أشجارٌ مِن حنين
كنّا
إذا جاء شهر الصيف[1] نجُزّ صوف الأغنام، وكان بيتُنا الرّيفي حوزةٌ مُحاطة
من كل جوانبه بأشجار السّرو وأشجار اللوز الوارفة المسنّة والمُبكرة اليبس، فإذا
جزّينا الصّوف تركناه في باحة الدار ليجف وعندما تأتي الريح تذريه في كل مكان،
بينما إذا راح بعضه محلقا في السّماء العُلى، يعلَقُ معظمه بأغصان اللّوز، وبسقف
المنزل من كل أطرافه حتى مدخنته.. ووحدها تبقى العصافير قلقة في حيرة إزاء مشهد لبياضٍ مفاجئ يشبه الثّلج لكن ما هو بالثلج، فهي
تعرف الثلج الذي لم يمضي عنه الكثير، فكيف إذن بالثلج في عزّ الصيف؟
ولكنّها لا
تعرف أن زوابع الشّتاء ليست كنسائم أيلول المُبكر في نثر الصوف الذي غُسل ونُشر
بعضُه في الباحة وبعضُه على سياج البَحِيرة، لتتناوب في نثره رياح تشرين الفتية إذا
ما فشلت نسائم أيلول الواهِنة في نثره، فتجعلُه وعلى حين غرة معلقا فاكهة شَعْر
بنات للناظرين إلى أشجار اللوز والسّرو.
عناقيد شَعْر بنات بقدود وأحجام.. وقد نضجت على أغصانها
تلك هي، أم هالات من غيوم وقد أنزلتها ملائكة الرّحمن مطرودة إلى السماء الدنيا؟
أم انعكاس لنور المصابيح على عوامل الزمن؟ أم خفافيش فاتها قطار النور فتدلّت هكذا
عنوة لتموت؟ وتقدّم نفسها قربانا لفجر تشرين، والضباب على مذبح التكريس الفضي الأغصان
من حولها يرسم الحدث، أم هي هالات انسابت من فجر بعيد كالدّرر الشامخات محيِّية
بيتنا والسّلام، أم نور قبلة الله على خدود شجر الحوطة الحزين؟ بل هالات قبلة الرب
على خدود أشجارنا من فوق، وقد انعكست عليها أشعة شمس المساء فبدت كأرياش الملائكة
السابحة تارة بين الأفنان وطورا بين أركان الدار وحوزته مستحيلة إلى حنين وكفى؟
لتستحيل بِنا أيام جزّ الصوف تلك إلى ذكرى عبقة،
وإلى الآن هي في طورها المحلّق الفنتازي خلال التماسي أو مع الأصيل ولا زالت تسرح
وتنطلق محلّقة مع التسابيح، فتضيء بدائعا أحواط الريف وأحوازه وعلى النفوس تختمر
طمأنينة ملائكية.. فلربّما امتدّت واستحالت وكأنها روضة الرّب قد أحاطت ببيتنا
العتيق ونحن لا نعلم، تصبح وكأنها ثمار بيضاء بيد ملائكة أطفال السماء المُمسكة بوقت
الأصيل بيد وبالزمن بيد أخرى، وهي تمطر الملائكة الرجال بها حتى لا تعثر فتسقط في
حوزتنا، فبها ونعمة من معلّقٍ غير منتظر وبه ونعمة من صباح أنشودة أوت ساعة حنّ إلى
أيلول..
وتراكمت كنُدف من الثلج نُدَفُ الصوف فوق رؤوسنا
حتى أثمر صوفها المنثور على أشجار أفكارنا لتتركها غارقة في حنين المكان والزمان،
متهادية السقوط والصعود وهي جذلى حول حافتي الساقية، متراقصة منثالة بين جذوع
الأشجار إلى نهايات لولبية، فتضفي بعد عناق وتمسُّح على الجذوع والأغصان رهبانية
صوفية ثم انعتاق نحو الأفنان الرطبة المعطّرة بأكسير الحياة والتي هي شذى اليخضور الخام لكن لا تجده؛ فلو لم أعي حينها لقلت أنّها ملائكة
السّماء تُصعّدها بعد هبوط قِوًى خفية لا يراها إلا المعتكفون، مقيِّدة لِرزم الصّوف
البيضاء تلك رزما رزما كي تُقفل مع النسيم إلى وطنها البعيد البعيد مع كل إشراقة وإشراقة
لصبح جديد.
..وتباريح، أجل تباريح من زمن غائر في التقليد والبساطة والبداوة
تنساب مع زفرات ريح صرصر كالصفير هي، وتدفع بها إلى أسماعنا متهادية كصوت أنفاس الأطفال
الحرَّة، أو كرجع صدى جبال مختفية عن الأعين راصدة متمكّنة من قِمم أشجار الحوزة
جميعها، وباسم نذير شوق الى أعالي السماوات تمتد جيوب متلولبة هنا وهناك وعلى رجع
صدى صوت صادح (إنها مصابيح ملائكة السماء.. إنها مصابيح ملائكة السماء..).. ونفيق
من حلم اليقظة ولا من مُعيد، لأن الكل غير مرئي فوق الدار القرميد ودار الديس، دار
الزريبتين إلا ما اعتلى الأشجار وخلا من جناحين.. برغم من أنها على نور القمر الخافت
تبدو وكأنها مجرّد حباحب أو اليَراع أو الخنافس المضيئة أو حشرات البرق، وهي تضيء الحوزة بعد شعورها ببرودة الجو بعد حر.
