالمنظمات العالمية ديمقراطية لا تلتفت للقضية مهما كانت عادلة، وخير دليل على ذلك قضية الصحراء الغربية، فالصحراء الغربية هي اليوم قضية واقعة بين سندان الجزائر ومطرقة المغرب لكن شعبها غائب عنها قابل وراض بسكوته، والساكت لدى المنظمات العالمية لا يُلتفت إليه. انظر بدءً كيف تعاملت الأمم المتحدة في خمسينيات القرن الماضي مع شرائح من الشعب الجزائري لمّا تحركت ضد الاستعمار، وكيف تعامل الاتحاد الأوروبي مع متظاهرين رفضوا العهدة الخامسة، وكيف تعامل أيضا الحلف الأطلسي مع مظاهرات الربيع العربي الليبية، لقد تدخل في جميع هذه الحوادث لصالح القضية لأنها كانت ألصق بالشعب في تعبيرها عنه بالاحتجاج، ولو بالمشي في الشارع سلميا لا بالسكوت والرضا واغلاق الأبواب دونها، وسبب ذلك أن المنظمات العالمية منها الأمم المتحدة، كأعلى منظمة عالمية ولدت من رحم الديمقراطية؛ من سيادة الشعب في الاختيار، وبذلك هي لا تنتصر لغير الشعب المعبّر عن رأيه، فحتى لو كان هناك قضية فهي من دون شعب لا قضية في نظره، ويحسُن التعامل معها تعامل نص ورقي لا نص واقعي، ومنهجها مُتجنِّب بادراك سياسي ديمقراطي دبلوماسية الأنظمة السياسية في التعامل مع القضايا، وبكل ما تعلق بتلك الدبلوماسية من أوجه للشر أو أوجه للخير ، كما هي في حالة المغرب والجزائر في علاقتهما بالقضية التي طال أمدها، وسيطول أكثر وأكثر مالم يتحرك الشعب ويعود إلى وطنه من ديار اللجوء ويخمد خمود تحضير للانفجار . وبالانفجار الشعبي من داخل الأرض تُنال الأرض عائدة إلى أهلها. ليس لأن ما هو خارج الداخل شر، ولكنه كخير مُلتبس بشر الداخل الذي احتل الأرض ووضع الحدود وفرض الأتوات، بل وجعل الداخل يتسبب في نشوء الخارج، كأنه قارون أو بارون العصور الوسطى، والأمر هنا لا يغدو سوى تخلفا عربيا في فهم وتطبيق حداثته التي استعارها ثم استوعبها عن الغرب استيعابا مشوها حداثويا.
ü . العقاد الجديد وآسيّة الجميلة:
مقال "اسمها آسية" حرّره صاحبه ثم نشره ثم شاركه، فاحتل موقعه من الذيوع والاهتمام، بخاصة أمام صنف النساء وأنصاف أشباه الرجال المتصنّعين، لكن من هؤلاء الذين قرأوا المقال بتسرّع كعهدهم هن ولا شك صنف النساء المتبرجات مأخوذات ببريق العناوين والكليشيهات، وقد كتبت إحداهن مُعلّقة على المقال: "لا شك في أن صاحب المقال شخص موسوس ترك جمال بلاده "الأرابيك" وذهب للتغزل بالصينيات المفلطحات الأنف وبالهنديات الابريات" وبعد وقت قصير جاءها الرد نيابة عني، من لدن قارئ عرف ويعرف كيف يأكل الكتف وبالطريقة الصحيحة التي لا تحرق حلقا ولا تلوي بطنا، فقال في ردّه: "أما أنت أيها المعلّقة فيكفي أنكِ امرأة، والمرأة ضعيفة بطبعها، فهي كائن غير قابل للقتل العادي لضعفها، لكنها قابلة للقتل المناسب وهو أشد من القتل بالنسبة لها، وذلك القتل هو قتل الشرف ولا يحدث ذلك إلا من لدن رجل تشبّه بها، حينها تعدو قبالته ليس بالمرأة لكن بكائن مشوّه ليس هو بالمرأة ولا هو بالرجل، حينها ستبدو حقا بمظهر اللا شيء أو كخِرأة فيافي يابسة، يبسها ليس من نتانتها لكن من إلقائها بعيدا عن البشر . ولعلّ بذلك الذي تشبّه بها محاولا انتانها بهكذا طريقة، قبيحٌ هو الآخر، لكن قبحه لا يخل من ناصية عقل، فعندما قال مفتخرا منتصرا بعزة: "هي مجرّد ثغر أملس، قابل للاستعمال من قبل الرجل، لكن أين الرجل؟.." لم يتقرب إليه أحدا للومه مشيرين إليه بـ"ذلك الرجل" لا شيء آخر، لأنه ببساطة تشبّه بالمرأة ذابحا إياها وسالخا ونازعا اللحم عن العظم، وراميه لحيوانات ملقاة بعيدا، ومكدسا عظامها ثم محرقه على سيرة الهنود.. لغاية عظيمة، والوسيلة تبرر الغاية كما يقولون.. لا علينا، على كل حال نحن نشك في أنه بسلوكه هو