القائمة الرئيسية

الصفحات

على درب "الراديو العتيق" المضيء (جزء من سيرة ذاتية)

   

بوزيان bouziane

على درب "الراديو العتيق" المضيء (جزء من سيرة ذاتية)

  

   المعرفة والأشكال البشرية:

   شاءت الصّدف أن نعود في ثنايا هذا الموضوع لتسليط الضوء على بنية الفضاء المنتج للفكر والمعرفة في الجزائر وعلاقته بالسلطة، لنقارن فيه بين أنموذج وأساس هذه العلاقة، وهي الإطار الأكاديمي في مؤسسات التعليم العالي، وكيف تتعاطى مع المعرفة التي تنتجها غيرها من المؤسسات بما في ذلك وسائل الاعلام والباحثين المستقلين ورجالات الإبداع، الذين يتّخذون من بنية الفضاء السوسيو ـ ثقافي مادة عملهم البحثية لا إطارا بنويا  ـ مشروعا ـ داعما، كما تفعل مؤسسات البحث العلمي غير الحرة في إرادتها البحثية، حتى وإن كان ذلك العمل بدا الكترونيا أو مجالا افتراضيا كله إلا قليلا، حين احتلّ مكانة الطابع الورقي مجبرا، فحتى النظرية والرواية والمقالة، واللوحة الالكترونية، والقطعة الموسيقية، أصبحت منتوج الكتروني يمتلك شرعيته وأهليته العلمية ضمن التفاعل الاجتماعي عبر الفايسبوك وتويتر والإنستغرام واليوتيوب..، ومن المفروض أن ينطبق على أصحابها إثر قبولهم مزاولة هذا العمل اسم النماذج البشرية، لاصطلاحية مفردة النموذج ودلالتها الأكاديمية والبحثية بينما يقترن اسم الأشكال على نقيضها، لكن وبحق، ليس لهذا المقال أي أهمية تذكر لو ساير هذه القاعدة وافترض أنها صحيحة مطلقا.

نماذج بشرية أم أشكال بشرية؟:

   شاءت الصّدف إذن أن نعود لمناقشة وتحليل بنية مجتمع المعرفة بانتلجنسيته وبنخبه المثقفة المختلفة المشارب والاتجاهات، نعود إلى ذلك من بديهية أن المستوى المحدد بدقته والمستوى الإبداعي متلازمان في العلوم الإنسانية، كونها علوم تتناول بالدراسة الجوانب والقضايا الإنسانية التي يعايشها المؤرخ والشاعر والبسيكولوجي وعالم الاجتماع والناقد ويحس بها إحساسا مباشرا، بغض النظر عمّا إذا اندرجت ضمن مجال الرأي الإعلامي الحر أو ضمن مجال الدراسات الثقافية، الدراسات التي تحلل التجارب والممارسات الثقافية في المجتمعات والثقافات المختلفة، مع التركيز على العلاقات السلطوية والاجتماعية والتاريخية التي تشكل وتؤثر على هذه التجارب والممارسات.

   من هذا المنطلق لا يعكس عنوان كل من محمد مندور وجون كالفيه الإبداعي "نماذج بشرية" عظمة إنسانية بقدر ما يعكس محاولات تاريخية لبنائها بالصراع معه شدا وجذبا، وفي جميع الأحوال هذه المحاولات تصل إلى نسبة من معترك النشاط حُق لأصحابها عن طريقها أن يوضعوا في خانة "النماذج البشرية". وفي النقد الأدبي المغاربي المعاصر قامات ذهبت بعيدا في معترك النقد الجديد النظري، حتى أنها تفرست به، أي أصبح شكلها المورفولوجي يشير إليه ونعني بذلك مجموعة من رواد هذا (النقد الفرنسي الجديد في معظمه) المترجم إلى العربية (عربية المغرب العربي طبعا) فإذا كانوا عشرة مغاربة فإننا سندرج بينهم ثلاثة غير مغربيين، وهم الجزائري عبد الملك مرتاض والتونسيان المسدي وبوشوشة تبعا لإنتاجهم الفكري والأبدي النظري في الميدان، والذي انجرّ عنه بالضرورة صيتا لا العكس (صيت المؤتمرات أو الندوة الكليشي التي تبصم على الناقد طابعا أو اتجاها معرفيا ما في النقد الأدبي المغاربي المعاصر) وبهذا المفهوم فإن هؤلاء العشرة الذين تميزوا بخطابهم النقدي الحداثي التأليفي في النقد الجديد هم نماذج بشرية والآخرون الكثيرون الباقون هم خلفيات اشهارية ذات بريق وصيت اعلامي لهم أو أشكال بشرية واقعة ظلا لهؤلاء العشرة، فإذا ما وقفت تلك النماذج البشرية العشرة في الفلاة وفي منتصف النهار فإن ظلالهم القصيرة المتكونة تحت أرجلهم والتي لا تكاد تفارق أرجلهم، هي بالذات أشكال بشرية في النقد المغاربي المعاصر (وهم سيتعرفون عل أنفسهم جيدا بمجرد أن يُعلَمُوا بالتشبيه)

