نصوصٌ يتقاطر عسلا شهدُها


 بوزيان bouziane


نصوصٌ يتقاطر عسلا شهدُها 

 

   لمّا كانت أحوال بلاد ابن يعرب على غير ما يرام.. سُلطة في كمشة منهم تعمل منها وبها ما تشاء.. فكان إنتاجها الإبداعي علميا أو أدبيا عالق في وحل التواضع، فهو لا يبرح متخلصا من وحْله ذاك إلا وعلق في وحل البيروقراطية الفتاكة، غير أنّ هناك نصوصا وُجدت ـ على كثرتها وليس على قلتها ـ وهي تتقاطر عسلا، لكونها مخفية متوارية عن الأعين بإحكام، كأنه لِما بها من فائدة تعود على السُّلَط المترصدة والمختفية هي أيضا بالضرر.. كالنص الذي يقول فيه صاحبه: «فجأة يجد مزارع في شمال الدنمارك صحيفة مذهبة مكتوبة بخط غير مفهوم، أخذها لبيته لكن شك بعد قرابة العام من سوء العاقبة لو أنه تركها في بيته، فقد أُخبر بعودة موتى الناس بالسنوات والقرون للحياة، والصحيفة قد أعطته صك التحدث مع عظماء الإنسانية الراجعين للحياة بعد أن مكّنته. وقبل أن يهتدي لإجراء أول مقابلة له مع أحدهم، قد أعطي صاحبنا نافلة الخطاب قبل نافلة صك عبور البرزخ، وعبر مسالك يملؤوها التأمل في أناة وجلد يشبه تأمل وجلد البوذيين، ففكّر برهة وهو قلق ثم أطرق لكنّه كمن نهض مفجوعا من كابوس كلما أطرق أو حاول أن يصعد بناظره من المادة إلى الفكرة ليعود به إلى مشروع دنيوي ينتفع به كما يفعل الناس جميعا.. أو كمن ألقى من على كاهله حمل عظيم كلما أطرق.. وعزم أن يبدأ بمحاورة موسى ثم بوذا لأن عيسى موعد عودته قد ضبط، لكنه تذكر أن الصّحيفة تشبه لوح الوصايا العشرة، فعزم أن يجهد نفسه مقنعهما أنه بإزائهما هو مبتغ للحضارة، لكن تمنعه فكرة مُغرقة من وحي الصمت باتت.. لأن الصحيفة بدأت تعمل عملها فيه بالطراد وحي يأتيه، إما وهو مغرق في فكرة تتعلق بما أتاه أو هو غافل عنها بالمرة. لكنه صمت المزرعة القصية الذي كان كأثير همسات خطاب الأذن، وكأنها لا تتوانى عن التردد عليه همسا كلّما عمّ الصمت وطال أمده..»

  وصمت بعد صمت دخلت عليه الهمسة الأولى، ونصّته الصحيفة نصا وزادته خطابا.. ثم يا أيها النبيءُ وقبل هذا وذاك، ألم يستطع العلم أخيرا من قطع دابر كل شك باليقين؟.. حين توصل العلماء إلى فك شفرة الشّفرة الوراثية، والتوصل إلى أعمق أسرار خصائصها الأنطولوجية.. فكشفوا عبرها على الوهم الذي ظل متربعا راسخا؛ الوهم الذي طالما كدر صفو الإنسانية أنى كانت وأحال حياتها إلى جحيم لا يطاق.. وكأن هذا النص شقيق ذلك النص أو سليله، وظلّت النصوص تتناسل الواحد تلو الآخر وأصلها جميعا نص الصحيفة المذهبة.. لا طاقة لديه بعدها للرمي بالصحيفة، لكنه يغفل عنها في زاوية من زوايا بيته..

  ثم الهمسة الثانية.. أجل فقد كشف العلماء أن شفرة تلقيح بويضة مريم العذراء في بطن أمها "آن Anne بنت فاقوذا" من أبيها عمران قد شفّرت لحدوث تلقيحين عوض تلقيح واحد؛ واحد جرى بالفعل وأسفر عن ولادتها أما الثاني فتلقيح حملت شفرته الشفرة التي ورثتها مريم عن والدتها.. أي أن الإلقاح الثاني الذي من المفروض أن يُسفر عن ولادة توأم العذراء كان تلقيحا سلبيا لم يحدث في بطن آن أم مريم، لكن مهيّأ له أن ينفذ في البطن الثانية، التي تخرج من تلكم البطن، أي بطن مريم، وبالتالي فإن عيسى ليس ابنا لله، كما توهم خلق عظيم ومازالوا، لكن هو ابن عمران، وما البروتستانتية والإسلام بالنتيجة إلا ديانتين وهميتين في خلد البشرية قاطبة وهما من صنع ذلك الإنساني المقابل لكل ما هو إنساني، سواء كان مصدره نفسيا أو عقليا أو هما معا، وهو ما كشف عنه العلم، أي أنهما من صنيع الشر، بينما يكون العلم ومازال بالمرصاد يهد مملكتا الايمان؛ المسيحية والإسلام، لكنه لم يقدر على هد مملكة الإيمان اليهودي.