مذبوح مثلها على الأقل، كما حاولت أن توهمنا. لأنه عقاد جديد يملك من أنفة العقل ما يُعوِّضه أنفة السلوك المفارق. وممّا عجبت له حقا أن قارئا آخرا علق على الموضوع قائلا: " مما عجبنا له بعد أن كتب الكاتب الفلاني ذات مرة مقالا عنونه بآسية الجميلة، فهو لم يتغزل فيه قط بالفتاة آسية لكنه تغزّل بآسيا القارة معددا جمالها الطبيعي، وجمالها الروحي المتسارع والمذهل القافز نحو المستقبل.. وهو ساحر لمَن لم يره. وبحسب كل من قرأ المقال متسرعا أن الكاتب يقوم فيه بتغزل سيّدة، لحلاوة الكلام وطلاوته، وأعتقد جازما أن كل من صنف الشواذ والنساء المتبرجات الذين لا يمكنهم قراءة كاتبا قراءة كاملة قد يقعون في الغرور، ذلك أن هذا الكاتب فيما أذكر له قصة مشهورة في الموضوع عنوانها " الداب والمسطرة"[***] فضلا أنه يجاري أسلوب ممتعا في الكتابة المعاصرة، شبيه بأسلوب السياب وأحمد مطر لكن من دون قصد،.. والحق الحق كأنه السّياب حين قال: عقود ندى من اللبلاب تسطع منه بيضاء وآسيّة الجميلة كحّل الأحداق والسّهر. أو كأنه أحمد مطر حين قال: لعنت كل شاعر يغازل الشفاه والأثداء والضفائر، في زمن الكلاب والقحاب والمخافر، ولا يرى فوهة بندقية حين يرى الشّفاه مستجيرة.."
خاتمة: محل نشاط النقد الثقافي العربي الذي اضطلع به الغذامي، وعُمم على أنه نظرية عربية معاصرة في النقد الثقافي هو خطاب في الأيديولوجيا، ومحل النقد الثقافي الغربي هو خطاب العلم مفرقا بين ثقافة الواقع والواقع الحقيقي/المادي وثقافة الفن في خطابه، لا ضير في أن نجد خطاب الأيديولوجيا يقع من خطاب الفن ـ سنة كونية ـ موقع عداء، حتى أنه يستعين بالعلم لتقزيمه واضطهاده ونفيه.
[†] . فإذا كان من خصائص المناهج الخارج نصية أن صاحبها يكون ألصق بالتحرير والإبداعية والحس بالواقع، يثمر إحساسا بالإشكاليات الشكلية، وهذا ما يلهب لديه القريحة الكتابية والمفاهيمية ويقويها وينميها، وبصورة مطردة متصاعدة، حيث الدقة والصرامة لديه مرتبطة بالأسلوب لتوضع للإنسانية منفعة. أما خصائص المناهج النصية فتبيح لصاحبها النسخ، لأنه مفتقد لقاموسه اللغوي المعجمي وربما النحوي البلاغي أيضا، يستعصي عليه جرد العبارة بانسياب، وفي أرقى معانيها الممكنة، إذن لا يمسك بالفكرة إذا أمسكها إلا وهي غامضة غير مستساغة ذوقيا، ويسعى إلى الدقة العلمية همه، لكن عندما تخونه مجموعة المصطلحات التي حفظها بآفة النسيان أو بمحاولة التعمّق في الفكرة التي هي غايته، يلجأ حينئذ إلى نسخ أعمال الآخرين بدعوى التناص، أسلوبه متواضع لأن حاسة التعبير لديه متواضعة، ناهيك أن هدفه من الدقة مورده المالي لا أكثر ولا أقل، لا يهمه تقديم قيمة/فائدة عملية؛ يعني هناك لا انسجام وتعارض بين النظري المجرّد والواقع، والواقع الحقيقي، أولا كما رأينا الواقع لا يفرق بين اللغة العربية واللغة العربية الفصحى، كما فرّق ذلك دي سوسير، ما أصطلح عليه بالأقوال أو استعمال الكلام، مسكوكات البلاغة يتكلم بها الداني والقاصي في عملية التواصل (في اللغة)، يتكلّمها المسجدي الذي خرج من المسجد والفلاح الذي أتم تعليم محو الأمية. الفرق بين اللغة Arabic والعربية الفصحى غير ملحوظ في الواقع والواقع الحقيقي معا، كما أن التحليل البنيوي والأسلوبي للقرآن، مازالت الدلالة فيهما تنتزع انتزاعا باضطهاد المنهج (الخروج إلى التفسير والتعليق، وعدم تجاهل المؤلف مُحال) عندما يشح على أصحابه القدر الضئيل مما كانوا يتمنونه من نضوح بعض المعاني. اللغة الفرنسية بهذا المفهوم البنيوي، والتي تماهى مع نقدها الجديد المغاربة جاءت بعد مرحلة التقليدية وكانت حينها لغة تحتذي بأصولها اللاتينية في الاعتناء بالعبارة، لكن هل عرف المغاربة التقليدية