فينك يا مصر؟

بوزيان bouziane

       فينك يا مصر؟  

                  

    كيف أحظَى بمستوى فكري عال ويكون لي متى شئت؟ بالعمل أم باللغة أم بهما معا؟ هذا ما كان يجول بخاطري كلّما تذكّرت بلدا اسمه مصر، وفي نفس وقت تذكُري هذا أتذكر اللحظة والفن، نعم اللحظة والفن معا، الموت والفن صديقين حميمين، وبلد مثل هذا إنما يعني ـ للكثيرين أمثالي ـ فن اللغة والصّبا الحالم بعالم أفضل، أكون فيه أو لا أكون، وكنت حينها ومازالت أستمع إلى صوت الراوي منساب مع الأثير أو ألمحُه سطورا على طيات الكتب وصفحاتها:

     أيوة عارف إنُ جُواك ألم وحسرة؛ اِنت مهموم وحيران ونَكِد زيّي.. ومع ذلك تحاول إظهار نبل وشرف وغبطة وفنتازيا وفتوة في نفسك. طب فينك انت يا شيخ الجلبية، وفين أيام زمان اللي شفناها ويّاك؟ ياما رضعنا لبأكم لَصْفر لغةً وأدبًا من الدلتا ومن النيل والسبخة والتراب لزرق من الصعيد ومن البحر لحمر كمان، موش فاكر واللّا إيه؟، رضعناه واحنا نكبِر نكبِر مع صوت "هنا القااااهرة" "وهنا صوت العرب" وياما تعلمناها لهجة مصرية حلوة وهي رايحة جاية مندسة بخفة ورشاقة جُوا الفصحى فمعرفناش لحظتها الفصحى من العامية، ويا ما كان سعتها مذيع الـ bbc الرخيم الصوت يفسّح مستمعيه بانزياحات لهجية في منتهى الحبك ودي بردك مكانتش غير لهجة مصرية خام، وزي ما وصلنا منكم من مسلسلات وأفلام وحاجات كثير وكثير، ومنها ما تعشّمناها وإحنا لِسَ في مرحلة الطفولة، طب اِنت عامل في نفسك كدا ليه يا ابن الحضارة والتاريخ، واللا المجد والبطولة راحت من فكرك اتمَحت كِدا، وأيامنا الحلوة والحاجات هي الأخرى امّحت بسهولة  من فكرك ولا انت مُهتم

    أيوة، فينك يا مصر نقولها ونكررها.. ما احْنا افتقدنا بافتقادك البطولة والكياسة والفن والمجد.. أيوة نقولها ونعيدها وجُواك ألم وحسرة وهم وقلق وحيرة وضنك.. ونُبل وشرف وغبطة وفنتازيا وفتوة. طب فينك اِنتَ يا عارف (أكيد) بكل البهدلة دِيَ بس ساكت وراضي مبسوط موش قادر تعمل حاجة، فينك ويا ما انشغلنا وانشغل غيرنا بينا بس ولا احْنا عارفين ليه اِحنا مجرُوحين ولا ليه احنا ضايعين... ودي الوقتِ وبس دي الوقتِ، شايف العصفور اللي هِناك يحلّق فوق ربوة العرعر والغزال ينط حواليه جوا الأعشاب.. شايف (أكيد) روعة الحوطة والأحواز اللي هناك عند كل حقل وعند كل ربوة وتل، بس اللي موش شايفو أكيد روح النقاء والصفاوة وهو يهمس على لسان العرعر والحور التليد.. روح جديد قديم، روح ربيع مستخبي وموش مستخبي (وعهدي بيك اِنّك شايفو).. دا هو بعينو سِر الفن والجمال..

   آه و آه ، وآه على ألف آه، كم انشغلنا ياميها ﺑ "الحلم اللي حلمناه" وانشغل غيرنا بينا ﺑ "لغتنا الجميلة" بَسْ ولا حْنا عِرفنا ليه إحنا مجروحين ولا ليه إحنا ضايعين، زي ما تكون ذاكرة الرسوم المتحركة السجن اللي اتسَجَنا فيه وما طلعناش منو إلاّ مثل ما يطلع البويز boys في الثقافة الأمريكية منو؛ يطلع بطل مضاد للصورة المبجلة للبطل (المزيف) أو القائد (المزيّف) كما صنعته الميثولوجيات السياسوية، ذلك البطل الذي يمثل بؤرة الوجود، ومركز التاريخ، لأنو منافح عن قيم الحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية مع ذاتو ومع المحيط القريب (ذوي القربى يعني).

