بوزيان بغلول
ما
الدراسات الثقافية؟
(سكريبت
فيديو: دون تهميش)
تمهيد منهجي:
لم تكن دعوة
بعض النقاد العرب المعاصرين البحث عن نظرية نقدية لا تستثني البلاغة العربية مجرد هيام
بالماضي، كما أنها لم تكن إحياء للمعركة التي تخطاها
الزمن بين الجديد والقديم، ولم تكن بأي حال دعوة إلى التقوقع داخل شرنقة الذات أو
إلى العزلة الثقافية، لكنها كانت دعوة لتطوير ما أسماها العقاد في سنوات نضجه بـ
«الهوية الواقية» عن طريق تطوير نظرية لغوية وأدبية عربية تقوم على الاتصال الكامل
بالآخر الثقافي، والاستفادة من كل إنجازات العقل الغربي المتقدم مع التمسك بجذورنا
الثقافية، وفي ذلك رفض ثنائية الانبهار بكل إنجازات العقل الغربي واحتقار كل
إنجازات العقل العربي. على اعتبار أنه إذا كان ما يأتينا من الغرب ليس خيرا كله
فهو أيضا ليس شرا كله. وينطبق هذا على التراث الزاخر للبلاغة العربية.
وهنا لابد
من التوقف عند انبهار البعض بالثقافة الغربية إلى حد العجز عن إدراك حقيقتين:
الاختلاف والخطر. نعم، لقد عمي البعض عن الاختلافات الأساسية بين الكثير من
المقولات الحداثية وما بعد الحداثية الغربية، المقولات التي أفرزتها حداثة خاصة
بواقع حضاري وثقافي غربي، وبين الثقافة العربية التي يطالب البعض لسنوات بنقل
المفاهيم الغربية الحداثية، وما بعد الحداثية، بكل عوالقها المعرفية. أما الخطر، فتمثل
في خلطهم بين التحديث والحداثة، فكان تمهيدا للتبعية الثقافية وترسيخا لها. فحين تفكك
الاتحاد السوفييتي تجاهل بعض المتحمسين الإشارات والمؤشرات الواضحة للعصر الجديد،
أين كانت كل الدلائل تشير إلى اتجاه "ثقافة مهيمنة" بدلا من ثقافة
عالمية، وهي ثقافة الاستهلاك واقتصاديات السوق والشركات العملاقة، وهي إن أجلا أو
عاجلا أدت إلى إضعاف سلطة الحكومات القومية، وبدأت
الإشارات تتحول إلى تحذيرات قوية بعد ظهور كتاب صامويل هنتنجتون صراع الحضارات
وكتاب فرانسيس فوكوياما نهاية التاريخ.
وحتى حينما
أصبح الهدف المعلن من صراع الحضارات والثقافات هو فرض النموذج الحضاري والثقافي
الغربي، باعتباره النموذج الأمثل الذي انتهى إليه التطور البشري - وهذا هو المفهوم
المبسط لنهاية التاريخ - أغمض البعض عيونهم، وأدار البعض الآخر ظهورهم واكتفوا بأن
استبدلوا بصراع الحضارات الذي استخدمه اليمين الجديد مصطلحا آخرا مريحا ومطمئنا،
وعلى غير الحقيقة، هو «حوار الحضارات». ومن المعروف أن الثقافة المهيمنة تضيق
بالاختلاف، فمحاولة إلغاء الاختلاف بفرض قيام الثقافة المهيمنة، إما باحتواء
الاختلاف عند الثقافات القومية وإما بكبته لخلق فراغ تشغله قيم تلك الثقافة في
نهاية الأمر، والمؤسف أن الواقع العربي أصبح اليوم، أكثر من أي يوم مضى معدا
لتنفيذ ذلك السيناريو. فقد تحول المثقفون الحقيقيون إلى تخب ثقافية يخاطب أعضاؤها
بعضهم البعض في أحيان كثيرة، وتتحالف مع السلطة الحاكمة في أحيان أكثر. وفي كلتا
الحالين تخلى هؤلاء المثقفون عن دورهم القيادي في تنوير الجماهير، وابتعدوا عن
الشارع العربي: تاركين الثقافة الشعبية mass, or popular culture
تحت رحمة الثقافة المهيمنة تفعل بها ما تشاء وتغرس قيمها الجديدة لتعيد تشكيل
الوعي العربي. وابتداءً بالشكلية الروسية وانتهاء بالتنويعات المختلفة للنقد
الثقافي، كان محور الدراسة من البداية إلى النهاية هو موقف المدارس والاتجاهات
والمشاريع النقدية الغربية من سلطة النص الأدبي. كان لابد لنا من دخول التيه النقدي
حتى نعيش حالة الضياع الكامل داخل المدارس النقدية المتداخلة والمتعارضة
والمتشابكة التي احتشد بها القرن الماضي، والتي اخترنا في العالم العربي النقل
عنها والأخذ منها، مرتمين بذلك في أحضان تيه لم يكن من صنعنا.
