القائمة الرئيسية

الصفحات


 بوزيان bouziane


 التوقيع بالقلم الـ  Effaceur

 

   صدفة يصادف الرائي حيث هو سائح متجول أشياء غريبة عجيبة، وكلما بعد عن موقع نزوله شرقا أو غربا إلا وزاد تعجبا بـ "الهناك"، فإذا ما حدّق هناك وجده غاص بالأناس المصطافين الحيارى والقلقين كأنهم على أرض الحقيقة والخيال ويشهدون مُشادّة كلامية تتطور بسرعة كلما أوقدوا لها وتنحرف إلى الملسنات لتغوص بهم في بحر عميق من التنافر ومفارقات الفكرة التي تناطح الفكرة، ولم تزل مشادتهم مشادة بغضاء واصطفاء آلهة تفور باستماته العصبية قبل الحجة، لكن كلما كاد أحد الطرفين أن يغلب خصمه اكتست أرض الحقيقة رداء الخيال أو تلوّنت بلونه حتى لأنك تشعر أنها ارتفعت ارتفاع الأخيار أو نزلت عنها نزول الأرذال، فلم يجد كلا منهما من شهود أو حتّى مَن يبرهن على واقعية الغلبة أو لم يجد من يثبت أن مشادة خصمه ما هي أصلا غير خيال في خيال، وبالكاد أي غلبة كاسحة لهذا الطرف أو ذاك هي مجرد غلبة واهمة وهمية.

   فقد وجدنا قانون[1] النزعة الأولى رجل سكران يرمي بالقنينة رميا عشوائيا حتى كادت تصيب أحد الأطفال فنبهه أحد من مجموعته بأن لا يفعل ذلك ثانية فرفع صوته في وجهه مقهقها: ــ ههها ههههه ههها إنها لنا ونحن لها: إنها قنينتنا وأرضيتنا المشتركة إنها "الأرضية المعرفية المشتركة" ألا تفهم.. ألا تفهم بعد، إنها "الأرضية المعرفية المشتركة"، فرُدّ عليه فورا ردا حاسما من لدن قانون النزعة الثانية:

ــ "بل هي الأرضية المعرفية المختلف عليها" لأن أرضيتها أرضية الثقافة؛ ثقافة التعدد والاختلاف ليس ألا. فأفق ممّا أنت فيه من أوهام.

ــ إذن ما دام الأمر كذلك فلن أوقّع عما تفرز عنه مفاوضاتنا ولا نقاشاتنا

ــ وقِّع أو لا توقّع، أنت حر.

  ثم ما إن افترقا قائدا الجمعان وقبل عودتهما إلى الاقتتال بكل طرقه ودسائسه المعهودة ثانية جمع كل منهما أشتات ما ضاع من جنوده أحياءً وأمواتا، لأن الحرب كانت شرسة بينهما، بل قذرة جاذبة إليها حتى معشر جن الأرض المختلفون عليها، وكان كل فريق قد قهر عدوه الذي لا تجمعه به أرضية مشتركة للفكر وأصر أن يمرّغ أنفه بالتراب، ولا شك في احتمال ضم جزء من أرضه عند هزيمته، وسواء الجمع الذي على شرق الوطن أو الذي هو على غربه مقيم، فقد تمرسا في الاقتتال مع العدو الذي في الشمال والذي في الجنوب، وقد تمكنا من الاستقواء بالأمم الباردة والدافئة بعد ذلك، بعد لملمة الغنائم أحيانا وفي أحيان أخرى بالتباهي الأسطوري بقوتهما، باستعراضها لتخويف ما تبقى من الأعداء الآخرين المتيقظين المتوجسين اتجاههما.. لكنهم أعداء لم يتحيّنوا الفرص بعد وهكذا كوّن كل واحد منهما "امبراطورية الجمع" لتبدو قوية أمام الجميع.