  وبحق السماء، لماذا يريد التيار الأصولي عقلنة اللغة العربية ونقودها عقلنة تراثية سياسية معتقدا أن الجرجاني وابن جني والأصمعي وابن رشيق ملك مشاع له بينما هم ليس كذلك، فعندما عاد أتباع محمد عبده ورشيد رضا والأفغاني بالبلاغة العربية إحياءً وبعثا التزموا بمناشيرهم السياسية والحزبية الضيقة، وهذه خطوة غير مدروسة ستزيد من انزلاق الأرجل بل ابتعادها اطّرادا في اللحاق بركب الحضارة الغربية، لأنهم علِموا أن التراث العربي مشترك بينهم وبين الحداثيين العرب بمدارسهم في الشام السباقين للنهل من التراث اللغوي نفسه، فخططوا، ومنذ ذلك الحين كانت خططهم تلقى صداما مع الحداثيين العرب حتى قبل أن تنفّذ على أرض الواقع.

إن اللغة العربية ليست للبيع والشراء مع هذه الزمرة وأتباعها أو تلك الزمرة وأتباعها، فإذا كان أنصار محمد عبده أرادوا بها عقلنة دينية[1] (بين قوسين، غير حداثية) فلأن القرآن سنّ لهم الطريق وهو طريق إلهي مطلق، ولا أحد في تصورهم يمكن الوقوف أمامه؛ إنه طريق الجدية (être sérieux) غير الحداثي؛ معتقدين بأن الورع والتقوى وخطابهما ليس في علاقة بنيوية مع ذاتية النفس وغنائيتها، بل هما يعبران بكل موضوعية عن افتقاد مطلق للشعور بالأنا ونوازعها النفسية! يعني أن العقل مستقل عن الكيان النفسي للمرء! والحقيقة أنه هو الذي يضم الجميع لأنه كيان: العقل بالعواطف بالضمير..، لذلكم فإن الخطاب الديني ينزع عن اللغة العربية ونقودها (والطريف أنه يعلمنها تسمية) صفة الفكر، إذن الاستعمال والتداول، إلا ضمن خطاب التقوى والورع، إنما الشعراء يتبعهم الغاوون، فالشعر والأدب عموما الذي لا ينتهي من غنائياته وفنتازيته كقوله (مازِلتُ أَقتَطِعُ البَيداءَ مُدَّرِعاً     جُنحَ الظَلامِ وَثَوبُ اللَيلِ مَسبولُ) هو ليس شعرا، لذلكم فأن الحل تمهيدا باتّجاه إحداث القطيعة الابستمولوجيا مع هذا الاتجاه المكرّس للتقوقع والانحدار الحضاري، يبدأ أولا بالفصل المنهجي بين تعليم اللغة العربية وآدابها ونقودها للمؤسسات ذات الطابع الديني، بإحداث فرع لغوي له مبادئ وأصول تراثية في ليسانس علوم الشريعة وفي جميع المعاهد والمراكز الدينية. وآخر أساسي في ليسانس آداب ولغات، وآداب وفلسفة.

