أعلان الهيدر

الرئيسية عن "مصادرة واختطاف الأدب والنقد الأدبي العربيين في الجزائر"

عن "مصادرة واختطاف الأدب والنقد الأدبي العربيين في الجزائر"


 بوزيان بغلول

عن "مصادرة واختطاف الأدب والنقد الأدبي العربيين في الجزائر"

 

     نود التحدث باقتضاب شديد في هذه الفسحة حول المقالة المنشورة سابقا على هذه المدونة، ونحسب أنّ صاحبها أحسن وأجاد ايّما إحسان وايّما إجادة حينما وصف النقد والأدب المغاربيين، أنهما مصادران مختطفان على المستويين المغاربي بعامة والجزائري بخاصة، وحُق له أن يصل إلى هذه النتيجة بعد عديد المقالات المحللة المناقشة للموضوع بأدلة وشواهد من الواقع المسنودة بالاقتباسات، وبكليهما يؤكد أنّ القضية لا تخلُ من يد التواطؤ بين الأيديولوجيا والسلطوية وهي غير خافية ولا ملتبسة. وقد أثبت ذلك من دون السير في خط منهجي حتى يأتي بجوانب رئيسة في مقاله، فالمواظبة على تأمل تمركز الخطابات في بلده الجزائر قد هداه بعد التحليل والمناقشة غير المتعجلة على أن الإشكالية كامنة في غياب عناصر الحضارة التي أنتجتها الحداثة، من عدل ومساواة وحرية وتعددية ثقافية وديمقراطية، نتيجة ممارسة تعمل ضد هذه العناصر ، وتأتي من اتجاهين: أصولي و"وطني" والمزدوجتين إنما تشيران  إلى عدم مطابقة الاسم للمسمّى، بل قد يؤدي الإصرار على تمركزهما إلى تحالفهما تحقيقا لمآربهما، حيث الأصولي بمكون اللغة ـ مثلا ـ يحافظ على الأصولية، والوطني يسد ثغرة النقص المعرفي  التاريخي له معها، قبل المحافظة على وطنيته المتوهمة.

   وهاتان منتعشتان في الجزائر لا زالتا أكثر من أي بلد مغاربي آخر بعد تصفية الحساب مع نظام القذافي طبعا، فحينما قال الكاتب مشكورا: " اعتبر الإسلاميون بجميع أطيافهم في مؤسسات الدولة أن العربية ملكٌ لهم، وشرعوا يخططون منذ عقود ليفعلوا بها ما شاءوا، دون تدخل المسؤولين المباشرين عنها، وهذا خطر كبير يتهدد مستقبل تعليمها في الجزائر إن على جميع مستويات مراحل التعليم، وهو خطأ جسيم وقعت فيه سلطات البلد، إما لقصر يدهم المعرفية اتجاهها في فترة الستينيات والسبعينيات، المرحلة التي تمّت فيها المصادرة والاختطاف بصفة غير رسمية، وثم بعد ذلك في فترة الشاذلي في الثمانينيات تم ترسيم الاختطاف بصفة رسمية..." وقد دخل تعليم اللغة العربية فعلا أدبها بنقدها حلبة صراع النخب السياسوية، وولجت المسكينة مسرح المساومة والامتياز بين المسؤولين المباشرين في أعلى هرم الدولة والهيئات الاستشارية والأكاديمية في المعاهد والمدارس المشهورة ذات الشأن، وذلك من أجل ألا يقدح العلمانيون النزهاء بالتراث الديني، وبمستوى ما ينتج من أدب جزائري متوسلين بالمناهج الحديثة (وليست الحداثية) وما بعد الحداثية في النقد الأدبي وهو تقدير راجح جدا..