    فهو على كل حال استطاع عن طريق تتالي التجارب العلمية هدّ أسوار ديانة المسلمين المتينة والعالية، غير أنه رفع من شأن رقعة في الشرق الأوسط قائمة بين القدس وحيفا ونتاليا رِفعة عالمية، فاستحالت بقعة مرحب بها من قبل العلم وأتباعه ومريديه، بالرغم وكأنها بقعة سماوية وقد اقتطعت من السماء السابعة، فعمل على رفع وتيرته كلِفًا بها وبتراثها المادي والمعنوي، فرفع بعد الاثبات بالوهم على يوسف وإبراهيم ويعقوب وعدّهم محطة من محطات استراحة التاريخ في الشرق الأوسط لا أكثر ولا اقل، وأعلى بعد الاثبات من ثلاثة شخصيات وعدها ملك مشاع لا ينضب للإنسانية بعد عن علقت طويلا في قاع نهر النسيان، ألا وهما موسى وهارون أخيه وإسحاق جد يوسف.. ثم ماذا؟

   ثم إنه الصّمت وعالمه الفائق الوصف، في ملكوته وغموضه، وترياقه في آن، وقد يأتي الصمت نصا بلا عنوان، بل عنوان مقابلة مع موسى لا بداية ولا نهاية لها، وقد تهلك القصيدة في مخاض الصمت الرهيب قبل أن تهلك في مخاض أيلول الأخير، وكم من قصيدة هلكت ولم تفاجئها هزة ولا فيضان من فيضانات أيلول الجديد قط، أما آخر القصائد الهالكة على مذبح الحقيقة وشرفها قبل أن ترى النور، وكلها فيما نعتقد نذرت نفسها من أجل الحقيقة الضائعة على هذه الأرض، وهكذا هو الأدب يقدم تضحياته الجسام من أجل الإنسانية وعلى مذبح الحقيقة وهيكلها، أما ذينك المعمّران على وجه الأرض السيدان "وطني" و"أصولي" فمُربِكانها، مزلزلان لأقدامها قبل أن يلِجا إلى مرابعها ولا ريب، حيث هما حبيسا مسيرة التاريخ بما أدركهما من غل وحقد وليس بمقدورهما كـ "شيئين" اثنين إضافة قطمير شيء في سبيلها، ومازال أحدهما أو كلاهما في وفاق يقولان لطالب النقد الأدبي دَع عنك المضامين والتهي بالشكل فقط، فيجيبهما قائلا: ــ بلى، أنا في سبيل الفن الذي في الشكل لكن لا فن ولا معنى جميل دون مضمون!، فيردان عليه: إذن أنت تعلمنا في عملنا الذي نحن فيه بأربعين عاما، ويرد عليهما: أي نعم، لكن بالبرهان لا بتملق أربعين عاما.

   خذ إليك، فهذا ما جادت به معاني القصيدة وزادت.. لما ولجت وحْي من الصُّبح المقدس خلف قصر المهاتما الأحمر، ودونه بحيرة لا يرى من خلالها إلا الضباب، وباب من أبواب الصمت قائم مقام طور سيناء..

 التفت وإذا به ملتف في ردائه الأحمر كأنه معتمر حاف ومحلّق رأسه.. الهمسة الثالثة:

بائع الصمت

هل هناك من مدى للنبيئين والمرسلين؟

وهم مغدقو النعمة، في جنان السفرجل

كبحر من الصمت تنقره العصافير السفرجل

أصفر وأخضر أحمر مصفر كالعفش والزرائب

لكن يدور الزمان فلا من نعمة ولا من جنان غير الصمت

صمت من الجودة بما كان

ملء الدجى أضاء دربه

حمله نبيءٌ

مسكين! أين المفر إلا من مداخل ومخارج الصمت

هيا هيا تقدموا... قال

صوت ولا أطيب ولا ألذ

ترعرع في براريه

لكن وداعا، قد حان الرحيل

والأب المسكين ظل صبيا مدى السنون

حتى حسِبه النُّصب لما آوى اليه هيكلا

منه وإليه، يبتغي مأوى وملجأ

"نبيع الصّمت عند مذبح الهيكل":