في المقابل، فإن عقلنة اللغة العربية وآدابها لابد أن تتم في اتجاه المسار الذي يقف عائقا أمام التقليد الديني الذي يغير من الطبيعة الفنية والذوقية والذاتية للأدب شعرا ونثرا، وهذا ما نهضت به استراتيجية حركة الإحياء والبعث في سوريا ولبنان على يد بطرس البستاني، إبراهيم اليازجي وعبد السلام هارون وغيرهم برجوعهم إلى مصادر البلاغة والنحو العربي التراثية التي عاد إليها أنصار محمد عبده ورشيد رضا، ولم يكن في ما يميز هذا الاتجاه الشامي شيء يمكن أن نسميه نزعة عقلية قط غير نزعِهم البساط من تحت أقدام محمد عبده واتباعه، ذلك أنهم وافقوا الطبيعة الفنية للأدب، وبمثل ما يكون الأدب تكون لغته ونقده، ولكن بعد قدوم حركة النقد الجديد في فرنسا وأمريكا في خمسينيات القرن العشرين فإن الأمر تغير، حيث انقسم هذا الاتجاه العقلاني غير التقليدي تقليدا دينا، قسم منه (جزء كبير منه له اتباع في المغرب العربي قاطبة) اعتبر أن الإحياء قد انتهى تاريخيا وأن الإرث البلاغي والخيالي ليس من طبيعة اللغة أصلا، أما القسم الآخر فاعتد بقانون الثقافة في اللغة.

   من خلال هذين النموذجين العربيين الحديثين، اللذان عادا إلى التراث معا لبناء لغة عربية وتنميتها كما يراها كل واحد منهما، لا كما يراها العلم الذي من العلمانية، التي من الحداثة؛ (التي هي حداثة كونية تمكنت من أن ترفع بالإنسان قدما خطوات نحو الأفضل، فالأفضل منه، مع توالي السنون والعقود) يكمن بالإجمال على أن عناصر كل نموذج من النموذجين تمثل نماذج بشرية كما تصورها محمد مندور وهاري هارلو، لكن عند التفصيل أكثر توصيفا وتصنيفا يتبين أن النموذج الأول هو من يصدق على أعلامه ورواده حمل اسم "الشكل البشري"، بحيث كل شكل ينضوي تحت نموذج عام ليس هو في هيئة بشرية، لكن في إطار كيان أيديولوجي منزوع الطابع الإنساني جزئيا أو كليا، فكيف تستطيع تصنيف الأيديولوجيا لولا أنها لا تبرهن على الواقعة الدينية بالبرهان العقلي، وهي لهذا دعيت أيديولوجيا، بحيث عمدت إلى بناء طابعها تقابليا للبرهان العقلي، وما دام الإيمان ايمان والغيب غيب فإن العقيدة تبقى طابع شخصي فرداني ذاتي، لا يحق لأي فرد أن يجبر غيره على الإيمان كونه غير قادر على البرهنة العقلية عليه (الغيب غيب يَحسُن أن يبقى التواصل معه فرديا بمعزل عن أي بناء أيديولوجي) وإذا تمّ بناء إطار مثل هذا دون اجبار يبقى كذلكم أيديولوجيا، يجمع أناس اعتقاديين لا برهانين، وهم هكذا متّحدين متكتلين سيبقون أشكالا بشرية إذا ما قورنوا مع نموذج التيار العلماني، لأنهم فقدوا جزء من انسانيتهم وهي العقلانية.

وفي هذا التيار العلماني المقابل لهذه الأيديولوجية التي وصفناها حق لنا أن نصنف مدرستها أو رائد مدرستها وليكن محمد عبده مثلا نموذجا بشريا وهو يضم تحت جلبابه كل من ساند مشروعه رفاقا وتلاميذ ظلال أو أشكالا بشرية، التي تبدو ظلال قصيرة له وعندما ينتصف النهار وفي كل حدب وصوب من أصقاع العروبة المحرق، أما هذا التيار الذي رائده بطرس البستاني، فلا يمكن أن نحكم عليهم وتصنيفهم بالنماذج البشرية أو بالأشكال البشرية إلا إثر دخول فترة النقد الجديد أو صدمة الحداثة التي كرستها بين فريقين: فريق تحديثي للحداثة، بمعنى آخذ للعلوم ومتخلٍ على أساس وجوهر الحداثة وهو الحرية والعدل والمساواة أي الديمقراطية، مثل ما يقول عبد العزيز حمودة: "بعد أن خلطنا بين التحديث والحداثة، كان تمهيدا للتبعية الثقافية وترسيخا لها"[2] وتَشكِّل هذه الأشكال البشرية نقاد وأكاديميين ونخبة مثقفة نقد المغرب العربي المعاصر. 