  وبعد مُضي زمنا على حادثة هذان الجمعان وفيما هما فيه من تباه وافتخار بقوتهما المزعومة فطن العالم الآخر والعالم الحر بأن في الأمر دعاية وشبه انتشاء المخمور، وصاحبه غير منتهي مازال في تلفيق الأكاذيب وافتعال الشرور، وفي جميع أمكنة الأرضية المشتركة للفكر وغير المشتركة منها، وتساءل كلاهما حينئذ: من هذا المرء الميت؟ Who is this dead man? حتى يفاوض على أرضية مشتركة للفكر ويوقّع على بيانها؟ وعلموا أيضا أن ما propaganda الرخاء والتقدم والازدهار الذي ظلوا يشنفون بها أسماع شعوبهما في الواقع إلا جو تقشّف وانتكاس وجمود، فقرروا بأن يفتعلوا دسيسة بيضاء بين الجمعان المغروران، بأن يجعل أحدهما يحالف دولة اليهود فيجسون نبض القوة والرخاء التي تبجحوا وخوفوا بها الآمنين حقبة دون أدنى ضمير.

  ويوم كنت وكعهدي مبحرا في بحر النقد الأدبي المعتني بالأنا والآخر وهم ونحن وجدتهم بالصدفة إلى جانبي وهم بالكاد يكادون يغرقون، وكي لا يبق الإنسان وفي كل مرة ولابد كمن سبقوه أسير حدة السؤال والحاحه: من هذا المرء الميت؟ Who is this dead? man أنقذتهم لتوي وأزجيت بهم إلى شاطئ البر والأمان، لكنهم ما برحوا أن عادوا معاندين غيورين غيرة حسد مِن تمكنُّي من السباحة في بحر هذا النقد المتلاطمة أمواجه بالنسبة لهم، عادوا وهم حاملين بأنابيب الأكسجين التي تزن ضعف أوزانهم فخلتهم في بطن الحوت أو في القرار الأعمق هذه المرة، ثما تجاهلتهم إلى حيث متعة بحر النقد المحايد الثقافة هذا... هناك في أعالي البحر تجاهلتهم أين تقع جزر المالدييف البعيدة وتنتصب في مراكزها جبال صخرية كأعمدة وهي محاطة بخضرة وشلالات تصب في أحواض زرقاء شفافة مياهها مشكّلة بسياجات خشبية، وهي على كل حال غير عميقة الدلالة، بيد أنها تسر الناظرين، فهناك ووحده هناك نمى علم النقد وأينع وتشعشع نوره في لمح البصر.

   فما كدت ألبث هناك أستمتع بزرقة البحر وهدوء وصفاوة المكان حتى جاءني من يعزيني في أصدقاء لي قالوا إنهم رأوني معهم! فقلت لهم لتوي بعد أن تأكدت من جثوهم في القرار الأعمق أنهم جيراني وليس أقربائي ولا هم بأصدقائي أيضا ولا حتى من أهل بلدي، ولكنهم مغامرون استهواهم بحر النقد الأدبي فتبعوه وهو غير راغب فيهم فأوقعهم في حباله طُعما، وكان قد أوقع قبلهم كثيرين في شباكه؛ حتى أولئك العامة اللهجيين ممن لا ناقة ولا جمل لهم في اللغويات؛ عندما باتوا وظلوا متجادلين فريقين عند ساحة الحي، الأرضية المشتركة للعيش بعنفوان الأنفة وكرامة المجادل وحدهما صنو أسلافهما الميامين، بأن معنى "المَضْرار" غير معنى "المَضْرُور" وهم جد واثقين من اختلاف المعنى اختلافا جذريا، ولا أحد منهم صدّق أنه كمن وقع بين الخيال والحقيقة إثر جدل موسى الحاج والحاج موسى اللا خير فيه وهو لا يعي... وهنا تُطرح إشكالية النقد الأدبي المعاصر الذي بعد أن أقرّ تحييد الثقافة عادت وتلقفته بعض هواجس تحييد الثقافة؛ لكن المستوى العربي لم ينجح قط في مشروع نقده الأدبي المعاصر أو الحداثي لأنه تجاوز تحييد الثقافة، ونحن سنركز على ثلاثة نقاط مرتبطة في عملية تحييد الثقافة هذه، وهي التي أفشلت محاولة تحييد الثقافة لديه:

ــ لا تحييد للثقافة على المستوى الداخل النص دون تحييدها على المستوى الخارج نصي.

