القائمة الرئيسية

الصفحات

نزعة الثقافة الأبوية العربية في اضطهادها للحداثة!؟


نزعة الثقافة الأبوية العربية في اضطهادها للحداثة!؟

بوزيان بغلول*

 

       تحت مسمّيات عدة كان آخر ربع قرن نشهده قد نضح بنشاط فكري، بل وقلّ نظيره على مستوى النخب المثقفة إعلاميا وأكاديميا مناقشة وتحليلا  ـ بل حتى نقدا، تمحيصا وتشريحا ـ مفيضة في موقع الحداثة الغربية على خارطة الفكر العربي الراهن، بعد جس نبض تضاريسها على خارطة الفكر الغربي الحديث والمعاصر حيث نشأت، وبخاصة لما أخذت هوة الإنتاج والخلق الفكريين بينه وبين العرب تتسع بالطّراد رغم تلهف متراكم لاستيعاب الحداثة الغربية، أم ترى أن استيعاب العرب كان ينقصه شيء ما يكون قد جعل ماكنتها لا تعمل مثل ما هي تعمل لدى الغرب الصائر إلى التطور المذهل في شتى الميادين والعرب الصائرين إلى الأزمة الفكرية والعلمية بعد طرحهم للمناهج التقليدية جانبا؟ فكان حالهم أشبه حينئذ على طريق الحداثة بالمركبة المنكوبة écoinc، حيث لا هي تزحزحت إلى الوراء ولا هي تقدمت.

   فعلا، قد غصت منشورات وملحقات الثقافة العربية المعاصرة، ونقصد تلك المسؤولة مسؤولية حضارية أمام نفسها، بمجلات مشهود لها تاريخيا بتحريك النشاط الفكري إنتاجا وإبداعا، خذ مثلا مجلة العربي الكويتية لوحدها قد علق بذهننا كثير من مقالاتها العقلانية والتنويرية المشرّحة والآخذة على عاتقها بذلك النشاط مأخذ الجد، وهذا مقال بعنوان (الرواية في الكويت من التقليدية الى آفاق الحداثة. عدد 533) مازلنا نذكره بعد قرابة عشرين سنة لإصابته هدف ما تجلى لنا عبر الواقع خلال مسيرتنا، من نكبات وتشوّهات وأزمات استيعابنا للحداثة، والآخر الذي عنوانه (إشكالية توصيف الحداثة وما بعدها. عدد 462) و(لا بديل عن الحداثة. العدد571) و(الحداثة وما بعد الحداثة عدد 618) و(العولمة امتداد للحداثة أم نقيض لها؟ عدد 610) و(الهوية العربية بين سندان التغريب ومطرقة التطرف. عدد 612) و(استحالة الهيمنة ثقافيا. عدد 562) فضلا عن ملحقها الفكري "كتاب العربي"          

  إن جل هذه الأقلام قد تمرّست في نقودها وتحليلاتها النقدية التطبيقية مِثلنا؛ بالاحتكاك بالواقع الملموس ولو أن العدد غير اليسير كان ملما بما كان ينشر في مجلتي عالم الفكر وعالم المعرفة وفصول، والمواكبة لمجلة العربي في نقد الحداثة في الاتجاهين؛ الأول المتصور أن أزمة وانتكاسة حداثة العرب في تهافتها عليها دون انتقاء ما يصلح، وهو تصور وطني ذو قرابة بالماركسية، والثاني وهو تصور أصولي، فيعتقد أنه لا حداثة لمخلوق في معصية مبادئ الشريعة ومصالح الشرع. ومن تلك العناوين الدسمة التي عجت بها مجلة عالم الفكر ومازالت أذكرها ما تعود لأحمد أبو زيد أو فؤاد زكريا والطيب تيزيني (عولمة الحداثة وتفكيك الثقافات الوطنية. عدد 2003، ومقالات التنوير. عدد مارس 2001) ومقالات المغربيين التي ينقصها دوما ملح اللغة (كالخطاب عن "حرب الثقافات" في الفكر الغربي. عدد 2007) فلا أقرؤها لعبد الله العروي والجابري وجعيط وأركون إلا مقروءة من أحد محرري المجلة المهوسين بالموضوع كعلي وطفة، أما عالم المعرفة فعكفت على إصدار سلسلة كتاب في مجلة، ومما أصدرته حول الموضوع مترجما كان "طرائق الحداثة. 1999" و" من الحداثة إلى العولمة. 2004"..

   وباحتكاكها الأكاديمي هذا، جاز للأقلام الفكرية المواكبة لأينع مرحلة مرّ بها الفكر العربي المعاصر مخاضا وصراعا بين التجديد والأصالة، والطويل نسبيا الذي يرجع لنهاية القرن التاسع عشر، أن توافق ما كنا نبحث عنه إثر مرحلة نضجنا الفكري، مرحلة الشباب الملأة بالحيرة والقلق إزاء الواقع الملتبس بعد عشرية الدم مباشرة، ولحسن الحظ وجدنا أن  ذلك من خصائص الحداثة نفسها: "الحداثة مفهوم فلسفي مركب قوامه سعي لا ينقطع للكشف عن ماهية الوجود، وبحث لا يتوقف أبدا عن إجابات تغطي مسألة القلق الوجودي وإشكاليات العصر التي تثقل على الوجود الإنساني"[1] فمصطلح الحداثة مفهوم معرفي فلسفي يشمل جميع العلوم، لا يعبر عن مرحلة زمنية معينة عكس الحديث والمعاصرة إلا في مجاوزته للتقليد، لأنه يعكس صورة نسق اجتماعي متكامل، وملامح نسق مشروع منظم وآمن، يقوم على أساس العقلانية في مختلف المستويات والاتجاهات. وحتى يوصف المرء بالحداثة يجب أن يعتمد أهم مبادئها: العقلانية والحرية.

    والحداثة بريئة من قانون اللا قانون أو المصلحة المشتركة والمقاصد العليا التي تتبناها الأنظمة المجزئة للحداثة  إلا لأنها تقع ضد الحرية، أي التقليد، ونعني بها النظام الذي قام اقتصاده على أسس مادية جدلية حداثية لكن سياسيا وفكريا قام على دوغما رفض الديمقراطية والحرية من خلال نفيها عن الآخر،  والنظام الاشتراكي في الاقتصاد مهما حاول اليوم أن يتخلى أو يتحرر من الفكر الشيوعي لا يقنعنا، لأن وجوده اليوم له علاقة بأسباب التقليد بشكل أو آخر، فوجود كيانه الفكري الغامض متمثل في المقابلة والضدية لمجرد المقابلة والضدية، والتقليدي في الأمر أنه مومئ للجانب النفسي، والذي لا تكفيه العلمانية والديمقراطية الغربية، هو يريد من مقابلتها الشعور النفسي لا الوعي العقلاني، وبدون وعي أو عقلانية افعل ما شئت، فعلى سبيل المثال تعتبر حداثة العرب المشارقة أكثر تجليا من حداثة المغرب العربي نتيجة مأزق الأخير في هويته؛ جينيا ولغويا، والتي سعى للتغطية عنها بحداثة مشوهة ومزيَّفة، فحتى تكون حداثيا لابد أن تبني حداثتك اللغوية والأدبية والنقدية على إرثها التقليدي المادي وتأتي بالجديد، لا أن تزدري منه ازدراء من فقد وعيه نتيجة فرط تعصبه، ولتترك إذن من يملك تلك التقليدية؛ وهم كُثر في المناطق الداخلية للوطن يمر إلى الحداثة ولا تقصيه ولا تضطهده في حداثته الحقة، وفي المغرب العربي تشكّل هاجس ثقافي طبقي تاريخيا، وتحول إلى أيديولوجيا عن طريق السياسة، فتحالف الأصولي التقليدي (تقليدا فكريا/دينيا) مع المفتقد لهوية لغوية تقليدية (المادية) ضد من يملكها لأخذ مكانه، فكان للتخلف السياسي والثقافي والحضاري (الحداثي) في آن أن يعُم بالطراد.