   والفريق الثاني هو الفريق الذي لا يجزئ الحداثة ولا يقيسها على مقاس التراث الديني، ويليق بأصحابه الرواد: بطرس البستاني في لبنان والبارودي في مصر مسمّى النموذج البشري بالنسبة للأشكال البشرية الأيديولوجية والتلفيقية التحديثية في المغرب العربي، من خلال حضِّها على اعتبار الدين خصوصية فردية لا خصوصية أيديولوجية وقراءة نصوص التراث الديني والأدبي والنقدي قراءة جديدة من خلال هذه المناهج الحداثية دونما خوف (لا من التراث البلاغي ولا من المناهج الحداثية، فلا هي البلاغة العربية ملك للمتدينين ولا هو المنهج العلمي ملك للحداثويين الفرانكوفيين وإنما الأدب العربي ونقده ملك مشاع يحسب ألف حساب لمنطق الذوق عند صاحبه كونه فطرة سليمة في الإنسان) وإلا فلن يتخلصوا من تخلفهم أبدا ومن أشكالهم البشرية الذليلة، ونجد في مقدمة تلامذة تلامذة البستاني والبارودي رواد معاصرون إلى هذه الدعوة كأدونيس، وجلال صادق العظم، وطه حسين، وخزعل الماجدي، والطيب تيزيني، ومراد وهبة، والجابري وجورج طرابيشي، وسيد القمني ونصر حامد أبوزيد إلى حد ما.. وهؤلاء إنما رفضوا ثنائية الانبهار بكل إنجازات العقل الغربي واحتقار كل إنجازات العقل العربي. وكان موقفهم يرى أنه إذا كان ما يأتينا من الغرب ليس خيرا كله فهو أيضا ليس شرا كله. وينطبق الموقف نفسه، وبالدرجة نفسها، على تراث البلاغة العربية أيضا.

على درب الراديو العتيق:

  في كل بلد وعلى حسب تاريخه السياسي تترسّب في مخياله الجمعي معاني مصطلحات تتغير دلالاتها من مجتمع الى آخر ناهيك عن ارتباطها في ذهنه بالآخر، وهنا تغدو هذه المصطلحات متن الدراسات أو الآداب المقارنة التي ليست موضوعنا، لعل من هذه المصطلحات مصطلح الأيديولوجيا[3]، الذي في الجزائر أصبح يشير في مخياله الجمعي إلى تلك الفترة التي ماج به تاريخه بانعطافات غير مسبوقة بين الإسلاميين والشيوعين (1955 ــ 1965) وقد انتصر الإسلاميون بمعونة من الوطنيين، أما في المغرب الأقصى فمعنى الأيديولوجيا يشير إلى الاشتراكية (أو الماركسية انظر "الأيديولوجيا العربية المعاصرة") التي ترسبت في أذهان المغربيين بكل أطيافهم على أنها نظام سياسي مستورد، ومن بقايا صراعات الحرب الباردة، هدفها الوقوف ضد مشاريع أحزاب الملك، أما في تونس فترسبّت على أنها العادات والتقاليد الأكثر مقتا لدى النظام الليبرالي التونسي، بغض النظر إذا كانت تعود للإسلام سياسي أم لا، وذلك تبعا لحكم بورقيبة العلماني الطويل نسبيا في تونس، وفي السعودية على أنها الشيوعية فقط، وفي لبنان على أنها طائفية الإسلام السياسي والشيوعية معا، وهكذا هلم جر، تجد في كل ثقافة مفاهيم وتصورات عن ماهية الأيديولوجيا بالتجربة المعاشة، وقد ارتسمت في أذهان شعبه وطبقته المثقفة الصورة التي تمثلها هذه الأيديولوجيا، لكن بالقياس على ما انطبع في ذاكرتهم تأثرا بالنظام العالمي من توصيف وتصنيف للأيديولوجيا، وهو نظام يسوده بطبيعة الحال المتسيّد للعالم لأن إنتاجه إنتاج رفاهية وتفوق، فتكون وفقهم هي الشيوعية حتى العام 1990، أما بعد ذلك أصبح معنى الأيديولوجيا مختزل فقط في أفكار الإسلام المتطرف (دون الحديث عن جماعات فيه بعينها)

