بوزيان bouziane
"حصاد
الظّلال"
بدأ السيد المُنشّط مُمهدا لأمسيته الشعرية بقولةٍ شعرية هو الآخر: «"أنا القلم الذي ينزف ألما وألما وينبض أملا وأملا، أنا القلم الذي لا يكل ولا يمل، لا يهدأ ولا يستكين حتى يقترب الأجل، سيظل أنا الذي يخب ويخب والمداد على الظهر وليهدي دالجا بالسحر، أو ليمهله صاحبه في الفجر الذي لا يعرف ندبة ولا وِسنة، فأنا الذي يمشي معه كالظل، كالقدَر، لينشر النبض نبضه أو يسيل بالخبر كالمطر معي، قلم لو أنه يجزل للفقير لأجزل من محبرته فيضا بالأدب" أما أمسيتنا الشعرية اليوم ساداتي الكرام فستكون أمسية معارَضة بين شعر الحداثة وشعر الانتكاسة والرجعية..»
أمسية شعرية مهزومة تلك الأمسية التي يعمد فيها أصحابها إلى تكريس القصيدة بإلقائها في الجب المقدس قربانا للآلهة، وكانت القصيدة المكرّسة كدأبها هي القصيدة الفائزة ـــ لولا أن ـــ، أما صاحبها فمحسوب على المعارضة ولسان حالها شعريا، وقد أقام المنظّمون الأمسية مناظرة بين "شاعر المعارضة" و"شاعر البلاط" فأمطروا عنوة شاعر المعارضة بالهزائم المرة ليلقُوه وقصيدته شر إلقاء في اليم المقدس، وقبل أن تبدأ الأمسية وتنهض المعارضة الشعرية على كلا رجليها بينهما في تلكم الأمسية، كان هناك "شاعر الشعب المهمش" يِجني على المعارضتين معا، السياسية والشعرية، فيحصد من وحي جرأته الشّعرية منطق القص ويتركها منسلاً متلبسا في ظله.. وتبدأ الأمسية..
قال الشاعر الأول: أنعيكم "معرّة القطط الجرباء"، أنعي فيكم قطعانكم؛ خرافكم بنعاجكم وبساتين الخيزران واسعة شاسعة دونكم.. بلى، أنعيكم فردا فردا يا أهل عروبة ما زالت ذلولة بحقدها، أنعيكم أمة أمة يا عبءً على الحياة، واحدا وحدا أفعل غير نادم، من صحاري الشرق إلى براري الغرب مرورا ببحار الفلوات الأخَر.. أفعل وسأفعل من دون ندم، أنعيكم جميعا يا عرة البائدة، يا معرة البارئ المصور.
أنعيكم واحدا وحدا عد بيروت طبعا.
أنعيكم يا من تدحرجتم إلى هاوية التاريخ مطمئنين.. ثم متى تنشدون فضيلةً تمقُتُكم أنعيكم، وأزيد أن أبشركم بعذاب أليم.. عذاب إبليس يوم يحاجج ربّه فيكم بالبرهان العقلي وتحاجونه بالآية المنسوخة. إن إبليسا في الأشياء غير ذليل ولا سقيم، أوَلم يظل يردد على أسماعكم أنكم الوحيدون الذي نسيهم التاريخ من طول انتظاره لكم حتى تلحقوا به من دون جدوى..؟
أنعيكم واحدا وحدا عدا بيروت وتيزي أوزو طبعا.
أنعيكم يا من انقطعتم عن زيارة المقابر وادّعيتم أن المقابر مَن زارتكم واحدا واحدا، أنعيكم يا من نهيتم بعضكم في السؤال وتركتم غيركم يسألونكم، أنعيكم ويا ويل من نعاه أحدا غيري قبل أن تجتمعوا قبائلا وشعوبا لتتلوا السورة والصورة أمام أعينكم تترجاكم أن تخاطبكم، أنعيكم لئن تنالوا.. ويطهّر النهر المقدس بعضا من أرواحكم كما تطهّر السنة الجدباء من تلقيهم على وجوههم يصلَون السنة المخصِبة.