   ولمّا يِكبر يعز عليه تخطي خطوط قواعد اللعبة، اللعبة موش لعبة شطرنج، هيئِتها ليست صورتها المادية بس صورتها المعنوية، وأركان الحلم اللي هو مرتسم كقلعة طوب على شاطئ البحر نهدّها ونقعد نضحك عليها.. وعلينا، وبعدين نبني حلم أكبر من السابق لغاية ما وصل حلمنا أن نكون إحنا مصدر "اللغة الجميلة" و"الأدب الجميل" كمان باحترام قواعد اللعبة.

   عارف إنو جواك ألم وحسرة من يوم ما رأيت طابور طويل من العبيد متجهين صوب بلاد الأمازيغ، ويومها كان العربي الوحيد متلون بلون الرقيق مصري، وشفناهم أنا وياك عابرين العرق والجبل الأخضر في سلسلة بشرية طويلة تبدأ من مرسى مطروح ما تنتهيش إلا وهي على أبواب القيروان، رأيناهم العبيد، رأيناهم وهُمَّ حاملين أوعية فيها تراب ممتزج بالخل، أوعية فيها سماهم، مليون ومليون وعاء ميّة كلما تقدموا خوفوا وابتزوا ونهبوا وسلبوا وابتلعوا ثم واصلوا وإن لم يجدوا عكفوا على زادهم المخلل يطعَزُون ويرتوُون، وهكذا حتى بلغوا أحواز القيروان فارتفعت أصوات تعلن الاستسلام والاخلاء وإلا فإن العاقبة الذبح .. وكان ذبحٌ عظيم والسماء الزرقاء المنعكسة في مائهم شاهدة على أنهر حمراء من دماء أمازيغ أبطال أشاوس.. ثم ماذا؟

    ثم يقيم الفاطميون دولة عربية في شمال إفريقيا بعد أن يعملوا فيها الطعن والبتر والحرق والذبح والسلخ كذلك ولا أحد نهاهم أو حتى قبّح عملهم الذي تشمئز منه النفوس، ومنذ ذلك الوقت مازالت تروي العجائز الأمازيغيات لأحفادهن نفس الحكاية، حكاية بطلها راوي مصري يروي ما يرويه لمروي له في مصاف المستمع والبطل الآلهة: كيف جرت وقائع الحكاية نفسها بعد نحو ثمانية قرون؟

    كان إذّاك تهفو نفسه لاستباق الزمن فيرى الزمن ويعيشه قبل أوانه؟! وقد حفظت عنه كل ما روى باعتباره راو وأنا مروي له ومستمع، وزدت عليه أن قلّدته، فقد هفَت نفسي لاستباق الزمن أنا أيضا، فأراه وأعيشه قبل أوانه، وهفوت إلى اللحظة ذاتها وأي لحظة؟ إلى هذه البولهنية وأي بولهنية؟ فكم تصوّرت أن بعد قليل سيحدث الآن، أي قبل أن أُكمل رجائي الذي ينطق به لساني همسًا، فآه من تلك اللحظة لو أنها تحققت وآه من تلك البولهنية وألف آه منها ولو أنها لن تتحقق أبدا، فبولهنية بعد قليل قليل والتي سأوّد عيشها بفارغ الصبر مباشرة بعد رمشة عين أعيشُها قبل أن تحدث هو رجاء مستحيل التحقق، ولو كنت في مرحلة متقدمة من الوجْد وجْدا صوفيا أو بصدد ملامسة الجنون، فإنه لا يمكنني البتة رؤية هذا الجسد جسدي ممدا أمامي وهو جثة هامة، وأن أراه وأنا خارج التاريخ، أو بالأحرى وأنا قبل التاريخ ببولهنية واحدة.