 قالت الريح الصرصر القادمة من الشمال

وحسبوه نُصب الحرية

هل يفتر النُّصب إلا ليقي صاحبه

قرّ البرد أو يأويه شر تقلب الأزمان؟

بلى، هو يحمينا من قر البرد وحر الشمس

وهو الباحث عن الحقيقة كالنبيئين

ولقمة العيش كالمطعِمِين

وقام إلى الفأس ليحفر تحت النصب

عن هامش للحرية يبحث

أو بحثا عن ثلاجة تحفظ له الأطعمة

أو فرن يحمّص خبزا

وقال له النُّصب:

بعني من صمتك النذر القليل

فصعق، كالذي دك قباله الطور

"قد منحناك أيها النبيء الجديد"!

"قد منحناك أيها النبيء الجديد"!

كلانا أنت وأنا، شُغلنا بغيرنا

فأتانا اليقين

فلملم أشلاءك واصْعد بروحك قمّة الجبل

كيما تراني أو تلحق بي إلى ملكوته سالما

ثم تتبعها همسة رابعة.. وقد كانت هناك على قمة الجبل ـ كما قالت أو أوحت الصحيفة المذهبة لمالكها ـ فرقتان من الجنود واحدة تتبع الجيش الفرنسي والأخرى جيش التحرير الوطني FLN تتبادلان إطلاق النار، ولما ظهرت الحوامات اختفى جنود الأفلان، وصلت فرقة دعم إفرنجية واندست بين الأعشاب على سفح الجبل في انتظار فرار فرقة عدوهم من الحوامة إلى الأسفل فيفاجئونهم.. وما إن ابتعدت الحوامات نهائيا حتى ظهر جنود التحرير واكتسحوا الفرنسيين وقتلوا منهم نصفهم وأسروا النصف الآخر ونزلوا منتشين فلم ينتبهوا إلا وهم بأسراهم في قبضة يد فرقة الدعم، أخذوهم إلى المعسكر الغابي قرب واد "مرشرش" وهم مكبّلين ومقيدين. أراد قائد الفرقة الفرنسية وقبل الوصول إلى المعسكر الاستراحة قرب الواد واغتنام الفرصة لمحاورة العدو: وكان نوابه من السكان الأصليين الأمازيغ الذين يطلق عليهم المجاهدون اسم الخونة، وبدأ الحوار بكل حرية، غير أن الأيدي كانت مكبّلة إلى الأعناق وبإحكام، فقال القائد لعدّوه قائد المجاهدين:

 ـ أتَرى يا السي الكولونيل، اُنظر نائبيّا هذان السي أو محند والسي قاسي هما أمازيغيان.. أيرضيك ذلك؟

فرد قائد المجاهدين: ـ وما في ذلك؟ نصف فرقتنا أمازيغ ويتكلمون الأمازيغية فيما بينهم.

السي أومحند: ـ أوتدري "يا السّي المجاهد" أنّ ما جعلني أمدد عقدي مع الجيش الفرنسي هو قيامكم بالقتل الوحشي، لا أعرف أي دين ذاك الذي أجاز لكم ذبح الأطفال والشيوخ بكل برودة دم؟ من المفروض أن الأمازيغي البربري هو الوحش الذابح كما تشي إليه التسمية، لكن الحقيقة هي أمامك الآن، فالبربري هو صانع ومصدّر السّلم في شمال إفريقيا، وبمجابته للجلادين من كل أصناف الوحوش المحيطة به في كل زمان، جدير بأن يدعى الأمازيغي السّلمي لا البربري، ففرقتك المجاهدة هي التي من المفروض أن تحمل لقب البربر.

ـ ردّ قائد فرقة المجاهين بهز الرأس والابتسام

ـ نحن نريد إجابة صريحة يا السّي الكولونيل

ـ أما الأطفال والشيوخ فلا، لم نفعل ذلك، لكن ما عدا هذا فإن الله تعالى قال: " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم "

ـ يعني أن الله هو الذي أباح لكم شريعة الذبح للترهيب بنفس الطريقة الظلامية، طريقة العهود القروسطية، ذبَح وذبَّح أجدادكم أجدادنا الأمازيغ باسم الله في مناطق الزناتية وفي غيرها، وحين انتقلوا إلى اسبانيا غازين فعلوا نفس الشيء لكن وجدوا أشجع منهم ترهيبا، فذبّحت الملكة اليزابيث ذبحا بذبح فلول جيوش المسلمين، ولذلك سميت عهودا قروسطية؛ طاڨ على من طاڨ ولا قانون يعلوا فوق قانون القوة، أما الآن أمكن لفرنسا أن تأمر بذبحكم ذبحا بذبح لكنها لن تفعل لأن الإنسانية قد تخلّصت من تلك العهود المظلمة إلى غير رجعة، فاليوم هناك قوانين تحمي الإنسان من هدْر كرامته ضد كل من تسوّل له نفسه، مهما كانت قوته المادية والروحية، حتى لو تلبسته التوراة أو الانجيل أو القرآن على حين غرة فإنه لن يستطيع هدر كرامة الإنسانية ثانية قيد أنملة، إنها حقوق الإنسان يا السي القايد العايش في القرون الوسطى، أما إذا كنت تعتقد أننا لا نقدر على الذبح لأن قلوبنا ضعيفة لا تحتمل فأنت مخطئ.

ـ أنتم وليكم الشيطان ونحن ولينا الله" ردّ السي القايد

ـ يعني أنكم جبناء تذبحون إخوانا لكم في الإنسانية وتفرّون إلى حجوركم كالحيوانات، إنكم لن تفروا من ربكم يوم الدينونة، وتعتقدون أن الايمان الوحيد والتوحيد الوحيد هو إيمان وتوحيد المسلمين، الايمان دُعي إيمانا لأنه إيمان أتفهم؛ إيمان يعني اعتقاد، لا أحد لديه الحقيقة المطلقة فلا حقيقة مطلقة، وكلنا نبحث عن الله ونسعى اليه، وإن تعددت الطرق والمذاهب فالهدف واحد.

ـ قل لكم دينكم ولي ديني

ـ أحسنت. إذن لماذا لا تطبّق ذلك؟ اُتركوا الناس يعبدون ربهم كما يشاؤون ولا تضطهدوهم بمعتقدكم، هذا ظلم كبير يحاسب عليه الله، وهو مدعاة ودليل على إلزامية وجود قاض نزيه يوم الدينونة، ألا تشغّل عقلك معنا قليلا.. فإن علاقات الاضطهاد والظلم في الدين بين البشر هي دليل قاطع على يوم الدينونة، وبنيويا، أتدري كيف؟ لأن الناس في حياتهم محتاجين للقاضي الذي يحكم بينهم في شؤونهم الدنيوية، لكن هل سيحكم ذلك القاضي حقا بينهم بالعدل؟

ـ "حكمه دائما يبقى نسبي تعتريه العثرات في تطبيق القانون أو الاخلال به في بعض الأحيان" أضاف النائب قائد الفرقة الفرنسي الثاني السي قاسي شارحا.

ـ أرأيت، إذن ما قولك في جور القاضي وهو يحكم بين الناس عمدا؟

لهذا السبب، لأكل الناس حقوق بعضهم البعض بالباطل استدللنا على وجود قاض ليس من جنسهم، بل هو نفسه خالقهم؛ هو الله عند المسلمين، الأب عند المسيحيين، يهوى عند اليهود، ولا يحاسبهم في يوم الدينونة بضرورة، وجود علاقاتهم المباشرة به أي عبادته من عدمها، بل حين يحكم بينهم مثل القاضي فهو يحكم بمن أكل حق الآخر، يرى في هذا النسيج العلائقي البنيوي بين البشر، وعندما يرد الحق المأكول لصاحبه، هو في نفس الوقت يعطي الحجة بان من هُضم حقّه كان عابدا له حق العبادة.

ـ كيف؟ لم أفهم؟

ـ اضطهاد وقمع وتنكيل العبد لأخيه العبد مثله، أما الاضطهاد فباستعمال سياسة العصا والجزرة، أما القمع بالتزوير وتشويه الصورة بالعملاء المرتزقة، أما التنكيل فمختفي إلا أمام أنسباء المنكّل بهم حتى لا يفعلوا مثلهم، ولمِا في الاضطهاد من فوائد يبقى أفضل وأخطر وسائل القرو سطي لحد الساعة، تارة بذريعة الهوية، عندما يكون المضطهد خارج حيّه، وطورا باسم العبادة عندما يكون جارا له، كأن يقول له أنت كافر، لا تصلي، أو لا تتقي الله في أخلاقك الشريرة أو الحيوانية، هذا الفعل يمكن أن يعود على صاحبه بالضرر عند القاضي الذي لا قاضي غيره يوم القيامة، أولا من خوّل له ذلك الاضطهاد، لا تقل النبي فنحن فرضنا ان الأنبياء دعاة إلى الخير مثلهم مثل باق الناس، ومن ذلك الخير عبادة الخالق، الغائب الجوهر عن هذا العالم، وقد جاء في القرآن ما يبيّن أن الحجة يومئذ بينهم وبين خالقهم في فك الخصومة بينهم، أشرارا وأخيارا، والأشرار بما كذبوا على الأخيار، في قوله: ".." فالذي جاء بالصدق يكون اتقى ربه، وهذه التقوى مستحيلة من دون الخصومات البشرية في الحياة الدنيا.