التي ميزت مرحلة النهضة العربية في مشرق الوطن العربي، بأناقتها اللغوية وأدبها الراقي ونقدها الواضع قدم في التراث وقدم آخر في التحديث، لا أبدا لم يعرفوها (والحالات الخاصة لا يقاس عليها) حتى يتجاوزوها، من له الحق في تجاوز التقليد فقط هو من عرف وجرّب، وربما مِن تجربته إياها سيكون وثوقه تاما فيما أقدم عليه من قفزٍ إلى الحداثة ونقدها الجديد، أما غير ذلك فزيف وسرقة مكانة الآخرين (ذوو العلاقة المتينة بها والذين مضاربهم معروفة للعام والخاص في الجزائر والمغرب) بمعونة الأيديولوجيا التي ثقفوها زمنا في كل أركان ومؤسسات الدولة، أيُعقل أن يعلّمك المناهج البنيوية من لا يعرف مفردة بسيطة في اللغة العربية؟ هذا أصبح واقعا أكاديميا يا عالم، ولا أحد آلامه الوضع وقال، أو حتى بحث بالتماس المنهج لئَن لا يُشَك فيه، وأنا شخصيا أثناء مناقشة ماجستير طلب مني المناقش تشكِيل كلمة بعد أن صححت له نطقها، وهي ليست لا بالكلمة المنحوتة ولا المشتقة ولا بالمصطلح (وقد دخل على مذكرتي متسرعا، وهذا خارج موضوعنا) [‡]. هو خطاب تماهٍ مستشف من قول لحمداني في كتابه (بنية النص السردي)، ص5: " ولأن النظرية النقدية البنائية هي نظرية موزعة حتى في موطن نشأتها وتطورها.. فإن الحديث عنها يقتضي الرجوع إلى.. مراعاة انتظامها التاريخي قدر الإمكان لكي يتضح للقارئ خط تطورا الطبيعي" فلوكان خطاب تمثُّل لرجع مُراعيا سياقها الثقافي الغربي المختلف عن السياق الثقافي العربي، بدءً مثلا من اختلاف في حياة اللغة العربية والفرنسية في ظل اختلاف في اعتماد الحداثة وشروطها بين السياقين. [§]. والتي نأمل أن نصوغها كنشاط نقدي ثقافي عربي بوزياني في القريب العاجل. [**] . وهنا يتضح أن نظرية الغذامي هاته نتيجة من نتائج وعي مضاد لشعرنة القيم في الثقافة الغربية، تلك الشعرنة هي مطلب حداثي وما بعد حداثي، حيث الكون بقيمه المادية والروحية بدون الجماليات كأنه خطأ، يعني أن نشاطه كباحث في الدراسات الثقافية ومثقف عضوي محاولة منه لقيمنة الشعرية، باختلاق مصطلح الفحولة الشعرية، وهذا له علاقة بالسياق؛ وبما اعترى الخطاب الديني العربي المعاصر من ثبات ولكن من نكوص أحيانا حين وقوعه بين فكي الأصوليات المذهبية والفردانية، لأن نبي الإسلام نفسه أمر بالترفيه عن القلوب لأن القلوب إذا ملّت كلّت. [††] . هناك الواقع الحقيقي المادي والحضاري والواقع الانثروبولوجي وهو واقع غير حقيقي، كونه ألصق بمدركات غير مرتبطة أو منفصلة عن الواقع كالاعتقادات اللاهوتية، وهذا المدرك الضروري في سياق مقالنا فلسفي ومعقد بعض الشيء: " أصبح البحث عن الحقيقة مرتبطة بالبحث عن إمكانية الحقيقة. لذا يتضمن التساؤل الضروري عن طبيعة المعرفة لاختبار صحتها. لا نعلم إن وجب علينا التخلي عن فكرة الحقيقة أي الاعتراف بأن غياب الحقيقة هو حقيقة. لن نسعى إلى إنقاذ الحقيقة بأي ثمن أي بمقايضة الحقيقة. سنحاول تحديد مكان الصراع من أجل الحقيقة ووضعه في العقدة الإستراتيجية لمعرفة المعرفة" ينظر إدغار موران (2012)، المنهج معرفة المعرفة، الجزء 3، ترجمة جمال شحيد، ص21. [‡‡] . مطاوع الصفدي، في التفلسف ما بعد الفلسفة: التقاط الفوري، الفكر العربي المعاصر، مجلد 31، عدد 154 ــ155، ربيع 2011، ص 4 ــ 30. * . المقال منشور في مدونتا على الرابط: https://kiraatn.blogspot.com/2022/05/blog-post.html?fbclid=IwAR1YAjgcJlTQgB5Rsi9HK7rVJU1sKcHCckzlh4C7QOWAd52Qk16NPLqRYcw [§§] . وهي دينية أساسا لأن الاختلاف العرقي أصلا يقوم على فرقة واختلاف دينيين. [***] . انظر في موقعنا: https://kiraatn.blogspot.com/ قريبا ستجده منشورا |
لقراءة وتحميل الكتيب منقحا ومزيدا :
انقر على الرابط: