القائمة الرئيسية

الصفحات

نسق "المفكر الفحل" في الثقافة العربية المعاصرة، عبد الله الغذامي ومدونة نقد المغرب العربي الأدبية المعاصرة أنموذجا.


 

  نسق "المفكر الفحل" في الثقافة العربية المعاصرة، عبد الله الغذامي ومدونة نقد المغرب العربي الأدبية المعاصرة أنموذجا.    

   بوزيان بغلول * 

   الملخص: بعد أن احتدم النقاش حول مناهج النقد الجديد عربيا، ولم يهدأ لأنصاره بال حتى بعد بزوغ نجم نقود ما بعد الحداثة بخاصة النقد الثقافي ونظرية القراءة، ولم يكن احتدام النقاش والجدال حول النظرية النقدية المعاصرة، بين اتجاهات المناهج اللسانية المتمثلة في الاتجاه الوظيفي والعقلي والتداولية على حدة مع الاتجاه الدلالي خارجا عن إكراهات الثقافة، لم يمنع ذلك من فرض نظريات الخطاب لمنهجها المتجاوز للانغلاق في بوتقة الداخل اللساني والبنيوي مما جعل من تداخل المناهج شيئا حتميا وأمرا واقعا، والكل يريد فرض منطقه التفكيري، فغدت الفكرة، فكرة السياق أسبق من فكرة النسق (بنية النسق ونظامه نقصد) فحتى النسق فقد مشروعية النسق الدو سوسوري، وغدا موطئ قدم غصب فكري أشبه بغصب "المفكر الفحل" لنظام النسق ثقافيا كان أو أدبيا.

كلمات مفتاحية: دراسات ثقافية؛ الفحولة الفكرية؛ نقد ثقافي؛ النسق الثقافي؛ الفحولة الشعرية.

   المقدمة: أولا لابد من التشديد على أن وجهة نظرنا بالنسبة لهذا الموضوع ليست من محض الجدل الإعلامي، بل هي من نتائج تبلور نشاط علمي له علاقة بالدرس الأكاديمي في ميدان الدراسات الثقافية عموما وبنشاط النقد الثقافي خصوصا، ولا هي من محض "كتابة الصدفة" أيضا لأنها وجهة نظر متصلة بتجارب عملية عديدة متعلقة بالممارسات اللغوية والثقافية (اجتماعية وسياسية) في بلدنا، وبمقارنة بسيطة بين الساحة الجزائرية والمغربية في مجال مدونة النقد الأدبي التي لها إسقاطات ثقافية عامة، سنجد أن كليهما هما في الهوى سوى، بيد أن المغرب الأقصى حدة الأيديولوجيا السياسية متوسطة به، وليست طاغية كما في الحالة الجزائرية، بيد أن المضمرات الثقافية التي مصدرها السياق الخارج نصي: الأصولية والمحافظة على قيمها عند كليهما في هذا البلد أو ذاك، سواء بسواء، وتعمل عملها بالإضمار على أنها الذود عن الأدب من المعيارية والذوقية الانطباعية والتقليد بالعلمية وحداثة المنهج، مضاف لها المشكلة التاريخية والهوياتية التي تتمظهر في عجمة وغرابة اللغة وتعددها اللهجي، فكانا أول من لفّقا حداثة وادّعياها بتأثير هذين العاملين؛ الأصولية الضاغطة من السياق السوسيو ــ ثقافي العام (شعبي ونخبوي) على نظام الحكم، والإشكال الذي تطرحه الهوية غير المستوية بخصوص اللغة فيهما معا.

1. الإشكالية المنهجية: النظرية النقدية وإشكالية الثقافة:

    ولعلّ كثير من بذور المقولات النظرية والنشاطات العملية في تخصصي الدراسات الثقافية والنقد الثقافي سنجدها في المقولة التي كررناها كذا من مرة، وهي أن "النقد الأدبي والأدب العربي ليس أصوليا ولا يحمل طابعا سياسيا، بل أن وظيفتهما تقع ضد الأصولية وضد استبداد الفكرة السياسية وأدلجتها". ولعلّ الدليل الأقوى هو أن المناهج الحداثية كانت وهي كائنة الآن إلا باعتبارها وسيلة للأصولية والسياسوية (السياسة غير المنسجمة مع مبادئ ما يفرضه العمل السياسي المعاصر نفسه)، وتمكنّهما من أن يصادرا الأدب العربي ولغته ومعهما النقد الأدبي، ويلجان به دروب ليست من طبيعته في شيء، بل هي خليقة عند المغاربة بجوانب فلسفية فقط دونما موروث كامن في هوية لغوية عربية بآدابها ونقدها، أو كما فعل الغذامي بالمراوغة والإيهام باسم البلاغة العربية الواحدة التي هي بلاغة الخطاب الديني (والبلاغة العربية في حقيقتها بلاغتين: واحدة مقيدة بالخطاب الديني والأخرى متحررة منه) وهذا من أن أجل أن يسوّغ العبودية للشعر العربي في قوله: " العرب قد رفضوا التفلسف في الأدب لاعتباره زندقة، وأنّ معيار النّقد للك هو البلاغة والقدرة على الارتجال حدّ تسمية بعضهم عبيد الشّعر"[1] ويُسوّغ له مفهومه لهذه العبادة أنه فعل نسق ثقافي دعاه "الفحولة الشعرية".

   وقد يدركون ذلك أو لا يدركون لأن أي حداثة وأي تقنين وأي إلحاق للظاهرة الأدبية بالصرامة والدقة العلميتين سيكون نتاج تجاوز التقليد بالضرورة (حالة المشرق العربي)، أما القفز على التقليد فلا يسمى صاحبه حداثيا، بل يدعى منتهزا ومخادعا، إذن مشوها للحداثة، وهنا تنام جملة من مضمرات وقبحيات وحيل النسق الثقافي المنتهجة في ذلك، وتعدادها من صلب موضوع بحثنا. وعندما يكون هناك أزمة سياق هذا يعني أنه ليس هناك نسق ثقافي حيث لا تعمل عناصره عمل النسق نتيجة تدخل إكراهات خارجية، لعل تسبيق الفكرة الثقافية عن كل نسق هو مطب قُبحيات تعمل عملها اللاواعي المخدر للعقل انسجاما مع ما تطرحه الثقافة المحلية، وهو ما رصدناه لدى:

ـــ أولا لدى عبد الله الغذامي (وهي فكرة دينية أخلاقية) عن طريق التمويه أن جميع العرب رفضوا الأصول الفلسفية للنقد، كونهم غير متحررون من قيد الأيديولوجية الدينية! وخارطة مذاهب الأدب وتياراته الحديثة والمعاصر أمامه جلية حاضرة! (يعتقد الباحث أنّ النّقد وليدٌ من الفلسفة، وحين اقتبسه العرب لمعالجة البلاغة قلبوا مفهومه وحصروه بجماليّة الأدب وبلاغته. لذلك ليس من الغريب أن نلاحظ عدم تطرّق الأدب النّقديّ إلى أسئلة ما وراء الجمال وأسئلة العلاقة بين التّذوّق الجماعيّ لما هو جميل وغير ذلك من الأسئلة الفلسفيّة، وبقي متمركزّا فيما يتعلّق بالجمال[2]) وهذا كي يسوغ له شن هجومه على الشعر غير الملتزم، والذي بطبيعته لدى الأمة العربية دون غيرها متوهج كونه يعايش منطق تفكير مغلق.