فما حدث
لسلطة النص الأدبي وموقف المذاهب النقدية المختلفة من تلك السلطة؟ أوليست سلطة
النص تقوم على قدرة النص الأدبي على تحقيق معنى ما يتمتع بقدر من الإلزام ويقبل
التثبيت ولو بصورة مؤقتة، في مواجهة فوضى القراءات التفسيرية للنص الأدبي؟ والتي
انتهت عند أتباع نظرية التلقي والتفكيك، إلى إلغاء سلطة النص، بل إلى التشكيك في
وجوده أصلا، وسلطة النص، هي محور محاولة متجددة لتحديد معالم نظرية نقدية بديلة.
ولما أصبحت النظرية النقدية العربية البديلة ضرورة البقاء في عصر تهدد فيه الثقافة
المهيمنة بابتلاع الثقافات القومية. خاصة بعد رد الفعل السياسي العربي الفعال لمحاولات
إعادة تشكيل خريطة المنطقة العربية لتصبح الثقافة في رأينا: حصن المقاومة العربية
الأخير داخل حصن المقاومة، يتأكد دور النص في تحديث العقل العربي وتحقيق التنوير
الذي يرفعه الجميع شعارا للمرحلة الجديدة منذ سنوات. ولهذا كان النص الجديد الذي
روجت لخ النظرية النقدية الغربية المتمثلة في مدرسة برمنجهام المتمثلة في الدراسات
الثقافية قد تحقق فعليا عربيا أخذا بالحسبان أن محوره الخروج من سلطة النص الى
سلطة السياسة والثقافة والاقتصاد على غرار سؤال النشأة الذي طرحه ماركس فيبر: لماذا
نشأت الرأسمالية في انجلترا وألمانيا ولم تنشأ في مجتمعات أوروبية أخرى إلا بعد
ذلك ؟ متوصلاً إلى إجابة ثقافية بالدرجة الأولى تتعلق بالعلاقة بين الأخلاق
البروتستانتية وبين الرأسمالية، خاصة فيما تعلق بقيمة الزهد البروتستانتي والميل
لعدم الإنفاق وعدم المبالغة والإفراط في الاستمتاع بالمكاسب التي يجنيها الشخص في
حياته، وأهمية أن يدخر للأجيال القادمة ويدخر لأبنائه. من هنا اكتشف فيبر علاقة
هامة بين منظومة القيم السائدة في مجتمع معين وبين نشوء نمط اقتصادي وسياسي معين.
وبالمثل فإن الإجابة العربية الثقافية تقع ولابد في منطقة وسط بين جماليات النقد
الشّكلاني والبنيوية والنقد الجديد، وبين النص من منظور الماركسية التقليدية
والماركسية الجديدة أو المعدلة، حيث يصبح النص وثيقة للعصر وشاهدا عليه مع تأكيد
ارتباطه بالخطابات الثقافية الأخرى غير الأدبية.
1. تعاريف:
وكان قد وُلد النقد الثقافي عكس الحقول المعرفية الأخرى القريبة من حقل الدراسات الثقافية جنب إلى جنب مع الدراسات الثقافية في جامعة برمننغهام (المملكة المتحدة)، وقد قام مساعدي ريتشارد هوجارت وستيوارث هول سابقا ريتشارد جونسون وجورجي لورين في عام 1988 من إعادة هيكلة جامعة برمنغهام أدت إلى القضاء على مدرسة برمنغهام، وإنشاء إدارة جديدة للدراسات الثقافية وعلم الاجتماع.
