القائمة الرئيسية

الصفحات

نسق "المفكـر الـفحل" في سياق الثقافة العالمة الجزائرية الراهنة، رؤية تأويلية




نسق "المفكر الفحل" في سياق الثقافة العالمة الجزائرية الراهنة، رؤية تأويلية.

بوزيان بغلول[1]

  

   مقدمة: بادئ ذي بدء لا بد من ملاحظة أن ظاهرة " الشاعر الفحل" و"الروائي الفحل" و"الناقد الفحل" كانت ولا زالت إحدى انشغالات النقد الثقافي[2]، لم تكن لتتطور بصورة مذهلة إلى نسق مضمر لا شعوري جديد، ولا في مُحاولة إخراجه من هامشيته إلا نادرا، بخاصة في المجتمعات المحافظة المنغلقة ألا وهو نسق " المفكر الفحل"، لولا بعض الأحداث البارزة التي خلعت حجاب سديمي كان مضروب بإحكام على هكذا نسق، فكان بداية تبلوره الحقيقي هو المناقشات والتأويلات الحادة التي أعقبت أحداث الربيع العربي ولولا مساهمة الأنترنت و وسائل الإعلام والاتصال الجديدة في ظهور فجائي لطبقة متسرعة في إلقاء الأحكام الجاهزة عبره، أطلقت على نفسها تارة اسم مفكرو الاجتهاد (إسلاميين وعلمانيين معا) وطورا اسم العلمانيين الجدد (علمانيين فقط) لعلّ الناقد عبد الله الغذامي نفسه لو أمعن النظر إلى تلكم النخبة لضمّها إلى قائمة أنساق الفحولة في الثقافة العربية الراهنة نتيجة: ــــ حرقها لمراحل التكوين 2 ــــ غياب كلي أو جزئي لتطبيق المنهج العلمي 3 ــــ العوز اللغوي الشديد.

1ــــ السياق الثقافي ونسق الفحولة:

    وستجد أن هذا النسق "الفحل الثقافي" مثلا له سياقه الخاص قد يتقلص فضاؤه في بعض الممكنات السياقية، لأن مثلما هناك ممكنات نسقية هناك ممكنات سياقية منها ما هو خاص وهي تلك المتعلقة بالنظام المؤسساتي؛ نظام كليات اللغة العربية وآدابها تبع المدن الكبرى كالعاصمة الجزائر فقط هي التي تعكس المنظومة الثقافية المحلية وتجاري نسقا من أنساقها، نتيجة الحجم الديموغرافي وتواجد الأجانب وأكبر المؤسسات فيها، هنا ستجد هذا الفحل وهو في نهاية الأربعينات من العمر لكنه بلغ ما بلغ من التكفل بمناقشات الدراسات العليا وترأس المجالس العلمية، سيدفعك الفضول حتما لمعرفة المزيد، لكن للأسف ليست بجماليات النقد ولا الأدب[3] لكنها قبحياتهما عبر نسقين: ظاهر مخادع ومضمر ثقافي ــــ وإن كان آيزابرجر يقول عكس الغذامي بشعريات/جماليات السياق والنسق في النقد الثقافي ـــــ فشئنا أم أبينا إذن فسنجد صاحبنا هذا ركيك اللغة، أجل وضعيفُها لأنه متفرنس زيادة عن اللزوم، ومفتقد لسلاسة التعبير بها فإذا تكلم عَيَّ وإذا قرأ تأتأ وأخطأ برغم اجتهاده للإلمام بقواعدها ونحوها؛ وهذا عوز لغوي وحرق للمراحل في نفس الوقت، ولما كان النص يتداخل مع الخطاب والأثر الأدبي فإنك ستجد أن هذا النسق خاص بفئة معينة من المنتسبين للأدب تأتي عوامل النشأة اللغوية العاصمية عليهم بادية، ولما كانت غاية الخطاب الأدبي هو تشكيل للغة التي لا يمتلكها إلا المتمكنين منها فهي لغة عصية وصعبة، وهذا ما أورده الباحث الأسلوبي عبد السلام المسدي بقوله: « الخطاب الأدبي خلق لغة من لغة أي أن صانع الأدب ينطلق من لغة موجودة فيبعث فيها لغة وليدة هي لغة الخطاب الأدبي وتتميز باختلافها عن لغة الخطاب العادي بأن لغة هذا الأخير مكتسبة بالمران والممارسة والاحتكاك بالآخرين، تنشأ وتستمر باستعمالها المألوف لدى الناس بفعل العادة والاتصال»[4]