   ونحن من هذا المنطلق، ومن خلال تجاربنا الحياتية المعاشة، وما تلقيناه عبر وسائل الإعلام العالمية المشهود لها بالنزاهة في نقل المعلومة، قد خلصنا في مقالاتنا السابقة بعد تحليلات مضطرمة (وضربنا للأمثلة الحية عنها) أن أحقد وأذل عنصرية مازال لم يمثلها أحدا على وجه البسيطة غير تلك التي تعتبر نفسها أنها مصطفاة ومفضلة تفضيلا إلهيا وهي عنصرية الدين (بالتحديد أكبر الديانات) في جميع تجلياته وأشكاله غير الديمقراطية، وحدسنا بانتهائه بمجرد انتهاء الغرب الديمقراطي، لأنه حينئذ ستتكالب الشعوب التي ذاقت ذرعا من حقده العنصري (وفيها اليوم من تتعامل معه معاملة دبلوماسية محضة، بينما سلوك المصلحة الديبلوماسية غير سلوك العقلانية التي فطر عليها الإنسان) وستمزقه حينئذ في خضم فوضى شريعة الغاب إربا إربا، وستنقضّ عليه من وسط شرق آسيا، أو من أمريكا الجنوبية ومن الدول الاسكندنافية والجرمانية، كونها شعوب حرة لا تحب العنصرية وتكرهها أكثر من الغرب نفسه، وهي بذلك تصفي معه حساب قديم طالما كبتته عن ممارساته الوحشية شرقا في الأناضول وآسيا الصغرى وغربا في حواضر الأندلس طيلة قرون.

   ولعلّه من النتائج التي توصل إليها الغرب، وليس من اليوم، لكن منذ استيقاظه من سباته في القرن الثالث عشر، هو أن آخر الديانات شكّلت عنصرية أيديولوجية أكثر من غيرها من الأيديولوجيات، كونه يستقوى ليصفي كل من يقف في طريقه من الضعفاء فقط، أما الأقوياء فقوتهم تجعله يمارس السياسة معهم، وكان من بين النتائج التي خلص إليها كتاب "تاريخ الأفكار السياسية"[4] لجان توشار أن المشاريع الفكرية الغربية بكل ما تحمله من مفاهيم ونظريات تمثل استجابة طردية للتحدي الثقافي الذي فرضه عليها الصدام مع الفكر العنصري منذ غابر الزمان، ولكن يبدو أن هذه المشاريع خصوصا بعد نضجها وتبلور أطروحاتها، بدأت سعيها نحو ممارسة جديدة لفعلها الثقافي، أهم ما يميزها وعيها النقدي، وايمانها بالقدرة الإنتاجية والإبداعية للإنتلجنسيا الغربية سواء في مجال النقد أو الفلسفة أو الفكر الديني.

لكن السؤال هو من أين استقينا هذه المعلومات، وهي تشكل تابو، لأن منطق تفكيرها يضاد منطق تفكير ثقافة وسياسة البلاد التي نقيم فيها؟ بكل بساطة لم نستقيها لما استقيناها إلا وهي خلايا جذعية طلائعية أو جذعية جنينية لفكر مكتمل البنيان سيتبلور لاحقا، فكر مصدره نفس سليمة الفطرة البشرية، فطُّرت أول ما فُطرت على فطرة العقل لا على فطرة الأيديولوجيا، وبما أن الفكر ينمو ويتطور كما ينمو ويتطور الجسد الذي يحمله؛ من مضغة إلى جنين إلى هيئة إنسان، فإنه لا غرابة إذا ما كانت تبلورت طلائع ذلك الفكر أساسا في مراحل الصبا الأول عبر وسيلة طاوية للأثير، مختزلة للأوقات، عابرة للمحيطات، وهي راديو ظل يبث من أرقى مكان حرية وعدالة، من وول ستريث، إنه عهد راديو الموجة القصيرة الذي حمل لنا طلائع التنوير معلومة وأدبا نيرا، تتبعنا فحواه مبكرا فاستمالنا نحو نمونا الطبيعي بداهة، وكل ما مضينا قدما إلى الأمام عبر مراحل عمرنا وجدناها قبسا منيرا في مُنافاة أيديولوجيا العنصرية والاستبداد والاقصاء التي تربينا في كنفها.