تعمل الدراسات
الثقافية على الغوص في تداخل الظواهر ذات البعد الثقافي وفق طرح يعكس خصوصية
المجال المعرفي من جهة والثقافة السائدة من جهة ثانية. ووفق الاتجاهين تُعرف
الدراسات الثقافية على أنها تخصص معرفي، أو أكاديمي ومنهج تحليل للثقافة من منظور
اجتماعي وسياسي أكثر مما هو جمالي وتُعرف كذلك على أنها مقاربة متعددة الاختصاصات
تبنى على التاريخ وتستكشف الأنساق والأنظمة الثقافية.
وتُركّز
الدراسات الثقافية على الثقافة والطرق التي تحول من خلالها الخبرات الفردية
والحياة اليومية والعلاقات الاجتماعية، وترسم عبرها خرائط السلطة، أين تبنت دور
مساءلة العلوم المنتمية إلى الحقل الاجتماعي وعلوم الإنسان واستجوبت ممارسات النقد
الأدبي التقليدية، وممارسات النظرية الجمالية.
الدراسات
الثقافية ميدان يتناول مختلف مظاهر الحياة الثقافية وتتطرق إلى أشكال ممارسة
الثقافة سواء الفردية، أو الجماعية على مستوى المحيط الواحد، أو في أوساط مختلفة
ذات المنشأ الاجتماعي المختلف من حيث التكوين، فهي بالضرورة تنطلق من كل ما هو
ثقافي وتعمل على دراسته ووضعه تحت مجهر النقد والتحليل والتفكيك.
ولم
تنطلق الدراسات الثقافية من الفرد إلا كون ظاهرة الإنسانية هي جزء منه، إما ينشئها
أو يعمل على تغييرها، هذا ما يجعله عنصرا تركيبيا داخليا في مادة الدراسات
الثقافية على اعتبار الطبيعة المركبة للظاهرة الثقافية باعتمادها تشكيلة مختلفة من
الأساليب والنظريات المنتشرة في ميادين متنوعة مثل الدراسات الأدبية، وعلم
الاجتماع، ودراسات الاتصالات والتاريخ والأنثروبولوجيا الثقافية والسياسة وغيرها
من المجالات التي تهتم التي تساهم في تكوين الظاهرة الثقافية.
وبهذا تكون الدراسات الثقافية إستراتيجية
تفكيكية بنائية ومنظور يفك شفرة النصوص والخطابات من زاويته قصد تسخير العديد من
المناهج لدراسة الظاهرة المتناولة وبها يغتني موضوعاتيا مشكلا بنية معرفية مستقلا
ومتفردة عن باقي المنظومات العلمية، وهذا راجع بدوره إلى طبيعة الظاهرة الثقافية المتناولة
والتي تتميز بالتشابك؛ باعتبار أن التجارب الفردية نفسية والتجارب الجماعية أيديولوجيا
خلفيتها تكوين نسق فكري عام يفسّر الطبيعة والمجتمع والفرد، ويحدّد موقف فكري معين
ويربط الأفكار في مختلف الميادين الفكرية والسياسية والأخلاقية والفلسفية.
2. حقول الدراسات الثقافية:
1.2 النقد الثقافي شقيق الدراسات الثقافية
وليس فرعا لها:
الدراسات
الثقافية والنقد الثقافي مصطلحان متداخلان يدلان تحديدا على الدراسات التي تشتغل
بصورة مركزة على تفكيك البنى الثقافية والإحاطة بأنساقها ومهيمنات إنتاج المعاني
الإيديولوجية، وكشف السياقات الثقافية والسياسية والاجتماعية، ومعرفة مرجعيات
الخطاب الثقافي، والفرق بين مصطلحي الدراسات الثقافية والنقد الثقافي هو كالفرق بين
مصطلحي الدراسات الأدبية والنقد الأدبي، فالأول يعني حقول الممارسة النقدية ومناهجها،
والثاني يعني الممارسة نفسها، ويمكن القول بأن مصطلح الدراسات الثقافية يطلق
أحيانا على مجمل الدراسات الوظيفية والتحليلية والنظرية والنقدية، بينما يشير
مصطلح النقد الثقافي إلى هوية المنهج الذي يتعامل مع النصوص والخطابات الأدبية
والجمالية والفنية، فيحاول استكشاف أنساقها المضمرة غير الواعية.