وتأملنا أشجار
الصوف مليًا فدرجنا كلّما عاودنا تأملّها نجري وهم يجرون إثر الريح يتبعثرون.. حتى
إذا ما توقفت وجدوني فوق الرّيح وهم يتناثرون فوق غمامٍ متلاش ولم أنفخ في الريح
قط كما كانوا يتصوّرن، بل تباعدت وتباعدوا إثر وهْم الأصيل يُناطحون سحاب الخيال،
فانبرينا ثلاثتنا؛ هم، وأنا، والأشجار زوبعة من الهم وإعصار يدمّر الحوطة وهي
مرسومة على كبد فنجان من القهوة إلى مائدة فوق زربية تحت ظل الزريبة قبالة أشجار
الحنين.. آه كم من ذكرى أيام مقمرة كالحنين تشدّنا، وآه من ذكرى الحباحب الليلية
الصامتة الصامدة تُحْيِي الماضي، تسحبه، تميته في أكبادنا ليستحيل النجم درب
الحوطة وأحلام الصّبا..
"وإلى أين السبيل؟" قال وأتبَعْته بأن قُلت: وإلى
أين السبيل، بلا استفهام قل: إلى أين السبيل؟.. وأَعِد بلا تماطل أين السبيل؟
أيّها التاريخ،
أيها الجوهر، أيها القدر الّسرمد، ها أنا أرى رؤية بعد رؤية، إني في البرزخ سائر هنا
وهناك، الآن وغدا والبارحة وكل يوم، كل دقيق ودهر وثانية أعيش سقوطا حرا لصالح
الشلالات، شلالات إيجوازو كأنها التي في برازيل، أجل أعيشها.. إلى أن قالوا: كذبت، أنت كاذب لذا يسهل عليك القول و... (أقاطعهم)
: وانتظروا أعيش سطوع لأشجار الجنة وأراها أراها.. الآن أنا أراها وهي ساقطة صاعدة
ساطعة نابتة من صخور ونتوءات جبال شنغهاي الصخرية. (صمتوا قليلا ولم يزيدوا) فزدت:
بل أراها من برزخي هذا، جنان وجنان تسكب بفؤادي أرقى حياة عرفتها، فأضحى متنقلا من
على كواكب ساقطة راجعة آيبة تاركة آخذة رَعشة صامدة تموج وتنطوي تسقط وتعود تتطاير
تتناثر كآزفة كونية أمام عيناي، كالصاروخ وفي كل مكان متناثرة وساقطة وما هي
بالمتناثرة الساقطة. إلى أن قالوا: أنت لِماَ تقول، لكننا لا نصدّقك إلا قليلا،
فقلت لهم: إنها شعيرتي والبرزخ من اليوم هي أشجار الحنين.
ثم التفتُ ذات أمسية كانون الأول الباردة بعد
أن كنت توقّفت على مدى كل مساء ومساء أرقب الوعد الذي ما فتئت "تباريح"
تلك تبشرنا به سرا، والعهد عهد حنين لم يزل؛ صوف إلى أشجار كالفاكهة إلى أغصان،
معلّقة مبثوثة على كل غصن من أغصان اللوز والتفاح الصلدة العارية فماذا لو جاء
الربيع؟ ... وعندما بدأت في تلك الأمسية السماء ترسل أولى نتاف ثلجها وتزرعُه كما
زرعت نسائم أيلول الصوف، تلك أرسلته إلى تحت أما هذه فبثّته إلى فوق، فإذا بالعجب
العجاب و"الوعد" قائمين اثنين لا يغادران؛ أمل غريب ههنا يقفُو ساطعا ونتاف
الصوف يشبعه ألما، ومنظر ملغز بالحنين ضارب بالجذور عبر كل أرجاء الزريبة والحوزة
حتى الأطراف، عبر جهة السّور وحاجز الأسلاك التي تفصل المنظر المدهش عن البستان كما
عبر جهة القفا أين تتكدس الأثاث القديم وأكياس الأعلاف والأسمدة مختلطة بالأروثة. الكل
وجل من لحظات طالت ساعات وأيام وشهور، وكالدهور امتد الزمن لا يألُ جهدا نحو وعده.