أنعيكم واحدا واحدا عدا بيروت وتيزي أوزو وبعض قرى ومداشر القمم، قمم الأحرار طبعا.
صنو أيلول الجديد أنعيكم وأظل انعي حتى تكتمل القصيدة، ويُسدل شكرهم الماشون خلفها إلى الحقيقة، أنعيكم كما قدّست روحه تلك الأماسي الظليلة نابية عن لظى القصيدة، قُدّست عندما مشت بنا في ظلال بساتين العنب، وقد ظلوا يتعقبون ظلنا وألسنتهم تلهج بسيرة الخمر، ومن جاء بسيرة الخمر؟!
أنعيكم أجل عدا بيروت والمسيرة
مسيرة مواسم العودة انتهى
وبعدها ولج المنشّط المسرح لكنه سرعان ما تراجع بعد أن افتقد ضيف الأمسية الشاعر المعارض صاحب الدور الموالي ولم يكن مبرمجا غيره شاعرا، فطفق يبحث عنه محتارا ماذا يفعل حتى لمحه وسط المتفرجين تماما ولما خرج إليه قال له: ويحك أم تراك قد نسيت دورك"
ــــ لا بل نسيت فجأة أني شاعر بعد ما سمعته
ــــ ماذا تقصد؟
ـــ أقصد أني لن أقول معارضة شعرية كما كان متفقا، كل ما في الأمر أني سأقول قطعة شعرية مضارعة أُثبت بها وجودي بعدما أضعت أناي بينكم ولم أكُ أعرف لأتخذ احتياطي.
ـــ مع ذلك تفضل ونحن الذين اعتقدنا أنّك شاعر، والشاعر شاعر بمعارضات على كل حال.. أرجوك أن تُسرع فالجمهور مل الأنظار.. اعتقد أن الأمسية ستفقد بريقها هذا العام.
تقدم الشاعر الثاني إلى المنبر وهو يبحلق في الجمهور ثم طفق يقول فيهم شعره كأنه جواهري زمانه: "له مع الثقافة صولات وجولات":
له مع الثقافة صولات وجولات
يُزْكي هذه ويشيد صرح تلك
يقعد مع هذه ليبني مجد تلك
يدني هذه لأجل تلك
والعكس.. والحق لا يعلو عن عرش الحضارة
ينوي لا يلوي
يبني حتى ينتفي لكن لا يختفي
سعيد بالثقافتين معا
واحدة يقال لها: ثقافة إسلامية منعمة
والأخرى ثقافة غربية مطهّمة
همّهُ كيف يشيّد منها حضارة محليّة
إنّ له حقا مع الثقافة صولات وجولات
وعهدهُ إلى السماء أن يُنجيها معززة
لا خوف له إلا على العربية
كي ينجو بها من جرثوم الركاكة
عند هذا أو ذاك كل صباح أو مساء
حين يزْكُم فلان أو علان
وقد ألفيته مازال يقول له: ما خسئت؟
فيقول هي تعني: تبًا لك!
وللآخر: ما تبًا لك؟
فيقول هي تعني: سحقًا لك!