   وكذلك الأصولية الاسلامية هي فاعلة؛ في تجزيئ الحداثة متخبطة في التقليد، ونخشى أنه إذا وجد فنا للدبلوماسية أو سياسة (والسياسة هي فن الممكن) تتجاوز الحداثة لدى الغرب وأمريكا بالخصوص (كقضية الصحراء الغربية مثلا) فلأنها اشتمت في القضية تقليدا ويَدْ مقاصدية أبوية للطرفين المشار إليهما أعلاه، وسبب عدم قابلية الحداثة للتّجزيء ( كل حداثي علماني والعكس غير صحيح) يظهر  عدم تجانس الفكر العربي المعاصر وعدم رسوه على قاعدة حداثية صحيحة (حتى لا نقول متينة لأن ثقافة الممارسة لديها دور في ذلك) على مستوى الأفراد الباحثين، خذ حداثة أدونيس التي لم يشاكِكها أي اعتوار عكس حداثة نصر حامد أبو زيد بالرغم أنه أكثر علمانية من أدونيس، لأن موضوع علومه في تحليل خطاب القرآن كان علمانيا بامتياز، أي كيفية جعل الدين خاص بصاحبه فقط، وهو لم يقر بذلك صراحة برغم نبوغه في التأويل القرآني فالتبست حداثته بالتباس خطابه العلماني، وكان عليه برأينا مجاوزته التخصص في  تحليل الخطاب الديني بعد ما حصل له، إلى تحليل الخطاب الثقافي بشكل عام، من ذلك خطاب العولمة مثلا، والتي مثلما قلناه عن السياسة نقوله عنها، فالمدار كله موقع العقل والحرية بين التقليد والحداثة.

  وقد تطلّعنا إلى تلك المقالات في مجلة العربي بشغف ونهم التماسا للإجابة عن ذلك القلق ــ وما بالك لو تطلعنا إلى المزيد من العناوين الأخرى التي كانت تعج بها مجلات مركز دراسات الوحدة العربية والمستقبل العربي السعودية وغيرهما، وتوزع نذرا هنا في الجزائر  ـ  وكانت "العربي" تصل الجزائر بثمن 80 دينار فقط فكنا نقتنيها شهريا قبل أن تنفذ، فجمعنا منها من 1999 إلى 2015 أكثر من 150 مجلة، أما عالم الفكر فحصلنا على أعداد قيمة في تناولها للموضوع بمعدل عدد أو عددين في كل عام، من 2001 حتى العام 2008، وبما حوته من مقالات نيرة ووجبات دسمة مخاطبة لحداثة العرب مخاطبة لائقة لا يرتقي إليها إلا الضالعون في الفصحى المتعودون على التحرير الراقي، لم نعاني قط في الاحاطة بالعناصر المعرفية الفرعية التي كان موضوعنا لمذكرة الماجستير يتطلبها، ولم تكن العربي عموما محط غزو الأقلام المغاربية كي تبصمها ببصماتها اللاهثة وراء الحداثة الإجرائية في الميدان الفلسفي والنقد الجديد بالخصوص[2]، لأنهم لم يكونوا ذوو مستوى عال تحكما في العربية، مع أن بعضهم له علاقة بفنيات الكتابة والكتابة الروائية كمحمد برادة ومرزاق بقطاش، طبعا لا نتحدث هنا عن الخصوصيات ولكن عن المشترك العام الذي يجمع العرب، كل العرب بلغتهم، لأننا لو فعلنا لوجدنا عبد الهادي التازي والطاهر بن عاشور قلمان مؤسسان لهذه المجلة.

فما موقع تمرّس أصحاب هذه المقالات التشريحية من الثقافة الأبوية أو الأبوية في الثقافة العربية؟ والتي لا تعني سلطة الأب Patriarchy بشكل إقصائي ضد النساء فقط وإنما لكل ما هو خاضع لسلطة الأب أو أي شخص يملك السلطة، "فالبطريركية وهي تسمى نظام أبوي وذكوريّة، تنظيم اجتماعي يتميز بسيادة الذكر الرئيس (الأب) وتبعية النساء والذريّة له بما فيه التبعية القانونية، وتفترض التوريث واستكمال الانتساب لذكور من السلالة، متوسلة -عادة- بالأعراف والتقاليد "[3] أي قد تحوّلت عن طريق الثقافة؛ بالمحاكاة والتماهي الاستعاري إلى أبوية السلطة، وأبوية السياسة والاقتصاد، وأبوية الحزب، وأبوية الأستاذ الجامعي (الذي يعد السلوك الأبوي ومجاراة نزعته تفوقا)[4]، والجماعة السوسيو ـ ثقافية ضد ما يهدد كيانهم، فالكل يمارسها ضد سلطة ضد، حتى تلك المتبنية الثورة العلمية الكونية في إطار مجتمع إنساني يسوده التنظيم والعقلانية ونعني بها الحداثة.

   والنظام الأبوي العربي في تاريخه سليل النظام القبلي قبل الإسلام، في سعي كل قبيلة متميزة في تفوقها في مجال من المجالات إلى تهجين مواليدها عليه حتى تبقى محافظة على تميزها أمام القبائل، ويتجاوز التهجين الاعتبارات المنطقية والإنسانية أو ما نسميه اليوم بحقوق الإنسان؛ باعتبار أنه يغطّي على الفوارق/الطاقات الذهنية التي يولد بها البشر، وتجعل الواحد منهم في بحثه عما يسد هذا النقص، دون وضع الآخرين في الاعتبار، يلجأ إلى الدين ثمّ إلى السلوكيات التي تشي عن نقصا في الطاقة الذهنية.. وقاب قوسين أو أدنى جاء عنوان مقالتنا مشاكلا لاختطاف ثم سبي فاضطهاد الحداثة اضطهاد السيد أو ولي الأمر العربي لأَمَتِه أو جاريته، ذلك أن المكونين اللذين ما فتئ يكشفان عورة حداثة العرب كرونولوجيا هما الاستمرار (بالإضافة إلى قمع المرأة) في تطبيق قانون التفويض الأبوي أو درء الأخطار الفكرية الخارجية عن طريق شرعنة قانون اللا قانون مراعاة للمصلحة ــ وسمها ما شئت حينئذ: مصلحة عليا، المصلحة المشتركة أو فقه المقاصد.. ــ

   بيد أن أخلاقنا العلمانية وتكويننا الأكاديمي أفضيا في النهاية بأن لا نجاري عناوين مقالات الصحف وكليشيهات متونها المصورة اليومية، كتطويع الحداثة، ومراودة الحداثة، ومغازلة الحداثة وغيرها الكثير من العناوين الطنانة، ذلك أن الكثيرين الواقعون حتما هم في ظل أزمة الحاضر الفكري العالق هذا، واقعون في هاجس التوجس المزمن من أخلاقيات الحداثة المنافية لأخلاق ما تعودوا عليه من تستر وتأمير للأنثى بالائتمان مهما كانت؛ إما أُمًا أو اختا او بنتا إذا لم  تفطر عليها في بيتها الأول، والحق الحق أن جلّ كتاب الديار العربية محقون في تحرزهم من أخلاق بعض العلمانيين العرب الذين لا يفهمون العلمانية فهما حضاريا: لا يفهمون العلمانية إلا باعتبارها مجال تحقيق المنازع والرغبات الفردية جسدية كانت أو معنوية، والعلمانية ليست كذلك أبدا ــ ولينظر أحدهم في أخلاق العلمانيين الغربيين الأسوياء إذا ما كانوا يشربون الخمر كي يعربدوا ويأتوا الشهوات أم لحاجة غذائية ملحة يفعلون، وإذا ما شربوا تلك الخمرة وهم بإزاء من يجتمعن بأمهاتهم واخواتهم وبناتهم هل يقعون في معاكستهن كما يفعل الغالب الأعم من العلمانيين العرب أم لا؟ !ــ وربمّا هذا التصور هو نتيجة مباشرة لبنية مجتمعاتها الثقافية الكابت لحرية الأفراد والجماعات كما يقول به ميسون العتوم:" المرأة ليس معطى بيولوجيّا أو طبيعيّا بقدر ما هو بناء تاريخيّ وثقافيّ واجتماعي صنعته قوى الهيمنة المتصارعة في المجتمع"[5].

   ولعلّ هذا السلوك الغرائزي الهاجسي والتوجسي المرسخ بالعادة اللا مفكر فيها مثَلُه مَثل الدابة المربوطة التي سرعان ما تلتحق مباشرة بحقل القمح بعد أن فك رباطها، وحشائش البر دونها واسعة رحبة، فيضطر صاحبها أن يُعيدها إلى وضعها السابق، وهكذا دواليك يسير الحاضر دائرا في جلباب الماضي، فكما يعمل العقل في بنية بين العقل الواعي والعقل اللاواعي/الباطني تعمل بنية الكون وفي كل ثقافة على حدة؛ فما يرفضه ويشمئز منه العقل الباطن للمسلمين (مما يسمونه اتّباع الهوى أو عدم ضبط رغبات النفس شرط أن تكون واقعية وغير مكبوتة) لا يشمئز منه العقل الباطن للعلمانيين ــ على أن نفرق بين العلمانيين الغربيين والعلمانيين العرب لاختلاف الشروط الحضارية في سياقيهما ــ لكنهم يشمئزون ويهجرون ما يحبّذه العقل الباطن للمسلمين من سلوكيات اجتماعية غير ديمقراطية واحتيالية، وهي إما تتم في السر أو علانية واقعة تحت حماية المقاصد العليا من صميم النظام الأبوي، وهي تميز المجتمعات التي تعيش الحاجة ونظامها الاقتصادي ليس حرا ولا تنافسيا، بل هو محتكر لدى جماعة معينة كالنظام الاشتراكي، من هذه السلوكيات: السرقة مادية كانت أو معنوية، الغش في جميع مراحل الحياة واستعمال المزور، المحاباة والنفوذ الاداري، شراء الذمة في الادارة، الارتشاء، الكذب، تكوين المعارف التكسبية على مستوى أفراد الحي والمؤسسة والمدينة والقطر، إسداء غير معقول للشكر يتحول إلى دعم سياسي بالتملق ليل نهار ارتزاقا، حتى لا يصل الأمر بالأبوية إلى استعمال العصا والجزرة.. وفوق هذا وذاك المقاصد العليا لهذا النظام تبيح تلفيق التهم الباطلة للعلمانية الحقة على أنها ـ بالتعميم ـ كفر وشيطان وزندقة وهلم جر، بينما هي في الحقيقة منهج اختاره الإنسان للترفّع عن حيوانيته بعد مخاض عسير من المكابدة في القرون الوسطى ثم في قرون التنوير.

      فالإشكالية الهاجس إن صحّ التعبير، والتي تمنع من الانعتاق من سجن سكون وعلوق الحاضر والرضا به واقعا مُمَجَّدا، نحو أفق التطور اللا محدود كامن في اعتقادنا المدعوم بالنظرية العلمية التي تنسجم مع إمكانية مزج وتوليف المنهج المستعار بكذا من آلية منهجية ومعرفية لكي يأتي على القد، فتداخل المنطق العلمي والمنطق الفلسفي والمنطق الإنساني حينئذ وفي وقت واحد في آلية التفكير العربي المنشغل بالحداثة والمنشغل بما ينهض بمستوى معيشته بها معا يعد قفزا على أهم مبدأ من مبادئ الحداثة ألا وهو عقلانية المنهج وليس علميته.

1.   كيف صار العرب إلى انتقاء الحداثة إذن تشويهها وتزييفها؟:

   تقول النظرية العلمية في ميدان العلوم الاجتماعية أن الحرية مكون أساسي بل جوهري في خطاب الحداثة، إذا ما تجاوز سياسيا ينحرف خطابها بداهة إلى الديماغوجية، وهو خطاب أشبه بانتهاز الفرص والتوافق والتحالف مع التقليد والرجعية، وقد لا تكمن الآلية المشتركة في الخطاب الديماغوجي دوما لكن في النظام الأبوي،  كون "المنظومة الأبوية نتاج نظام تقليدي يعاني من اختلالات اجتماعية وحضارية كامنة في طبيعة العلاقة بين الحداثة والتراث، بوصفها علاقة تضاد وتناقض، فالأبوية لا ترى في التراث غير سلفية تقديس الماضي وعبودية الذات (العائلة القبيلة/الطائفة الدولة) وإن كان الأب مركز نظام العائلة، فإن الفرد مركز نظام الدولة، إذًا مركزية الواحد غير المتعدد مصدر القوة المنفردة بالسلطة (الفوهرر، الزعيم، الدكتاتور) على وفق نسق من المبادئ والقيم المتوارثة المتبادلة في النظام الأبوي (..) إن كانت الأبوية هي إرث قائم على مركزية الفرد وقدسية الإسلاف ومنطق القوة ، فهي نقيض العقلانية والنقدية والتعددية"[6] وإذا كان المراد من النظام الأبوي البيولوجي الخوف عن مستقبل الأبناء، فإن النظام الأبوي غير البيولوجي هو الخوف عن مستقبل الأب، والأستاذ الجامعي خاصة في الدراسات العليا، الذي يظل يبشر طالبه بالنظام السياسي والديني عن طريق ممارسات غير عقلانية وغير ديمقراطية هو بالكاد يقول له وبالحرف الواحد: أنا أفضل منك دائما ولن تستطيع تجاوزي أبدا مهما كنت ذكيا[7].

   أجل، فكل من الرجعية والدولة التي تختطف المجتمع المدني لابتلاع حقوقه المشروعة في الحرية والعدل والمساواة وجدا في الأبوية نظاما بنيويا تقابليا ضد المجتمعات الرأسمالية الحرة والليبرالية  ــ  وهي إن لم تكن استعمارا سابقا سبب حدوثه جوانب تقليدية كانت نِدا ومنافسا لها على امتلاك المجتمعات امتلاكا سياسيا، وهو حال المعسكرين الغربي بقيادة أمريكا والمعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفياتي سابقا ــ وبه يسبقّان الأفكار الجاهزة سياسية (منتهى النظام السياسي المكتمل) والدينية (منتهى الأفكار الغيبية المكتملة) حفاظا على عدم تغلغل تلك الحداثة الفكرية بالخصوص، وهي صناعة "الآخر" إلى بنيانهما الحضاري ليس المشيد على العلم وعلمانية الدولة، لكن المشيد على النظام الأبوي.

   والآخر هو المصطلح الذي خلقه التقليد، وورثته عنه ثم رعته دون وعي ثم اتّهمت الاستعمار باستحداثه، بتخطيط القائمين لجعل النشء أو الأجيال الجديدة يؤمن بهذا النظام كما يؤمن المؤمن بإلهه حتى ولو اضطرتها الظروف إلى الاكراه والترهيب للاقتداء وإسداء الشكر والطاعة، وبالبحث الدائب في صدور الناس عمّا من شأنه أن يقوّض ذلك البناء الذي أساسه سياسي سلطوي وديني قمعي اقصائي، بأسلوب العصا والجزرة، أي احتذي بالنظام الأبوي المكتمل أو انتظر من الحداثة أن تؤكلك عيشا، وذلك من أجل الحفاظ على الوضع القائم المترسب في النفوس شخصية وهوية وأصالة وشهامة تقليدية غير معتدة لا بتغير الهويات ولا بتغير الثقافات، وفي المؤسسات الجامعية بخاصة في الدراسات العليا يمارس الأستاذ الناقد الأبوية وهو غير مكترث بأنها هي طريق العلم نحو مناقضة العقلانية والوقوع في فخ زيف الحداثة وتشويها، لكن لا من سمع ولا من درى..

    فأمامك يا طالب العلم تحضيرا لدكتوراتك النظام الأبوي بالعصا والجزرة إلى جانب المنهج العلمي، رضيت أهلا وسهلا لم ترض الباب يخرج جملا، وأين الحرية والعدل والمساواة جوهر الحداثة؟ أين المراقب والمفتش بين كل حق وواجب يجمع بين اثنين؟ أين هم؟ لا أحد يدري، بل أغلبهم يدري لكن يصم أذنيه ويغض طرفه وكأنه لا يدري، لأنه قد علم أن الدور الموالي قد يأتي عليه، "لا يمكن تحرير الثقافة من الإراثة الأبوية إلا بتحرير الذات من عبادة الفرد من جهة، وتحرير البنيات الاقتصادية من التبعية من جهة أخرى "[8]. على أن مناهضة أي نظام اقتصادي وسياسي قائم وناجح في سياقه يجب أن يتم بتقديم مشروع اقتصادي جديد يتجاوز هذا النظام، لا مجال لمعادة العولمة الرأسمالية معاداة فيها تقليد إلا من خلال مبادئ التجاوز والحرية والاختيار.

   إذا كان مشروع التحديث في العالم العربي لم يلق صداما سياسيا ومدنيا كما لاقه مشروع الحداثة، فان مرد ذلك انّ الحداثة تتعلق بفكر الإنسان ومفاهيمه وبنية الدولة، ومرحلة التطور الاقتصادي الاجتماعي والتطور السياسي أيضاً، بينما يعبر التحديث عن نفسه بالتطبيقات العلمية والتقنية والمخترعات، ووسائل الاستعمال اليومي وما يشبهها، وفكر الانسان أي المجتمع المدني، وهو مصطلح سياسي يقابل مصطلح المجتمع السوسيو ـ ثقافي علميا في العالم العربي، وكان دوما تحت سيطرة الدولة، والدولة هي التي قسمت المجتمع إلى: مدني وسياسي وطبقي، لذلكم فإن مطب الإشكالية القائمة عربيا هي في أنظمة الحكم العربية الملتفة حول المقاربة التي تضمن مصلحة السياسي مع مصلحة المدني الذي ترك مكانه شاغرا لمجتمع الأصولية الدينية ولم يعد له وجود، فوجوده داخل حكم هذه الأنظمة ليس عمليا فعالا لكن نظري رمزي، يظهر فقد شكليا أثناء الانتخابات والأعياد العالمية مثل عيد المرأة وعيد الشغل وعيد الحب وهلم جر.

   ويمكن توضيح إشكالية استيعاب الحداثة الغربية عربيا من خلال مقاربة منهجية تتلخص في بنية تقابلية ثنائية وقد تجلّت في إشكالية الأصالة والمعاصرة أو إشكالية علمانية الدولة، وقد بلور هذه الثنائية، كالعادة نظام الحكم السياسي بعد النكسة وتقوى أكثر نشاطا عقب نهاية السبعينيات (بعد التطبيع) والثمانينيات إلى غاية نهاية التسعينيات، وكانت بنية هذه المجتمعات السياسية مهيأة، لأن السياسي كان طاغ على الثقافي حينئذ، والبنية التي نعني هي الطوباوية الاشتراكية مقابل البرجوازية المتلهفة لليبرالية الغربية، وصولا إلى الثنائية الراهنة وهي التراث والحداثة أو انغلاق المحلية عن العولمة، ولنبدأ بعرض الثنائية الأولى التي لبست فيها الحداثة ثوب إشكالية التحديث إلى حد ما.

1.1 طوباوية السلطوية الاشتراكية في مقابل البرجوازية:  

    يرى عديد العلمانيين العرب منهم صادق جلال العظم أن المجتمع المدني في أغلب البلاد العربية من صنع الدولة الحديثة والتحديثية تحديداً. ويرجع إلى مرحلة ما يسمى بالتنظيمات العثمانية (أي البروسترويكا العثمانية) التي انطلقت بزخم حوالي سنة 1730، وقلدها محمد علي باشا الكبير في مصر وباقي المقاطعات بعده. و"كانت الدولة أول من أدخل فكرة سيادة القانون على الجميع، لكن المجتمع المدني هو الذي يطالب اليوم بتطبيق الفكرة والتقيد بها، في حين أن الدولة هي التي تتلكأ، لأن في ذلك انتزاعاً لسلطات ومواقع وامتيازات وحيازات... إلخ. وهذه معركة أرى أنه لابد من خوضها في الوقت الحاضر"[9] وهذا يعود إلى إغفال التمييز بين الدولة كمجموعة مؤسسات يسودها قانون التنافس الحر وبين غير ذلك بأجهزة سلطوية وذلك هي قبضة "الأبوية السياسية" متجلية سواء في الحكم بالمذهب الشيوعي ثم الاشتراكي فالتقدمي في تاريخ أغلبية أنظمة الحكم العربية المعاصرة وإن لم تجهر به صراحة، دون الحديث عن العسكر لأن لذلك علاقة بالدين السياسي.

    ومع أن التسلطي والديني القمعي يبدوان وهما بإزاء السياسة سواء في مواجهة واضطهاد المجتمع الأهلي والمدني غير أن الطرائق تختلف، أما إذا أردنا جمع الاثنين في كيان واحد، فالمصطلح المناسب عندئذ هو المجتمع السياسي. وبتغير الظروف العربية المرحلية المعروفة في تاريخها اجتماعيا واقتصاديا تغيّرت طبيعة الدولة، وهنا في هذه الناحية بالذات تبدو الدولة إلى حد معين شبه إطار تنشط فيه كل مرة طبقة أو فئة طبقية وعلاقات طبقية مختلفة، مما يستتبع علاقات متغيرة بين الدولة والمجتمع المدني بحسب الفئة الطبقية الفاعلة.

  إن طبقة (أهل الدولة الأرستقراطية) وعلى رأسها السلطان العثماني، أو محمد علي باشا، ومن تلاهم هي التي وضعت من خلال تغيير علاقات الملكية اللبنات الأولى لتحديث المجتمع العربي. لكن، في الوقت نفسه بدأت تنشأ في بلادنا طبقة أو فئات طبقية حديثة تسمى «بورجوازية»، وأرادت هذه بطبيعة الحال أن تصيغ المجتمع على صورتها. وقد عملت على هذا ضمن إطار الدولة، وخارج إطارها أيضاً. وهي عموماً مؤلفة من أناس مؤهلين تعليمياً ومتنورين ومتأثرين بالغرب، ينحدرون غالباً من الطبقات المالكة العليا والوسطى في المجتمع، ويعيشون بنسب متفاوتة من مردود ملكياتهم، هؤلاء ساهموا مع بعض أهل الدولة وقتئذ في تحديث المجتمع. هذا من جهة/ ومن جهة أخرى هذه الفئة وليست الدولة هي التي قادت الحملة لفرض الدساتير والقوانين الحديثة، وهي أول من أنشأ الأحزاب السياسية، وأصدر الصحف والمجلات وأقام التجمعات الثقافية. وفي ظل سلطتها أسست فيما بعد النقابات والاتحادات المهنية... وغيرها مما يُعد من كيانات المجتمع المدني.

  والطريق "الدولوية" في التحديث طريق أبوية، لم تكن ضرورية بالنسبة للبورجوازية بقدر ضرورتها بالنسبة للأرستقراطية القديمة، ثم بعدئذ للبورجوازية الصغيرة، ذلك لأن سلطتها لا تنحصر ضمن الدولة أي فقط بأساليب البيروقراطية والأمن والسياسة التي تحفظ النظام الأبوي أبا عن جد، بل أيضاً وبالأصل تقوم سلطتها على أساس الاقتصاد وملكية وسائل الإنتاج والتبادل، ومن المعلوم أن الفكر البورجوازي الأصلي (أي الليبرالي) لا يقدس الدولة، بالعكس كان يرى  ـ  على الأقل حتى ظهور الكينزية[10]  ـ  تحجيم دور الدولة ووظائفها إلى الحد الأدنى الذي لابد منه للاستثمار والسلام الاجتماعي. وعلى الرغم من تصالح البورجوازية مع الأرستقراطية، خصوصا بعد الاستقلالات، فإن الفكر الليبرالي كان في ظل الحكم البورجوازي الوطني يتقوى على حساب الفكر الكائن وهو الفكر الاشتراكي والفكر التقليدي المحافظ.

    أما الشريحة الاجتماعية التي قامت سلطتها على أساس سياسي، وعلى قوة أجهزة الدولة والدعاية الايديولوجية للمثقفين، فهي نخبة البورجوازية الصغيرة، وذلك منذ الخمسينيات في العديد من البلدان العربية مثل؛ مصر وسورية والعراق وتونس واليمن والجزائر، وليبيا، والسودان، وفلسطين. تتكوّن هذه النخبة الجديدة بالأصل في أغلبها من عاملين ذهنيين مسيسين وضباط صغار وطنيين، ينحدرون من طبقات صغيرة الملكية تعيش غالباً على قوة عملها، ولا ترتبط بمصالح اقتصادية أو سياسية بالدول الاستعمارية. فلم يكن بيد هذه النخبة للوصول إلى السلطة والحفاظ عليها ولتنفيذ أهدافها، دون شراكة الطبقات الدنيا سوى الوسائل والأدوات الدولوية، ففعلت كل شيء بالدولة وتحت جناح (أو تحت مخالب الدولة بتأثير هذا الفرق الجوهري كان التحديث البورجوازي العربي بطيئاً، وحتى متردّداً، فبدا طبيعياً، في حين جرى التحديث البورجوازي الصغير عنيفاً وسريعاً، ولذلك يعد شبه اغتصابي وغير راسخ) وخلاصة القول إن النخبة الاجتماعية في الوظيف العمومي الخدماتي، عموماً كقوى قومية تحررية، هي التي هيمنت على المجتمع المدني أو هي التي ألغته (عملياً)، من خلال السيطرة على الدولة ثم السيطرة بها. والسؤال الجوهري أين الحداثة في مرحلة كانت تعج بتقنياتها في العلوم والتكنولوجيا والانسانيات؟ هي بالذات ـ عربيا ـ في التقنية فقط لكن الفكر الاقتصادي والسياسي والثقافي فمستثنى.

   وفي ميدان النقد الأدبي لما تطورت الدراسات الباختينية بمنأى عن الشعرية الشكلانية، حيث كانت تمثل الوجه الثاني لها، وقد كتب لها الانتشار بعد ترجمة نصوصها من الروسية إلى الفرنسية أو الإنجليزية. فجاءت على مقاس ما ترضاه الأنظمة الأبوية ومؤسساتها الأكاديمية، والمتمثلة أساسا في أعمال باختين المقابلة لليبرالية البرجوازية، والحداثة بمعنى عام في "شعرية دوستويفسكي" ثم "جمالية الرواية ونظريتها" و"الماركسية وفلسفة اللغة"، وكلها مؤلفات تداخلت مع بعضها وتكاملت لتقدم من جهة تصورا جديدا حول مفهوم الرواية ونقدها وأصولهما غير البورجوازية؛ وقد راقت هذه الانتكاسة الحداثية كثيرا النقد الأكاديمي في أغلب الدول العربية لتقدّمها منهجية في مقاربة جانب الدلالة في النص السردي بصفة عامة والرواية بصفة خاصة، وهو شيء مهم بالنسبة لهم معتبيرنها (بعد اكتمال تطور قواعد ومبادئ بنيوية جماعة تل كيل) نوع من المسار التصحيحي في تلكم المناهج الحداثية الشكلانية والبنيوية ذات الخصائص العلمية التنويرية الزاهدة في الدوغمائية.

2.1         السلطوية واستثمارها لإشكالية الأصالة والمعاصرة:

   على خلفية الصراع بين التيار الديني والعلماني في الفكر العربي الحديث والمعاصر الممتد والمتجدد عبر المراحل السابقة  ـ  على الأقل  ـ  بسبب عجز الدولة الوطنية (وهي دولة الحكم المطلق في أغلب الدول العربية) عرف الرّبع الأخير من القرن العشرين بروز الصراع في شكل إشكالية فكرية، ولعل استجابة أصحاب المشاريع الفكرية الداعية إلى نهضة الأمة وتخليصها من عثرتها تلخصت وتحصنت بالتموقع ضمن ثلاث جبهات، كل جبهة منها تقدم حلاً وتدافع عنه، وكأننا في ساحة حرب فكرية، كل جهة تتحلق حول رأيها وتأخذ تطلق الانتقادات إلى الجبهتين الأخريين؛ فأصحاب الجبهة الأولى تحلقوا حول العودة إلى التراث، معتبرين أن العودة إلى آراء وحياة السلف الصالح هي الحل لمواجهة هذا التقدم الغربي، واعتبروا أن «الإسلام هو الحل» ولكن بأي صورة وعلى أي شكل؟! فقد تناسى هؤلاء أنهم ليسوا في فهمهم للإسلام كالسلف الصالح، وليسوا في درجة علمهم ولا في درجة جرأتهم ولا حتى في أدنى درجة من درجات وعيهم! أما أصحاب الجبهة الثانية فقد اعتبروا أن الانسلاخ من العصر والعودة إلى الماضي والتمسك بالتراث إنما هو ضرب من الجنون، ولذا رأوا الرأي النقيض؛ إذ وجدوا أن الحل هو في الأخذ بكل أساليب العصر التقدمية في صورتها الغربية الحديثة وقطع الصلة تماماً بالتراث، وتناسوا أن مجرد الأخذ بالأساليب الغربية والتشكل بمظاهرها الحضارية لن يكون أبداً هو طريق التقدم دون هوية تصهرهم، فلكل أمة هوية لابد منها حتى يحدث التمايز مع الآخر ثم قبوله مهما كانت صور تقدمه.

   فالحداثة لا تصنعها المناهج الشكلية في يد بضعة أفراد تشكّلوا بزي ومناهج حياة وأخذ نواتج علوم حضارة أخرى، بل التقدم يصنعه الشعب العامل كما تصنعه الصفوة، بينما رأت البقية الباقية المشكلة من النخب الدولة أن الصراع بين الجبهتين لن يؤدي إلى نتيجة، حيث إن كليهما يدعو إلى حل غير واقعي وغير منطقي وغير عقلاني، ومن ثم فقد رأوا أن الحل العقلاني والمنطقي لهذه الإشكالية هو في التوفيق بين دعاة الأصالة (التراث) وبين دعاة المعاصرة (الأخذ بالثقافة والعلوم الغربية) على أن يقوم هذا التوفيق على أساس أنه لا مانع يمنع من أن نأخذ من التراث الإسلامي كل ما يحض على العقل والعلم وصحيح الدين بالطبع، وأن نقيم المقاربة على أساس ذلك مع حضارة العصر التي أساسها أيضاً العقل والعلم. وقد تناسى هؤلاء كذلك أن في التوفيق يكمن التلفيق الذي تظل معه الإشكالية قائمة! فالمسألة ليست خانات ثلاثاً: التراث والعصرانية وبضمهما نخرج بالخانة الثالثة، خانة التوفيق بين الأصالة والمعاصرة، إذ إن هذه الدعوة أكدت في الواقع الثنائية رغم أنها دعت لتجاوزها، وتبنت دعائم الصراع، بين أن نكون تراثيين تقليديين وبين أن نكون معاصرين نعيش قيم العصر؛ ففي قيم العصر ما يتعارض حتماً مع قيم التراث، وفي قيم التراث ما يرفض الكثير من قيم العصر، والخلاصة أن الصراع سيظل رغم الدعوة إلى التوفيق بين ثنائية الأصالة والمعاصرة.

   وعلى الرغم من وضوح المصطلحين واختلافهما فإنهما في النقد العربي يتفقان من حيث ارتباطهما بالعصر الحديث من الناحية الزمنية وصدورهما عن روح هذا العصر وخصائصه واتجاهاته ومذاهبه المختلطة بالسياق والواقع العربي، فالحداثة كما يذهب أغلب النقاد، هي تعبير حضاري واستجابة لقضايا العصر وطرقه في التذوق والتفكير والتعبير المبنية على ما سبقها من حضارات، وآخر هذه الحضارات هي الحضارة العربية الاسلامية، لكن تأثير النقد الواقعي المرتبط بالأحزاب الحاكمة التي تصف نفسها بالوطنية وتجذره في مؤسساته فكانت يد عون لخلق الإشكالية ورعايتها تملصا بالتمييز "بين الحداثة La Modernité أو الحداثية le modernisme أو العصرية، أي اثارة الطرف الأصولي وجعله مقابلا للطرف الحداثي خاصة في الشعر كفرع من فروع الحداثة الفكرية، وفي كل قطر عربي سواء كان محافظا كدول الخليج أو اشتراكيا قوميا في ذلك الوقت، مثل مصر والجزائر والعراق وسوريا، باعتبار حداثته ليست من صميم تصور علمي علماني: "كتابات كثير من الأدباء اللبنانيين الذين يتزعمهم سعيد عقل وأدونيس، وغيرهما من الحداثيين الذين فهموا الحداثة على أنها تمرد ورفض للتراث العربي بجوانبه المختلفة، فانساقوا بذلك مع التيارات العدمية والفوضوية والشعوبية، الشيء الذي جعل من الحداثة، خصما للتراث وبديلا للقديم، وقد دفع ذلك ببعض النقاد الواقعيين الى استعمال المعاصرة، بدلا من الحداثية لارتباط هذه الأخيرة بالاتجاه السلبي على الرغم من أن المعاصرة هي أكثر. ارتباطا بحركة الزمن، وفي ذلك يقول الدكتور جابر عصفور إن ارتباط المعاصرة بالعصر، مجرد العصر، ينأى بالمصطلح عن اقتناص روح العصر، فيتحول المصطلح إلى مجرد وعاء زمني"[11]

    ناهيك أن المعاصرة هذه لم تعد حسب الطيب تيزيني تعني التوجه إلى أوروبا بمنجزاتها الصناعية العلمية، وإنما أصبحت القدرة الفعلية على استخدام الرؤية الأكثر علمية وثورية في تقصي الواقع العربي المعاصر في وضعه وفي آفاق تقدمه تقصيا لا يتوقف عند النقد، بل يطرح التجاوز الجدلي الثوري له من خلال اكتشاف البديل الجيد، والعمل على إبداعه عبر نشاط سياسي علمي متآخ بصورة عميقة مع تمثل وفهم الإشكالات والعوامل والكوابح وهذا يعني دلالة مصطلح الحداثة أو ببساطة التخلي عن النظام الأبوي تحالفا ونشاطا سياسيا أو تلفيقا واحتيالا تحزيئيا للحداثة نفسها (المادية فقط) فالمعاصرة لا تكون كذلك بالإتباع ومجرد السطحية المتعلقة بمظاهر الأشياء والمقابلة لما هو أصيل إلا عن طريق الحداثة. فلا يكون الشاعر معاصرا بمجرد أن يصف الصاروخ أو التليفزيون، أو عظمة الاشتراكية. مثل هذا الشاعر بالنسبة للمفهوم الحديث للشعر هو رجعي عظيم الرجعية، واقتران المعاصرة بالبعد الزمني وروح العصر يجعلها مرتبطة بالحداثة إن لم نقل ترادفها رغم ما تتسم به الحداثة من تجاوز للحاضر نحو المستقبل. "وعلى نقيض ذلك يتخذ مفهوم الحداثة في بلدان العالم الثالث والعالم العربي صيغة المقابلة (أصيل ـ معاصر) لطمس التأخر التاريخي والاستلاب الحداثي وسط ركام (بلاغات) الحداثة وأسطوريتها السحرية"[12]