وهما تأسسا ضمن نفس المدرسة: مركز برمنغهام للدراسات
الثقافية وفرانكفورت للأبحاث الثقافية ذات الطابع النقدي والسوسيولوجي، وبذلك شق النقد
الثقافي طريقه العام بوصفه شقيقا ومشروعاً معرفياً منفتحاً على مجمل الحقول
المعرفية مثل الأنثروبولوجيا والتاريخ وعلم النفس والاجتماع والفلسفة والاقتصاد لكن
برؤية واضحة تقف عند أنساق مضمرة تتحكم في إنتاج الخطاب واستهلاكه وكيفية تأويله، وكثيرا
من منظومة مصطلحاته أفادها من مصطلحات الدراسات الثقافية. أما المتفرعات المعرفية
التي تندرج ضمن حقل الدراسات الثقافية وهي التي تسجل حضورها أكاديميا نجد مباحث: قضايا
الترجمة، الدراسات الثقافية والمجتمع، ما بعد الاستعمار، الاستشراق،
التنوير والحداثة، الثقافة الشعبية، الأقليات العرقية والدينية، نظريات الثقافة،
الهوية الثقافية، الأنا والآخر، التعددية الثقافية، والدراسات النسوية والجنوسة
والنقد النسوي والمهمش، وعولمة الثقافة، ونقد الخطاب المؤسساتي وغير ذلك، كما
أن هناك مجالات واسعة تهتم بها الدراسات الثقافية كقضايا التعصب والتسامح، الثقافة
والأيديولوجيا والسياسة، الحركات النسوية، الثقافة والسلطة، المجتمع وإشكاليات
البيئة، الهوية والمسألة اللغوية والدينية، الهويات المنفتحة والمنغلقة، إشكاليات
الأنا والآخر، ثقافة العلوم، والتكنولوجيا والمجتمع، الرواية التكنولوجية والخيال
العلمي، وثقافة الصورة والميديا وصناعة الثقافة، والثقافة الجماهيرية،
والأنثربولوجيا الرمزية المقارنة، والتاريخانية الجديدة، ودراسات سياسة العلوم، والدراسات
الاجتماعية.
2.2 الاستشراق: هو دراسات علمية
وأكاديمية لثقافة الشرق وخاصة تلك عانت مجتمعاتها تأخرا حضاريا مفارقا، وهي دراسات
يقوم بها غربيون بالأساس، لا يهم إن كانوا من أهل الكتاب أو من غير أهل الكتاب، لكن
المهم في الأمر هو أنهم غير مؤدلجون بفكرة التسبيق الأيديولوجية، وهم بهذه الحالة
يمثلون الإنسان في أرقي تحضّره العقلاني، حتى أنهم بهذا العمل أثبتوا أنّه لا يوجد
إنسان على وجه الأرض غير مرتبط بالذات الإلهية (كما ظلت المجتمعات المتخلفة تعتقد،
متداولة إياه ضمن خطاب ديني مطلق مكرس للانغلاق)، أي لا يوجد إنسان كافر أو جاحد
أو متمايز عن غيره، إلا في إطار العمل حيث بالجهد العضلي أو بالنشاط والاجتهاد
العقلي يحدث تعميق بذرة الجانب الروحي في الانسان وتقويتها لا العكس، وينقسم
الاستشراق إلى استشراق حديث من أبرز رواده المستشرق الإنجليزي صامويل مرجليوث، والمستشرق
الألماني ماركس فايبر، والمستشرق
الفرنسي لويس ماسينيون، وإلى استشراق معاصر في شاكلة إدوارد سعيد وبرنار لويس، وبخطاب
الشرق، المستشرقون هم: أدمغة لم يفضلها الله إلا بالعمل فظهروا في حلبة الصراع في
فترة كان المسلمون فيها يعانون من الإفلاس الحضاري والخواء الروحي، وفقدان الذات
تبعا لأوهامهم الثقافية المؤدلجة؛ مما جعل الفرصة سانحة لهم بأن يتفوقوا معرفيا في
الميدان ويجلبوا لبلدانهم مزايا ومكاسب تجارية واقتصادية.
