القائمة الرئيسية

الصفحات

الوليّ بالْوَا يعود باحثا عن وطنه المفقود.

بوزيان bouziane


الوليّ بالْوَا يعود باحثا عن وطنه المفقود

 

    نزل الوليّ بالْوَا من على ظهر دابته ليصلي صلاة شكر الله بعد أن عبر الحدود الشرقية سالما عائدا إلى وطنه الذي نسيه كل هذه السنوات كما ينسى المرء نفسه أثناء الصلاة، وظلّ الولي طول الوقت يردد ما اعتاد طول رحلته ترديده "باسم الله مجراها وممشاها" وكان بإزائه صبية القرية يتحلّقون كرا وفرا فاقترب من أحدهم سائلا:

 ــ  يا ولد ما اسم قريتكم؟  فرد الولد:  ــ  قرية "سيدي مظلوم"

ــ  "سِيدك مظلوم!؟" (يا علاّم الغُيوب يا غَفار الذنُوب يا سَتار الْعُيوب) ومن هو سيدك المظلوم هذا؟

تعجّب الولد من هذا السؤال ورد بسرعة: ــ لا أعرف.

ــ  حسنا، وهل هو شهيد مثلا؟

ــ  قلت لك لا أعرف.

   حكّ الوليّ بالْوَا رأسه من الدهشة (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا) ثم مدّ يده إلى جيبه وأعطى الولد 50 دينارا ثم مضى متقدما شاقا الفيافي ثانية إلى أن أدركه حر فنزل ووضع يده في الشواري وأخرج منه فراشا ناصع البياض ونفضه في الجو حتى انتصب خيمة استرجع تحت ظلّها بعض راحته، وما كاد يغمض عيناه حتى أتاه طعام إكرام عابر السبيل، يحمله شقيق الولد الأكبر وعجوز من ورائه تحمل طاسا من الماء البارد، أكل الولي هنيئا مريئا ثم شرب من يد العجوز وهزّ البرنس الذي كان يفترشه وتمكن الولي سيدي بالْوَا من أن يُفرغ بقية الماء في قربته الصغيرة دون أن تلاحظ العجوز ذلك، ثم دعا لهم بالخير والفلاح وعندما وصلت إلى منزلها وجدت القلّة مملوءة لبنا.

     وهو صاعد إلى وطنه البحري عن طريق وطنه القبلي تساءل الولي بالْوَا عمّا إذا كانت القرى التي مرّ بها، وتحمل كلها اسم أولاد فلان أو أولاد علان كانت قد تضررت أكثر من غيرها جراء الفتن الأخيرة التي أصابت البلاد والعباد لأن العبوس المرتسم على الوجود يدل على ذلك، إن لم يدل على احتباس السماء عنهم، وهذا ما جعل الولي بالْوَا ينسى كلية أن يبتاع شيئا من الأسواق التي مرّ بها لدابته، غير أنه لم ينس ولم يتناسى فوران الأسئلة في رأسه الذي تلفّه عمامة خضراء كبيرة، كسؤال ذلك الرجل البدوي الرُوجي له: ــ اعطني ممّا أعطاك الله. (ليتأمل الوليّ فيه مليا)

   وكان الولي قد ردّ عليه قائلا: ــ ليست لي معونة كافية تبلغني وطني البحري يا هذا. لكن ما منعك من العمل وأنت فيما أرى سليمٌ معافى؟ على كل حال خطرت لي فكرة، هيا بنا إلى السوق اشتري لك حمارا ودلاء تملؤها ماءا شروبا ثم تبيعه للناس فتكسب به قوتك. لكن البدوي تلكأ وتباطأ في مشيته بعد ذلك ثم خدعه فرجع بالحمار والدلاء وباعها ثانية ثم اختفى عن الأنظار والقرية معا، كأنه يقيم حيث يقيم الشنفرى وعصابته.

   وخاطرا آخر خطر للولي مفاده أن السّي الرُّوجي قد خدعه فعلا غير الخاطر الذي أرّقه دهرا بعد دهر وجعله يشطح، بل جعله يرتقي معارج الكشف (كان وطني المفقود طيلة عشر قرون ونيف يُنعِم المنطقة بالحرية والأمن والأمان، لكن منذ أن افتقدناه في العشر قرون التالية لم تعش شمال افريقيا بعده غير الغارات والحروب المدمرة الفتاكة أو في أحسن الأحوال المؤامرات والدسائس الحاقدة الدفينة والذلولة، فلماذا لم تغر هذه المفارقة أحدا من الأولياء غيري للبحث عن وطنه العزيز؟!!) وسمع إثره أثيرا أتاه من بعيد، من فلاة يقال لها فلاة بني هجرس وصله هامسا في أذنيه (أنا أكره الناس أكثر ممّا تكرههم، فكيف أضل بقربهم أخدمهم كما يخدم الغلام سيده، ثم إن روح الله التي ترف على المياه ستقف حائلا بيني وبينهم) فتمثّل للوليّ شيطان البدوي فحادثه محادثة المرابطين للنصارى المخادعين الخائنين لوطنهم:

ــ  ومن قال لك أنني أكره الناس؟

ــ  غيبتك الطويلة تقول أنّك تُضمر عداوة لأهل هذا البلد!