  ولعله من انعكاسات خلفية الصراع المفتعل المضمر الظاهر في إذكاء التقابل بين الأصالة والمعاصرة إذكاءً فيه حيلة ثقافية من قبل أنظمة الحكم الأبوية اشتداد الإشكالية اللغوية في المغرب العربي، وعلى جميع المستويات حتى الأكاديمية منها، ومسألة اللغوية والهوية في الجزائر تُعد مسألة من أبرز مكوّنات أزمة بناء الدولة في أفريقيا والمغرب العربي. وفي هذا الصدد أكد وزير التربية والتعليم الأسبق علي بن محمد في برنامج بلا حدود بالقول: «إنّ المعركة حول اللغة والهوية في الجزائر لم تندلع، لأنها لم تخفت قط وكانت دائماً حاضرة»[13]

   ومن التأثيرات السلبية لتاريخ الاستعماري في المنطقة المغاربية وللعولمة قضية أخرى أكثر خطورة، هي أنّ واقعه اللغوي يتسم بالثنائية اللغوية[14] (الدارجة ــ الفصحى، الفرنسية ــ الفصحى، الدارجة ــ الفرنسية من افتعال السلطوية ثم تسيسها، لابتزاز هذا الطرف أو ذاك من ثمة الظهور بمظهر المتحكم والعارف بخبايا القضية ليطيل جثومه في الحكم، وهذه الوضعية سبق لوزير الأول السابق سيد احمد غزالي وصفها بالراعي الذي يقطع ثيابه لإعادة خياطتها، ويصفها الباحث الجزائري ناصر جابي بأنها أزمة مستحكمة ويذهب إلى القول بأن الأزمة أعيد إنتاجها بعد الاستقلال بواسطة مؤسسات الدولة الوطنية نفسها ونحبها، وإلا كيف نفسر أن يدرس الطالب كل حياته مثلاً بالعربية عندما يكون طالباً في العلوم الدقيقة والرياضيات وعندما يريد أن يتوجه إلى الجامعة يطلب منه أن يتعلم بلغة أخرى، وهي الفرنسية التي لم يدرسها إلا قليلاً جداً (..) نطلب منه التعامل في المؤسسة الصناعية والإدارة وغيرهما من مؤسسات الشغل بلغة عندما يكون تخرج بلغة أخرى، ولم يتعلمها (..) وتخيل النتائج المترتبة على هذا الوضع اللغوي المريض، خذ مثلاً الفضائح التي تظهر عند كتابة الوثائق الرسمية بما فيها الأسماء»[15]

3.1 ماذا سيبقي من حداثة العرب في ظل الصراع الأشد بين العولمة والمحلية؟

   على خلفية الصراع بين التيار الديني والتيار العلماني في الفكر العربي الحديث والمعاصر وتحت رعاية الدولة الوطنية تطورت الإشكالية السابقة بمصطلحات ومسميات مستجدة كالتراث/المحلية والعولمة، بيد أن المعنى كان واحدا وهو اجهاض المشروع الحداثي بجعله يزداد مرضا مع انقضاء تاريخ الحداثة نفسها في الغرب وظهور تيار ما بعد الحداثة كتيار فكري ومعرفي جديد غير أن بروزه كان واضحا أكثر في الفنون البصرية.

   نخشى أن الحداثة فعل لا يقوم على الاختيار الواعي فقط، بل بالاختيار الذي فيه مجازفة خروجا من مأزق يخص الفعالية الفكرية والأدبية والفنية، ولا يقوم على التجاوز، بل على البناء على ما كان، عكس المعاصرة التي هي مجرد وجود في الزمن تنطوي على نوع من الاختيار بالضرورة. وتبعا لذلك فان وضع العولمة بدلا للحداثة في طريق التراث استراتيجية سياسة للقفز على مبادئ الحداثة أو تغييرها وفق متطلبات السياق "المعركة بين الحداثة والتراث معركة مصطنعة، المعركة الحقيقية هي بين الحداثة الأصلية والحداثة المزورة بين الحداثة التاريخية وبين الحداثة الهاربة من وجه التاريخ، بين الحداثة المؤسسة على الإيمان بحضارة الأمة والتفاعل الحضاري، وبين الحداثة الفوضوية الهائمة تحت أي فضاء إلا الفضاء العربي! "[16]

   وفي بداية القرن الماضي مع طفرة تقنية الاتصال والرقميات أصبحت مقولة الطريق المختصر للحداثة والتقدم والقوة يكمن في التحضر والصناعة ينزاح لصالح ثنائية المؤسسات المصرفية العملاقة والمعلوماتية، فقد قللت العولمة  من ثنائية العالم عن طريق النظام الاقتصادي الجديد وقاربت من تماهي الثقافات برغم أنه يمكن أن تضحى دولة غنية ساعية إلى هذا النظام بين ليلة وضحاها فقيرة، وبغض عن المشاكل العالمية المتساوية الأضرار كتدمير البيئة، استمرت التيارات الانعزالية الأبوية بتشويه العولمة بمقابلتها بمفارقات الدين، وفهم التراث التي هي جزء منه على أنه اجتهاد وجزء من الدين وليس العكس، كما فعلت إثر صدمة الحداثة، بجعلها أيقونة الاستعمار واقتصاد الإفقار العام لصالح رفاه النخبة، "وفي (عالمنا العربي والمسلم) في خضم صدمة الحداثة منذ احتلال نابليون مصر حتى يومنا تماوج الحديث في الحداثة وفي مفردات تتوالد في محيطها على غرار «التنوير، التجديد، المعاصرة، التنمية، التقدم، التخلف؛ وأصبحت مفردات تستدعي الجدل وافتراق المسارات بين رؤية تمثل القطيعة مع الدين كمرجعية فكرية، وأخرى تنطلق من الدين"[17]

    من هذا المنطلق فإن التوجس الديني من مبادئ الحداثة الفكرية ومن أخلاقيات كانت دوما محل نقد لها، وهو منطق براغماتي انتهازي ضاغط على السلط لإقامة النظام الأبوي بعلاقة تحالفية معها في الأخير إما كأحزاب معتدلة أو مجتمعا دينيا يحتل غصبا مكانة المجتمع المدني، كما نستشف في هذا التصور (سواء اشتراكيا وطنيا كان وظل مشمئز من النظام الرأسمالي الحر أو اسلامي مشمئز من اخلاقيات مجتمعاتها) عن الحداثة، ووفق هذا التصور التراث لديها جزء من الدين لأنه لا يوجد آخر لديه إلا باعتباره كافرا! يعني التراث مقولة فقهية  ـ  علمية أو علمية ـ فقهية بامتياز وتعني التجديد والحداثة (في الإسلام الدين: وهو القرآن والسنة الثابتة والتراث: وهو الاجتهاد البشري في الفهم والتطبيق المستند للشروط العلمية والتحريف: الآراء غير الملتزمة بالشروط العلمية)[18]

   ولدى كليهما هناك تناسي أو التغاضي عن عنصر مهم هو شرط الحرية والمشاركة، وذلك إذا ما نم نمّ عن أدلجة وتسبيق للفكرة عن البنية (بنية الحداثة) وهذا عدم فهم للحداثة وانغلاق عنها في غياهب التقليد والدوغما: "بدأت الثورة الصناعية الأوروبية حينما بدأت الكنيسة والإقطاع التقليدي بالتضاؤل لصالح رجال الأعمال، وأخذت المزارع الصغيرة تلتحق بالكبيرة لانعدام القدرة على المنافسة. هذه الثورة الصناعية التي أذنت بولادة الحداثة كانت مريرة، حيث تحول المزارعون الذين خسروا أراضيهم إلى عاطلين أو عمّال مستأجرين في المصانع الكبيرة وبأجور زهيدة وظروف عمل قاسية، وكان الربح الوفير لمالك المصنع. وهكذا توالد الفقر أيضاً في الرأسمالية، وربما أسهم الاستعمار في تخفيف التناقض الطبقي في المجتمعات الأوروبية بتخليق طبقة عمالية رخيصة في البلاد المستعمرة وهكذا ارتبط التقدم بالاستعمار خالقاً أبشع الصور، كما أن العصر الحديث الرقمي وما بعد الحداثة التقليدية ارتبط بالهيمنة الأمريكية وحروبها العالمية المتنقلة وبالأزمات العالمية الخانقة الاقتصادية والبيئية بعد الحرب العالمية الثانية خرجت الولايات المتحدة القوة الوحيدة والسالمة من آثار الحرب المباشرة السلبية، وكان إيجاد الأسواق الجديدة ومكافحة المد الشيوعي قد آذن بمشروع مارشال لتسترد أوروبا عافيتها، وبخطط تنموية في البلدان الآسيوية وغيرها لتقليل مشاكل الفقر لئلا تجتذبهم الشيوعية"