   أجل إنها برامج إذاعة الـ bbc العربية في السياسة، كبرنامج قدمه علي أسعد اسمه السياسة بين السائل والمجيب، أو برنامج مع الشعراء لعمر سليمان، أو برنامج قول على قول لحسن الكرمي، أو برنامج تاريخ الرحالة الإنجليز إلى الشرق، الذين يروون عنه واقعه بكل صراحة، وكان قد قدمه جورج مصري مع ماجد سرحان، إضافة إلى برنامج ندوة المستمعين الغنية بالمعلومات والموسيقة الأصيلة وقدمه رشاد رمضان وعارف حجاوي، أجل قد تربينا على صدق ما تقدمه هذه الإذاعة من أخبار ومعلومات عن الجميع وللجميع في ثوب لغوي راق، فكانت خير وسيلة تثقيف تلقفناها بعد أن عبرنا مرحلة قراءة النصوص المدرسية، وبذلك استطعنا وفي خضم هذا التمايز بين نوعية وفصاحة النص والخطاب هناك ونوعيته هنا في التلفزة الوطنية، مكننا ذلك مِن أن نقارن، لا نزعم أن ذلك نتيجة فطرة التذوق السليم لكن لا يمكن استبعاد دور تجربة تلقي خارجي (ثقافي) فقارنا بين كتابات الجزائريين في مرحلة المتوسط: خلاّص، وونيسي، وبشير الابراهيمي مثلا، مع نصوص تيمور، وجبران، والمنفلوطي مثلا، ووجدنا أنه لا مجال للمقارنة، لا من ناحية الموضوعات التربوية القيّمة، ولا من ناحية الأسلوب الأدبي والفني، فقد كانت النصوص التربوية الجزائرية تلتهب أيديولوجيا اشتراكية ودينية ومازالت مهملة أو مغطية لجمالية الأدب الحقة التي هي في ذاته، أما النصوص التربوية للدول غير السلطوية كلبنان والتي وصلنا منها بُعَيد الاستقلال نصوص أسلوبها الصحيح في القراءة و"النحو من خلال النصوص" فعكس ذلك تماما، أنموذج في التعبير المستقل عن أتون الأيديولوجيا المتوهة عن المادة نفسها. فهل يمكن القول أنّ تلك المسيرة هي حسن حظ تربوي وأدبي وُهِبناه صدفة؟ أم رعاية علوية غالبا ما يستفيد منها ساكنوا المناطق النائية الخالية من وسائل الترفيه؟ غير أن المفيد في الحالتين انحرفنا في مسارنا التربوي عن قيم الأيديولوجيا التي كانت تفور بها بلادنا، وكل ذلك سيكون لو وقع مثمر وايجابي جدا في مراحل تعليمنا الجامعي العلمي أو الإنساني.

   حقا، جاز أن نسمي مرحلة الراديو العتيق بالنسبة لصبي متطلع يهفو إلى تحقيق طموحاته مرحلة الثقافة العقلانية والتنويرية الطلائعية، والتي نخال أنه كان لأثرها في حياتنا اللغوية والأدبية نفس أثر خزانة الأدب العباسي بالنسبة لطه حسين، غير أن حسينًا كان قرأ المبرّد كله ونحن استمعنا فقط إلى مقاطع منه، ومن ذخائر التراث العربي السردي تتلوها حناجر مصرية وأردنية وسودانية ذهبية عبر الأثير.. وكانت منطقتنا تلتقط ذبذبات البي بي سي بكل انسيابية بعد الخامسة مساءً، لأنها منطقة عالية وجبلية، وحتى أني اذكر وأنا في سن الرابعة عشر من عمري كانت موجات راديو تنساب خارجة من شباك الغرفة إلى الفناء حيث اتمدد مستمتعا بقيلولتي، وكان بيتنا عتيق بعبق الراديو العتيق، بأخبار بي بي سي ما بعد الظهيرة حتى الخامسة مساءً، لكنها ليست صافية تماما كموجات المساء وإلى ما بعد حصاد اليوم الإخباري الذي يمتد ساعة إلا ربع، يُختتم بعدها البث غالبا بأغنية لمحمد عبد الوهاب.