أبدا.. ليت الغربان
الناعبة المحلّقة عبر حنين غير مرئي مزروع بين الروابي البِيض، مزروع بينهم أينما
نعقوا وبين كانُونُنا كانُون كانون الأول والذي يليه ومازالت تحرّك رأسها إليه وتنظر
دون كلل ما حلّ به نتاف الصوف بعد أن بات الثلج يهوي إلى وعده، والضباب يمحو آخر
طلاسمه المرسومة من أعلى رأس اللّوز والمشمش إلى أخمص قدمهما.. وستخبرنا (وحياة طلسم
ريش الغربان المضروب) ستخبرنا كما أخبرتنا عن سرّه أمارات الربيع المقبل، هل تلاشت
نُتفات الصّوف لمّا حطّت عليها حبات الثلج؟ أم قد أصابها ما أصابنا من عجز، كأننا
رُمينا في خيالنا مقيّدين ومالنا في حاضرنا من أمرٍ ولا حيلة، وكُنّا إذ نراها أسرب
وأسرب تحُوم فوق السقف القرميد الغربان وتحطّ قرب حبّات النتاف المغلّف بالثلج المعلّق
كثمر البلَح الأبيض، هل تنقره بمناقيرها أم تتريّث؟ بل هي تناجيه حتى لَكأنّ لسان
حالها يقول: ترى حلو مذاق هذا "الوعد" كالبلح أم مرّ كالعلْقم؟ ثم تطفق
ترفرف ثانية وتغادر ويغادر إثرها أمل وتستفيق نجوى، ثم تظهر الدّرْسة والشحرور يقفزان
من مكان إلى مكان حتى يصلان إلى الأشجار المكسوة هكذا فيجوسان متأملين ثم يفزعان
في الأخير، ويطل السنُونُو والدوري نطًا وخفقان فجفلة مثل سابقيهما، وهكذا دواليك،
ولم تجرؤ ذوات جناحين من الوقوف على أغصانها.
وتخفق إثرهما بصائر وبصائر كلّما شَدَّا إلى حوزتنا تحويما؛
من الزريبة ومن مدخل البستان إلى الشجر الوعْد المغمور غير بعيد في هوى المدخنة،
وكأنّ روحًا خفيّة تهمس بصوت واحد في أذانها بأنّ هذا ما هو بصوف عالق بأغصان اللّوز
لكن ملحمة الانتظار التي يزرعها دوريا خريف الحوزة في قلب الشتاء لتُطيّب الثرى عبقا
وليتنا نعي ما نقول وسرّه غامض كالدهور إلى جانب عبق نقاوة مياهه الذائبة التي
ترتوي بها التُّرَب.. وربّ أملٍ في أن يبلِّغ الرّبيع مجدَ روح النّسيم العليل وفي
جعبته بعض من حنين زمن جزّ الصوف.. ثم موكب ما هو بموكب لكنها عصافير الثلج إذ تتهاطل
فجأة مع كل إطلالة ما بعد ظهيرة ومع الصوف تلعن صُبحها وبه همسا ولمسا تركع للقدر
المحتوم.. انقطاع، تخلي وتحلي ثم تفنن واندثار، جفول وتسَمُّر قرب زوايا الأوهام،
فهلُمّ نصلي لمجدِ الرّبيع إذْ ازدهى السّندس بعد شُباط.
بعد شباط العهد
آذار ولا مِن سندسٍ مزدهٍ حتى خِلنا وأعيننا مشدوهة ما تزال إلى سحب السّماء، وإلى
الجبال البعيدة البعيدة؛ وبأنّ هذا الصوف المتهاوي على الضّلوع برَكة آخر الأزمان،
وقد حبِس عوارف اللوز والمشمش والكرم عن نفسها إيذانا بانتهاء مسيرة الربيع على
الأرض عما قريب، والعجيب أنه متى ذاع همسٌ عليل وانتشر حلّقت الطيور ثانية ورفرف
عندليب آخر الأزمان إضفاءً للنكهة، ومتى كان هذا الشعور قائما والسماء تندُفُ
والأجواء ارتدّت أفئدة الحوزة فؤادا فؤَادا وانتشرت النفوس في الأثير روحا واحدة مشدودة
إلى الحبّ الذي يتدلّى وقد غلّفه الثلج فغدت أيقونة الثمر ربيعا دون ربيع وعلى الأغصان
جاثم شباط.. "فلن يزولا إلى أن يزول الشر، والشر لن يزول، والبراعم التي تفتّقَت
على لوز الجيران وشاع بهاها هي ربيع كاذب ومتى تأملته رأيتَهُ شرا محدق منبعثٍ من أعين
شزراء ممحونة غيظا ومن حسد قد ألَمّ بها.. ولن يمكث الربيع الذي افتقدناه هناك عند
الجيران أبدا لن يعمِّر طويلا ويزورنا وما على ربك إلا البلاغ؛ بلاغ رسالة الصيف إلى
أذار الجديد: "أن قُم بلٍّغ عني ولو بهمس نسيم عليل" قُم في أرجاء
الحوزة وظلَّ هناك حتى تتحلّى اللوزات بسندسٍ غير مرئي ويصبح بركة السماء الذي تغار
منه الأحواز وتنافسه الأكوان ولا من متعظ إلا نحن وذوات جناح. لا مجدَ دون ربيع
ولا أيلول دون صوف ولا نحن إثرهم كنا سنكون فجلّ الذي بعثك نسيما خفيف تسبيحة صوف
أيُّها الرّبيع.
[1] - شهر من فصل الصيف يمتد في أغلب أقاليم شمال
إفريقيا القارية (الداخلية) من 15 يوليو تقريبا إلى 15 أوت.