ــ الأدب ثقافة، مع صاحبه يغدو هو الدين وهو السياسة وهو مطالعة في الحياة تزامنا مع مطالعة في أمهات الكتب كما يقول العقاد. ويظهر عدم تحييد الثقافة بالإقرار بالتعدد والاختلاف التي تعمل ضد الرجعية والسلطوية في ميدان (النقد والأدب) الجامعي دون غيره من العلوم (لأنها مادة موضوعه) جليًا في صورة ذلك الأستاذ الممثل لتلك الثقافة، الحامل للوائها؛ كونه لا يسأل طلبته وإنما يجعلهم هم يسألونه وإلا يرسبهم! لأنه بالنسبة لهم يمثل اكتمال الثقافة (منتهى الدين ومنتهى السياسة) 

ــ لا بناء لمجد الآلهة على الأرض دون بناء مجد الإنسان، مع تحفظ نسبي وقليل جدا اتجاه دلالة كلمة (مجد) حيث بالنسبة للآلهة تشير إلى العظمة وبالنسبة للإنسان تشير الى بناء مستقبله، لكن ارتباطا بالعامل السابق يغدو البناء السيميوطيقي للنص صورة مصغرة للبناء السيميوطيقي للكون، والثقافة هي جزء من عناصر الكون المادية، إذن يغدو الأدب هو العقل والمؤشر في وجود بذور للثقافة وفي نموها المطرد المكتمل البناء بالطريقة الصحيحة، وإذا غاب هذا الأدب فكأنما التربة لم تعد صالحة لإنتاج هذه الثقافة وتصبح عمودية (نبات مضر للجسم) وليست أفقية (نبات مغذ يقوي في الإنسان جوانبه المادية) فالمجد لا يُفرض جاهزا وإنما يُقام ماديا ومن تلقاء نفسه في قوام بناء عقلي يتجسد وإلا كان فوضى الثقافات؛ لا تدري مَن هو المؤمن مِن الكافر، والكل مصر أنه هو المؤمن وطرفه الأخر هو الكافر، وهذه الفوضى تنم عن غياب العقل أو قُل غياب عمل الأدب؛ الذي يُظهر لنا بمقدرته في خلق ألفة بين الشعور والطاقة الذهنية لدى المرء أنّ لا وجود للـ (الكافر) ولا للـ (المؤمن) عند مقاربة العقل.

... مساكين حسبوا الحياة حياة لهو ولعب وصدف، أنى لم تنهاهم وتبعدهم عنها فهي راغبة فيهم، فرحمهم الله على كل حال رحمة قوم كثر أمثالهم مضوا لما تعدُّو حدود ما يفرضه العقل والذوق وحدود ما يأباه العرف ويشهد عليه الضمير الإنساني فلم يدركوا الحقيقة إلا بعد فوات الأوان.

  وككلاب شاردة ضالة لعنتها آلهة النورماند بإيعاز من فيالق النورمانديين المنسحبين مِن على أرض شكلت لعقود مفترق الحضارات ووقعت في أنياب الفينيقيين والرومان قبلهم، وقد ظل أصحابها الملعونين لعنة الإبحار بين جلودهم وجنبيهم وهم لا يدرون، ظلوا يبحرون عبر الحقيقة والخيال ولم يتركوا موطئ قدم إلا وحلوا فيه طلبا لهداية الناس، وفقط حينئذ اهتزت عروش السماوات لهذا الصّنيع لما سمع جبريل وأقرانه في السماوات العلى صوتا حارا لصبي صارخ إلى أعلى الملكوت وقبل أن يُؤذن لجبريل بالنزول وتبنيه قال: (عدا الأطفال والشيوخ والنساء الحوامل في شهرهن الخامس أما غير ذلك فلم آمرك برأفة ولا شفقة) ثم نزل جبريل ناحية الطفل الصارخ بأعلى صوته حتى سمعته ملائكة الرحمن من فوق سبع سموات، فوجده في كوخ فقير وقد لم يجد ما يأكله يوما أو يزيد فخاطبه مخاطبة سرية استرجع من خلاله روعه ثم مكن لأبويه الفقيرين.

  وهو راجع كما أمره ربه وجد بعض الشباب المفتولين العضلات قائمين مقام الشيوخ، منزوين في كهوفهم يصلون ويبكون ويتوسلون ربهم.. وفيهم من كان غنيا وفيهم من كان فقيرا فقال لهم: ــ أما الفقراء.. اذهبوا لتعملوا ستجدون ربكم حيث العمل، أما الأغنياء.. فاذهبوا لتعملوا فستجدون ربكم حيث العمل. ثم اختفى من أمام أعينهم فافترق القوم مذهولين وما هي إلا شهورا حتى اختفت مظاهر التدين الكاذب من على الأرض إلا من تلك الأرض التي دعيت أرضا مشتركة للفكر تعصبا وظلت ملعونة ومعاقبة من آلهة سيزيف.

   لذلكم لم يشهد جنازته في بلاد لُعن أصحابها غير ما مرة سوى اثنين؛ مأذون المقبرة وأحد أشقائه، فالفقيد المقبور كان له كما سرى عنه سُبلا شيطانية قادته إلى هذه النهاية المأساوية، أما مع غيرهم من الصفوة المتعلمين فقد شهدوا له لما ارتحل إلى الصين وبلاد الهند يطلب علما روحيا غاية في وعورة المسالك والمزالق، ولما اِرتَحل إلى بوسطن وشيكاغو وماتشوسيت ليطلب من علوم الطبيعة والكون ما مكّنه من اختراق أفقا غير مرئية، والتي بها اتُّهم بالزندقة والشعوذة وكانت حجته لهم بأنه لم تسعه أفق ارض الحقيقة ليدركها بعقله أو ليلتمس في ساحة من ساحاتها أو على الأقل في ردهة من ردهاتها قطميرا مشتركا للفكر أو للثقافة وإياهم لذا اضطرّ إلى اللعب هناك مع الأبالسة والملائكة، وكم كانت "الهناك" تستهويه وتجعله يحتقر "الهنا"؛ قائلا: ــ أوتدرون ما تعنيه "الهناك"؟، إنها تعني السماء وفضاء الاختلاف اللامحدود بسبله المتفرعة مؤدٍ إلى الحقيقة المطلقة والحقيقة المطلقة هي حقيقة المعرفة بأن لا شيء مطلق، أما "الهنا" كانت وستظل شرك أرضي جامع بين فكر الخوارج وأتباع يوري غاغارين، أجل ثم ما أجمل اللعب في تلكم الفضاءات السماوية الفسيحة لعبة البازي والحمامة الوديعة وبين الأنجم السابحة فوق بين السماوات السبع الطباق، لكن بينهم، بين الملائكة..

  ولم يزل إثر ذلك معتزا بنفسه، لكن حتى علماء بني جلدته أنكروه حسدا وغيرة بعدما شهدوا منه على الأرض أنه كان قطا وهم الفئران ثم زادوا أن شهدوا ثورته التي لم يُمنحها غيره أحدا من البشر لكن مع ذلك لم يشهدوا جنازته.