ــ  لا، حاشا، بل سولّت لك نفسك، ثم تلا الولي قوله (واللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دابَّةٍ مِن ماءٍ فَمِنهم مَن يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ ومِنهم مَن يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ ومِنهم مَن يَمْشِي عَلى أرْبَعٍ) وهو يستغفر ربّه ثم مضى من أمام خيال نفسه بخطوات تحسب كأنها ريح مرسلة، فلم يكد الرجل الخيال يجلس حتى كانت دابة الولي اختفت به في أفق موغل في سرابيته، تاركا هويته العميقة مذهولة لم تدر أنّ ما شاهدته سحر مبين أو اتصال بعالم الجن، لكن الولي بالْوَا مضى فحطّ كما تحط القطاة ببر خال فيحلو له ثمره وحبُّه.

   وشاء أم أبى كان كل خطو يخطوه الولي بالْوَا نحو وطنه البحري عبر وطنه القبلي حلو باستعادة ذكريات الطفولة الحلوة، واسترجاعٍ لِأفكار الغربة النافعة ليربط بينها فيهتدِ بسرعة إلى فكرة عبقرية، لكن لا من فئران تجارب ليجرّب فكرته العلمية عليهم إلا أن يعمّر طويلا فيختبرها بنفسه أينما حل وارتحل، أجل وقد عمّر ما شاء له ربُّه أن يعمّر، فاختبر فعلا بعد أن جاس شرق ستان عبر غرب ستان، وهند ستان عبر خرسان كذا من مرة في حلّه وترحاله شعوبا هي أعرف الشعوب العجمية قاطبة باللغة العربية: ويمكن أن تكون النظرية العلمية اللغوية، والتي تخص لغتنا العربية، فرضا أننا بعد أن نعثر على وطننا المفقود نعثر عليه عجميا، فتكون نظريتنا اللغوية أداةً للتغلّب على مشاكل إقامة هوية هذا الوطن الذي نفتقده ويفتقده العالم الحر، بل وحتى العالم السفلي افتقده أيضا، ولم نتوصل إليها عندما توصلنا إليها إلا نظرية عملية، فهي مرتبطة برحلتنا العلمية الشاقة شرقا وغربا، وهو كذلك، ولو اذّاك وجدنا وطننا المفقود الذي نبحث عنه في شمال افريقيةَ، من سِرت حتى الرباط، لهان الأمر وأقمنا فيه بقية حياتنا، نُعلّم النشء ونقيم مجد الآلهة على الأرض، ذلك أن وطننا المفقود عجمي حقا في لغته، ولا تتحقق معرفته باللغة العربية إلا كمعرفة الفرس بها، وذلك لعمري خير من التلفيق والتزييف الذي خلقه أهل شمال افريقية الحاليون فيه، ورعاه ساستهم إيذانا بسرقة الحضارة بعد سرقة أوطان الناس الأحرار. ليت شعري، فلماذا لم تُفتقد مملكة فارس ولا مملكة الترك ولا مملكة أرض الصومال بعد الفتح، وهي كلها على مرمى حجر من عواصم الخلافة الإسلامية، بينما افتُقدت مملكة نوميديا في شمال إفريقيا!

  إلا أن يكون في هوية شمال افريقيّة ترياقه وهو لا يدري، شُعلة العقلانية والحرية والديمقراطية؛ الحل الجذري لجميع مشكلاته الحالية، فبالديمقراطية وحدها ينتهي أكبر فساد عرفه تاريخ البشرية بانتهاء المُفسد الذي نُصب لمحاربة الفساد! وينتهي استقواء القوي على الضعيف بضمّه إليه باسم حقوق الإنسان! من دون الحديث عن أمراض قلوب أهله الاجتماعية، التي تقف حجر عثرة الاندماج في المجتمع الدولي. أجل، إن في الهوية الدواء للداء، والأصول الأمازيغية البربرية لوطننا هي الهوية التي لا بديل ولا محيد عنها، وتشكل تلك الأصول بالنسبة للزيف القائم حاليا في شمال افريقيا رابطة مصاهرة وقرابة أبناء العمومة وأبناء الأخوال، إن عاد إليها نجا كما نجت أوروبا من غياهب العصور الوسطى لما استمسكوا بعروتهم الحقة، وهي بهويتهم الحقة، هوية أبناء عمومتهم وأبناء أخوالهم مِن الإغريق، أما العقلانية فجعلت من الدين أمرا ممكنا لدى هؤلاء الشعوب ـ لذلكم ارتضينا نحن العبد الضعيف أن نحمل زادا وجدانيا  ـ  ولم تجعل منه أمرا ممكنا في ذات النبي محمد (ص) الذي كانت تفوح منه رائحة المسلك الوجداني الإلهي الذاتي، ولكنه أنكرها كما تنكر النفس سقطاتها كيما لا يقع عباده بعده في سقطاتها المتوهة، جاعلا الأهم منها سلوكيات الوحي الاجتماعية، وهذا المنطق لا يخرج عن المنطق الهيجلي الحديث في تخريج الأيديولوجيا. أو إلا أن يكون هناك وقائع تاريخية أخفاها آخر الفاتحين عن التاريخ نفسه، بعدما مُحي وطننا من الوجود، وأحلت فلول جيوش التغريبة الهلالية بدله، عبيد الجزيرة العربية وأرض الكنانة وقطاع طرقهما ومرتزقتهما طوعا وأوصَوهم بعد أن أوصلوهم إلى هناك، أن يكونوا لمحاولة نهضة وطننا المفقود بالمرصاد.