3.2 الترجمة: الترجمة أداة مهمة تقود إلى احتكاك
وتعارف الثقافات تمهيدا للتلاقح فيما بينها، فقبل محاولة انفتاح ثقافة على ثقافة
أخرى لا بد من أن تطرح من فكرها التسبيقات الأيديولوجيا وهي تلك المتعلقة بعنصرية
الثقافة، بانغلاقها على نفسها جراء تلك العنصرية المتعلقة أساسا بالتعاليم الدينية
التي ترسم لها صورة تقديسية لذاتها وتحقيرية للآخر، وجدير بالذكر أن نهضة الغرب
الحداثية اعتمدت على ترجمة تراث الإغريق واللاتين إلى اللغات الحية: الفرنسية
والانجليزية والألمانية والاسبانية من ثمة كان بمقدورها الإقلاع بطرح الوعي الديني
جانبا وليس الغائه بالضرورة، وبالنتيجة للاستعمار والانتداب الذي خضع له العرب، وكانت
معرفته باللغة الإنجليزية طاغية في المشرق العربي، وباللغة الفرنسية في المغرب
العربي، والدليل على ذلك هو أن الدراسات الثقافية والنقد الثقافي قد عرفا تأخرا في
فرنسا والمغرب العربي، ويستطيع الباحث العربي ذو العلاقة ببعض المباحث كخطابات
الجندر والنسوية الثقافية أو دراسات مجتمع الهامش تبعا لذلك ملاحظة ضمورها في
المغرب العربي وتطورها في مشرق الوطن العربي
بسبب اللغة.
4.2 نظريات ما بعد الاستعمار:
يهدف مصطلح أدب ما بعد الاستعمار، أو نقد أو
نظرية أو خطاب ما بعد الكولونيالية إلى فضح الخطاب الاستعماري الغربي،
وتفكيك مقولاته المركزية التي تعبّر عن الغطرسة والهيمنة والاصطفاء اللوني والعرقي
والطبقي، باستعمال منهجية التشتيت والفضح والتعرية. أما مصطلح الإمبريالية
الجديد أو النيو كولونيالية/ ما بعد الاستعمار الجديد ـــــ مع العلم أن المختصين
لا يردفون "النيو كولونيالية" بـ اللاحقة "ما بعد" أي أنه ليس
هناك مصطلح "ما بعد الاستعمار الجديد" فـ "نيو Néo " في
"النيو كولونيالية" تشير إلى
الفترة وهي حقبة رد الاعتبار للثقافة كمكون له الأهمية الجوهرية القصوى ـــــ فتشير
الى العكس أو تحاول قلب المقولة السابقة جدلا عالميا أو محليا، وأصلا فكر ما بعد
الحداثة يؤسس لمصطلح الجدل والتفكيك أساسه الاختلاف الثقافي (يعني الديني) بين
الشعوب وهو الذي عرقل بعضها عن النهوض فأضحت عالة أو تابعة أو مغلوبة كما يقول ابن
خلدون والمغلوب يتبع الغالب أو يموت، وهومي بابا فكّك نظرية ما بعد الاستعمار لإدوارد
سعيد من منظور عقلاني متّسم بالسماحة الهندية المعروفة في هذا الجانب، وتعزز هذا
التفكيك مع بروز العولمة فامتدت بؤر الهويات المحلية معيدة النظر في خارطة
السلطوية مقاومةً أو تمويها، خالقة مقولة المركز والهامش على المستوى المحلي (أو على
المستوى الطبقي والاجتماعي)
لقد أصبح لمفهوم ما بعد الاستعمار في عصر
العولمة مفهوما جدليا وُلد مع الناقد الهندي هومي بابا في كتابه
" موقع الثقافة 1994"، عندما خالف إدوارد سعيد بتوليد مفهوم "الهجنة الثقافية" في سياق تطور نقد
خطاب ما بعد الاستعمار، بخاصة عندما عجزت الدولة العربية الحديثة عن الخروج من
مأزق التخلف دون مساعدة من الغرب (المستعمِر السابق)؛ يرى
هومي بابا باختصار أن الاشتباك بين المستعمِر والمستعمَر لم يخلُ من تلاقح ، أي أن
المتسعمِر تأثر به كما تأثر به المستعمَر، بل إن الاستعمار بوصفه تجربة جوهرية و
قلقة قد خلقت ذاتا جديدة للمستعمِر، تعتمد في جانب كبير منها على خطابه اتجاه
المستعمَر وعلاقته به. وهذا التضارب الجدلي الذي خلفياته دينية هو جوهر خطابات أو نظريات أو نقود أو
أدب ما بعد الاستعمار بما فيها نيو كولونيالية، نما وتبلور جنبا إلى جنب مع
إشكالية الأنا والآخر لتعبّر عن المرحلة "ما بعد" وهي نظرة
من زاوية أخرى لإشكالية الحداثة والتقليد ثم الأصالة والمعاصرة، باستعمال مصطلحي
الهجنةً أم صفاءً، ويسمى الأدب الذي ينسجم مع الاستعمار وأطروحاته وثقافاته
الأدب الهجين، أما الأدب الذي رفض ثقافة المستعمر وحاربها فهو أدب الصّفاء أي
صافٍ: خال من تبعية ثقافة المستعمِر.