  وقد سرت بين الناس سائرة تقول أنّ صاحبنا لا يختلف عن الشيطان البشري المدعو سلمان رشدي إلا في جنسيته، بحيث ذلك كان هنديا ذو أصول كردية وصاحبنا كان أمازيغيا ذو أصول بربرية، أجل صاحبنا الذي كانت تحدوه غايات استنساخ الآلهة ومساءلتها بعد أن نفذ من أقطار السماوات والأرض واخترق سبل الأفلاك السابحة في الملكوت وهو جاثم. بطاقته الذهنية الساطعة تمكن من أن يعبر برزخ الخيال علميا ويستنسخ من نفسه السوبر مان الآلهة ويسأل الله مسألتين لا ثالثة لهما: أولا في أن يطيل عمر الإنسان ضعفا وثانيا أن يزيد من المقدرة العقلية للبشر في مقابل إنقاص المقدرة الحفظية عندهم. أما الثانية فقد قُبلت بيد أن الأولى فردت إليه إلا بشرط أن يتفسخ جسم الإنسان المضاعف العمر بسرعة مضاعفة خمس مرات عند وفاته.

   وهنا تذكر معشر الهنود الذين يحرقون جثثهم بعد الوفاة، لكن تركيزه كان على الشعراء وبالأخص الشاعر طاغور، فهل جرب طاغور أو شعر يوما بأن يكون مثل صاحبنا رسولا، رسالته الثورة على الأرضية المشتركة للفكر؟ ولِما لا يصل الشاعر إلى الحقيقة عبر الخيال وقبل غيره من علماء الطبيعة والفلك؟ لِما لا يصل، وقد كان هناك شاعران عظيمان واحد يُقال له عبد الحميد الديب والآخر يقال له وضّاح اليمن، وقد وجدا صدفة على نفس شاطئ الهيام والغرابة مصطافين متمعنِين تأملا في "خرافة الأرض المشتركة للفكر" فأرضية الشعر المشتركة قد حالت عند كليهما بين كل حقيقة وكل خيال فجمعتهما في وفاق كأنهما رسولين وليس رسولين فقط، وإنما رسولين عظيمين، لم يرهقا نفسيهما بحدة السؤال: من هذا المرء الميت؟ وحُرقَته إلا لما أنشد الديب ما يوحي عن معرفة كل خلية حية من جسده بخالقها دونما شطط ولا تهويل ولا مرج ولا تشدق وتبجح: إنّ حظّي كدقيقٍ فوقَ شوكٍ نثروهُ

ثمّ قالوا لحُفاةٍ يومَ ريحٍ اجمعوه

صعُبَ الأمرُ عليهمْ قلتُ يا قومِ اتركوهُ

إنّ من أشقاهُ ربِّي كيفَ أنتم تسعدوهُ؟

وقد رد عليه الوضّاح وكأنه رفيق دربه، بل كأنه ظله في التعلق بمحاولة معرفة الخالق العظيم لكن من طريق فرعية أخرى تستقي حكمة من الوجود كالأنبياء: كُلُّ كَربٍ أَنتَ لاَقٍ بَعدَ بَلوَاهُ انفِرَاجَا. ولعل ذلكم هو لغز "الأرض المشتركة للفكر" فما بال الرسول مع اليهود وهذه الأرض عندما قال لهم: ــ مالي أراكم تقيمون بيننا ولا تؤمنوا بالرسالة التي حملتها لكم من عند الله رحمة ونذيرا؟

ــ هيا.. سأمهلكم عشرا فإن لم تؤمنوا برسالتي تغادروا إلى حدود الأرض.