   لأنه بالعكس المناهج الحداثية كانت وستكون وسيلة للأصولية والسياسة، من أن يصادران الأدب العربي ولغته ومعهما النقد الأدبي، ويلجان به دروب ليست من طبيعته في شيء، بل هي خليقة بجوانب فلسفية واجتماعية، وهكذا هي طبيعة الأدب ليس أصوليا ولا سياسيا هو، وبمقارنة بسيطة بين الساحة الجزائرية والمغربية في هذا المجال سنجد أن كليهما في الهوى سوى، بيد أن المغرب الأقصى حدة الأيديولوجيا السياسية متوسطة به، وليست طاغية كما في الحالة الجزائرية، بيد أن المضمرات الثقافية التي مصدرها الأصولية والمحافظة على قيمها عند كليهما في هذا البلد أو ذاك، سواء بسواء، وتعمل عملها بالإضمار على أنها الذود عن الأدب من المعيارية والذوقية الانطباعية والتقليد بالعلمية وحداثة المنهج، مضاف لها المشكلة التاريخية والهوياتية، فكانا أول من لفّقا حداثة وادّعياها بتأثير هذين العاملين؛ الأصولية الضاغطة من السياق السوسيو ـ ثقافي على نظام الحكم، والإشكال الذي تطرحه الهوية غير المستوية بخصوص اللغة فيهما معا. فالأدب بطبيعته فن ووظيفته تقع ضد الأيديولوجيا مهما كانت، لأنها مثبطة وجاثمة بالحجر على مَن يحرر مِن قيد التخلف وهو العقل، وقد عرقلت الأديان ذلك بصفة مبكرة (الغاوون يتبعهم الشعراء) فقد كان الأدب والفنون عموما في القرنين 14 و15في إيطاليا (Renaissance) مفرشا للنهضة الأوربية في مجال العلوم كي تعم في كامل أوروبا في القرنين المواليين، فعصر الأنوار ثم العلم الحديث مدينان للآداب والفنون التي ألقت حمل القيود الدينية الثقيل في نهاية العصور الوسطى عن البشرية.

    وهو يدرك  (الكاتب) لا ريب أن المصادرة سياسوية وسلطوية تمت وتتم على أساس غياب الفعل أو الحركة الديمقراطية التي تجعل من "الثورة" والتاريخ السياسي الحضاري بما في ذلك مقوم اللغة، ملك مشاع للأمة فلا تُحتكر لصالح هذا الحزب السياسي أو هذا التيار والاتجاه الفكري، وقد أطلقت فعلا هذه السلطوية ونظامها الأبوي الذي يمتح من الأيديولوجيا الدينية والسياسية قواعد لعبه، العنان للغات الحية لتسرح كما تشاء، على أنها لغات أهل الفساد الأخلاقي (زر مثلا اقسام هذه اللغات في جامعة بوزريعة وسترى بأم عينيك) بينما قابلت اللغة العربية وآدابها التي هي بالأساس علم طبيعته تكمن في إصابة الجوانب الفنية بأيديولوجيا تَتْبَع الدين، من ورع وتقوى وحظ على أخلاق المتدينين، وهذا بادٍ على المستوى المظهري لو أنّك قارنت معهدا كمعهد اللغة العربية وآدابها بعاصمة البلد الجزائر بمعاهد اللغات الحية الأخرى، أما على المستوى العلمي والبيداغوجي فإنك ستلاحظ أن هذا معهدها أو كليتها، وبالذات في العاصمة، قد تحول إلى زاوية للتدريس القرآني أو جامعة الزيتونة أو القرويين أو الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية، كلٌ يزج بثقافته حيث الأصولي يزج بأخلاق واعتقادات الأصولي، والوطني يزج بقيم وطنيته وثورتها وهكذا هلم جر .. (وفي مثل هذه الحالة لا بد من لجان تفتيش لإنهاء هذه المأساة)

   فالكل يريد بمناهج تدريسه توجيها حزبويا وثقافيا سياسيا، والكل تعدّى حدوده بإصرار وترصد لمناهج النقد اللغوي والأدبي ترصد الشيخ لآمته أو جاريته (على أساس أن النظام الأبوي الديني الاسلامي هو النظام الأبوي الوحيد من بين الديانات السماوية الذي لم يبت في شأن  العبودية، كي يستغلها لصالحه) ليأتيها كما يشاء حيث يلبسها تارة لباس الفتنة ويظل مستمتعا بها عندما تكون واياه بصدد نصوص من الجودة بما كان شعريا وأسلوبيا كالنصوص العربية في المشرق الوطن العربي وحينها سيزيد سيدنا الشيخ من تعريها ولي ذراعها قائلا لها: "أنت ههنا كمارية القبطية وكبنت الحداثة الغربية كوني مع هذه النصوص ومعنا إذن في منتهى النزاهة العلمية ومنتهى الديمقراطية".

    أما إذا كانت هذه المناهج النقدية اللغوية والأدبية بصدد النص القرآني وما شابهه في السيرة النبوية فإنّ هذا النظام الأبوي المشيخي يُعففها ويغطي على جسدها وهي راغبة (كونها هي آمة وجارية وبالأساس تميل حيث الريح تميل، مع هواها، لأنّ احساسها إحساس ذوق وفن) أجل يُغطيها بحجاب كثيف من فخر النسبة، ومن فخر الانتماء الى هذا التراث البلاغي والأدبي الراقي فلا تبين إزائهم إلا وهي في فرع سماوي نازل بالورع والتقوى الإلهين المزدانين برداء الحشمة والفضيلة كما يقولون ويحبون. فيطلقون عقالها على البحوث اللغوية التي يتبجح أصحابها أنهم ورعون متقون لربهم اتجاهها، ليتناولو في ماسترهم الآية الفلانية بالدراسة الأسلوبية، وفي ماجستيرهم السورة الفلانية بالدراسة الأسلوبية البلاغية المقارنة، وفي دكتوراهم دور الشيخ الفلاني في إرساء قواعد المنهج العلمي الفلاني! وهكذا دواليك هو دوران الحلقة.