   وكانت منطقتنا تلتقط أيضا عبر الأمواج القصيرة إذاعة دولة الكويت وإذاعة الدوتشيفلة الإخبارية من ألمانيا، لكن بالنسبة لبرامج الثقافية ذات الفصاحة البالغة، فقد ساهمت كما ساهمت برامج ال bbc في صقل معرفتنا باللغة العربية وآدابها شعرا ونثرا ونقدا، برغم أن دولة الكويت دولة محافظة غير أن حدة السلطوية فيها أقل من حدة السلطوية في الجزائر فلم تحجز وتصادر كل ما كان حري أن يدرج في خانة القص والترقيع مِن برامج ثقافية متنوعة أو تدرج تراث العربية على أنه تراث خاص بالإسلاميين والمحافظين كما يفعل الجزائريين، ففي الجزائر منذ أن أُنشِئت جامعة الجزائر صادر المحافظون العربية في جميع المؤسسات بخاصة الجامعية والأكاديمية، على أنها ملك مشاع لأهل الحزب أو لأهل القبيلة كما حاولوا أتباع وأنصار محمد عبده قبلهم بنحو القرن من الزمن، وكما صادر حزبهم العتيد البائد قيم حرب التحرير على أنها ملكيته الخاصة، ونتيجة هذه المصادرة غير القانونية اعتبر الإسلاميون بجميع أطيافهم في مؤسسات الدولة أن العربية ملكٌ لهم، وهي كذلكم فعلا، لأنهم فعلوا ويفعلون بها ما شاءوا، دون تدخل المسؤولين المباشرين عنها، وهذا خطر كبير يتهدد مستقبل تعليمها في الجزائر إن على جميع مستويات مراحل التعليم، وهو خطأ جسيم وقعوا فيه وسلموا به، إما لقصر يدهم المعرفية اتجاهها في فترة الستينيات والسبعينيات، المرحلة التي تمت في المصادرة والاختطاف بصفة غير رسمية، وثم بعد ذلك في فترة الشاذلي في الثمانينات تم ترسيم الاختطاف بصفة رسمية. وإما دخلت مساومة امتياز بين المسؤولين وبينهم من أجل ألا يقدح العلمانيون النزهاء بالتراث الديني وبمستوى ما ينتج من أدب جزائري متوسلين بالمناهج الحداثية وما بعد الحداثية في النقد الأدبي وهو التقدير المرجح.

   فعلا، كان لبرامج أربعة استمعنا إليها في ذلك الوقت دوريا في مرحلة مرهقتنا بالغ الأثر في تكويننا السليم غير الأيديولوجي اتجاه الأدب العربي، وثلاثة منها تبث ما بعد الزوال بتوقيت الجزائر، أي ما بعد العصر بتوقيت الكويت، والتقطناها صافية على عكس برامج المساء التي تصبح مشوشة كثيرا وهي: البرنامج الثقافي الدرامي "نافذة على التاريخ" من إعداد درويش الجميل وعلي المفيدي، تعليق الراوي المذيع اللبناني أحمد سالم، والبرنامج الدرامي الثقافي "نجوم القمة" مع نفس طقم الإعداد، و"أخبار جهينة" بأصوات ناعسة الجندي وأحمد سالم وصادق دبيس، و"روايات الحياة" المعتني أيضا بأشهر السرود العالمية، بصوت داوود حسين وعبير الجندي. أما الرابع فكان برنامجا ليليا يدعى "الشعر والشعراء" بصوت عبد الله خلف.

    وفي الحقيقة إنما كانت برامج الراديو العتيق الذي زان الدار برامج إذاعية ثقافية طلائعية اهتدينا بفضلها إلى الدرب الصحيح سلوكا لغويا وثقافيا تتمّة لسلسلة تلقي لثقافة إعلامية إن صح التعبير بدأناها مبكرا (في سن السابعة)، في ثوب مسل لكن مربٍ ومعلم، بخاصة التطبع على مفردات اللغة العربية، وكنا بدأناها أول ما بدأناها بتلقي ثقافة تلفزيونية عبر التلفزة الوطنية، وكانت وسيلة الترفيه الوحيدة في قريتنا الموحشة؛ إنها برامج الرسوم المتحركة الجيدة اللغة، والتي اختصت في دبلجتها دبلجة جيدة دراميا وجيدة فنيا في خطابها الفصيح مراكز فنية لا يختلف مستوى أصحابها عن مستوى مذيعي bbc العربية، وهي مراكز دبلجة عجمان، وعمان، ودمشق، وبيروت، وبغداد..، ونذكر من سلاسل الرسوم المتحركة هذه: الحوت الأبيض، بن وسيباستيان، الغابة الخضراء، الضفدع الشجاع، روبن هود.. فضلا عن ويل ديزني وافتح يا سمسم والمناهل ومدينة القواعد، وكانت مواكبة لبداية مطالعتنا لمجلات الحزب العتيد الكثيرة التي وصلت إلى المنزل بشكل أو بآخر، وكان لا يروقنا منها إلا ما تنشره من إبداع شعري وقصصي عربي غطى بمستواه عن الأكاذيب السياسية الغالبة، وقد أنارت جميعها: إبداع مجلات مؤتمر الحزب، ورسوم قناة اليتيمة المتحركة، والراديو العتيق طريقنا الحداثي بمعنى الكلمة لأنها وافقت فطرة سليمة في هذا الإنسان، وهي نفسها ذات نية وفطرة سليمتين في شق طريقها نحو تصدر معترك العمل الصحفي.