    ألا فتبًا لكِ وألفُ تب أيّتها الحداثة المفبركة، وخسئتِ إلى يوم يبعثون، ثم تلا نص نظريته تلك: [قل إنهم لن يصيبوا لا حداثة ولن ينتفعوا بتقليد، نتيجة عدم اعترافهم بهويتهم الحقيقية الأكثر من ضرورية في بناء أي حضارة إنسانية على وجه البسيطة.. فإنه لا تتحقق أي حضارة إلا بهويتها أولا: سنسترجع الوطن المفقود، وثانيا سنبنيه بناءً صحيحا على قاعدة متينة، وهي قاعدة الهوية المشتركة وسنتدافع مع غُرَمائنا، وهم مَن يحاولون أن يبنوه برؤية ثقافية مستوردة، وتلك سنة الحضارة التدافع الثقافي لا الإقصاء والإسكات والتهميش] ثم زاد أن فسّر نظريته فقال:

ــ صحيح أن اللغة ثقافة وهي لا تتطور وتتحول إلا كما تتحول الثقافة بتطور وسائل العيش، ومن خلال احتكاكها بالثقافات الأخرى كذلك، لكن لا تتخلى اللغة عن تراثها البلاغي الجاثم فوقها إذا كان السياسي هو من يعقِل الثقافة بذلك التراث ولا يجعله تراثا خاصا بالأفراد كما في حالة الثقافة الغربية، فمهما حاولوا باللغة العربية تبسيطا وتقعيدا علميا، تهجينا وتوليدا واصطلاحية، تبقى حبلى بخطاب لا يفتأ يتحول أبدا، فلو لم يكن هناك سياسيون عملوا على هذا الربط لتحولت اللغة العربية مثلها مثل اللغات الحية وتخلصت من بلاغة القرون الوسطى، كون اللغة تتحول بتحول ثقافة المجتمع بعمومه (ولو كان ذلك ببطء، وتلك سنة الحياة، لا شيء ثابت)

   واللغة لا تتحول بإرادة الأفراد بين عشية وضحاها، كما يعتقد هؤلاء المنتقصون في لغتهم الفاقدون لهويتهم اللغوية بالنسبة إلى ذلك المجتمع الذي أراد ساسته أن تبقى رابطته القومية قوية مع أشقائه العرب، ولا تكون كذلك إلا وهي قوية بين الدين والمجتمع، فيغدو ذلك المجتمع المحافظ على هويته اللغوية الهجينة مجتمعا تقليديا، ونقصد به مجتمع المغرب العربي بالنسبة للمشرق العربي بلا شك، فالحداثة تُبنى على التقليد المادي، أي اللغة الأصيلة، ولا تُبنى على التقليد الفكري، لأنها إن فعلت ذلك التفت على نفسها وأصبحت تقليدا، وإذا كانت الحرية والعقلانية والتنوير والديمقراطية (العدل والمساواة) مبادئ الحداثة الرئيسة، فإن مبادئ التقليد الفرعية المادية في الهوية، والتي هي ضياع الهوية اللغوية وضياع السيادة على الحدود الترابية والأبوية البيولوجية تُركِن وتَرهَن المبدأ الرئيسي للتقليد ألا وهو الأيديولوجيا الفكرية وتزكي الأبوية البيولوجية عندما تنتقل إلى مؤسسات الدولة، من الممارسات الاجتماعية اليومية بين أفراد الشعب، فيعتري النظام السياسي سلطوية مزكّاة من هذا النظام الأبوي البيولوجي، فيرى حينئذ المعلم والأستاذ اللذان يعلّمان النشء وجوب طاعة التوجه السياسي والاقتصادي والديني طاعة لا نقاش فيها، لأنها سياسة مكتملة، لا بعدها ولا قبلها، وأنه الدين المختار المطلق الشامل، لك وللإنسانية جمعاء، فماذا يمثل رأيك وفكرتك أنت؟ ها؟ ماذا تمثل أنت للنظام الأبوي من الابتدائية إلى البحث العلمي، لا تمثل منذ أن تأتي الى الحياة ألا كونك فطرة وتهجين على الأمر الواقع جديدين، عليك أن تأخُذ ما يُعلّم ويقال لك في المدرسة مسلما مكتفا؛ حتى وإن كان ما يقال لك يخالف العقلانية والتنوير، وهكذا تنشأ السلطوية ويقيم التقليد بين ظهراني الحداثة، ولكننا لا يمكن أن ندعو ذلك تقليدا ولا حداثة في حالة المغرب العربي، في نظري الشّخصي، لأن هناك تقليد فكري يستعمل أدوات حداثية مادية إيهاما بأنه لا حداثة إلا ما يرضاه لنا المطلق المكتمل دينا وسياسة، بل إنه نوع من التخلف يصيب المجتمعات، ويحتاج إلى وعي اجتماعي مدني فعّال وقوي حتى يعود إلى كل شيء مجراه الطبيعي.