    فهل أراه أم لا أراه؟ أراه وهو ممددا تحت تراب حار والفصل فصل صيف أو هو ممددا تحت تراب بارد رطب والفصل فصل شتاء.. وكم من أمنية وأمنية في اللحظة واللحظة نفسها، لحظة وَجْد متّصل حلّت من نفسي محل تجلٍ وارتقاء تزكية حتى لَأكاد فيها أرى وأبلغ توقف مفاجئ للزمن بي ثم موتي موتا اكلينيكيا غير أنه بلوغ تحلٍ وكشف غامر كهذا لا علاقة له بمادة الجسد.. فآه إذا وآه من تبدّد فكرة عيش اللحظة المستبقة من عمري بِها ومنها.. فلتبق إذن فكرة "موتي أمامي" وعيش لحظة موتي فكرة مجنونة، ولحظة هاربة مغموسة في خيالي.. لحظة موت كنت أرقُبه ـ ولا ابتغيه عنوة ـ أرقُبُه لحظة بعد أخرى لأعيشه وأعيش تأملاتي له متى هو واقع؟ بيد أنه مؤجل ميعاده وفي لوح محفوظ، جللٌ فكرة معايشة اللحظة، لحظة استباق الزمن إلى موتي وعيشه، كما هي جلل لحظة استباق الفكرة للأمل والذاكرة واللغة نفسها، فإذا ما حلّت اللحظة لن تكون مستقبلا وحاضرا في الوقت ذاته، أبدا، فَلِما تستعجل اللحظة وقد قيل لا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون متى استشْعرت بفيض وجدك لتلك اللحظة أنها حلّت اللحظة!

.. ثم بعد اكتمال إلهام اللحظة تلك اكتشفت إني حقا قد أخذت عن ابن الكنانة ناصية اللغة، فهي الفكر والفيض الخَلوَوي الغامر حقا.

   ثم إنه كلّما غرق الراوي، راوي "العجوز الشاوية" وهي تروي ما ترويه لمُستمعٍ طالما شنّفت مسامعه برامج ثقافية وتمثيليات ومسرحيات وكلها تذَكِرُه بسيرة العقاد أو طه حسين وهما بصدد الانتقال من حي لآخر ومن مسرح لآخر لمشاهدة مسرحية السيد أو الأمير المثابر ، أو مكبث أو روميو وجولييت أو تاجر البندقية، أو الاستماع لقصائد فلان وعلان وهي تلقى من لدن صاحبها الأخطل وأبو ماضي وجبران نفسهم على هامش أشهر الحفلات والندوات المسائية في أعمالهم السيرية، والسؤال المحيّر محل وجع الرأس بقي واحد ووحيد: كيف نكون في مستوى هذا الالهام وهذه اللغة برغم كل شيء؟

    وأخيرا وليس آخرا، وقبل أن تنتهي حكايتنا مع زاد زاخر باللغة والخطاب كان وصلنا من هناك من بلاد الكنانة، وتلقفناه تلقف أساطير أنصاف الآهة الإغريق للمجد والخلود. وما برح نفس صوت، صوت العجوز البربرية يخترق اسماعنا: ".. ثم انتصر الغزاة" (ترى أي غزاة تقصد هذه العجوز البربرية؟)

ــ ما بقي من بربر اعتلوا قمم الجبال ليحموا أنفسهم ويعيشوا سالمين آمنين من رحى أكبر ملحمة بربرية وفي بلاد البربر تضرب الإنسانية على وجه الأرض، فتلفيهم كالعهن المنفوش مثل ما تقول الآية، أجل فخلت ساحات المعارك للكنانيين شواظا، وطردوا أسرابا من البربر الى أطراف الصحاري فما كان إلا أن زاد عدد الكنانيين على أرض الامازيغ زيادة هائلة.

ــ ومن اين لك بكل هذه الأخبار يا عجوز معشر بربر وأنت فيما أرى لا تقرأين ولا تكتبين؟

ــ وصلنا أبا عن جد، الأمازيغ كانوا شعب مسالم وغير مسلم لكن بعد المذبحة أصبح معظمه مسلم إسلام تشيُّع أو تظاهر، لكن المؤامرات والدسائس جعلتهم يثورون ضد التشيع وينقلبون إلى السُّنة، ومازالوا منذ ذلك الزمن الغابر لا يضطهدون إذا اضطهدوا الا باسم الدين وباسم اللغة، لأنك بمستوى في اللغة تفهم الدين.