فيقول وما سحقا لك؟ وهكذا دواليك
حوار الطرشان؟ منظومة الحضارة لديكما هاوية
لا بل ذاوية
فانظر فيها لهدِّها
مهلا الذي أعطاني نافلة القول:
إن الإسلامي كما العلماني
في هذا البلد مهجنان لا لسان ولا فصاحة
لا يألوان في العربية جهدا
فبئس ما أنتما فيه من مكرُمة
أين عربيتكما؟
أم تركتهما عند بني النظير من
زمن قينقاع
أم في وهاد المرابطين
بعد المملوكين
حقيق أنّ له مع الثقافة صولات
كابن أبي يزيد أو يزيد لكن العربية تقول لكما
اخشوني واتقوا ربكما فيا
ولا تخشوه
تملقوني
ولا تملقوه
أقِم لكما وزنا
وتعودا معها مُبشَّرين، غير ذليلين ولا مهانين انتهى
وبعد أن أتم ضيف الأمسية قصيدته التحق بالمنصة المنشط يتبعه المحكمان؛ أحدهما سمين أصلع الرأس والآخر مثله في ضخامة الجثة وعري الرأس بيد أنهما لم يتفوها بشيء، وأعطى الضخم الجثة المنشّط ورقة ليقرأها على الجمهور المفروض أنه جمهور متذوق للشعر العربي المعاصر فقال: سيداتي وسادتي كما تعلمون أنّ ما سعت إليه ندوتنا السنوية هو تكريس التنافس كسنة حميدة بين نوعين مفارقين من الشعر المعاصر، ولكن للأسف فقد خدعنا الضيف الثاني حين قبل كما كان متفقا بأن يعارض ضيف الندوة الأول في حداثته الشعرية، وللأسف كما ترون فقد فاقه في حداثته، ونتيجة لهذا الضرب الخادع فقد قرر المحكمون تتويج نص نثري بعث به إلى الندوة أحد الأدباء الهواة مشيرين لأسمه باسم "ب. ب"، قطعة نثرية عنوانها حصاد الظلال ولكن المحكمين أضافوا "في" إليها حتى نكرّس نثر الحداثة كدأبنا، والآن إليكم نص: "في حصاد الظلال" كما وصلنا مسجلا من صاحبه المجهول، استماع ممتع:
« ومن أحاديث الرّعاة إلى الرُّعاة ما يثلج الصدر ويُعظم من شأنهم حقا، وكنت بإزائهم دوما وأبدا مخاطبا، أحدثهم بالعربية يحدثونني بمثلها أو أحسن، كنا بربريون أجل، وأسماءنا كلها تبتدأ بالباءات، باء إلى باء حتى تضاعفنا وتخالفنا كالخراف البيضاء حتى لا تكاد تُعرف في كومة باءٍ أُس باءٍ؛ باءً عتيدة من باءٍ جديدة ولا حتى باءٍ أُنثى من باءٍ ذكر؛ باءً تناطحا باءً وبينها رائين اثنين، وهم ليسوا كما وصلنا عنهم من نميمة ووشايات ضعاف القلوب؛ بأنهم معشر ناي وقصبة وزجل/شعر ملحون، بل إن لمن أحاديثهم إلى بعضهم بعضا ما يسر الضمير الإنساني، وما يجبر الخاطر ويجبل الروح على سرعة البديهة ونقاوتها من الشرور وإلى أقصى حد ممكن، فقد حدّثنا الشايجي خليل السحرتي مرة أنه ما كان ليبيع شايه في دروب الرعاة وأقاصيهم المحفوظة إلا لطيبتهم.
ــــ وهل كانوا يدفعون لك ثمن الشاي؟ قلت له
ـــ أجل، أجل كانوا يفعلون، منهم من يدفع نصف قطعة ومنهم من يلقِني بالقطعة كلها، ومنهم من يدفع بدل القطعة قطعتين، ومنهم كمن أحسّ أنه يدفع في القطعة الواحدة ثلاث قطع، فما درى إلا أن كتبها عند الله "كريدي" لأني كنت عندما أضعها في جيبي أحس إحساسا مفعم بالنشاط كأن مفعولها ألغى الجاذبية فسرت أطير من مكان إلى آخر. ومنهم من لا يعطي أي شيء بعد تردد مضني، لكنه ربّما مضى ليحلب لي ويجلس وأجلس نتسامر هو يشرب شايي وأنا أشرب حليب نعاجه حتى مطلع الصمت، أين يظهر راع أو قروي فيسلمني إياه ويلتحق بشياهه وهكذا دواليك إلى أن أقضي نهاري، لعل من مضاعفات هذا التجوال بين هضاب الرعاة وتلالهم الشامخة عبر دروب شرق سْتان كلّها إحساس غمرة من الترقي ما بعدها غمرة، كون المرء لما يعتزل زيف وإفك الحضارة ويلج طهر حضارته الأخرى يَنجو نجاةً تامة.