    فلا هو محمد مفتاح، ولا حميد لحمداني، ولا هو عبد الرحمن الحاج صالح، ولا هو سعيد بنكراد، ولا هو محمد خطابي مخول لهم في خِضم هذه الحالة، الحديث عن تحول اللغة العربية محاكاة للحالة الفرنسية، الحالة التي لم يتدخل فيها الأفراد، ولكن تدخل فيها المجتمع واضعا جانبا التراث الخطابي اللغوي السردي والكنسي القديم وصار إلى عيش عصره، فصار إلى ما صار إليه من تحول طبيعي وفي جميع العلوم حتى اللغوية الشديدة الارتباط بالنفس البشرية، ولكن هنام تيار من الوعي يجري بعكس الوعي الطبيعي في الإنسان، الذي هو تصور متهور وفيه نوع من أنانية الذات المنتقصة انتقاصا هوياتيا لغويا واضحا.

   ثم تأوّه الولي تأوُّها عميقا وشدّ على عمامته الخضراء بكلتا قبضتيه متحسرا وزاد راكعا تحت دابته كأنه أصيب بمغص مفاجئ، أو أنه يريد أن يرضع من دابته حليبا طازجا، لكنه في الحقيقة كان يفعل ذلك اختباءً من اللصوص الذين بانوا له من بعيد يجوبون الفلاة، وإثرها تذكر آيتين خفيفتين على اللسان ثقيلتان في الميزان: "وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا" ولكن اللصوص ظلوا يقتربون حتى أدركوه وما من مفر:

ـــ (يا علاّم الغُيوب يا غَفار الذنُوب يا سَتار الْعُيوب) إنهم مدججين بالأسلحة أخشى أنهم من أتباع عقبة ابن نافع أو من أتباع كُسيلة. قال الوليّ وتخيّل وهم على بعد نصف ميل تقريبا أن زعيمهم سيجرّد سيفه ويعطيه له ثم يأمره بمنازلة أمهر فارس في مجموعته، وتمتم بعد أن زال عنه الخوف: ــ  لِما الخوف إذا كنت أنا من نال من ريكارد قلب الأسد. وكان ريتشارد قلب الأسد نفسه حقا قد طلب في أحد تمارينه رجلا أعرابيا فلم يجد جنوده غيره الولّي بالوا، فمارنه قلب الأسد نهارا كاملا حتى هدّهما التّعب معا، ولم يُحدِث به خشةً واحدة، فطلب له فرسا وأمر جنوده بإبعاده عن المنطقة فورا لأن الشخص كما قال ليس من معشر الإنس.

ولحسن حظّهم لم يفعل زعيمهم ذلك لكن تقدم قائلا (حيّتك آلهتنا) فرد الولي بالْوَا: ــــ وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته... (ثم كأنه وميض ذاك السؤال المحيّر ثانيةً وهو يُشعل ذاكرته ربما استجابةً للتحية المهذبة: ــ  كان وطني المفقود طيلة عشرة قرون ونيف يُنعِم المنطقة بالحرية والأمن والأمان، لكن منذ أن افتقدناه في العشرة قرون التالية لم تنعم شمال افريقيا بعده بغير الغارات والحروب المدمرة الفتاكة أو في أحسن الأحوال بالمؤامرات والدسائس الحاقدة الدفينة والذلولة، فلماذا لم تغري هذه المفارقة أحدا من الأولياء غيري للبحث عن وطنه العزيز؟!!) وظل ذلك السؤال يخترق ذاكرته، كالبرق يُبرق مخه وعلى حين غرة، فيحفزه للدفاع عن نفسه ولا يحفزه، حتى قطَعه صوت زعيمهم:

ــ  ماذا دهاك؟ من أين أنت قادم وإلى أين أنت قافل؟

ــ  من بلاد عباد الرحمن راجع إلى بلاد أوراغ.

ــ  حجًا مبرورا وذنبا مغفورا.

فتقدم إليه أحدا مرحبا، مخاطبا إياه بلغة أعجمية لم يفهمها الولي.

فقال له الولي: ــ  لا، كلِمني بالعربية فقد نسيت لغتي لطول ما تغرّبت عن الوطن.

ــ  وأين طالبت غيبتك عنا يا سيدنا الوالي؟

ــ   التاريخ لا يرحم وهو خير معلم، طلبته لأتعلم شيئين اثنين فقط، وهما العقلانية والديمقراطية فلم يكن لي ذلك إلا بعد أن غرقت فيه إلى الثمالة، أما العقلانية فتعلمتُها من على أيدي أصحابها: أفلاطون، وسولون، وجورج واشنطن، والملك جون وكارب بوبر وأنطوني داونز، ولم أستغني عن حكمة حكماء الشرق كلهم منهم كونفوشيوس ونياجاسانا. أجل، فقد عدت إلى أم معارك التاريخ: القادسية وحطّين كيما اهتدي إلى وطني الضائع، عدتُ والمعركة حامية الوطيس بين عرمرم ريتشارد قلب الأسد وبين جيوش صلاح الدين الأيوبي لِأتَّكِئ عليها وآخذ عبرتها أشيدُ منها فكرةً صفراء، كما عدت لحادثة فتنة سقيفة بني ساعدة التي كادت أن تقضي على مشروع المسلمين في المهد، وكان أبطالها الأنصار والمهاجرين، وعدت لحادثة غزو هولاكو لبغداد العام 1258 وخبرت ما خبرت من قوة الإسلام ضد من يسميهم الكفار، وأنا اليوم أخاف عليه منهم، لو هي انتهت عدالة وحرية الغرب فجأة فإن الاسلام سينتهي وراؤه بسرعة البرق، تتكالب عليه الشعوب الحاقدة، تكالب كلاب مكلوبة فتمزقه إربا اِربا، لشدة وطول ما كتمته من إهانة لحقته منه من عهد أبو العباس الناصر لدين الله إلى عهد القاعدة وداعش، تماما كما فعل به المغول والتتار، أما أهم الحوادث التي شهدتُها على الإطلاق فكانت حادثة بيع العز بن عبد السلام للمماليك، وقد وجدته صدفة نائما بواد غير ذي زرع، شأنه شأن الأولياء والصالحين فسألته بعد أن سلمت عليه: ــ كيف لا تخاف من النوم في مكان مثل هذا؟ فردّ بسمت العلماء كعهده قائلا: ــ أما إذا كنت تقصد الخوف من الجبروت، فقد خلصنا الله من سيف الدين قطز، وأما إذا كنت تعني قطاع الطرق ومعشر الجن والغيلان، ففي فؤادنا من إيمان ما يزلزل كيانهم ويزيد. وقبل أن أنطلق مودعا زفّ قائلا: لا تنس عن تبلّغ عن مآثر الإسلام، وأبلِغ أهلنا في شمال افريقية سلامنا (فقلت في نفسي حتى أجدهم أولا، فنحن قد ضيعناهم كما ضيّع العباسيون مُلكهم)