    فإذن فكيف سيكون السياق الأدبي مع هذا النسق ناقدا أو مخاطبا؛ فإذا اعتبرناه مرسلا فهو يقطع الرسالة الأدبية/الوظيفة الشهرية من الوهلة الأولى، والفحل مقدام بطبعه لكنه لم يتوقف يوما عن دراسته الثقافية أو نشاطاته العلمية رجوعا إلى الوراء لتعويض ما فاته من هذه القواعد، لأنه لم يجد من ينافسه أو ينقده أو حتى ينبِّهُه، وقد لعب الغش والتواطؤ عليه، والتملق والمجاملات معا في رهن المستوى الجيد واستبداله بخدمة المصالح الشخصية التي تمر تحت الطاولة (لا تكشف إلا عندما يحدث جور لأحد الأطراف فلا يحظى بكامل حصته من تلك الخدمة) القفز على المراحل في الدراسات العليا متجلٍ أكثر لهذا السبب فتجده صاحبه بعد نيله للماجستير لا يقدم أي بحث (في المجلات المحكمة المخصصة لذلك) قبل مناقشته الدكتوراه مثله مثل جميع الطلبة، مع ذلك يناقش ويأخذ درجة عالية ثم بعد أن يبدأ في التدريس ينتقل مباشرة إلى تدريس الماستر والماجستير بل إلى الإشراف عليها بدون أي أقدمية مهنية في التدريس بالليسانس مثلا والتي من شأنها تركيم المعارف وتعميقها، بل الأدهى والأمر أمام هذا الأستاذ المعضلة الذي وُلد بشنبه هو في ترأسه اللجان العلمية ووفاضه مازال خاوي الوفاض من أي كتاب في تخصصه أو على الأقل بحث متميز ويساهم في دوران الحلقة واستمرارها بطلب العلاقات المشبوهة والبحث عن المجاملات والتملقات كي يضمن خليفة له!

   ولا بد عندئذ أيضا من وضع المنهج العقلي البرهاني في مقابلة للمنهج التأويلي ـــــ الذي هو إخراج الدلالة المجازية (التي تحوي معنيين ظاهر وباطن) من الدلالة الحقيقية أو العكس، لأن النص بطبيعته يحمّل اللفظ معنى لا تقتضيه اللغة، والمؤول هو الذي ينقله من معناه المجازي إلى معناه الحقيقي ـــــ في سياق معاصر ولن يكون ذلك السياق إلاّ سياق التيار الفكري المعروف بما بعد الحداثة، وحتى لا نلام من قبل العلمانيين والإسلاميين  فإن القراءة التأويلية (البرهانية) هاته ستأخذ في الاعتبار مقولة تشظي العقل إلى عقول، بالتالي أي فكرة تأويلية قد تبرز وتتجلى من خلال ما يعرف بالمتشابه في النص القرآني فإنها تضع بعين الاعتبار ما أصبح يسمى في فكر ما بعد الحداثة "العقل الإسلامي" ــــ المتميز تمام التميز عن العقل الغربي، ذلك العقل الذي يؤول العلم من وجهة إيمانية ــــ ليس ذلك القلب الذي ينبض في المخ مزودا إياه برؤيويته المرتكزة على معطى حسي، لا استجابة للجدل الصاعد من العالم المحسوس إلى عالم المثل والعكس عند أفلاطون، ولا الجدلية المثالية الهيغيلية، ولا المادية الجدلية الماركسية و إنما عودة لا بد منها إلى نظرية نقد العقل الخالص (1781) لإيمانوال كانط الذي يقول فيها أن العقل الإنساني مكتفي لذاته، وهو ليس في حاجة إلى أخلاق أو دين خارجية لأن ماهية العقل لا تسمح للإنسان الحسم في قضية الإله بل أن تلك القضية لا تهمه أصلا.