   أما قول صاحبنا بأن الفطرة الإنسانية السليمة هي تلك التي تنسجم وتتوافق مع خطاب العقلانية والتنوير الذي بنيت عليه الحداثة الكونية فعين الصواب كذلكم، كون أنّ اختلاف ما اتّكأت عليه الحداثة الغربية بين تراث الاغريق وتراث الإسلام بيّن (حيث أن تراث الاغريق كان تراثا عقليا أما التراث الإسلامي كان تراثا غير صرف العقلانية) قد يكون صحيح كما يقول علماء الإسلام أن التفكير  الإسلامي منطقه التفكير  العلمي من ملاحظة وتجربة واستقراء، باعتبار أن الإسلام هو الفطرة عندهم (فطرة الله التي فطر الناس عليها) وهذه الفطرة يولد بها كل مخلوق على وجه الأرض كما يرى النص القرآني وعلماء الفقه الإسلامي (لاهوتيو الإسلام)، لكن ما فائدة هذا المنطق وهو واقع تحت وصاية النقل. أما أن تعوَج الفطرة بعود المخلوق بالفطرة فهذا ظاهر أولا قبل غيره بالنسبة للبيئة الإسلامية الصحيحة، البيئة التي ترى في بعض النظم والفرق أنها انحرفت بالإسلام عن منابعه الفطرية كفلسفة ابن رشد العقلية والمعتزلة وغيرهما، فكيف تكون هذه النظم ابتعدت عن الفطرة والإسلام الصحيح يقدم النقل عن العقل؟ أي التسليم بالمطلق غير العقلي ودرء النسبي العقلي الذي هو من طبيعة الإنسان ومن فطرته!

والواضح الجلي عن منطق هذا التفكير غير الفطري ألا مستقبل أمامه، لأنه وضع نفسه في مأزق العقل الذي لا يرحم ولا يعطف بطبعه، وهو يتهدد أيديولوجيته المتعصبة الهاربة من واقع البشر إلى مستقبل غامض، وهو يدري، ولكنه لم يُسلّم بضرورة فصل للعلم عن الدين كما فعلت الأديان الأخرى، ومن يقف خلف هذه الفطرة المنحرفة هو في الوقت الحاضر السلطوية التي تُعدُّ خلفية إيديولوجية وثقافيةً تضمن بقاء سلطة الطبقة النافذة على الطبقات الأدنى عن طريق كسب رضاها وترغيبها بتبني المبادئ الأخلاقية والسياسية والثقافية التي تدعو إليها لأجل إرساء دعائم مجتمع متناسق يعمّه وفاق شامل.

ومن تجليات هذا التعصب الأعمى لأيديولوجيا أكل عليها الدهر وشرب حقا هو المصادرة الجبانة للحداثة بمفهومها الحقيقي الشامل في ميدان الأدب والنقد الأدبي المغضوض عنه الطرف بدهاء ومكر، ونعني بذلك الأجيال الجديدة التي وصل بها المطاف أن تحتل كرسي أستاذ التعليم العالي في التخصص المذكور أعلاه، وهي التي تجدها على شاكلة "شكل الأقنوم" أو في أسوأ الأحوال على شاكلة "النموذج الأقنوم" المفضوح في معارفه التقنية المعرفية/الإجرائية واللغوية والثقافية معا مع ذلك وبدون خوف تلهث وراء تكريس:

 أولا، العقيدة ثم العبادات ثم أخيرا العمل، بعقلنة الدين تعقلن العمل والخطاب اللغوي مع الخطاب الأدبي وفق مذهب محمد عبده البلاغي الخائن لما تفرضه طبيعة الأدب ونظريته، وغير بعيد قد افترض أصحاب النظرية النقدية في مدرستي فرانكفورت وبرمنغهام على التوالي أنها نظرية تقع دوما في تغير مطرد تبعا لتغير الثقافة، والثقافة كأيديولوجيا لا تصنعها الثقافة، بل تصنعها معاملات الإنتاج، أي تسبيق العمل عن العقيدة. وكان صاحبنا قد أحسن أيضا حينما استشهد بعبد الله العروي، فالمقصود هو حصر العقل في المطلق، أي في التأمل والنظر ومنعه من العمل والإنجاز، وهكذا يتحول كل شيء إلى يقين قبل إعمال الفكر والجهد العقلي، فإنما مفارقة محمّد عبده هذه التي نجمت عن "الحصر " الذي جعله ينفي الزمان ويظل وفيا للذهنية الكلامية التقليدية كانت نفسها واقعة تحت أدلجة الفكرة الاستباقية، أي جعل التراث البلاغي العربي بجمالياته في خدمة الأيديولوجيا.