   وغير بعيد تأوّه الولي لنسيانه الآية الثانية فقال (يا علاّم الغُيوب يا غَفار الذنُوب يا سَتار الْعُيوب) فتذكر لتوه قوله: " فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ . أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ، وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور ِ. وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ ۚ وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ" ليخرج بتأملهما مليا بنظريته العلمية، وقد جرّته إلى حادثة ذلك العالم العربي المزيّف، وتطبيقا لأوامر ساسته المزيفين اِختار أن يبرهن على عدم جدارة العرب بما توصل إليه الغرب من ابتكارات علمية وتكنولوجية غاية في التطور، فقال لرفقته من الباحثين الغربيين أن عالم النوترون الرابع ذي الوزن ويدعى بالكوارك، كونه مسؤولا عن لا مرئية العوالم المختفية من هذا الكون، ويمكن بتوليده على الأرض، وهو أمر مستحيل عمليا، اختراق المادة والأشياء وكأنه شبح، وبذلك ينكشف آليا العالم السفلي، فقال لهم بالعبارة الواحدة شريك بحثهم العربي (أنّ ذلك ممكن) فقالوا له كيف ويحك أخبرنا؟ فقال لهم: عن طريق كلام الله في كتابه العزيز أوَنسيتُم قوله: "منهم فريق من الإنس ومن هم فريق من الجن" والجن ليس عالما لا مرئيا لكنه علم مختفي عن الأنظار لحكمة إلهية. فقالوا له بكلمة واحدة:

 ــ دع عنك هذا يا شريكنا العربي، نحن لا نخلط العلم المطلق الذي يقف مسلما مكتفا أمام المقدس مع النظرية العلمية النسبية، والتي تنقد نفسها باستمرار، فإذا فعلنا ذلك معناه وصولنا إلى غايتنا وبوصولنا إلى غايتنا، يكون قد انتهى العلم وانتهى كل شيء يدل على إنسان، وتحول الإنسان إلى مثاقفة الآلهة وتراثها، أي انتكس إلى عصره الأسطوري والخرافي ثانية فدع عنك مشكورا هذا ولا تحدثنا به مرة أخرى..

  ..وإلى ما اِنتهى إليه الولي بالْوِا من تفكير عميق في شأن بلاده الضائعة، في غياهب شمال افريقية المظلمة في أيامنا وفي جميع الأيام، انتهى إليه أيضا مجموعة من الجن كان قد لمحها الولي على حين غرة وهي تعبر واد أبي سعادة، ذلك الواد المشهور بقذارته، فنفض الولي بيده وسجد سجدة أبعدتهم عنه، وبذلك كان الولي بالْوا كلما اختُبِر في علومه المادية من قبل العالم السفلي، عرف كيف يخرج سالما من عالمهم الموحش المبغض لآلهة أهل الكتاب، فهم أرادوا أن يصاحبوه ظنا منهم أنه ملحد وشيطاني باكتسابه العلوم المادية مثلهم، لكن هيهات، كان الولي بالْوَا وليا متمتعا بحكمة بشرية غريبة لا يعرف حق قدرها إلا كبار وعظماء الفلاسفة الذين صادفهم، حيث كلما أحسّ بجني يتربص به تلى الآية واسترجع في الوقت ذاته منافعه التي جمعته: بآلان دانييلو، وأمبرتو إيكو، وأشعيا برلين‏، وألفريد وايتهايد، وهايدجر‏، وشانغ يانغ، وربندرانات طاغور‏‏، وفريدريش فون هايك‏، وجوته، والمهاتما غاندي‏، وماو تسي تونغ‏‏، ووالتر بنيامين‏، وفريديريك إنجلز وجاك دريدا ونعوم تشومسكي وغيرهم كثير. فزاده ذلك قوةً.