    فما بعد الحداثة كشفت النقاب عن اقتراب نظرية كانط «الأخلاق والدين مفهومين مؤسسين على عقل الإنسان بإرادته الحرة بمعنى أن قلب الإنسان في ذاته هو قلب عاقل» من مبدأ تشظي العقل نفسه. هذا الفكر الفلسفي الغربي المتعلق بماهية العقل والروح عند كانط نجد له آثار عند المفكر العقلي البراغماتي/الواقعي ابن رشد؛ عندما يجمع بين العقل والنقل في منهج واحد هو التأويل البرهاني/ التوفيقي إن صح التعبير، ليقف ضد الجمهور والمتكلمين الخائضين في أمور لا ليس باليسير الخوض فيها إلا من زاد عن العقل والنقل حكمةً صوفيةً وخبرة نهاية العمر أو قل أمور لم يكن ليقتحموها لولا وجود نقص معرفي وإيماني عندهم حملهم على تبييت نية النيل من القرآن ــــ و القرآن أسماهم بالذين في قلوبهم مرض أو نزغ أو زيغ ــــ هؤلاء المتكلمين ومن شابههم هم في عصرنا يماثلون إلى حد رهيب المثقفين والباحثين و"المفكرين" الذين يحرقون أو حرقوا المراحل في تكوينهم العلمي وفي أبحاثهم العلمية ضمن النطاق النخبوي والأكاديمي الجزائريين، نتيجة لتمنهجهم في نطاق ثقافة فحولية غير واعية بذاتها كما يسميها الناقد عبد الله الغذامي، فلو أنهم شعروا بها لما تفرعنوا حدّ التعدي على القرآن والسنة المسندة واقعين في أخطاء تأويلية كارثية، أو على الأقل لتفرغوا لتخصصات هي دون تخصص نقد الخطاب الديني لبرهة من الزمن قصد مزيد من اكتساب للثقافة والتجارب، أو قل لو أنهم نقدوا ذواتهم ولجموها بتكسير ثقافة الفحولة فيهم أولا تقويما لهرم النقد والفكر الجزائريين المقلوب ليماثل نظيره المصري:

    كيف تشكّلت طبقة النخبة المثقفة المصرية المعاصرة إلى أيامنا والتي ساهمت في نشر الوعي الثقافي والثقافة نفسها بعد أن حملت مشعلها عن النخبة الكلاسيكية أو النخبة الحديثة أو نخبة الإحياء؟ لا مراء بأنها تشكّلت في معظمها جراء مخطط نهضوي شامل، بإعطاء المثقف المسئول في الدولة المصرية الحديثة الأولوية لتكوين الفرد تكوينا تعليميا وجامعيا وأكاديميا ذو مستوًى لا يخالطه أو يعتريه شك بأي حال من الأحوال، والنتيجة التي تدل على ذلك هو نقد النخبة لنفسها نقدا ذاتيا غربلة و تمحيصا مرارا وتكرارا بخاصة قبل وبعد ابتكار منهج  النقد الثقافي، ذلك النقد الذي أُحتضن عربيا أول ما أُحتضن في مصر والخليج العربي لتطبيقه لا النظر إليه في المرآة، حتى ولو كان في سياق مختلف عن سياقه الغربي، تطبيقه حتى على جميع "الهامات" أو أنساق الفحولة المتجبّرة والطاغية فكريا كما يسميها عبد الله الغذامي، التي تشكّلت في ضمير المجتمع أو مخيال الأمة الجمعي الواحدة دون وعي (حتى أصبحت ثقافة) ولعلّ الوعي بها سيزداد مع مقاومتها لكل محاولات تجريدها من رسوخيتها المقلقة المحيّرة ضمن السياق الفكري والثقافي المحليين بقوله : « فرع من فروع النقد النصوصي العام، ومن ثم فهو أحد علوم اللغة وحقول الألسنية معنيّ بنقد الأنساق المضمرة التي ينطوي عليها الخطاب الثقافي بكل تجلياته وأنماطه وصيغه، ما هو غير رسمي وغير مؤسساتي وما هو كذلك سواء بسواء. ومن حيث دور كل منها في حساب المستهلك الثقافي الجمعي (..)، وإنما همه كشف المخبوء من تحت أقنعة البلاغي الجمالي ، فكما أن لدينا نظريات في الجماليات فإن المطلوب إيجاد نظريات في القبحيات لا بمعنى عن جماليات القبح، مما هو إعادة صياغة وإعادة تكريس للمعهود البلاغي في تدشين الجمالي وتعزيزه، وإنما المقصود بنظرية القبحيات هو كشف حركة الأنساق وفعلها المضاد للوعي وللحس النقدي»[5] لاجئا إلى القراءة التأويلية طبعا لأن التأويل نمر به إلى المجاز الكلي في النقد الثقافي وهو البحث في اللفظ عن المضمر الدلالي.