ـــ وثانيا لدى المنظومة الثقافية المغاربية بعامة والجزائرية بخاصة (لحل مشكلة الهوية اللغوية) لجوءً إلى الثقافة الفرنسية ومحاكاتها في إيجاد لغة مناسبة تسمى لغة عربية Arabic وليس لغة عربية فصحى، وهي متغيرة مع الزمن مثلها مثل الفرنسية والانجليزية ومن ثمة تكون غطّت أو تجاوزت أزمتها الثقافية حسب اعتقادها، وهي في الحقيقة لم تتجاوزها وإنما فاقمت حدتها، لأنها تدخلت في عمل النسق الثقافي عن طريق إكراه عنصر من عناصر النسق الثقافي إكراها خارجيا، وهو عنصر اللغة بتغييره عنوة على مستوى ما من المستويات الاجتماعية وهو المستوى النخبوي بما لا يوافق النظرية الاجتماعية للغة (وهو الذي سيتجلى فيما بعد في غموض مدونته النقدية الأدبية التي تبحث عن الجماليات مع عسر تطبيقاتها، لتظهر وكأنها تبحث عن أيديولوجيا ما مختبئة تحت عباءة الجماليات أدناها جميعا أيديولوجيا تقنين الدلالة). وكلاهما الغذامي ومدونة النقد الأدبي المغاربي لو صرحا بالحقيقة سلفا خرجا من المُضمَر، أي من تخبئة قبحيات النسق المختبئة تحت عباءة الجمالي، بالتالي لم يعدا موضوعين صالحين للتحليل والمناقشة في النقد الثقافي لكنهما لم يفعلا.

     أجل، فالأدب بطبيعته فن ووظيفته تقع ضد الأيديولوجيا مهما كانت، لأنها مثبطة وجاثمة بالحجر على مَن يحرر مِن قيد التخلف وهو العقل، وقد عرقلت الأديان ذلك بصفة مبكرة (الغاوون يتبعهم الشعراء) فقد كان الأدب والفنون عموما في القرنين 14 و15 في إيطاليا (Renaissance) مُفرشا للنهضة الأوربية في مجال العلوم كي تعم في كامل أوروبا في القرنين المواليين، فعصر الأنوار ثم العلم الحديث مدينان للآداب والفنون التي ألقت حمل القيود الدينية الثقيل في نهاية العصور الوسطى عن كاهل المواطنين هناك.

2. متى استحال دور الفن (الذاتي) استحال دور العقل (في الفلسفة والتاريخ المرتبطتين بالنقد الأدبي المعاصر):

   فإذا كان الأسية Foundationalism وهي احدى مذاهب الفلسفة الديكارتية (ديكارت الذي جادل بأن الفرد العقلاني المستقل هو الأساس بحيث الأفراد الذين يتمتعون بحرية الفكر هم الأسس التي تدرك العمل السياسي والأخلاقي) قد حجبت الترتيبات التاريخية التي ولدت المظهر الخاص جدا للأفراد المستقلين. وفي الحين الذي افترضت فيه نظريات الحداثة أن الذوات مصدر للمعرفة والعمل، فإن ما بعد البنيوية تنظر إليهم بوصفهم أثار أو نتائج المنطق الاجتماعي والثقافي لخاص، وهذا ما تحدى به فوكو فلسفة الأنوار لكانط حين تساءل هذا الأخير العام 1874 "ما الأنوار؟" والتي صاغها على أنها الحرية واستخدام العقل في إطارين عام وخاص ويقصد بالخاص الإطار الذاتي، وهنا تدخل فوكو متحديا متسائلا لأنه حدس أن الأمر يتعلق بعلاقة ثقافية بين المجتمع والسلطة (وهي متغيرة من مجتمع لآخر): ما الحداثة بالنسبة للأنوار؟ هل هي لحظة نزلت من السماء أم ابدعتها كل ذات متلهفة للحرية بشكل مختلف، ذلك أن الحداثة هي شكل تلهُّفنا إلى الحرية[3]، فالتحدي الأجدر بالتساؤل يبقى في فهم هذه الطرق التي أطرت الذوات ثم أخفتها في وقت واحد؛ "فما بعد البنيوية تنقض هذا الافتراض وتجادل بأن الذوات ليسوا مبتكرين مستقلين لأنفسهم أو لمجتمعهم. هم بدلا من ذلك جزء لا يتجزأ من شبكة معقدة من العلاقات الاجتماعية"[4]. تحدد هذه العلاقات بدورها؛ أين يمكن أن تظهر أي ذات؟ وبأي صفة؟ أي أن ما بعد البنيوية تؤكد أن التركيز على الذات بوصفها وكيلا فاعلا مستقلا يجب أن يفكك حسب فوكو.

1.2 فائض الشعور النفسي الحر من النسق الأدبي بينما فائض فكرة الجماعة من النسق الثقافي (سياقية بالمفهوم البنيوي وليست نسقية)

  فعلا، فائض الشعور النفسي من النسق الأدبي الحر بينما فائض الفكرة المؤدلجة من النسق الثقافي (سياقية بالمفهوم البنيوي وليست نسقية) وعلى هذا الأساس فإن تسمية "الشاعر الفحل*" السلبية الدلالة في عصرنا الما بعد حداثي التي ساقها الغذامي، ولم ينقلها عن نظرية النقد الثقافي الغربي التي تخص تطورها تنظيرا لدى هابرماس وأدورنو وفنست[5] إلا وهي محرفة الغايات والمرامي، وهي لا تمت بصلة لمفهوم الفحولة الشعرية التقليدي الإيجابي في طبقات فحول الشعراء طالما هي محاولة من الغذامي لمقابلة بنية النسق الأدبي بمفهوم النسق الثقافي: الشاعر الفحل حسب زعمه السلبي، مقابلةً تقوي المناهج البنيوية الحداثية، وتضع التراث السردي الديني في مأمن، بما تصفه به من غواية ومن هوى ليس له علاقة بإنتاج الفكر أو تحريكه على الأقل، وهذا ضد ما هدفت إليه نظرية النقد الثقافي الغربية: الشك في المناهج البنيوية على لأقل من ناحية الايغال في منطق التقنين وآلياته إلى درجة اللاوعي به. وبالنتيجة هل تعتبر محاولة الغذامي هذه التي فتنت المغاربة حيلة ثقافية؟ أو نفسها هي مضمرا ثقافيا؟ سنرى ذلك في هذا السياق المغاربي المفتون ونفتّش فيه عن هذه الحيّل، وعن هذه المضمرات التي تشي عن لا وعي بالتحول أو المغايرة أو التعددية الثقافية أو قل بتكييف خطاب العقل لخدمة الأيديولوجيا خالقة خطاب هو خطاب الحداثة المشوهة.    