  بل أنّ أحدهم وكان في قمة عنفوان شبابه اندفع به غروره وفضوله الجني غير المحدود فتبع الولي بالْوَا كظله كي يغويه فيستحق عنه ترقية من لدن رأس قبيلته المقيمة في قبيلة واد أبي سعادة القذر، ولحظة أفرش الولي في الفيف للاستراحة التمس زوادة الطعام لكن لم يكن فيها غير بضع حبات من التمر، إذن عليه أن يطرق بيتا من بيوت أعراب البدو المنتشرة في الحياض ليأخذ فطوره، وما كاد يستدير ليربط دابته حتى بدأ الجني الشاب يتربص بالولي.. أولا ظهر له في شكل راع فقير مناديا إياه: ــ  يا أخ العرب يا أخ العرب أوَلك حاجة أؤديها لك؟

ــ (يا علاّم الغُيوب يا غَفار الذنُوب يا سَتار الْعُيوب) من؟ وماذا تفعل في هذا المكان المقفر وحدك؟

ــ  لست وحدي، أنا بصد نوقا لي، إني أرعاها هناك قرب وادي أبي سعادة.

ــ  آه فهمت، أوتحلُب لي من نوقك شربة لبن؟

ــ بكل سرور، لكن عليك الانتظار قليلا، حتى أننا لم نألفك منذ سبع سنين، بل منذ عشرٍ عجاف؟

ــ يا لْكُع.. أوتعرفني يا رجل؟

ــ بلى، وكل المعرفة أعرفك، فأنت سيدنا الشيخ العارف بالله والولي الصالح السي بالوا بن المقراوي حفظه الله وامدّ عمره على هذه الأرض الطيبة كي يخرجها مما هي فيه من سوء حال، فأين طالبت غيبتك علينا؟ أمعتكفا بمكة أم متوحدا قرب حيراء عرفات، أم متصلا بخيبر وسلع قرب أحد يثرب؟.. لالا، لا أعتقد، لا هذا ولا ذاك، كم أنا أحمق ولم يَبينْ لي غير جانب التقوى في سيدنا الشيخ ونسيت انّ ولينا عالما، ويحب الارتحال إلى مصادر العلم في كل الدنيا، أعتقد أنكم كنتم تجوبون أمصار نينوى ونيسابور وسمرقند كعادتكم متقفين آثار شيوخ العلم.

ــ لا نيسابور ولا سنغفور، بل كنت في بلاد الغرب.

ــ ماذا؟ ماذا؟ لكنك أقفلت إلينا من الشرق!

ــ وكيف عرفت؟

ــ إنك قادم من الجنوب متجها نحو الشمال ومن يعبر أبي سعادة قادما من جنوبها معنى ذلك أنه أتاها من غدامس، فالجريد، فالحضنة، فأبي سعادة.

ــ صحيح.. صحيح.. من الشرق أتيت، لكنني كنت في كركاس الغرب.. لعلي كنت درت على الكرة الأرضية وأنا لم أدر.

ــ لقد ألهبت جوانحي لمعرفة كل كبيرة وصغيرة عن رحلتكم المليئة باغتراف الحكمة، ولمكانتكم عندنا خفت عليكم ومازلت من فِتَن شرق ستان وغرب ستان التي لا تنتهي، فضلا عن وِهادها غورها المسكونة، ولا تنسى يا سيدنا أن من رموا الصحابي الجليل سيد الخزرج سعد بن عبادة فأدموا فؤاده كانوا من معشر جن تلك المناطق التي تمرها وحيدا متوحدا.

ــ تمهّل يا أخ العرب فلا يقلقك من شأني هذا شيء، لأني ولله الحمد أسلُك طريقي بمعونة إلهية تعصمني ثم أطرق يقول: ليت شعري، ألا فرحم الله نسيبنا أبا حيان حين قال:

عِداتي لَهُم فَضلٌ عَليَّ وَمِنَّةٌ     فَلا أَذهبَ الرَحمنُ عَنّي الأَعاديا

همُ بَحَثوا عَن زلَّتي فَاجتَنَبتُها     وَهُم نافَسُوني فَاكتَسَبت المَعاليا

   وكأن الشاب الجني المتجلي في صورة راع أعرابي قد تبدل محياه مظهرا خبثا أمام الولي، فظهر كمن يتمتم في نفسه (: وهذا ما أردت أن أسمعه منك وأتأكد من غرورك يا بن الحمأة القذرة، سترى كيف أهوي بك إلى أصلك الطيني الجدير بك بعدما رفعت بنفسك إلى أعلى عليين) والولي على علم بذلك المُحيا وتلك التّمتمة الجنية لطول ما خَبِر أهل البلد أمثاله، لكنه كان لا يعلم أنه جني، لأن عصمة البشر خُلقت للبشر لا لمعشر الجن والملائكة التي تهبط أراض مخصوصة وفي زمن مخصوص.  

ثم زاد الولي: ـــ .. كل ما في الأمر (يا فتى قريش) أني أردت معرفة الغرب كما عرفت الشرق، والفكرة الجلل التي قادتني إلى ما أنا فيه من تنقل عبر الأمصار، هو صبر أغوار النفس البشرية بطريقة علمية، قاسية بعض الشيء في صرامتها، لكنها مصبوغة بصبغة فيها تنوير شعوري بعض الشيء، على كل حال لاحترامها خاصية البشر في الغوص في دنياهم واكتشاف مآلهم المادي إلى أين ينتهي بهم، خاصة بعد عن قرأت من ماركس وانجلز ونتشه وسارتر أن الغربي شخص معربد غارق بل متفنن في إتيان الملذات بأنانيته، فأردت التحقق من ذلك على أرض الواقع، وعلى كل حال هذا البحث الذي آليته على نفسي لم يأتي من فراغ بل اتّكأ على كل فلسفات العالم؛ من فلسفة الإغريق إلى فلسفة المدرسة النقدية الحديثة مرورا بالفلسفة العقلانية والتجريبية ولم أنس حتى الفلسفة الكلبية، لكن مقتنع بالتجلي عن طريق التحلي والتخلي.