   ومتى انتهى هذا الشوط الأول حتى انفتح سبيلنا على شوط ثاني، وهي مرحلة زاهية لغويا وفكريا في حياتنا أيضا، ونعني بها مرحلة تلقِينا لمجلّات مشهودة في مستواها الأدبي والفكري، وقد زادت واعطتنا دفعة قوية، وجرعة اكسجين مهمة لمواصلة الدرب الصحيح الذي سلكناه وهي: مجلة العربي (تباع بـ 80 دج فقط) وملحقها كتاب العربي، ومقالات عالم المعرفة، وعالم الفكر النيرة وكلها غير متحيزة أيديولوجيا لزيد أو عمر (وقد فصلنا في أمرها في مقالنا السابق).




[1] ، المقصود هو حصر العقل في المطلق أي في التأمل والنظر ومنعه من العمل والإنجاز، وهكذا يتحول كل شيء إلى يقين قبل اعمال الفكر والجهد العقلي كما يقول عبد الله العروي: المجتمع الأبعد عن العقل؛ أي أوربا الغربية هو الذي تمكن من تحقيق الممكن، في حين أن المجتمع الأقرب إلى العقل نظريا، أي الإسلامي، هو الذي توقف عند آخر عقبة كانت تفصله عن اكتشاف عالم جديد. أو ليست هذه مفارقة؟’’. إنها مفارقة محمد عبده التي نجمت عن ’’ الحصر الذي جعله ينفي الزمان ويظل وفيا للذهنية الكلامية التقليدية’’ ينظر مفهوم العقل مقالة في المفارقات، المركز الثقافي العربي، ط3، 2001، ص102.

[2] . عبد العزيز حمودة، الخروج من التيه، عالم الفكر، العدد 298، نوفمبر 2003، ص9.

[3]. ضبط دقيق لمعنى هذا المصطلح يعتبر من الأوهام، لا يوجد أي مثقف بل أي إنسان غير مؤدلج بالأيديولوجيا وقيمها ذلك أن المثقف يكتب لينشر، وينشر ليؤثر على القراء، ويحضرنا تعريف الفيلسوف (بين قوسين) أدونيس للشعر تعريفا مخلا ناقصا، على أنه ذلك الشعور المتجنب لتسبيق الفكرة، ليت شعري، كيف يكون الشاعر شاعرا بهذا المفهوم وهو مقاد بفكرة الطموح والفنتازيا ترويجا لنفسه عند قرائه؟ ينظر ندوة الميادين، العنوان: https://www.youtube.com/watch?v=ExZXqs5SKmU&t=2078s

[4].  جان توشار، تاريخ الأفكار السياسية، من اليونان إلى عصر الأنوار، 3 أجزاء، دار التكوين، دمشق 2010.



حلقة من حلقات "قول على قول" للbbc العربية:

author-img
موقع تنويري فكري وشبه أكاديمي، يتغيا تقديم إضافات نقدية تخص تحليل الخطابات الثقافية ونظرية النقد والأدب متوسلا بجماليات التلقي والنقد الثقافي، كما يعنى بنشر إبداع قصصي جديد ليس له ما يماثله على الساحة الجزائرية، والمقال المتناول للشؤون السياسية والإعلامية والاجتماعية المقاربة للظاهرة الأدبية والمحاكية المكملة لها.

تعليقات