وثانيا: في تكريس اللا تعددية الثقافية قولا وفعلا في مؤسسات الدولة ذات العلاقة بإنتاج العلم كأنها تتبع مقر الحزب لا مقر الحياد، وما زلنا بصدد هذا التكريس لأنه مسنود كما هو مسنود عضو الحزب في حزبه، بل أنه يُفعل ويُؤتى دونما خوف أن تزل قدمه العلمية، لكن بخوف من يخاف من تزل قدمه عن أيديولوجيا الحزب... والكل واقف يصفق له! وخلاصة هذه الأيديولوجيا باقتضاب مخل بعض الشيء وعلى المستويين: هو أنه كما يوجد إنسان على وجه الأرض غير مرتبط بالذات الإلهية (كما ظلت المجتمعات المتخلفة تعتقد، متداولة إياه ضمن خطاب ديني مطلق مكرس للتخلف) لا يوجد موضوع من الموضوعات الفكرية أو الإبداعية غير معنية بالذاتية، فالذاتية شيء ضروري لتعديل الافراط العقلي أو القصور العقلي في العلوم والآداب، أوليسَ بالحس تضبط آليات المنهج التجريبي نفسها؟ 

ــ ومصادرة واختطاف اللغة العربية آدابها بنقودها في البلد الواحد هو من مصادرة قيم العدالة والحرية والديمقراطية فيه. فاللغة العربية ملك للعربي مهما كانت انتماءاته، وليست ملك للأسلاموي أو للأصولي أو للتراثي أو الوطني هي دون العلماني، ويكفي أنها وُجدت قبل وجود الإسلام بنحو ثلاثة قرون، وهي من السبك والحبك في منظومتها البلاغية والأسلوبية جعلت من الإسلام يعتمدها في تفسير نص الوحي القرآني بخاصة في مدونتها الشعرية، وبذلك كانت لغة الإسلام العربية وليس أنّ العربية كانت لغة الإسلام. ويكفي أنّ أنضج مراحل الفكر العربي على مر العصور تبلور بلسان عربي علماني، أو في أسوأ الأحوال لسان عربي عقلاني.

ــ الخطاب اللغوي ثقافة والثقافة أيديولوجيا بالنتيجة، لأنّ كل إنسان يولد شاعرا بيد أن الفطرة الشعرية والتي هي فطرة سليمة وإنسانية تطمس فيه أو يُحاد عنها ثقافيا، وربّ درجة من درجات الوعي بالثقافة ليس هي متاحة إلا لمعشر الشعراء أو قل إلا المنتسبين الحقيقيين للميدان، وهي أنّ ليس جميع الشعراء سواءٌ في جمالية عمقهم الشعري، فهناك طبقة دنيا منهم علاقتها سطحية بالشعر وهي مازالت تسبق الفكرة عن جمالية الشعر في ذاته، أما الطبقة المتوسطة التي تليها تعي ذلك بيد أنها تخاطب جمهورها، بل هي تصنع جمهورها بفنتازية شديدة غير واعية بخطابها الأيديولوجي وهي تخاطب جمهورها شعريا (ما تظن أنه شعر  في ذاته وغير مؤدلج بسموم الفكرة) وطبقة عالية منهم وهي التي تعي أن الشعر في الحقيقة لا يذاع ولا ينشر خطابا لكن يترك لدى صاحبه، من وجده صدفة فاستمتع به فاللهم ما بارك، وإن لم يفعل فإن وعي صاحبه به يكفي أن يصنفه في خانة الشعر.

ــ وتبعا للنقطتين السابقتين فإن جحد وإنكار التعددية الثقافية من قبل ثقافة ما (مع توالي السنون ونحن في نهاية الربع الأول من القرن ال 21 وقد مضى على التصديق الرسمي على حقوق الإنسان في مثل هذه الأمور من قبل المنظمات العالمية ذات الشأن قرابة القرن) إنما يعني أنها واقعة في قبضة أيديولوجيا الطغيان والاستبداد، التي تثير أولا الحيرة والقلق، ولكن ما تفتأ أن تثير أيضا الشفقة والرحمة.. هكذا هو تاريخ العصبيات التي لن يمهلها التاريخ طويلا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.