    وفوق هذا وذاك لم يلمحني إنسي ولا جان أنّى كنت بعد أن تزودت بنظريتين غاية في الاتقان والإخلاص العلمي، لا قبلهما ولا بعدهما في الموسوعية والتبحر المعرفي ألا وهما نظريتي اللغوية ونظريتي في الكمال العقلي، وتالله حق قول الشاعر:

                                فَتىً تَمَّ فيهِ ما يَسُرَّ صَديقَهُ     عَلى أَنَّ فيهِ ما يُسيءُ المُعادِيا

   وهما نظريتان على كل حال مرتبطتان متعلقتان ببعضهما، وما حلّي وارتحالي إلا لاكتشافهما وباكتشافهما سيتلاّشى الضباب الذي كان يغشي وطننا الأم عن أعيُننا حتى فقدناه نهائيا.. فالفكرة الجلل اليوم هي استعادة وطننا المغدور به، إنه وطن بهي قائم بين الشمال البحري والجنوب القبلي، وملكه في مقام ملك داوود وسليمان، لا تحده حدود وفي نقاوة سريرته وابيِضَاض بشرته ليس أقرب من معشر إنس البندقية في توادهم وصفاء قوبهم لكن أقرب من معشر الملائمة..

.. آه يا فتى قريش.. أما نظريتي الثانية فمشروع دين ودنيا معا، ومفادها بإيجاز: ليست أبدا التجربة الصوفية انصراف إلى نزعة الوجد كما يدّعون الذين لهم أصلا مع العقلانية مشاكل لا تحصى ولا تعد، وأردت التحقق من نظريتي الثانية انتهازا للفرصة، لأنه هكذا طبيعة الباحث عن الحقيقة، وقد كانت جماعة ماركس ونتشه بحثت عنها بالجدل الصاعد وجماعة هيجل بحثت عنها بالجدل الهابط، أما جماعة الفارابي، وابن سينا، وإخوان الصفا، والغزالي، وابن عربي، فبحثت عنها بإثارة الجدل..

    وقد حان الوقت لأبحث عنها اليوم بالجدل لا الصاعد ولا الهابط لكن الجدل اللولبي الذي يرجع كل بنية ومصير العالم السيميوطيقي إلى مضغة لتُضفي عليه نكهة بدونه هو غير عملي أو غير نفعي أو قل غير إنساني بالمرة، وهذه المضغة هي العقل الباطن بما حواه من ضمير، ومن ذوق مصدره ليس الحواس الخمس فقط بل تنضاف إليهم الحاسة السادسة هذه المرة، وهي حاسة إنسانية بحتة لا يؤتها إلا من استحقّها عن جدارة: { اتصال السماء بهاذي الأرض غير ممكن إثباته إلا عن طريق نتائج منطقية عقلية، وبناءً على بنية الفكر نفسه التي تفترض اشتغال آلياته العقلية باشتغال آليات شعورية، لذلكم نعلن عن عدم مشروعية الحكم بعدم اتصال السماء بالأرض، وإن شئت نفترض الإشكالية بأسلوب ثان وهو أن تركيبة الاعتقاد الروحي تركيبة عقلية} فلو كان الإعتقاد يخلو من عقل لا قلنا أن الحيوان لا يعرف ربه وهذا خطأ، فسمة عقلانية الفكر البنيوي تكمن في علاقات عناصره ببعضها بعض، وما يُظن بأن الشعور خارج هذه العملية لأمر خطأ حقا، بل إن هناك علاقة بينهما، صعودا ونزولا، أو قل أنّ أبسط اعتقاد مدعوم بفرضية عقلية يقوي من مبادئ عقلية في الفلسفة وفي اللاهوت معا، وهما مبدأ الحرية التي تقتضي مسؤولية ومبدأ التسليم والانقياد، وكلاهما يصبّان في ضرورة محاكمة خالق الكون لمخلوقاته، لكنه يحاسبهم محاسبة بنوية (عقلية + ايمانية) أي أن الرّب الخالق يحاسب الناس يوما ما (هو يوم الدينونة عند المسيحيين ويوم القيامة عند المسلمين) بحيث يحاسبهم لا بقدر تعلقهم به لكن بالقدر الذي آذوا فيه بعضهم بعض متعلقين بها.

أجل، سيكون حَكَما بينهم مثل القاضي الذي يحكم بالعدل، فكل ما فعلوه من جنح في بعضهم بعض يحاسبهم عليه، ولا علاقة لإيمان الفرد بربه بتلك المحاسبة قط. يعني سيكون الرب بينهم موجودا وجودا بنيويا إنسانيا لا وجودا فكريا استباقيا والأسبقية للضرر المادي الذي يلحقه الأنسان بإنسان آخر مثله، بافتراضات مسبقة في الوقت الذي هو فيه عنصر بنيوي كوني مثله؛ له ما له وعليه ما عليه، ولا دخل للشعور في هذه الحالة إلا في ارتباطه بين الحرية والمسؤولية والخالق هو المسؤول الأكبر حينئذ فطوبا لنا.