5.2 إشكاليات
الهوية المحلية مع العولمة الثقافية:
تحرص
الجهات الرسمية والمؤسسات الثقافية في جميع الدّول على تمييز هويتها وتحديد
ثقافتها، وإبراز شخصيتها الفكرية. وقد ازداد هذا التوجّه الفكري خاصة في عهد
التقنية الحديث، وسقوط حواجز الجغرافيا، وترابط المصالح والثقافات العالمية
والعلاقات الدولية، حتى لقد أطلق بعض الخبراء على هذا القرن قرن الهويات والقوميات..
وهنا
يبرز إشكال الثقافة والهويّة المحلية لدى العرب كأحد أهمّ الإشكالاتِ المعاصرة،
والتي لم تكن تحدثُ من قبل لأسبابٍ عديدةٍ. ويمكن تلخيص الإشكال في كل مجتمعٍ يقف
ثقافياً بين ثلاثة أبعاد: البعدُ الأول ثقافتُه المحلية المرتبطةُ بعاداته
ومنتجاته الفكرية المحلية من أدب محلي وصناعات وإبداعات محلية ولغة أو لهجة
محلية.... والبعد الثاني تاريخُه ومنتجاتهُ الفكرية الإبداعية والإنسانية كالآداب
والثقافة والتراث على مدى القرون الماضية، وهو جهد المجتمعات المنتمية كلها عبر
أجيالٍ بل قرونٍ ... والُبعد الثالث مرتبطٌ بالثقافة العالميةِ التي تعبر الحدود
بين الثقافات، ولا تعرف وطناً محدداً تأوي إليه، وتسكن في مجتمعه. وهذا مرتبطٌ
بالعولمة أكثر شيء... وبين الأبعاد الثلاثة تحتار بعض العقول وتضيع بعض الهويات!
والإشكال القائم هو: هل الثقافةُ المحلية هي المحددةُ
للهوية الثقافية العربية مثلاً، أم الانتماء الفكري لتراثنا العربي الإسلامي
ومنتجاته هو المحدد الأعلى لهذه الهوية الثقافية؟! وما مدى قبولها للثقافة
العالمية، أي ماذا تأخذ وماذا تدع؟
هذه
القراءة الفكرية للهويّة وارتباطها بالثقافة على جانب كبيرٍ من الأهمية لاتصالها
بالمناهج التربوية التي تقرها الدول في مدارسها لأبنائها، وبفلسفة الوطن كله
وهويّته ...فقد ترى بعض الدول العربية مثلاً تعكف على تراثها الشعبي المحلي، وتنسى
امتدادها التاريخي مع أنه هو الذي يمنح الأرضية الصلبة لهويتها الثابتة والحقيقية،
وقد تنسى كذلك هويتها وتراثها القريب، وتتمسك بتراثها الموغل في القدم، وهذا إشكال
آخر يؤدي إلى ازدواجية الشخصية الثقافية.
وفي البلاد العربية حيث اللغة الواحدة والدين الواحد يتخذ هذا البعد جانباً أخف من بعض البلدان الأخرى، نتيجة أن النسيج اجتماعي الذي تفرزه العادات المحلية كالأزياء والأطعمة والمظاهر الثقافية المحلية تختلف من إقليم الى إقليم أو من ولاية الى ولاية، والهوية ليست مستقلة عن الثقافة بعمقها الثاني وهو المرتبط بالماضي والحاضر والدين والتراث وليست من إبداعاتها الفنية الخالصة فقط
..