كما يؤكد الغذّامي أن «على الناقد أن يميّز بين السمات الإيجابية والسمات السلبية التي ينبغي التركيز عليها لأن هذا يقودنا إلى التعرف على عيوبنا الحضارية والعراقيل التي اعترضت مسيرة النهضة العربية. وقد اختار الغذّامي نسق "الفحل" الذي يؤكد أنه في الثقافة العربية قد انتقل من الشعر إلى مختلف نواحي الحياة. فصار لدينا، إلى جانب الشاعر الفحل: الفحل الاجتماعي و الفحل الثقافي والفحل الإعلامي والفحل السياسي...»[6]

    محاولات ألفينا تجلياتها بخاصة في حرق المرحلية في الأبحاث والنقود الأكاديمية بفحولة بل بتغول ينم عن اصطناع الطاغية إن صحّ التعبير في السياق الجزائري، هذه التي نسميها التجاوز بالإيديولوجية في  التدرج أو ما بعد التدرج، القفز على المراحل في البحث والتفكير العلمي يعني ولوج محطات نقدية فكرية قفزا إليها من محطات نقدية أدبية مثلا دون مراعات النتائج، الظاهرة جد ضيقة لدى النخبة المثقفة الأكاديمية وغيرها في مصر، كما بدت لنا خارطتها في شكل سلامة هرم النقد المصري المعاصر: قاعدة عريضة مجال تخصصها نقد الحياة والمجتمع بكل أشكالهما الشعبية ثم فوقها نخبة مختصة في نقد المعرفة ونقد معرفة المعرفة والتي من ضمنها من يقدم تلك المعرفة أو من يقدم معرفة المعرفة/المنهج، أي النقد الذي يستخدم كأداة الصيغتين كيف ولماذا شكلا ومضمونا. وأخيرا يقع في قمة الهرم النقاد والمفكرون الحذقون ذووا التجارب والخبرات الطويلة هؤلاء عندما يطرحون علينا دراساتهم في تأويل القرآن لا نستغرب، فتمكنهم وقلّتهم يفسره اختيارهم للتخصص الصعب سواء عن فراسة؛ وفقط في مثل هذه الحالة قلّ أصحاب نسق الفحولة بين أكاديميو ومثقفو الديار المصرية. أما هؤلاء الذين ينزعون بعد حصولهم على درجاتهم العلمية على مدى قريب دخول لا شعوري إلى حلقة نقد الفكر والخطاب الدينيين، وما أدراك ما نقد الفكر والخطاب الدينيين وربما حالات فيهم لا توفق حتى في استعمال المصطلح الصحيح لضعف قدراتهم اللغوية أيضا ــــ يستعملون بدله اسم فضفاض هو تخصص نقد التراث ـــ فنجد عددهم بألوف مؤلفة عندنا بالجزائر تاركين نقد ذواتهم التي أصبحوا يكادون يعبدونها أو على الأقل النظر إلى أنفسهم في مرآة الآخرين، أو النظر إلى الواقع النظري والعملي من حوله أتغير أم استقر أم تراجع و العناية بدلها بالمجاملات والإطراءات والتملقات الروتينية التي لا يملّونها أبدا هل نفعتهم/أضمرت نسقهم أم كشفتهم في ظل هذا النظر؟ منهم المتطفلين على تخصصات أكبر منهم بكثير، وهذا هو ما قصدناه بقولنا " القفز على المراحل" أو ظاهرة الهرم المقلوب في طوبولوجيا الفكر والنقد المعرفيين المعاصرين في الجزائر، والسبب واحد ووحيد هو الإعراض عن نقد الفحولة في ميدان التفكير العلمي نقدا ثقافيا كنقدها في المجال الشعري على سبيل المثال لا الحصر، وعدم إخضاعها للدراسة والتشريح حتى تستفحل وتصبح عصية على الطرق لا شعوريا.