   ودعونا هذه الحركة الجدلية النهايات اللولبية ومسارات الكون الدائرية، ولم ندعوها جدلا لولبيا، بالرغم أنه ستتّخذ لها صفة الجدل بمجرد الإعلان عنها، ذلك أن بِنية الكون بِنية عقلية لا تخلُ من مكون يدفع، يقوّض، يصحّح مسار العقل في شكل لولبي متلاشٍ مع الزمن حتى تتحد العاطفة في العقل عصبيا، كما تتحد القدرة الإلهية في الكون عند ابن عربي، إذن العاطفة تُعقلن وهي أصل التفكير، ولولبية الشعور مقتبسة محاكاةً بلولبية الكون، بكل مادياته في المتغيرات الني نشعر بها، بحواسنا، إنها ثابتة بيد أنَّها في الحقيقة متغيرة، كمكون الزمن مثلا.

 ولقطع دابر كل شك ودحضه باليقين، إليك المسألة العقلية التالية: لماذا خلق الله الإنسان؟ أيُعقل أن يخلق الله الإنسان لعبادته؟ كما اقتنع به منطق التفكير الديني؟ هذا التفكير يأخذ مسارا حدسيا (وحواسيا) نهائيا لولبيا، لكنه يُغفل مسار حركية العقل التي تنتعش بالأفكار العقلية الخصبة وتزدهر مع كل مبلغ نهائي لمسار لولبي حدسي، فتتحقق غايته البنيوية إثره: المعنوية ماديا، أو العكس؛ فيعطّل العقل مثل هكذا تصور الاعتقاد ويجعله محل شك، وفعلا، لنأخذ واحد من جبابرة الأرض وعظمائها في كل العصور، شخصية وذات عظيمة تميزت بالعلم العظيم والجاه والحسب والنّسب حتى بلغت الذروة؛ أيُعقل أن تترشح هذه الشخصية لتعمل أستاذا معيدا في أشهر جامعية في الولايات المتحدة الأمريكية مثلا، هي في غنى عن ذلك غلا من زاوية طلب شعوري، هذا الترشح لا يفُهم إلا من زاوية طلبها لمتعة الشهرة وتحقيق الذات؛ بالإحساس بالكمال والاقتدار والعظمة، وتحقيق الذات بهذه الشهرة لا يكون دون تحفيز العاطفة المستمتعة بإعجاب البشر بها، فأن يخلق الله الانسان لعبادته فقط مقولة تقع ملتبسة ـ شئنا أم أبينا ـ مع نفس هذه الغاية، وهو جلّت قدرته ليس محتاج لذلك، وهذا هو منطق الفكر العقلي، لا تقدر أن تخلّصه عن عناصره البنيوية وعندما تُخلّصه تفقده، ويغدو تفكيرك لا تفكير أو سلوكا حيوانيا، فخلق الإنسان لعبادته منطق تفكير بشري واقع في سجن الثقافة وهو سجن غيهب، خال من الضوء، خال من الطاقة والأكسجين، ومتوه كلما زدنا تثقفا به.

    وبعد سويعات قليلات كان الولي بالْوَا قد وصل إلى سفوح جبال لا تبعد كثيرا عن البحر، وكم كانت سعادته كبيرة حين وجد هناك وطن قائم بالفعل كما تصوره في نظريتيه العلمية واللغوية والتي جعلته يغيب، بل ينسى وطنه كل هذه المدة، نعم فقد وجد صور أبطاله الصامدون معلقة في الساحات كما رآها على الشاشات ووجد علما أصفر يرفرف على شرفات البيوت. وهو بالضبط علم وطنه المفقود لا بين جبال الألدورادو والأنديز، لكن بين جبال الأطلس الأوسط، وجده حقا، وبقدر ما كانت فرحته عظيمة حين وجده بقدر ما كان وطنه ضيقا جدا لا يسع ما كان فؤاده يحمله له من تحل وتخل. فوطنه كان من الصغر بحيث لم يشبع نهمه الاقتصادي والسياسي والثقافي برغم تصايح أهله الذي رأوه فجأة أمامهم يدخل أكبر مدنهم على الإطلاق ويسير فيها على دابته غير وجلٍ ولا خجلٍ ممّا جعلهم يتصايحون: ايَمَّ اعزيزن سيدي اعزيزن الوالي يوعاد سيدي الوالي يوعاد..

ــ ماذا هناك؟ (يا علاّم الغُيوب يا غَفار الذنُوب يا سَتار الْعُيوب)

 

 


الولي بالوا يعود باحثا عن وطنه المفقود:

https://mega.nz/file/c2hByJJa#n2bq7b1ayO0dB4ESYBJvG8bvfrjDgj2bADQyMpbGUwM

 

 

author-img
موقع تنويري فكري وشبه أكاديمي، يتغيا تقديم إضافات نقدية تخص تحليل الخطابات الثقافية ونظرية النقد والأدب متوسلا بجماليات التلقي والنقد الثقافي، كما يعنى بنشر إبداع قصصي جديد ليس له ما يماثله على الساحة الجزائرية، والمقال المتناول للشؤون السياسية والإعلامية والاجتماعية المقاربة للظاهرة الأدبية والمحاكية المكملة لها.

تعليقات