    لا تعتقد أن الأمم المتحدة تقف معكم لأنكم مسلمون، بل فقط لحقكم في الاستقلال،  مثلكم مثل باقي الشعوب المستعمرة، وبما إني أمازيغي حر (تصفه بالخائن) يقف إلى أمازيغ قتلة وذباحين فإنه سيأتي يوم ويفرق الدين الذي يخول لكم هذا العداء وهذه العنصرية الشعواء ضد الشعوب المفارقة لكم يأتي من يُعيد لنوميديا شمال افريقيا أولا هويتها الحرة ويُعيد هويتها المتنوعة المتعددة ثانيا؛ والهوية ليست سوى أحد المكوّنات المهمّة في الخطاب الأيديولوجيّ القروسطي المنقرض والتي مازالت الإسلامويّة لصيقة به حيث باسم “الهُويّة الإسلاميّة” الآن يُقاوَم المختلفُ ويُجهَض التّغيير، ولا يحقّ لأهل الاجتهاد تقديم رؤىً مباينة لتلك التي يتمادى في تقديسها المتأسلمون فيما يخصّ وضع المرأة، وحرية التّعبير، والحريّة الفرديّة، وحرية العقيدة، والفنون والآداب، والآخر وغيرها. فالهويّة لديهم كائن ثابت مقدّس إذا كان يخصّهم ومُسفّه مُحقّر إذا كان يخصّ سواهم. وعلى ذلك فلا يجوز بحسبهم "العبث" بالهُويّة وتغييرها إلا إلى ما يرونه حقّاً فيها، والحقّ الصّحيح دوماً لا يوجد إلا في رؤيتهم الأحاديّة للواقع والدّين لأنه من الوحي أما التحضّر الإنساني فمن الشيطان.

  والحقيقة التي أثبتها العلم غير ما مرة أن الهُويّة ليست نصوص وحي، بل واقع موجود في الأشياء والطّبيعة والإنسان تتحقّق أحياناً بالخَلْقِ كعسل النحل ويتقاطر نصوصا، هي كالآية في دلالاتها، كالهويّة الجندريّة (الأنثى والذّكر) في دلالتهما بالنسبة لبعضهما البعض، وكالخصائص التّشريحيّة للجسد، وكالهويّة الصّحراوية أو الجبليّة لبعض الأصقاع، كما تتحقّق أحياناً بالتّماسّ والمخالطة كاكتساب عادات ومحو عادات، وأحياناً بالاختيار كتغيير الدّين أو العقيدة أو حتى الشّكل والمظهر الخارجي بعمليّات التّجميل وتغيير الجنس، وتتحقق جبرا (إكراهاً) لكن مع تجربة العادة لدى المُكره عليها تجعله يتقبّلها كما في الاستعمار، وقوانينه الجائرة في فرض أنواع من السلوك، وتشجيع أخرى مثل فرض نقاب الوجه على النساء في الفترة العثمانية!

  ثانيا، ربما أن شعورا بالاضطهاد يجعل المضطهد يبين له عمدا بالعصبية أنه غير متقٍ لله، وبعيدا عن تلك العصبية هو غير ذلك؛ لأنه من غير المعقول بأن يعرف كائن بشري ربه والأخر لا يعرفه، وهم يحملون نفس الخصائص البشرية من عقل وقلب وضمير. وهذا الضمير بالأساس هو حجة بنيوية بين البشر في علاقاتهم سيحكم الله بينهم على أساس ما اقترفوه في بعضهم البعض. بالنتيجة تغييبه يعني تغييب الله في أنفسهم...

ـ صمتٌ غريب لقائد المجاهدين كأنه خَرُص..