  أجل، إذا كان الشعور ذو صبغة نفسية مِن جنس الأدب فما دخل الولاء للعرف والعادات والتقاليد الثقافية؟ لولا أن في الأمر حيلة ضد ملكة البيان والخيال باعتباره من نسق الأدب، الذي أراد الغذامي ترسيمه عنوة أنه من النسق الثقافي، ولولا أنه نسق مستقل بطبيعته الفنية الشعورية (فائضة أو عادية) فتبقى نفسية ذاتية خليقة بطابعها الفردي الذوقي؛ "إن طبيعة اللغة الشعرية في الرواية تتحقق في استنفار الهم الذاتي، وبلورة هذا الهم ضمن زاوية تحقيق وشيء يمكن أن يوفر نوعا من الأمان للشخصية وهي تعيش حالة الانفلات من سطوة الجماعة إلى حالة من التوحد النفسي، مما يجعل هذه اللغة تصطبغ بصبغة الفردية"[6] وهي طبيعة ناقدة لأتون العادة الأيديولوجية والتي تقف ضد من يحرك العقل، وهو المسحة الشعورية الذاتية التي لا يهبها جميع الناس، تقف ضده في بناء تصور للعلم ومنطق حياة الطبيعة والكون السائرين دوما إلى التغير. إذ أن الذاتية في الأدب مهما علا افراطها الشعوري نسق أدبي وليس نسق ثقافي كما اعتقد الغذامي، وإنما النسق الثقافي هو نزعة (تكتل) كيما يُقابل الخصوصية الفردية الذاتية الفنية إما نتيجة قرف ديني (في المشرق العربي) أو افتقاد للفنية (في المغرب العربي). ولا يوجد إبداع ذاتي يعمل مستقلا عما تفرضه بنية المجتمع حسب فوكو.

   ثم أتُرى بعد أن يعزل الدارس نصه أو ظاهرته الأدبية عن سياق المؤلف والتاريخ كيما يقوم بوصفها وصفا آنيا بنيويا، بماذا سيصفها حينئذ؟ هل سيصفها باللغة العامية أم باللغة الفرنسية التي ترجم بها النظرية البنيوية؟ حتما سيصفها باللغة العربية، لكن أي عربية تلك؟ أو أي ميتا لغة شارحة ومفسرة تلك؟ وقبل هذا وذاك قد علمنا أن لكل علم غاية؛ فلعلم الهندسة والتحليل الرياضي غاية العمران والملاحة الجوية، والفيزياء الصناعة، والكيمياء والطب المداواة، وعلم الفلسفة تطوير وإخصاب الفكر، والتاريخ الاعتبار بما كان..، فما غاية علم النقد الأدبي يا ترى إذا لم يعدّد سليبات العمل المنقود من جميع النواحي لغوية وأدبية سوى غاية الإجراء البنيوي في حد ذاته؟ وفي هذا التّعداد دلالة الذوق ومنطق الفكر الرفيع معا، لا دلالة الألفاظ في منطق تراصها البنيوي العام فحسب.

  بل هنا وفقط هنا ستنكشف أدواء حيل ثقافية أضفت على علمنة النقد الأدبي تكريس الطابع الأيديولوجي الذي يمثّله الفحل الطاغية المستبد في الثقافة العربية على مر العصور؛ هذا الفحل هو في صورة المفكر الأكاديمي أو الناقد المنظّر أو ما قاربهما، وهو عون مطيع لأنظمة الأيديولوجيا ـــ حسب فوكو في نقده لفلسفة الأنوار ــ

1. ستظهر علاقة المحلل الواصف باللغة العربية إن كانت علاقة انتساب وهوية أم علاقة قطيعة؟ بسبب الخلل في ضياع هويتها بالمقارنة مع وضعية هذه اللغة في مهد وحاضر حياتها. ذلك أنه إذا كان مهد اللغة الفرنسية فرنسا، ومهد اللغة الإنجليزية إنجلترا، فإن مهد العربية شرق الوطن العربي وليس غربه.

2. بعد فترة من مزاولة هذا النشاط على نسقه الأدبي سيبدأ المحلل بتغيير متا لغته الواصفة، ومن الضد إلى الضد، أي يصبح يحاكي لغة أخرى هي عادة ما استهجنها أوائل البنيويون المغاربة كونها مثقلة بتضاعيف البلاغة والخيال غير المطلوب في التحليل البنيوي، أجل سيبدأ في تطعيم متا لغته بمسكوكات هي مفردات وعبارات بلاغية عتيقة أو مرادفة لِما ألفناه منهم من اختيارهم للفظ البسيط غير المتكلف التعبير، وهم مقتدين في ذلك بالمشارقة الذين يجدون سهولة في ذلك، لأنهك لا يعانون شركا هوياتيا لهم مع لغتهم، معجميا وتصرفا صرفيا ونحويا سلسا، وإنما مثل هذا الفعل الذي يلاحظ في بحوث المغاربة البنيوية الأكاديمية ينم عن وجود حيلة في الأمر ومضمرا ثقافيا يجمعهم باللغة سعو إلى تجاوزه بالتماس حيلة حداثة المنهج ونزاهته العلمية في النقد الأدبي، وسيوافقون في ذلك التماس حيلة تغطي على الافتقاد عبد الله الغذامي في مشروعه، كما وافقت شن طبقة لأنه حيلي مثلهم ذائدا عن التراث الديني وليس مغطيا عن ضعف التراث الفني شعرا ونثرا مثلهم.

  وكنا توصلنا في مقالاتنا السابقة؛ بأنّ اختلاف السياقات الثقافية يضفي ــ مِن عدمه ــ على تحليل الخطاب الأدبي سمة الخطاب الأيديولوجي نفسه (ديني وسلطوي سياسي متخلف)، والسياق الذي ولدت فيه الحداثة في المدرسة الفرنسية لا يماثل تلكم الحداثة في سياقها الانجلو سكسوني، وفي ضمن هذا الجانب؛ أي التعاطي مع الذاتية كونها جزء لا يمكن الاستغناء عنه كليا في الظاهرة الأدبية والمغرب العربي اِنْسَاق مع الخطاب الأدبي الذي استُهلك في فرنسا طيلة النصف الثاني من القرن الماضي ويزيد قليلا بوعي أيديولوجي، لكي يقع في انسجام مع الثقافة في بعديها الديني المتخلف والسياسي الرجعي، معتقدا أن العقلانية الديكارتية جوهر فلسفة الأنوار في فرنسا كفيلة بالحفاظ على ذلك الانسجام، فوقع أول ما وقع في القفز على المرحلية التي اقتضاها تطور الدراسات الأدبية والنقدية المواكبة لمحطات مدارس الأدب، كما أوردنا في إحدى مقالاتنا السابقة:" لو أمعن النظر (يعني به الغذامي) إلى تلكم النخبة لضمّها إلى قائمة أنساق الفحولة في الثقافة العربية الراهنة نتيجة: ــــ حرقها لمراحل التكوين 2 ــــ غياب كلي أو جزئي لتطبيق المنهج العلمي 3 ــــ العوز اللغوي الشديد. وسقوطها في هذه الأحبولة مِن لا وعيها بأهمية الشعور الذاتي في موضوع عملها (النقد الأدبي) نتيجة وعيها المفرط (بل المتشنج نتيجة قصور تاريخي بإزائه) بما يُقابل الذات وأهميتها وهو النسق الثقافي أو أيديولوجيا التكتل، التكتل لمقاومة أو اقصاءٍ لتلك الذاتية الماهرة اقصاءً فيه حيلة أي عدم التصريح به بل التصريح بافتقاد العلمية بدله.

  أي أن المبحث الأنطولوجي المتعلق بالمؤلف/مرسل الخطاب كذلك معني بمضمرات الثقافة وحيلها،.. وستجد أن هذا النسق (الفحل المفكر والمثقف) مثلا له سياقه الخاص، قد يتقلص فضاؤه في بعض الممكنات السياقية، لأن مثلما هناك ممكنات نسقية هناك ممكنات سياقية منها ما هو خاص وهي تلك المتعلقة بالنظام المؤسساتي؛ نظام كليات اللغة العربية وآدابها تبع المدن الكبرى كالعاصمة الجزائر، وهي فقط التي تعكس المنظومة الثقافية المحلية وتجاري نسقا من أنساقها، نتيجة الحجم الديموغرافي وتواجد الأجانب وأكبر المؤسسات فيها، هنا ستجد هذا الفحل، وهو في نهاية الأربعينات من العمر لكنه بلغ ما بلغ من التكفل بمناقشات الدراسات العليا وترؤس المجالس العلمية، سيدفعك الفضول حتما لمعرفة المزيد، لكن للأسف ليست بجماليات منجرة عن نقد ولا عن أدب[7] لكنها تلك المنجرة عن قبحياتهما وعبر نسقين: ظاهر مخادع ومُضمَر ثقافي ــــ وإن كان آيزابرجر يقول عكس الغذامي بشعريات/جماليات السياق والنسق في النقد الثقافي، أي أن النقد الأدبي الحديث (التاريخي والنفسي والاجتماعي) يدخُل في مضمرات وحيل النسق الثقافي الما بعد بنيوي تجاوزا ـــــ فشئنا أم أبينا إذن، فسنجد صاحبنا الفحل هذا ركيك اللغة، أجل وضعيفُها لأنه متفرنس زيادة عن اللزوم*، ومفتقد لسلاسة التعبير بها فإذا تكلم عَيَّ، وإذا قرأ تأتأ وأخطأ، برغم اجتهاده للإلمام بقواعدها ونحوها؛ وهذا عوز لغوي وحرق للمراحل في نفس الوقت، ولما كان النص يتداخل مع الخطاب والأثر الأدبي فإنك ستجد أن هذا النسق خاص بفئة معينة من المنتسبين للأدب تأتي عوامل النشأة اللغوية العاصمية عليهم بادية، ولما كانت غاية الخطاب الأدبي هو تشكيل للغة التي لا يمتلكها إلا المتمكنين منها فهي لغة عصية وصعبة، وهذا ما أورده الباحث الأسلوبي عبد السلام المسدي بقوله: "الخطاب الأدبي خلق لغة من لغة أي أن صانع الأدب ينطلق من لغة موجودة فيبعث فيها لغة وليدة هي لغة الخطاب الأدبي وتتميز باختلافها عن لغة الخطاب العادي بأن لغة هذا الأخير مكتسبة بالمران والممارسة والاحتكاك بالآخرين، تنشأ وتستمر باستعمالها المألوف لدى الناس بفعل العادة والاتصال"[8]

   إذن هناك علاقة بين العلاقة المتوتّرة والموتورة باللغة العربية من حيث النشأة، مضاف لها علاقة الانتماء للصنعة، أي الرغبة في الأدب والنقد لجمالياتهما فحسب أم لخدمة أغراض أخرى، وما تتطلبه هذه العلاقة يجعل عناصر هذا السياق يحتال ويتطفل وبلغة ومصطلحات النقد الثقافي يُضمِر قبحيات النسق الثقافي المُختبئة تحت عباءة الكشف النقدي البنيوي عن الجماليات، ويتعاطى مع الثقافة المضادة له بما في ذلك الموسومة بالرموز الفنية بفحولة فكرية، ونقصد التي تخص الأنساق النقدية الجامعية والأكاديمية التي تنقد النص الأدبي نقدا حديثا أو حداثيا أو ما بعد حداثيا في علاقتها بالأدب كمجال إبداعي وفني، وهذه القبحيات هي التي من جنس الثقافة أما التي تخص فائض الشعور والتي جاء بها الغذامي على أنها فحولة شعرية لا واعية بثقافتها فأولا تحريف؛ فما دخل الفحولة المنتشي صاحبها منها إذا كانت هذه هي طبيعة الفن؟ وهو أولا وأخيرا من جنس الأدب لا من جنس الثقافة! ولا تصدق نظرية النقد الثقافي الغربي على ما جاء به الغذامي، كون أن الأدب بجميع أجناسه ظاهرة ملهمة للذات وهي ذات بُعد نفسي ضد كل من يحاول اقصاءها او تهميشها أيا كانت الوسيلة. وثانيا انتشاء لا واعيا بالثقافة لدرجة تجعل من أمثال الغذامي (وغيره كثيرون من حمل صفة المفكر الفحل: كالمسيري وطه عبد الرحمان وعبد الصبور شاهين ومحمود شعبان..) فحولا فكريون أو فحولا نقادا وهم لا يعون وضعهم نتيجة إطباق الثقافة على رقابهم إطباقا لا شعوريا نرجسيا، إلى درجة أنها تكاد تجهز على ما تبقى لديهم من بصيص عقل غير أن لذة هذه الحالة السوسيو ــ الثقافية المعقدة (منظومة من التقاليد الاجتماعية يتداخل فيها اللاهوت مع الكهنوت مع الجبروت مضفٍ إلى التراتبية الاجتماعية الغابرة أو إلى طبقية مقننة تقنينا اشتراكيا هي من بقايا الأنظمة الشيوعية والاستبدادية) وارتباط مصيرهم بها تجعل أكثريتهم يشعرون لكن يهربون إلى الأمام حيث المستقبل الغامض والمظلم لكنه مستقبل يؤمّن لهم سبل العيش الكريم على كل حال إلى حين..

   وكم من بناء مادي نظري أو مجرّد حاول الإنسان أن يبني به نظرية علمية تتجاوز العلوم المادية والإنسانية ـــ فسبحان الله ـــ تعطي هذه النظرية ثمارها مثالا يصبح يُضرب عن صاحبها أول ما تعطي؛ وكذلكم حال مجال النقد الأدبي، لأن النقد الأدبي ظل تاريخيا موضع تضارب وجدل ثقافي، وموضع تجسيد مبدأ سيادة قانون الغاب الذي يحتله الأقوى طبعا وليس المبدع من عدمه، فكان له ذلك بعد قرون من المحاولات بدأت حتى منذ فجر الحداثة أو قبلها بقليل، واستمرّت عبر النهضة العلمية ثم مرحلة الأنوار وأخير مع النهضة الصناعية الأوروبية الحديثة، واليوم عندما نجد أن الإنسان العربي مستثنى من ذلك فلأنه استثنى نفسه بنفسه لاستبداد فكرة الأيديولوجيا وانغلاقها به في مأزقها (والظاهرة في شكل عنف لا يفتا أن تشتعل شرارته، لأن النفس مشحونة أو مغتاظة عصبيا، فلا تدري ما تفعل سوى بإلقاء نفسها في العنف)

   وــ سبحان الله ــ كم توافق هذه البنية التكوينية للعالم بنية الطبيعة من حر وبرد واعتدال، وعندما خُصّ الأشرار الشيوعيون ومن جاورهم بالمناطق الباردة (ولم يزالوا الوحيدون من يحرق الكتب المقدسة)، والأصوليون المتسلطون بالفكرة المغلقة بالمناطق الحارة (ولم يزالوا الوحيدون من يفجروا الساحات العامة) لم يقلل الاعتدال إلاّ من منطق خطاب العقل المتزن عند أصحابه الغربيين على عكس الشيوعيين والإسلاميين، فسيحِير حقا ويسبحِن الله ويعظمه الفكرُ عندما وجد انسجاما بين ما تطرحه وتفرضه البنية الكونية الحياتية مع ما تجليه بنية الطبيعة الجغرافية، وأعطت في ذلك العبرة: فقد انسجم ووافق أيضا ما أنتجته مخيلة مبدعين عرب شعرا ورواية على من يقومون بدراسة والتحليل النقدي الحداثي بين قوسين لذلك المنتج الإبداعي، فكانت "مزرعة الحيوان" موجودة بين هؤلاء النقاد في مقرّات عملهم الأكاديمية النقدية مظهرا وفكرا قبل أن تولد على صفحات الورق، وولدت لتنقد واقعة حياتية، ولكن مازال من يواجها محللا منتمٍ إليها باعتباره ناقدا! وكانت "اللاز" موجودة بينهم أيضا ويمارس من أصابته معانيها المنتقدة نقدا علميا حداثيا! وهكذا دواليك، كانت "أقاليم الخوف" و"أولاد حارتنا" و"في انتظار ﭭودو" و"موسم الهجرة إلى الشمال" وغيرها كثير كلها موجودة وظاهرة مشخّصة في مجال هامات النقد الأدبي قبل غيرهم، وكذلكم أيضا قصائد "الطلاسم" و"مقتل القمر" و"الملاح التائه" على سبيل الذكر كلها ملهمة للعقل ناقمة على أيديولوجيا الواقع نابذة لأصحابه مصوّرة إياهم في صورة مقززة في أحسن الأحوال، بيد أنهم مازالوا موجودين وفي مجال النقد الأدبي!

  وهذا النقد البيّن واضح لكن مسكوت عن معانيه مُغيَّرَة إياها إلى دلالات ما تفرضها قوانين البنية، من علاقات والبناء الذاتي وتلاشي الجزء لصالح العام، وهذا هو القبح المختبئ تحت عباءة الوصف الباحث عن الجمالي والحيلة الخفية المُضمَرة الواقفة بإزاء الأدب في شكل نقد ادبي لكنه نقد أدبي غير مستوف لشروطه العقلانية الصابرة لنبض الجمالي، وهو شرط حداثي من صميم نظرية فنسنت ليتش في النقد الثقافي لا تقليدي كما حاول إيهامنا به الغذامي، المفتشة عما هو من طبيعة النسق الأدبي عمّا ليس فيها من نأي عن الأنساق الثقافية، فمن الطبيعي أن يكشف عنها الفن لصالح العقل، ودون التباس في مجال العمل النقدي نفسه، ولتبين في الأخير أنّ هذا الأخير ـــ لطبيعته الجمالية الفنية ـــ تقع وظيفته ضد الأيديولوجيا، وعندما لا يتحقق ذلك تنكشف آليا الحيل المتستّر عنها، وهي تومئ الى قبضة سياق الأيديولوجي ضد الإبداع، وضد العلم في شكل ثقافة مغلقة مقيدة لهما، والفن بطبعه محرّر للعقل، "والنقد الأدبي لم يكن بعيدا عن اصطناع هذه النظريات العلمية وتمثلها والإفادة منها بالقدر الذي لا يفسد عليه حقله، وهو حقل فيه للفكر نصيب، وفيه للجمال نصيب كبير، وفيه للفن والإبداع نصيب أكبر"[9]

2.2 الفحولة الفكرية ونسقها التاريخي الأزلي المضاد للجماليات والحداثة (للفن والعقل):

    وكما أن هناك مضمَر حرق المراحل الفردي هناك مضمر حرق المراحل الجماعي، حيث من المعروف في تاريخ النقد الأدبي المغاربي أنه يخلو من أو يكاد من مرحلة النقد التقليدي ومع ذلك يريد تجاوزه بشتى الطرق حتى الخبيثة منها، ومرحلة النقد الحديث (التاريخي والنفسي والاجتماعي) والتقليدي (المعياري والانطباعي) بارز أثرها في تاريخ النقد الأدبي العربي ــــ وهي التي شيدت بنيان عصر النهضة الأدبية العربية المعاصرة في مشرق الوطن العربي ـــ لا مناص أن يهرول المغاربة مستبقين حتى نظرائهم المشارقة في ترجمة وتلقي المناهج العلمية البنيوية إما لعدم تخطيط مدروس أو لفحولة أو هما على حد السواء، من ثمة ظهرت نتيجة هذا الحرق للمراحل في سياق كسياق المغرب العربي لا عملية أو لا جدوى تلك المناهج وغموضها، لاختلاف سياقه السوسيو ـــ ثقافي واللغوي مع سياق المنشأ لتلك المناهج، والتقليدية في النقد الأدبي (بافتراض مصطلح "التقليدية" بالبرهان بالتراجع أنه صحيح عمليا) هي شرط ومرحلة جوهرية لمرور أي نقد إلى الحداثة أي إلى المناهج البنيوية، فهل توفّر في تاريخ المغرب العربي شيء اسمه النقد التقليدي حتى يتم تجاوزه؟ إنه لم يتوفر بعناية واهتمام راسخ، لكنه كان نقدا واقعيا أو رومانسيا للرواية الواقعية أو الرومانسية ومختل لما اعتورته فجاجة وركاكة التعبير المنجر عن وضع تاريخي عرفه مسار تطور الهوية اللغوية في هذه البدان، ولو توفر لأخذت الأجيال الجديدة عن الجيل الرائد الحد الأدنى من العلاقة باللغة العربية على الأقل، لكنّها قطعته بحرق المراحل فشهدت حداثتها مسخا حداثيا إن صح التعبير.

   كل ما في الأمر أن من يقف وراء مصطلح التقليدية في النقد الأدبي المغاربي المعاصر هو الوقوع في فخ القفز والحرق المؤلم والمكلِف للمراحل؛ عندما ظل نقاد المغرب العربي والأقصى بالخصوص يعيدونا على أسماعنا وطيلة ثلاثين عامة، ونعني بهم الخمسة المشهورين (محمد برادة ومحمد مفتاح، حميد لحمداني وسعيد بن كراد وسعيد يقطين) ومن ولاهم مغاربيا، امتعاضا من النقد التقليدي المعتني بمسكوكات البلاغة والنحو ومأثورات القول وزجرهم إياه تحت طائلة أنه ليس من موضوع علم للغة الحديث الذي جاءت به الحداثة!" ذلك أن فرنسا وصلت إلى الحداثة بعدم القفز على المراحل التاريخية بحيث سخرت أولا هذه الذاتية الجمالية الشعورية في نبذ واقصاء قيّم الأيديولوجية من جبر كهنوتي وتسلط سياسي بجميع أشكاله في ذلك الزمن.

   فمن طبيعة الأدب شعرا ونثرا أنه نقيض الأيديولوجيا، وعندما تمت لهم حداثتهم وعزلوا الخطابات الدينية وأحلوا النظام الديمقراطي المتسم بالعدالة والمساواة محل السلطوية جاز لهم في مرحلة تالية أن يعقلنوا او يعلمنوا الأدب، لأن أرضية العقلانية مهيئة والسياق المضاد للنسق قد عُزل، أما في الجزائر وفي المغرب العربي عموما المتخلف عن نظيره المشرقي سياسيا على الأقل، فمازالوا في التلفيق والتزييف وتخطّي المراحل فتشوّهت استراتيجياتهم للنهوض بالنقد والأدب نهوضا حداثيا في بلادهم على الأقل كي يضاهي نظيره المشرقي لمّا وقع في سوء المصير، كون أن النية لم تكن سليمة والغايات مؤدلجة، فكان جدير بهم وبكل حداثة أولا أن تخلي سبيل الأدب أن يعمل ضد الأيديولوجيا (التقليد الديني) حقبة من الزمن، وأن يعمل تكاتفا وتعاضدا مع جميع المجالات على تهيئة الأرضية المناسبة لتلقي الحداثة، أي كشط السياق من بقايا الأيديولوجيا، وكان الجدير بهم في سنوات الستينيات والسبعينيات الاعتناء الأكثر بالمناهج الحديثة التاريخية والنفسية والاجتماعية واللغوية المعيارية، وهي المناهج التي تساعد على تخطّي التخلف متوهجة من ذوات تميّز طبيعة العربي في قول الشعر الذي يهجو ويعمل معاول هدم التسلط والتخلف، أجل إن هذا الحرق كان مكلِّفا ضمن سياق المغرب العربي حتى بعد تلقيهم مناهج ما بعد الحداثة هي الأخرى، كون أنها أساسها لا يتغير ويبقى عماده مبادئ العقل لا التقليد، لكن طريقة التشييد هي التي تتغير.

   ولعل فائض الشعرية أو الفحولة الشعرية الذي من النسق الأدبي فائض واع ومسالم، بينما عصبية الفكرة وأدلجتها من النسق الثقافي (وخطابها الرجعي الدوغمائي مضمرا وحيلة ثقافيتين) وهو الذي جعلها تلتمس تحريف نظرية النقد الثقافي الغربية بما دعته على لسان الغذامي بالفحولة الشعرية، فالفحولة الشعرية ما هي في حقيقتها إلا طبيعة الملكة الذاتية الفردية (وليست الجماعية كونها محدودو لا يملكها جميع الناس) التي دورها الذود عن الحرية والعدالة التي جلبت الحداثة نفسها، أي الذود عن الابداع والفن ضد طغيان الفكرة المؤدلجة وانفرادا بالسلطة وصنع القرار.

   لذا فإنّ أي علمنة تقع في جيب هذه الثقافة تعد احتكارا للعقلانية تحت غطاء جمالي مزيف وهو علمنة الأدب وعلمنة النقد الأدبي، بينما حري بهذه العلمنة أن تراعي أولا الاطار الثقافي أو السياق كما حصل فعلا بها في مصدر سياق انبثاقها الأوروبي؛ فاذا كان ذلك السياق علمانيا محيدا للتقليد جانبا ومضفيا على العملية السياسية والنشاط الاجتماعي حرية وعدالة فمرحبا بهذه العلمنة (وهي هكذا جاءتنا من محضنها الأصلي الأوروبي الفرنسي) والعاملين الجوهريين اللذين لا يمكن السكوت عنهما/اهمالهما في هذه الثقافة هما: أولا ذاتية الإبداع والإبداع جزء من الظاهرة الأدبية إذن من نقدها أيضا، وثانيا تحرير هذه العلمنة من أي ثقافة مهما كانت في قداستها، وفي طي المسكوت عنه في أي ثقافة كانت تنام وتبتدع الحيل وفق ما ترعوي الثقافة؛ حيث لا مناص من "أن الدارس المنصف حين يقف أمام النظريات النقدية وقفة متأنية فإنه واجدها إما نظريات عنيت بالشكل أو صرفت عنايتها إلى المضمون، أو نظريات دعت إلى غلق النص على حساب القارئ أو دعت إلى فتح النص ومنح القارئ حرية التلقي، (..) إنها دعوة إلى فتح النص على إمكانات قرائية واسعة، أو غلقه باتجاه قراءة واحدة مضمونية أو أيديولوجية تتوسطهما دعوة ثالثة تستشف من بين الدعوتين وهي دعوة للفتح والغلق بمعنى الدعوة إلى غلق النص باتجاه ما وفتحه باتجاهات أخرى أو العكس"[10]

  والمقارنة مع السياق التي ولدت فيه هذه المناهج الحداثية وهو سياق مشبع بقيم العلمانية والنظام الديمقراطي تبين أن الوصول الى نظرية نقدية عالمية متنوعة بمناهج النقد الحديث والمعاصر لم يأتي اعتباطيا بل جاء نتيجة ممارسة علمية وفلسفية شاعت أثناء وبعد قرنا الثورة الصناعية 18 و19 لتشكل ثقافة مدنية وصناعية أساسها منطق العلم والعقل، وتلك الثقافة مارست قطيعة أبستمولوجية مع طرق التفكير الخرافية والأسطورية القديمة، في خضم هذا المحضن نمى المجتمع المدني ليستوعب الثقافات الفردية والمجموعات الصغيرة من الهند والشرق عموما، لكنها تحترم خصوصية ذلك المجتمع المدنية، من هذه الفكرة يستنتج أن آليات المنهج العلمي الحديث التاريخي والنفسي والاجتماعي مع أنه يحمل بذور التقليد في طياته ــــ والحداثة لا تقبل بالتقليد نهائيا في طريقة تفكيرها لكن دون تقليد ودون تراكم معرفي لم نكن لنصل إلى حداثة ــــ وهي غير مقصاة ولا ملغاة وفقا لمشروع الحداثة لأن الهدف كان تحييد التقليد (يمكن استعمال كلمة إقصاء) المتمثل في الفكر الميتافيزيقي أساسا، وتمكين غير المبدع من لغته وإبداعه بأن لا تبقى الممارسة الأدبية حكرا على المبدعين وحدهم لكن كل من يريد الإبداع وطمح إلى ذلك أمكنه بكل حرية اختيار بين مناهج النقد الحديث أو مناهج النقد المعاصر، أما في حال السياق المغاربي فأستُغل العلم لخدمة للأغراض الثقافية، بل أكثر من ذلك استُعمل كحيلة ثقافية، وهذا يناقض مبدأ أساسي من مبادئ الحداثة، "فالمناهج النقدية لا تموت ولا تنتهي بالمعنى الحقيقي ولا تتجاوز، لكنها تظل جزءا من تاريخ حركة النقد وتطوره، ويظل للتراكم المعرفي الذي يسهم في التراكم النقدي الدور الأسمى في تطور النظرية النقدية"[11]

  وتبقى أجدر وأحق علاقة لتتبع الحيل الثقافية المضمرة المختبئة تحت عباءة الكشف النقدي البنيوي عن جماليات النصوص كما ذكرنا، هي علاقة النسق الثقافي الذي يرتبط فيه أستاذ النقد وطالب العلم، لأنها محكومة بقيم الثقافة التي قد تضرب عرض الحائط بالقيم العقلية، ولأنها رابطة مركزية وتنجم عنها كوادر الغد في جميع المعارف، وهنا نقصد ثقافة الولاء الثقافي أو السياسي المحاكية للولاء الحزبي المكرس في قانونها الداخلي، وهو قانون أساسه خدمة أعضاء الحزب لبعضهم خدمة الانتمائية للحزب لا لمنطق وعقلانية ما يفكرون وما يعملون، أي تنتمي لحزبنا وتعمل بمبادئه تأخذ جزرة لا تفعل لا تأخذ، وهو ما أصبح يعرف في أبجديات الخطاب السياسي الحديث سياسة العصا والجزرة.

  مثل هكذا قانون لا يجوز أبدا أن ينتقل أثناء تولي الحزب السلطة إلى عامة الشعب لأنه يلغي المعارضة، لكن يجوز مكافئة أعضائه بأعلى المسؤوليات في هرم الدولة، وما يميز خطاب المؤسسات الجامعية بخاصة الأكاديمية منها عندنا هو أن تأخذ علاقة طالب العلم بالأستاذ علاقة ولاء حزبي وثقافي فيدخل العلم إلى بوتقة تعاسته المعهودة داخل هذه المؤسسات الخاضعة لخطاب ديماغوجية السلطوية ورجعيتها، والملاحظ في مجال النقد الأدبي أكثر من غيره لطبيعته النقدية أن المؤسسات الجامعية بخاصة الأكاديمية واقعة فعليا في هذه العلاقة الولائية التملّقية الثقافية الحزبية لكنها تغطي عن ذلك دوما بخطاب دوغمائي غير معقول، وهو خطاب كان سائدا سابقا في نهاية القرن الماضي تحت غطاء الذود عن الثقافة المحلية من الأخطار الغربية المحدقة كخطاب ما بعد الاستعمار ثم العولمة الثقافية.

    أما حاليا مع بداية الربع الأول من القرن 21 فان هذا الخطاب تحول إلى توظيف حيلة ثقافية تغطية على تبنّي الحداثة المشوهة (فيما يشبه سياسة توافقية بين الأصولي والوطني الذي كان أصله سابقا شيوعيا) والتغني الاجوف بديمقراطية وحرية خاصة لا يعرف كنهها غير أصحابها الذين يتغنون بها ليل نهار والوضع الثقافي العام يشي عكس ما يرفعه هذا الخطاب من شعارات: التحول الديمقراطي، حرية الرأي، الجزائر الجديدة، العدالة والصون عزة وكرامة المواطن، التنمية الشاملة..، والإطار الثقافي العام إطار رجعية وتخلف. وخطابهما واضح أشد الوضوح أكاديميا في مجالي إنتاج النظرية النقدية العلمية أو مناقشتها مناقشة علمية صرفة، وفي إبداع هذه النظرية معا، فما فتئ هذا الخطاب يلتمس الحيلة العلمية البنيوية والوقوف أمام المناهج الحديثة وما بعد الحداثية وقوف السياسي أمام المعارض خوفا من تلاشي دوره التاريخي في القبضة السلطوية على شعب أعزل، لكن هيهات كل عصبية كهكذا عصبية أيديولوجية مآلها الحتمي الانتهاء المذل والتاريخ شاهد على ما نقول.

   الخاتمة: ولعل مسك الختام مفاده أن "ﭭرسنة" خطاب العقل لمصلحة أيديولوجيا ما يخلق خطابا حداثيا مشوها كما في حالة المغرب العربي.. ومن المنطق البديهي المسلم به أن خطاب العقل هو اللغة، وكل ما اكتمل رقي هذه اللغة اكتمل تنوير خطاب ذاك العقل، أما في حالة اللغة العربية في العالم فهي لغة واحدة وليست لغات عدة، ولعلّ تفكيك تلك اللغة نفسه هو عملية إبداعية: من يبدع باللغة هو من يفكر، بينما مازال في جامعة الجزائر من يُضمِر لهذا المنطق الواضح الأكاذيب ويلفقها له تحت طائلة أن الإجراء الآلي العلمي كفيل وحده بالرقي بها وبالفكر والدلالة، ووراء ذلك كله هو أيديولوجيا الطغيان والاستبداد (طاڨ على من طاڨ)

  صحيح أن المناهج الحداثية قد أقصت ذاتية المبدع من آلياتها في دراسة الأدب الذي دعته نصا لا إبداعا، غير أن ذلك الإقصاء تمّ ليس تحت بواعث وأنساق ثقافية تختبئ بالصرامة العلمية وهي بصدد تتبع جماليات النص الأدبي كما تجلى مع السياق الأيديولوجي الماركسي والنقدي المغاربي المعاصر، بل بحسب ما افترضته حالة الحداثة المعاشة، وهو تمكين الجميع من صبر أغوار الظاهرة الأدبية، حتى أولئك المفتقدين لتلك الذاتية، والدليل هو عدم الحجر على المناهج الحديثة أدبية ولغوية في السياق الأوروبي، بل للناقد والطالب بالخصوص كامل الحرية، طالما أن الحرية شرط أساسي في وجودها؛ إذا هو شرط أيضا في الممارسة الأدبية والنقدية.                      