ــ كيف يا عجوز بني مزغنة؟

ــ كما سمعت، وكما رويت لك، أولم تقرأ ذلك؟ أو لم ترويه لك الكتب والحكايات؟

ــ (همس خاطر: والله كأنك على دراية بفكر نصر حامد أبو زيد والجابري) على ذكر الراوي يا عجوز بني مزغنة، أُجزِم أن التاريخ دَه تاريخ صحيح يعلِّم الجميع عربا وعجما، بيد أن الحصفاء منهم فقط من يتّعظون، فكما وصلنا منهم الجلبة والظلم القاهر وصلنا منهم كذلك فن القهر وظلم الغلبة؛ يعني تصوري بعد قرون وقرون نرى ما نرى ونسمع ما نسمع والتاريخ قاعد متبسم يبُص للأمام ما يبُصَش أبدا لوَرى، وكان القوم يصابون بالأوبئة والأمراض فيصبرون صبر أيوب، أبدا، دائما يرفعون أكفهم إلى السماء يدعون ربهم أنْ يخرجهم مما هم فيه من مصاب وابتلاء الوباء، ومن الطبيعي أنْ يصاب العرب بالفقر والمرض المهلك سُنّة أجدادهم من بني عدنان وقحطان وكذلكم المسلمين سنة أبيهم إبراهيم يوم ابتلاه ربه برميه في النار وأمره بذبح إسماعيل.

    لكن من غير المُمكن أبدا أن يكون الحل في غير التّضرُّع لله بالدعاء بالفرج من كرب الابتلاء، والتسليم بالقضاء والقدر ثم الاطمئنان على الحالة والمستقبل مفارقةً لليهود الذين لا يُسلِّمون ولا يطمئنون للقضاء والقدر، وعندما يبرؤون وفي جميع الأحوال تجدهم يشكرون ويشكرون ربّهم ويتصدقون لوجهه وهم يقولون: لولا تمسُكنا بدين الله لَمَا كُنا أُنجينا نجاة موسى من كيد فرعون، أما الجنس الذي جلب الحضارة لهذا العالم فيهرعُون للوباء أولا وقبل عمل أي شيء؛ تراهم يعزلون المرضى ويفحصونهم ويفهمون تطور المرض ويجرّبون بعض المضادات من الأعشاب التي وجدت في وصفاتهم التي تركها أجدادهم، وحتى إذا ما عرفوا المادة مصدر تخفيف شدة المرض أنتجوها بالتقنيات الصناعية الحديثة في إنتاج أدوية الأوبئة المهلكة من باستور إلى اليوم، أي بعلم جينات الحيوانات المجهرية مثل الجراثيم والبكتريا التي تصطنع لهم نفس الدواء المضاد ذو المصدر النباتي إذا قاموا بدمج خارطته الجينية في جينات هذه البكتريا الحيوانية وفق شروط معينة، ثم بعد تجاوزهم مصيبة "الابتلاء" يعرفون ربّهم حق المعرفة؛ معرفة عمل وبناء وإعمار للأرض فيشكرون ربهم شكر تجربة ولا اطمئنان (ولا يحس بالجمرة إلا من اكتوى منها) اتجاه الظلم والطغيان الذي هم فيه ودون مباهاة بجاه وعلم، وهكذا بالمعرفة يكونون تغلبوا على الوباء المادي والروحي معا.

     معرفة تعقُبها ولابد معرفة روحية على هذا الشكل، وهي لعمري وعمرك أيتها العجوز البربرية الكيّسة لخير من الأولى والأعمق في إصابة معاني الإيمان قبل وبعد البلاء؛ ذلك أن الإيمان حالة روحانية خاصة بالكائن الحي عاقلا وغير عاقل لا يبلغها إلا مرورا بارتباطاتها المادية، ومستحيل أن تنزع قفا القرطاس من وجهه دون أن يتمزّق. إذن المعرفة ومنها المعرفة باللغة مشوار لا يُلقّن ولكن يُبلَغ ويعاش.. فكم أتوق أنا إلى عيش اللحظة!


 بوزيان bouziane
بواسطة : بوزيان bouziane
موقع تنويري فكري وشبه أكاديمي، يتغيا تقديم إضافات نقدية تخص تحليل الخطابات الثقافية ونظرية النقد والأدب متوسلا بجماليات التلقي والنقد الثقافي، كما يعنى بنشر إبداع قصصي جديد ليس له ما يماثله على الساحة الجزائرية، والمقال المتناول للشؤون السياسية والإعلامية والاجتماعية المقاربة للظاهرة الأدبية والمحاكية المكملة لها.
تعليقات