   ثم عندما خرج صاحبنا ليسقي بستانه كعاهدته مرّ من على الحُجرة التي خبأ بها الصحيفة، وإذا به لما وصل إلى البستان ينتابه وسواس كأنه أصيب بالصرع فجأة، وسواس يوسوس له وهو يتأمل في المزروعات التي تحتاج إلى ري؛ صوت ليس بغريب عليه: إن في الميثولوجيا العربية المعاصرة ــ إذا ما كان هناك من ميثولوجيا عربية معاصرة لعبرة لأولو الالباب، فالميثولوجيا تبقى ميثولوجيا سواء عبرت عن مجموعة الأساطير والكتابات الميثولوجية المتعلقة بكائنات فوق الطبيعة، والبشر الكاملين، أو عبّرت عن دراسة وتفسير هذه الأساطير بما يسمج من أخذ العبرة ــ إن الرب قد طغى على عباده جاعلا إياهم لا يتخلون عن عبادته وحده وترك ما يوسوس به إليهم الشيطان كما أن هذا الأخير طغى هو الآخر وتجبّر لما قال لهم اعبدوني واتركوا الله وسترون كيف تفلحون، أولم نقل أن العلم لم يقدر على هد مملكة الإيمان اليهودي عندما تمكن من هد مملكة الايمان المسيحي والإسلامي، ذلك لأن اليهود وحدهم من نصرو الشيطان وقبلوا طغيانه، لذلك أعطاهم الشيطان لما اتّبعوه نافلة العلم التي أضاءت لهم طريق الدنيا وأكثر من ذلك طرقا للنجاة بقيت في ميثولوجيا غيرهم غامضة، كيف لا وقد توصل علماؤهم أنه لا يجوز أن يطغى إلهان اثنان على نفس عبادهم المتشابهون فيما بينهم، فذلك إنما يعني بطلان مفهوم واحدية الايمان أو التوحيد في الميثولوجيا غير اليهودية المعاصرة، وربما الشيطان هو من أعلم عباده بأنهم مخيرين وغير مسيرين، وتركهم ينصرونهم دونما اضطهاد، تركهم بكل ديمقراطية متبعين غريزة الحرية فيهم فأفلحوا في دنياهم، رافعين في الوقت نفسه الثوب عن الميثولوجيا المعاصرة لتظهر عيوبها.. ولو أن الله رأى في العلم ما يهد مملكة الايمان الإسلامية والمسيحية لجندل الشيطان كما تجندل آلهة الأوليمب الاثنا عشر غيرهم من الآلهة الذين سكنوا العالم السفلي لكنه لم يرِ ذلك. 

  إذن العلم، قال صوت هامس في أذن الطبيعة لم يسمعه سوى المتأملون، سرعان ما استحال رنينا في أذنه جعله يلتفت يمينا وشمالا، كالموسوس أو كباحث إثر ما استبد به عن النور لظلمة، أو عصا حق يتكـأ بها ضد جبروت، بل ري لجفاف ويبس يقهر به الظلم، فقال بصوت جهوري كما يفعل العرب حينما يستغفرون: ألا صدقت أيها الشعر لو قلت:  العلم نور يستضاء به       سيف من سيوف الشيطان مسلول.

  فعلا فإن هناك كلمات حُمّلت بدلالات سلبية مثل كلمة الوسواس الملتبسة بكلمة الشك المنهجي في بعض الثقافات المنغلقة على نفسها، وإلى مثل ذلك كلمات: التأويل، التدين، والتعدد.. وجميعها تشي عن بِنية المجتمعات والحضارات في وجود شيطان العلم بإزاء الرّب المعبود، ولعلنا نجد عند علماء لغة أنصار هذا الرّب المقابل للشيطان، شيطان العلم، قد عكفوا جاهدين للإحاطة بتعريف جامع مانع لكلمة مجنون، وهم بذلك لا يريد من وراء ذلك فقها باللغة إلا ذريعةً، لأنها مادة مكرّرة، فقد نقلوها عن قواميس ومعاجم عدة أُلفت قبلهم، لكنهم يريدون الإشارة إلى أن قيمة الشك العلمي في اللغويات أو في الفقهيات قيمة جنية بدعية وعمل من أعمال الوسواس الشيطاني، لا قريحة فنية وإبداعية من لدن فكر الشاعر أو تجربة العالم، فكيف بمن لا يعترف بالإلهام الشعري معتبرا إياه وسوسة نفس في ذلك الوقت بأن يكون مفسرا لأحكام الكتاب بما يُضفيه الشاعر والناقد للشعرعلى المفسّر في أنفسهم؟!