ـــ وماذا لو علم أنك لست قرويا أقصد أنك ولدت بالمدينة وترعرعت فيها؟
ـــ هذا لا يعني لي شيئا ولا لهم.
ـــ ألا يفسر هذا طيبة الرعاة؟ فهم أكثر من القرويين طيبة وعفوية وفطرة على البداهة.» انتهى
وبمجرّد أن انتهت القراءة نشب الهرج والمرج داخل المسرح معتقدين أن الأمسية قد انتهت، وحاول جهده المنشّط من أن ينوّه بالعمل النثري المتوج في أمسية شعرية أصلا إلا أنه فشل تحت فوضى التصفير، ثم منع المحكّم البدين محاولة شاعر البلاط طلب الاعتراض على هذا التتويج على منصة المسرح لكنه قاده إلى إحدى الزوايا وانصت إلى ما يقول، ثم تسارعت الأحداث وتدخّل الأمن وشاعر المعارضة مختبئ وسط المتفرجين يُدوّن ويصوّر ما يسمع وما يرى، مع هذا كان المُنشّط يُناول المُحكَّم البدين تليغرافا وصل لتوه وهو يهز رأسه ويبتسم ويردد: تنازل القلم المجهول عن قيمة الجائزة إلى بطل قصته الواقعية الشايجي خليل السحرتي كما يقول، يبدو أنه كان أكبر شارب للشاي بطريقة الكريدي في التاريخ!؟ والشايجي خليل الآن هو في الجهة المقابلة من الشارع يا سيدي فقد رأيته هناك، هل أناديه؟
المُحكم البدين مرددا في حيرة وهو ينظر إلى وسط المتفرجين: ــــ صرت واثقا أنّ هذا الحاصد للظلال موجود هنا معنا داخل المسرح، خوفا مِن أن نلقي به ونصه في اليم المقدس ظل حاضرا غائبا، وقد ألقى معارضته إلى النظم المنثور من وهج سيرة وصميم النثر المنظوم.. وإلى أحرار مناطق شرق ستان الجبلية كما دعاها لأنها الأكفأ على تحمُّلها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تلخيص القصة: الصراع المرير الأزلي بين الأيديولوجيا والفن؛ بين الجمود الفكري والنبوغ والتلألؤ الفكري الذي تحمله كلمة الشعراء، والسلطوية تدرك ذلك، وهي عبثا تحاول اقصاء الشاعر معارضا كان أو بسيطا شعبيا، وقد كان هذان من الذكاء بحيث تفطنا لمخططاتها الدنيئة تتويجهما برميهما في الجب المقدس كعادتها؛ فلم يأت شاعر المعارضة قط بما كانت تتمناه السلطوية، أي القصيدة التي تمجد الوطن وتعلي من الوحدة الوطنية (والتي لم يستفزّه فيها شاعر البلاط وحده بل استفزّ جميع المنتمين للوطن) وإنما جاء بسبب هذا الفعل، وهو برأيه علاقتهم المتضعضعة باللغة العربية، أما الشاعر الثاني فكان قاصا لأنه شاعر (وقد يقول ذو العلاقة المتضعضعة باللغة يحسُن بالشاعر أن يكون قاصا وليس العكس!) وتلك أوج فكرة وأسماها ممكن أن تصيغها يد فنان، واضعا يده في يد شاعر المعارضة بخصوص إشكالية اللغة متجاوزه في حدة الفطنة: من ملَك هذه الخاصية بالضرورة أن يكون فنانا حرا لا سلطويا.