  ثم بعثوا له عندما استقروا هناك بعيدا عن حدود الأرض: ــ إنّنا نحن أهل الأرض الذين طردت وننعم اليوم بشاطئ البحر وبالبساتين النظرة أتعرف لماذا؟ لأن كل خلية حية وجدت على وجه البسيطة هي ناعمة حتى ولو كانت عليلة، يعني لم تُطرِق باحثة ناظرة دون كلل أو ملل عن موجدها حتى ينتهي بها المطاف إلى الموت سنة الواجد في موجوداته. وأنت تقول هذا مؤمن وهذا كافر فمتى تدرك ما تقول؟ بل إن هذا الكافر الذي تبغضه ظل ومازال يبحث عن خالقه جاريا وراء هذه السنة على وجه البسيطة دون مشيئته، وحتى إذا ما بلغ قمة الجبل معتقد أن فيها ما يهدي إلى كيان الخالق الذي خلقه وخلق كل حي موجود على وجه الأرض لم يجد غير طبيعة خرساء صماء كطبيعة المنبسطات تماما، لكنه على كل حال تعلم من هذا الصعود فخطى خطوة تجربة وعلم نحو البحث عن الخالق.. وحتى إذا استطاع أن يُحلّق فوق بين السحب، في قلب طبقات الغلاف الجوي باحثا عن أثر يدل على مكمن الخالق العظيم المختبئ فيه، لم يفرّط وبحَث وبحَث لكنه لم يجد غير مزيد من العلم والمعرفة بالمكان وبالطبيعة: مائعة وجامدة وغازية، فلم تزد معرفته بكيمياء الغلاف الجوي وبما يحيط به إلا إصرارا على بلوغ القمر علّ الله موجود فيه، ولما دار حول القمر ثم حطّ بمكوكه الفضائي عليه اخبرته نفسه قائلا "إن هذا المبحوث عنه بإصرار يمكن أن يكون مختبئ بين أصغر البقع وأقربها إلى نفس المخلوقات لا أبعدها وأعزلها عنه، لأن الصانع ماهر، وهو ماهر ومبدع سواء في خلقه العظيم الحجم أو الدقيق الحجم، أيا كانا هو قادر أن يبدل موطن وجوده" وهذا كيلٌ آخر من المعارف جديد في زوادته يقدِر به، بعد أن يعود إلى سطح الأرض، أن يكرسه للبحث عن الله حتى يجده. أو هو زاد من الإيمان الذي يبقى نسبي مهما اكتمل لأن المعرفة والعلم نسبيين، وهكذا صار البحث عن الله قرين البحث عن العلم والمعرفة (بما فيها عدم الكف عن طرح السؤال: من هذا المرء الميت؟ Who is this dead man?) وهما سواء بسواء قائمين حول ظهراني البشر قبل أي بقعة بعيدة نائية قصية أخرى. ووجب قبل كل شيء إحياء النائمين في الخيال بدفعهم إلى حقيقة الإيمان هاته، لأن حلاوة الإيمان في نبض الشك وقلق السؤال، وإلا التفريق بين الأموات والأحياء بجدار عازل، لا أرض مشتركة بين المفترس والوديع. ولا أرضية مشتركة بين الجوهر والعرض إلا في الخيال.

   هذا مجد الله الذي وجب أن تبحث به معنا عنه أيها الرسول لا أن تظل تردد مقولة مؤمن ـ كافر، بل تظل تجحدهُ حقّهُ ( بقولك عنه أنه كافر وأنت المؤمن) حقّهُ في أن يستعمل عقله وضميره للوصول إلى معرفة مَن خَلَقه، ففي قولك بأنك أنت المرسَل المؤمن من عند الله القدير العليم قول ليس فيه فصلٌ للخطاب كونه يقف ضد الطبيعة أو ضد منهج الوجود في معرفة الواجد، وهو منهج عقل الإنسان في المعرفة والعلم بحقائق الأمور وليس له أي علاقة بمنهج جاهزية الفكرة، كونها تمنع العقل وتحجّره عن عمله، بإيجاز تجهز فيه على الإيمان بالكفر بعقيدة العقل.. ألا فمتى تعقل الرسالة السماوية ولا تعطف؟ تؤمن ولا تكفر..



[1] . رئيس أو أمير أو قائد القوم

author-img
موقع تنويري فكري وشبه أكاديمي، يتغيا تقديم إضافات نقدية تخص تحليل الخطابات الثقافية ونظرية النقد والأدب متوسلا بجماليات التلقي والنقد الثقافي، كما يعنى بنشر إبداع قصصي جديد ليس له ما يماثله على الساحة الجزائرية، والمقال المتناول للشؤون السياسية والإعلامية والاجتماعية المقاربة للظاهرة الأدبية والمحاكية المكملة لها.

تعليقات