   ولعل خير دليل على خطئ وانحراف هذا التصور انحرافا سياسيا وفكريا إمكانية رده على عقبيه بالبرهان، ذلك أن ضد الحداثة كما ذكرنا أعلاه تقمع المرأة والمرأة في النظام الرأسمالي الليبرالي تجلى دورها في: "في الولايات المتحدة تشكل النساء حوالي خمسي القوة العاملة، ويعادل متوسط أجورهن ثلاثة أخماس متوسط أجور الذكور وهكذا نجد أن الاستغلال الزائد للنساء كوسيلة إنتاج موجود في الاقتصاد المركزي، ولكن الصفة الرئيسية لخضوع المرأة لاحتياجات الرأسمالية المتقدمة لا تكمن في ذلك، بل في دورها كعامل استهلاك. يشترط التراكم المستمر في المركز التوسع المستمر للطلب على البضائع الصناعية من قبل الطبقات العاملة. عندما يكون الرجال ملتزمين بإنتاج البضائع لفترة طويلة من النهار يصبح من حق النساء الاضطلاع بمسؤولية إدارة الاستهلاك. إن عزلة النساء في الرأسمالية المتقدمة تنشأ بشكل رئيسي في هذه المهمة المفروضة التي هي تحويل البضاعة إلى قيمة استعمالية. وبالمقارنة بالقطاع الكفافي للاقتصاد المحيط. فإن تبعية المرأة تنشأ في دورها نصف البروليتاري بدلا من كونها عامل استهلاك. إن تقسيم العمالة من حيث النوع والذي هو بشكل رئيسي بين أدوار الإنتاج والاستهلاك يفعل فعله في المركز بين إنتاج البضاعة وإنتاج القيمة الاستعمالية. وسينتج عن ذلك أقسى أنواع الاستغلال لأنها تراكم كمية كبيرة من المهام التي تتطلب قوة جسدية والتي يجب القيام بها ضمن شروط بدائية للغاية - حراثة قطعة الأرض المعيشية والطعام وتربية وإطعام الأطفال والاهتمام بالمنزل والذهاب إلى السوق... كما تلاحظ وكالة التنمية الدولية الكندي  (195 : 1966) (CIDA)عمل مكثف يرهق إلى درجة الإنهاك ومهما كان سنها صغيرا فهي تبدو مسنة ومنهكة.. إن الأطفال مساعد رئيسي لعملها "[19]

   مسألة صراع الحداثة مع الدين والجدل النظري الذي أفضى إلى تحكيم سياسوي بين هذا الطرف وذاك تعود في سياقها العربي لتأثيرات العولمة بجميع أنواعها (الإيجابية على المجتمع المدني والسلبية على الأنظمة الأبوية السلطوية والتيار الأصولي) طبعا لم ترض تلكم السياسة الجميع، فتأسست نظرية المستبد العادل في الوعي العربي الراهن، وعلى ذلك الوعي العربي التساؤل أولا حول موقع الشعوب من اضطهاد السلطوية للحداثة، فإنه مجرد حديثنا عن الوعي يشي عن اضطهاد الشعوب لنفسها، فهي التي تصنع طغاتها، بل أنهم هم الطغاة برضاهم على الطاعة والانصياع، فمَن يصنع مَن؟ الظالم أم المظلوم؟ المتجبّر أم المقموع؟ الحاكم أم المحكوم؟ طبقا لمقولة ابن خلدون عن ولع المغلوب في اتّباع الغالب فإن الشعوب التي يضطهد حكامها الحداثة وهم المعنيين بمكاسبها قبلهم وأمام أعينهم! وهم ساكتين يضطهدون أنفسهم!

    الجبروت السياسي ظاهرة معقدة جدًا وتشتمل على ظواهر متواشجة يصفها الواصفون ويحلِّلها المحلِّلون، وتشخيصها عادة ما يتم من خارجها "وهنا تأتي أهمية الشهادة الفردية حين تنخرط في ميثاق السيرة الذاتية، وهنا تُطرح قضية أخرى لن تقل أهميتها عن أهمية المسألة الجوهرية الأولى؛ إنها قضية الوعي بتوَلد الحكم المطلق، أعني: متى ينجلي الوعي بالظاهرة؟ وكيف يتشكل إدراك الناس لها؟ ماذا يحصل لدى المثقف النقدي من مترتبات ملازمة لذاك الوعي؟ وفي المقابل: لماذا يغيب الوعي؟ وكيف تتروض النفوس على مداراة الظلم والطغيان؟ ولكن السؤال الأقسى: كيف تتحدد مسؤولية المثقف بعد إدراكه التصادم العنيف بين آلياته الفكرية ومشاهداته السياسية؟"

   إن سلطة الخطأ في الفعل السياسي أعظم كثيرًا ممّا تكون عليه في الإنجاز الفكري وفي الإنتاج المعرفي وفي التدبّر الثقافي؛ لأن الخطأ الذي هو استراتيجي بالضرورة، غلابٌ قاهر، وسلطته متجددة بذاتها، سواء اتصل بفعل القرار أو جالَ في حقل الخطاب، والسبب هو أن فعل الكلام في غير السياسة منفصل عن فعل الحدث، لقد كانت الثقافة دومًا هي كبشَ الفداء عند حصول أدنى ضائقة اقتصادية وستوجد حتما في النظام الأبوي سياسة وبالنظام الأبوي ثقافة عبر الشعب الذي لا يُؤمِن بقوته. وهكذا ما انفك الشأن الثقافي يحمل أعباء السياسة، ثم يقع تطويعه، كي يكون رأس القاطرة في الحملة النسقية التي تسعى إلى صَهر الهويات الإنسانية في هوية استباقية جاهزة جديدة ستكون هي بالفعل اللاهوتية.

   إن جوهر الخطأ السياسي الأكبر يكمن في التحريف النظري والإجرائي الذي نراه يطرأ على مفهوم البراغماتية كمبدأ مرجعي وكآلية إجرائية لتوظيفه سياسيا في التوفيق بين الطرفين النفيضين ليس إلا، لأن أحد الطرفين هو ضد التوفيق نفسه، ولأن التوفيق علم اجرائي مادي يحد من علم اللاهوت وبالتالي زيف التوفيق الذي يصح تسميته تلفيق أيضا: ولنضرب عن صراع المشهد السياسي اللبناني على خلفية محاولة حداثية في تجاوز الواقع العربي (بحكم ريادة لبنان التنويري على المستوى العربي) ولكن طرفاها علمانية مسيحية وغير مسيحية مقابل طائفية شيعية وسنية تجسدت على ارض الواقع وتنامت بتنامي بؤر الخلافات مع مرور الزمن لأن لها في الواقع النظري من خلاف عميق ما يجعلها تطفو: فلقد عاش اللبنانيون المسيحيون، يكتبون ويترجمون ويتحدثون، عن الحداثة والتنوير حتى أصبحت بلادهم ، قلعة التنوير الأولى في الشرق الأوسط فعلاً ، ولكنهم عندما تقاتلوا سنة 1975 لم يتقاتلوا على حداثة ولا تنوير، ولكن على الدولة الطائفية، وبعد أن انتهت الحرب، وأصبح هناك مشروع لتأسيس الدولة اللبنانية الوطنية، فقد اختاروا في النهاية نموذج تلفيقي (الدولة الإيرانية الطائفية)

   وقد ظل الأقباط المصريون يقاتلون تيار الإسلام السياسي السني بكل قواهم من أجل الدولة الحديثة والوطن الواحد، ولكنهم وبمجرد أن بزغ نجم تيار الإسلام السياسي الشيعي التوفيقي تخلوا عن مبدأ الكفاح من أجل ذلك الوطن الحديث الواحد، الذين حملوا راياته مع منذ ثورة 1919، أملاً في الانضمام إلى مشروع تمكين الأقليات الذي يرعاه نظام الملالي الإيراني. ولقد عاش شيعة العراق يشتكون من ظلم نظام صدام حسين السنى، وارتدوا أثواب الشيوعية تارة، والحداثة الأوربية تارة أخرى، حتى إذا آلت إليهم السلطة، بعد زوال نظام صدام، نسوا كل ذلك واختاروا طريق إيران الطائفية الا لأنها وفقت بين الشيوعية والعلمانية وبدأوا في اضطهاد شركائهم السنة، ونفس الشيء بالنسبة الأقلية العلوية في سوريا مع توفيقية السلطوية والأقلية الحوثية في اليمن، ويعود فشل أي مشروع تحديثي حاثي عربي مرحلة أو جيل بعد آخر إلى كون أقليات الشرق تعد جزء من المشكلة، بعكس أقليات الغرب التي كانت جزء من الحل.