                                                                            


* . المؤلف نفسه

[1] . عبد الله الغذامي وعبد النبي اصطيف، نقد ثقافي أم نقد أدبي، دار الفكر: دمشق، 2004، ص21.

[2] . المرجع نفسه، ص21.

[3] . ينظر سليمان بختي، فلسفة الأنوار بين كانط وفوكو، معابر، http://www.maaber.org/issue_september03/books_5.htm

* . دخل هذا اللفظ قاموس مصطلحات النقد الثقافي العربي المعاصر، وأصبح يشير إلى معنى لغوي: وهو الغريزة الذكورية المقدامة عند الحيوان والإنسان في شكل قوة وطاقة جنسية، وإلى معنى اصطلاحي: الفرد المفضّل المتميز المجيد في الصنعة بحيث تعد منافسته صعبة بما كان (وفي الشعر منافسته تحتمل غلبة أكيدة بالهجاء) وجدير بالذكر أن ازدراء الفقه المعاصر بصنعة الفن جعله يقارب المعنى اللغوي عن المعنى الاصطلاحي، أي يبرز الدلالة السلبية ويغمط عن الدلالة الإيجابية.

[5]. عرّف فنسنت النقد الثقافي كما يلي (النقد الثقافي دينامية، نشطة وحية، ومتعددة الأوجه، يدخل فيها الاقتصاد والتنظيم الاجتماعي والقيم الأخلاقية والمعنوية والمعتقدات الدينية والممارسات النقدية والأبنية السياسية وأنظمة التقييم والاهتمامات الفكرية والتقاليد الفنية) ينظر فنسنت بي ليتش: ((النقد الأدبي الأمريكي من الثلاثينيات إلى الثمانينيات))، ترجمة/محمد يحيى، المجلس الأعلى للثقافة، المشروع القومي للترجمة، القاهرة، ط1، 2000م، ص104

 فأين في هذا التعريف ذكر اللاوعي الناجم عن الإبداع الفردي أو عن الإفراط الجمالي أو الفنتازية الشعرية الذاتية التي بنى به الغذامي نظريته على أنها أنساق ثقافية عربية لا واعية؟ بينما هي في الحقيقة إبداعات فردية وذاتية خاصة بالأنساق الأدبية لطبيعتها، فمن طبيعة الشعر والرواية والفن عموما مقابلة الأنساق التاريخية للسياق الأيديولوجي المفرط، بخاصة ذلك الذي اتسمت به البيئة العربية وقيمة الشعر العربية الكبرى غير مجحودة في عصورها الذهبية عملا ضد هذا الواقع، وهي دليل آخر أن هذه المقابلة وهذه الضدية حتى وإن كانت في أغلب الأطوار مضمرة هي من طبيعة الكون، سيميوطيقيا شئت تسميتَهُ أو بنيويا. وكل ما في الأمر أن فنست يعني "بالتقاليد الفنية" تلك التي لها علاقة بوعي أو لا وعي الجماعة باستهلاك الفن، ولا علاقة لها بالخصوصية الإبداعية أو الشعرية الشعورية، كطريقة الالقاء والتلقي في المسرح الاغريقي والتعامل الشعبي مع النص الأدبي شعرا كان أو نثرا.. وهلم جر.

[6]. ماجد القيسي، مستويات اللغة السردية في الرواية العربية (1966 ـ 1980)، دار غيداء للنشر والتوزيع، عمان، 2014، ص12ـــ 13.

[7]. هذا الفحل لطول تمرسّه في النقد الثقافي ستجده على علم بأن أهم أنساق الرواية العربية الجزائرية المعاصرة قد انتهت إلى شكلين طاغيين: الشكل الأول تناول نسق الحرمان في رواية التابو/جماليات الجسد، وهي إنما تعبر عن أزمة مرجعية على أرض الواقع: أخلاقية سياسية اجتماعية (أصابع لوليتا مثلا) أما الشكل الثاني فهو الذي تبنى نسق قوة المعرفة التي تنتجها السلطة في مقابل المستويات المهمشة شعبيا وحتى نخبويا بسلطة المعرفة تبع المؤسسة مستقوية باللاعدالة والنفوذ والتزوير واللاديمقراطية، إن لم تقوى بالفعل على بسط سلطان المعرفة الحقة، هذه الكتابة إنما تعكس أزمة فكرية شاملة (رواية كيف ترضع من الذئبة دون أن تعضك) . أجل ستجده على علم ولسان حاله يقول: " السلطة كالشمس من يبتعد عنها يتجمّد ومن يقترب منها يحترق"

* . ولا يمكن اعتبار هذا الحكم حكم قيمة خارج نصية بالنظر إلى السياق المؤثر في النسق في شكل مضمرات ثقافية كما أشرنا، ولأن الظاهرة الأدبية النصية وجودها من وجود أنطولوجيا الكون، والأنطولوجي مع الأبستمولوجي مع الأكسيولوجي متلازمون في أي بنية تفكير دلالي/عقلي، وقد أثبت شتراوس ذلك في الأنثروبولوجيا البنيوية، بمعنى آخر أن مفهوم بنية النص غير منطقي وغير مقبول دون الاعتراف ببنية سيميوطيقا الكون لأنهما متعالقان وجوديا، بل حتى أن رواد الفكر البنيوي استقوا مقولة موت المؤلف من طبيعة الكون الذي يعمل من تلقاء نفسه عملا بنيويا ضمن سياق متسم بالحرية والعقل والديمقراطية، بمعنى آخر نحن نتواصل لغويا ونفكر بالنسبة إلى نسبة أو علاقة أو بنية تجمعنا، فمثل صحة مقولة: المتهم بريء حتى تثبت إدانته على المستوى الأنطولوجي تصح مقولة: التخطيء والتقييم السلبي دون برهان عقلي برهان على خطئية "التخطيء" وسلبية "التقييم السلبي" على مستوى بنية الخطاب اللغوي لأنها بنية فكرية في الوقت نفسه.

[8] ـ رومان جاكبسون، قضايا الشعرية ترجمة الولي ومبارك حنون، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء،1988، ص 33.

[9] . بسام قطوس، دليل النظرية النقدية المعاصرة مناهج وتيارات، جامعة الكويت، طبعة إلكترونية، ص13.

[10] . المرجع نفسه، ص 17.

author-img
موقع تنويري فكري وشبه أكاديمي، يتغيا تقديم إضافات نقدية تخص تحليل الخطابات الثقافية ونظرية النقد والأدب متوسلا بجماليات التلقي والنقد الثقافي، كما يعنى بنشر إبداع قصصي جديد ليس له ما يماثله على الساحة الجزائرية، والمقال المتناول للشؤون السياسية والإعلامية والاجتماعية المقاربة للظاهرة الأدبية والمحاكية المكملة لها.

تعليقات