   وإذا ما كان الشيطان أوحى لليهود بأن يكونوا يهودا فيرتفعوا عن غيرهم عن باقي البشر، فهل هو من يوسوس الآن ــ وفي كل حين ــ في أذْن الدول التي تشهد مروقا او إرهابا أو قلاقل سياسية سميها ما شئت، وخذ أندونيسيا، هذا الأرخبيل الواسع في جنوب شرق آسيا أصبح يجمع بين مجتمع الأغنياء ومجتمع الطبقات الشعبية المكدسة فوق بعضها البعض في وفاق مستحيل كعلب السردين، في ظل ما أقدم عليه من اقتصادٍ للسوق، تزايدت الهوة الاقتصادية والحضارية بين طبقات الدولة الأكبر في العالم الإسلامي فضلا عما كان أصلا بين مجتمع الشمال ومجتمع الجنوب من شقاق جعلها تسارع إلى منح تيمور الشرقية استقلالها. لا بل عندما تفكر بجد عن التخلي عن موروثها القرو سطي لا يكون ذلك سوى عمل من أعمال الوسواس الشيطاني ــ أقصد ــ وسواس العلم.

  ولعلّ ما في بِنية الحضارة المعاصرة ما يجعلها نقيض التخلف ماديا وفكريا/ذهنيا، لا تؤمن بالركون والجمود أبدا، لأنها بنية تجمع الميثيك والإيثيك من طرف وبين الإستيتيك من طرف آخر، وهذا الأخير سمة من سمات شيطان العلم، والعكس بالعكس، هو سمة إنسانية لا سمة حيوانية، لا عقلية لدى الغرب المتكئ على الإرث اليهودي في بعض أصوله لأنه يعتبر اليهود هم ملائكة الشيطان، شيطان العلم، لا يعصونه ما أمرهم، والمجتمع الذي لا يوظف ذخائر الطبيعية وكنوزها للنهوض من علوقه في سلم التاريخ الذي لا يرحم من علق به، سيسقط سقطة مميتة حتما لذلكم فإن أول من أدرك أضحوكة مقولة بوتين فلاديمير بأن الغرب سرق كنوز إفريقيا ليصنع رفاهيته هم الإندونيسيين الذين لم يسرقهم لا العرب ولا البرتغاليين ولا العالم الجديد، فمن سرق انعطافهم نحو الانطلاقة غير الغلال الموضوعة في ارجل شيطان العلم؟ 

   وبِنية الحضارة تفترض أن الأفارقة والعرب إذا لم يتركوا الغرب ينهبهم {إذا صحّت مقولة النهب بدل مقولة الانكفاء عن العمل فمن سيستبدل بهؤلاء الذين لا يعملون ولا ينشطون وهم خاملين راضين بوضعهم مطمئنين على حالهم غير الشيطان، شيطان الحركة والتجريب من ذلك التجريب الوقوع في مهاوي الشر} لا يستفيدوا اليوم من منجزاته العلمية والتكنولوجيا الحديثة، ولكنهم يستفيدون، ونخشى أنّ باسم هذه المسلمة سيترك الإندونيسيين تراثهم القروسطي وراء ظهورهم ويحفظوه في متاحفهم منطلقين صوب المستقبل، كما فعل اليابان، وقد شهدنا في مواقع التواصل الاجتماعي نوع من الاحتقار متزايد لطبقة الأغنياء التي تتعامل يوميا مع الطبقة الشعبية فتزدريها في موضوع تخلفها بلغة الوعظ من مهالك الشيطان شيطان العلم.

   إندونيسيا بلاد أخذت ردحا بالخطابة، وليست بخطابة من ظل تاريخه يحاول اقناعنا بخلو تاريخ أهل المغرب العربي الأدبي من الأدب الواقعي، وكل ما رافقه من نقد تقليدي راجع إلى إشكاليته اللغوية، ولعل خلوه من وهج هوية لغوية عربية راجع بدوره إلى ضعف هويته العربية التي لا تقاس بالمكون الديني فحسب بل أيضا بالانتساب إلى هوية لسانية صريحة، بل هي خطابة سماحة القول إما بحد السيف لما غزاها التجار العرب كفاتحين ناشرين الدين الجديد، مبشرين به، حاملين هداياهم في يد وكتاب الله في يد يسندهم حرسهم وجندهم توغلوا إلى هذا الأرخبيل القصي الذي هو اقصى مدى تصله فيالق الفاتحين العرب مهما كانت صفتها من جهة الشرق وعن طريق التبشير بالمقابل المادي الذي هو شبيه بسياسة الرسول مع المؤلفة قلوبهم، ولعله من المفروض أن يرفض بعض الإندونيسيين العرض لو كانوا من أتباع اليهودية أو المسيحية أو البوذية ولحسن الحظ كان أتباع هذه الديانات فيه يحسب على أصابع اليد، وإلا فانهم بقادرين على تنظيم انفسهم بعزيمة الشرق لإخراج "العدو" من بلادهم كما فعل الإسبان، ولا يصدّق الواحد اليوم كيف خرج العرب من الأندلس مع أنهم قوم عتاه في حمل السيف وترهيب أعدائهم، خذ مثلا تاريخ فرنسا في الجزائر عندما كانت حقوق الانسان غائبة.