ومن إشكاليات العولمة أنها قد تلغي أو تبلع الثقافات
المحلية والخصوصية الثقافية الدينية إذا لم يتوفر لديها العمق الثاني من الهوية الابداعية
في شكل تراث مادي. وفي النموذج الإسلامي هناك تراث محلي ومنتجات ثقافية محلية، والفكر
العربي الإسلامي هو المحدد الأكبر للهوية؛ فكل ما أنتجه هذا التراث المادي على مدى
أكثر من أربعة عشر قرناً يشكل رصيدا ثقافيا زاخرا، من آثار القيروان، إلى الموشح
الأندلسي، وكذلك العقال النجدي وقصور الطين ورواشين جدة الجميلة وفنون القدس
وزرابي الأطلس ومآذن القاهرة الشامخة.
فإشكالات
البعد العالمي لعولمة الثقافة أنها أصبحت تعنى بالثقافة المحلية في شكلها المادي،
أما الانتماء الديني فمظهر عالمي موجود في كل مكان حتى أنه موجود في قلب مانهاتن،
فانتماؤك الحقيقي للثقافة العالمية هو ليس في الدين بحد ذاته، وإنما في كيف تعرف أن
تحافظ عفويا على الرموز والتقاليد التي ترتبط بالدين أو تعمل ألّا ترتبط بها فتظهر
تقاليدك الخاصة إثر ذلك، وكيف لا تنسى من خلالها عفويا مواردك الثقافية المحلية
والتاريخية والهوية التي ربطت أجدادك بها.
5.قضايا الأنا والآخر:
تتحدد هذه القضايا من خلال تبعات تأثيرات العولمة على الهوية الثقافية، ﺃو قل من خلال التحولات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية
الدولية المؤثرة على الوطنية الكبرى. لأنه يقع في جدل مع
الهوية الثقافية اﻷصيلة، ﺃخلاقيا وسياسيا ودينياﹰ أو العكس، قضايا الأنا والأخر هي من
تحدد صراع العولمة مع المحلية، لأنهما يقعان متزامنين، فكل ما هو إبداع وفن وأدب وأدب
مقارن يصيغ الأنا صياغة تجعل من الآخر آخرا بالنسبة له، وتتضح
قضايا الأنا والآخر في الدراسات الثقافية من خلال فهم ثنائية الأنا والآخر، حيث
الفرد لا يمكن فهمه أو دراسته بشكل معزول عن سياقه الاجتماعي والثقافي. يعتبر
الفرد "الأنا" كيانًا فرديًا يتمتع بأفكار ومشاعر واحتياجات خاصة به.
بينما يُعتبر "الآخر" جماعة الناس والمجتمع الذي يعيش فيه الفرد ويتفاعل
معه. فالأنا تتأثر وتتشكل بفعل التفاعلات
والعلاقات مع الآخرين، وفهم طبيعة هذه العلاقات يساهم في فهم الفرد وسلوكه. وإذا كان فهم
ثنائية الأنا والآخر يعزز الوعي الاجتماعي والثقافي، ويساعد في فهم تأثير العوامل
الاجتماعية والثقافية على الفرد وعلى المجتمع بشكل عام فإن تعبير الكيان الفردي
الذاتي "الأنا" عن تجاربه الشخصية ومعتقداته
وقيمه. يجحد "الآخر" أو الكيانات الثقافية الأخرى والمجتمعات الأخرى
التي تختلف عن ثقافة الفرد. وهذا ما تشدد الدراسات الثقافية عليه، وهو
التنوع الثقافي والتبادل الثقافي بين الأفراد والمجتمعات، فالثقافة تلعب دورًا
حاسمًا في تحديد كيفية تفسير الأفراد للعالم وتصورهم لأنفسهم وللآخرين.
وفي
سياق الدراسات الثقافية، يتم التركيز على فهم التمييز والتواصل والتفاعل بين
مجموعات مختلفة من الأفراد والثقافات. يتم استكشاف كيف يمكن للتفاهم والتعاون أن
يتحقق بين الأنا والآخر في سياقات ثقافية متعددة، وكيفية تخطي الاختلافات الثقافية
والتعامل مع التحديات المرتبطة بالتفاعل الثقافي.