   وفي مجال تخصصنا النقدي فإنه لا سبيل إلى كتابة تاريخ الحداثة العربية في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية إلا بإقامة جسر متحرك بين العلم اللغوي وعلم الخطاب، من حيث هو شامل علمَ الشعر وعلمَ فنون النثر وعلم النص بصفة عامة، والسبب في ذلك أن استنباط اللساني لنواميس الظاهرة اللغوية يظل ناقصًا إن لم يتقصّ أسرارَ الخطاب الإبداعي، وأن استكشاف نقّاد الأدب لشعرية الخطاب يظل مبتورًا ما لم يتسلح بمعرفة الخصائص اللسانية الواسمة للبنى التركيبية التي تَحْكم الخطاب التداولي.

    وخلاصة القول بعد ربع قرن من قراءتنا لإشكالية الحداثة عربيا (هناك من وصفها بالوهمية والافتعال، ومنهم من وصفها بالاستعصاء) بيد أنها لا تعدو إشكالية من الإشكاليات المعبرة عن عدم توافق ما اشتملت عليه من العقلانية والتنوير في أوروبا مع السياق العربي، لأن الدين فيه مطلق ومجاله الحيوي مجتمع تجمعه الأبوية، لذ من المحال أن يأخذ مكانه المجتمع المدني وهو بذلك يمانع حداثة العرب بمعنى الكلمة؛ أولا وجدت الحداثة لتوكيلها بتفكيك النظام الأبوي، وعدم تفكك النظام الأبوي حينئذ يعني أنّ القاعدة الأساسية التي تستند إليها البنى السياسية والاقتصادية (ليبرالية وديمقراطية) شكلية لا تستجيب في تمثيل الحريات وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، وهذا يعني أن رموز النظام الأبوي قد تعايش الحداثة تلفيقا وتشويها. وثانيا دوران الإشكاليات الثقافية التي تتحكم فيها السياسة والتي تغذي الممانعة مرحلة بعد أخرى، كالتي تناولنهما، أي إشكالية الأصالة والمعاصرة ثم إشكالية العولمة جاعلة ممانعة الدارة لمرور تيار الحداثة أمرا مؤكدا.

  ولعلّ تأملنا في الحداثة بيننا وبينهم، مفهوما نظريا وواقعا ملتمسا، أبان أن المشروع اُضطِهد حقا ومازال، بوقوعه بين شد وجذب طَرَفِي مُزمن مومئ بأمارات انتكاسة المشروع، ناهيك أنه استوعب واستُهلك ونفذ في موطن نشأته ومازال الشد والجذب قائما حوله بعد رحيله، وإذا كان المرء مؤمنا أو ملحدا أو علمانيا يرى في عمله ما يدخله الجنة، فإننا نخشى أن الحداثة ما هي إلا تجل من تجليات سيميوطيقا بنية الكون أو بلاء في وجه من سترهقهم قترة، أي تغشاهم ذِلّة يوم لا ظل إلا ظله بسببها  ـ بالمفهوم التقليدي ـ لوقوفهم حجر عثرة (لمن كان يظن أن الحداثة دنيا فإنه قد خسر بتخسيرها دينه ودنياه)



[1] . علي أسعد وطفة، مقاربات في مفهومي الحداثة وما بعد الحداثة، موقع وطفة نت، نقلا عن Danilo Martuccelli, Sociologie de la modernité, E.Gallimard, Paris, 1999.

[2]. لأنه عكس حداثة المغرب العربي الفكرية التي مانعها أقبل بنهم وشغف باحثوه المفرنسين على الحداثة التقنية؛ العلمية والاجرائية لتطبيقها على اللغة العربية وآدابها من ذلك اللسانيات والمناهج الشكلانية والبنيوية، والسبب كامن في ضعف المطارحات السجالية والنقدية عبر الصحافة، التي تعد رافد معرفي مهم لقسمي اللغة العربية والفلسفة، فقد شكلت وسائل الاعلام العربية بنخبتها عبر المجلات العربية المتخصصة ذات المشارب المتنوعة فيتوا موثوق به لمنح الضوء الأخضر من عدمه، عكس ما حصل مع المغاربة، وهذا إن عبر عن شيء لم يعبر عن أصالة الهوية اللغوية والأدبية العربية المشرقية في مقابل المغاربية فقط، بل كذلك على نمو الوعي النقدي وبتعدديته استقلّ عن مركزه الوحيد والأوحد أجهزة الدولة الوطنية. وينظر في هذا الشأن مقدمة كتاب "نقطة ابتداء في الحداثة والتحديث والنقد الثقافي" لعباس جاسم سبيلا. في هذا الكتاب تناول ثقافة الحداثة برؤية سياسية وكان عليه في النقد الثقافي أن يتناول السياسي برؤية ثقافية بتغيير اسم اليسار الجديد إلى الثقافة الجديدة.

[4] . بينما يلمح نصر حامد أبوزيد ضد هذا الواقع المؤلم بقوله: " أنا معلم قبل أن أكون باحثا وأعلم الطلبة كيف يفكرون لا كيف يتلقون المعرفة الجاهزة، إذا لم يكن بين طلابي من هو قادر على تجاوز أفكاري فهذا فشل منّي وهو الفشل الذي تعيشه المؤسسات الأكاديمية" ينظر ندوة إعادة تعريف القرآن، المحاضرة الرابعة، مكتبة الإسكندرية، 2008، https://www.youtube.com/watch?v=L8ZRrY6GqyQ

[5] . ميسون العتوم، جسد المرأة والدلالات الرمزيّة: دراسة أنثروبولوجية بمدينة عمّان (الأردن)، إنسانيات، العدد 59، 2013، ص11.

[6] . عباس عبد جاسم، نقطة ابتداء في الحداثة والتحديث والنقد الثقافي، مركز كلاوير الثقافي، العراق، 2013، ص17.

[7]. ينظر نصر حامد أبوزيد: الحياة هي مغامرة، في الموقع:   https://kiraatn.blogspot.com/2021/07/blog-post_7.html

[8] . المرجع نفسه، ص18.

[9] . صادق جلال العظم، العلمانية والمجتمع المدني، في النهج، العدد 40، صيف 1995، ص191.

[10] . العنصر الأساسي الذي تقوم عليه فكرة النظرية الكينزية، هو أن الاقتصاد الكلي يمكن أن يكون في حالة من عدم التوازن لفترة طويلة، لذلك تدعو هذه النظرية التي وضعها "جون مينارد كينز" إلى تدخل الحكومة، للمساعدة في التغلب على انخفاض الطلب الكلي، وذلك من أجل الحد من البطالة وزيادة النمو. ينظر ما هي النظرية الكينزية في الاقتصاد، موقع أرقام: https://www.argaam.com/ar/article/articledetail/id/507877

[11] . جابر عصفور، معنى الحداثة في الشعر المعاصر، فصول، مجلد 4، عدد 4، يوليو 1984، ص 36.

[12] . محمد برادة، اعتبارات نظرية لتحديد مفهوم الحداثة، فصول، مجلد 4، عدد 3، ابريل 1984، ص16.

[13] . برنامج بلا حدود، صراع اللغة والهوية بالجزائر، الأبعاد والتداعيات، قناة الجزيرة الفضائية، 21 أكتوبر 2015،

[14] .  الثنائية اللغوية هي اصطلاح حديث العهد يطلق على ظاهرة لغوية اجتماعية وهي استعمال لغتين: اللغة الأصلية ولغة ثانية، ويقابله في اللغة الإنكليزية كلمة Bilingualism. ولهذه الظاهرة ارتباط وثيق بهوية الفئات وعلاقاتها بغيرها من الدول الاستعمارية. انظر: عبد الرحمن الحاج صالح «الثنائية اللغوية بالنسبة للغة العربية وأوصافها الحقيقية: الإيجابية منها والسلبية» مجلة المجمع الجزائري للغة العربية، العدد 15 حزيران/يونيو (2012)، ص 9.

[16] . جهاد فاضل، قضايا الشعر الحديث، دار الشروق، بيروت، دت، ص73.

[17] . السيد جعفر العلوي كلام عن الدين والحداثة، البصائر، العدد 43، ص72.

[18] . المرجع نفسه، ص72.

[19] . تيمونز ريبرتس وآيمي هايت، من الحداثة الى العولمة الجزء الثاني، ترجمة سمر الشيشكلي، عالم المعرفة، العدد 310، ديسمبر 2004، ص15.


المقالة مزيدة ومنقحة صيغة pdf على الرابط1:



و الرابط 2:

author-img
موقع تنويري فكري وشبه أكاديمي، يتغيا تقديم إضافات نقدية تخص تحليل الخطابات الثقافية ونظرية النقد والأدب متوسلا بجماليات التلقي والنقد الثقافي، كما يعنى بنشر إبداع قصصي جديد ليس له ما يماثله على الساحة الجزائرية، والمقال المتناول للشؤون السياسية والإعلامية والاجتماعية المقاربة للظاهرة الأدبية والمحاكية المكملة لها.

تعليقات