  في عهد بوعمامة اتّخذ أسلوب الذبح وقطع الرؤوس من الطرفين المقاومين والجيش الفرنسي أسلوبا همجيا وحشيا لا يخطر ببال عاقل وكذلك الأمر أثناء حروب الاسترداد، فقد اتبعت الملكة اليزابيت نفس أسلوب العرب الذين دخلوا به إلى الجزيرة الإيبيرية وبسط نفوذهم فيها، وهو الذبح وقطع الرؤوس وبكل برودة دم (تدريب مجموعات مختصة في الذبح والقطع) غير أنه بعدما ظهرت مواثيق الأمم المتحدة في هذا الشأن ترفعت فرنسا عن هذه الأفعال الشنيعة، وكانت قادرة على ترهيب جيش التحرير الوطني هي أيضا بالذبح والقطع غير أنه ليس فقط الظروف الدولية هي التي تغيرت لكن زحف العلم على الأيديولوجيا وقهره لها، جعل من اليسير معرفة أن الأسلوب الوحشي هو أول سمة عن ضعف صاحبه، ناهيك عن عدم أحقية صاحبه بالمطالب التي يسعى إليها بتلكم الوحشية الحيوانية تماما.

   وأخيرا وليس آخرا عبرة العِبر في خطاب الهمسة الأخيرة لتُطوى الصحيفة بعد ذلك في وجه عبدها الفقير: فاليوم تمّ الوحي وكمُل أقدس خطاب؛ فخالق الكون هو أحق قاض بين مخلوقاته. ولن تستطع قوة في هذا الكون أن تستعبد عبدها المزارع باسم الكتاب، وقل لهم إذا رجعوا سأموت وتموتون ويُرفع الحجاب ويتبين الحق من الباطل أمامنا جميعا.

   وعن حديث الظبي والقبرة والإسوار وابن آوى كانت عبرة العبرات وآخر الهمسات، كعسل من الشهد متقاطر: حيث كان هناك ظبي يرعى العشب الطازج الجميل قرب غدير صغير على أطراف الغابة لكنه كان يسرع القضم كلما اقترب من الغدير فسألته قبّرة كانت على الشجرة تراقب عشها المدسوس بين الأعشاب عند ضفة الغدير، فقال لها بصوت فيه اعتزاز بالقوة أن طيب أعشاب الضفة الطويلة يحتّم عليه ذلك فما ألذّها من أعشاب، أعشاب ضفة النهر.

  استشعرت القبّرة خطرا داهم يترصدها فذهبت مسرعة إلى ابن آوى متوسلة إياه ان يبعد الظبي عن عشها بمقابل حتى لا يكشفه للأعداء فردّ عليها أن لا سلطة له على معشر الغزلان، ونصحها بطلب الذئب، لكن القبرة لقيت في طريقها حطابا حسبته إسوارا، ولكنه كان مجرد حطابا يحمل زوادته على ظهره، ولمّا وقفت حياله على غصن الشجرة بدأت ترفرف وتصفق بجناحيها لم يدرك قصدها لكنه تحسّر في تفريطه بقوسه ونُشابه لكنه أخرج سكينه وحاول صنع نشابا مثقفا يتمكن به من القبرة، ولما تأكدت القبرة من أنا الحطاب أتم صناعة سلاحه ابتعدت حيث الظبي الظالم فجاءه الحطاب الإسوار وأصابه إصابة قاتلة، لكنه كان طماعا كعادة البشر فلم يقنع بصيده الثمين وحاول التفتيش عن القبرة التي رآها تتوغل داخل حشائش ضفة النهر فوضع قدمه في موضع وحل جذبه بعيدا عن الضفة حيث العمق مؤكد، فغرق المسكين في النهر لما توهم أنه مجرد غدير ضحل. 

 بوزيان bouziane
بواسطة : بوزيان bouziane
موقع تنويري فكري وشبه أكاديمي، يتغيا تقديم إضافات نقدية تخص تحليل الخطابات الثقافية ونظرية النقد والأدب متوسلا بجماليات التلقي والنقد الثقافي، كما يعنى بنشر إبداع قصصي جديد ليس له ما يماثله على الساحة الجزائرية، والمقال المتناول للشؤون السياسية والإعلامية والاجتماعية المقاربة للظاهرة الأدبية والمحاكية المكملة لها.
تعليقات