سنرى أن السبب هو بالنسبة لتخصصات أكاديمية بعينها كاللغة والنقد الأدبيين يكمن بالإضافة إلى أيديولوجية البلد منذ استقلالها المنعكسة على التعليم والتكوين الجامعي، سيطرح مشكل تلقي اللغة العربية في المجتمع الجزائري الخليط اللغة أيضا وبحدة.

     العبودية ليست هي تلكم الممارسة الإنسانية التي سادت حسب علماء الأنثروبولوجيا قبل المرحلة البربرية والمرحلة الحضارية، من كان يظن أنها مرحلة منقرضة زائلة من عالمنا فإنه سيكون واهما، بل هي أيضا إحدى تجليات ظاهرة الفحل الشجرة الضاربة ضمن نسق من الأنساق المجتمعية وهذا البعد الدلالي المضمر هو الفاعل والمحرك الخفي الذي يتحكم في سلوكنا العقلي والتذوقي، وأشكال تلقينا لهذه الظاهرة الثقافية أو تلك. ويطلق  الغذّامي على هذا النمط من المجاز تسمية المجاز الكلي[7]، ولما كنا بصدد الفحولة في ميدان التفكير العلمي في فرعه الخاص بالنقد الفكري والفلسفي الأكاديمي، فإن تلكم الهامة الضاربة للجذور في كل صوب وحدب عن وهم، والمنزوية في بروجها العالية لا تنزل منها إلا بإعمال معاول النقد الثقافي وإلاّ تخطت حدودها وتعدته إلى الطعن في المقدسات بحجة الاجتهاد وحرية الفكر وما إلى ذلك من ترَّهات مكرسة لنوع من العبودية الفكرية، عبودية للفرد "العبد العاقل" الذي هو ليس بذلك الفقير فقر مادي أو روحي بل الفقير فقر عقلي. سينتفي حتما هذا العبد العاقل بانتفاء الفحل المفكر بخاصة إذا ما وضعنا في الاعتبار الحالة المادية الجيّدة لأستاذ التعليم العالي وما بالك بمن هو برتبة "الباحث الدائم" بمشروع بحث في مجال تخصصه بالجزائر، حينئذ سنجد أنفسنا أمام فحولة نسقية تطرح فحولتها أول ما تطرح على المقدّسات كما ذكرنا، لكن أول ما يكشف زيفها في حالة الجزائر هو الأيديولوجية السائدة وغياب النقد الذاتي سواء قبل تبلور مشروع النقد الثقافي قبل عقدين من الآن أو بعدهما. لكن قد يقول قائل أن القوم الذين تصفهم بالفحولة الواهية لم يخرجوا عن تخصصاتهم، فالتأويل في النقل كما في العقل موضوعه المجاز يعني علم الكلام و المجاز من اختصاص الدراسات النقدية لغوية أو أدبية. نقول لهم بلى، لكن عن ثقافة فلسفية وخبرة مستفيضة بمناهج علوم الإنسان والمجتمع تجعلهم لا يستغنون في تأويلاتهم عن البرهان العقلي، وتمكن لغوي عميق و روح علمية وتواضع للعلم، يعني تمرس مرافق على نقد الذات قبل نقد الذات الإلهية وإلا يسمى ذلك فوبيا النمطية، المشرعنة لنمط ثقافي اسمه" المفكر الفحل"، فالنقد الثقافي في الغرب ما كان ليولد على يد أعلامه فنسنت ليتش Vincint Leitch وريتشارد هوتجارت وتيودور أدورنو، لولا تلك النمطية التي اكتسحت كل دروب الحياة بما فيها التفكير والإبداع.

  2ــــــ نماذج لأنساق "فحولة فكرية جزائرية خاصة":

     وكنا نوّد أن نعرض لنماذج لباحثين مخضرمين من جامعة الجزائر2 كأحمد طالب الإبراهيمي ومحي الدين عميمور وهما في الأصل طبيبان، مصطفى شريف، لوط  بوناطيرو، الشيخ أبو عمران، عبد الرحمن الأخضري، نور بوكروح، فوضيل بومالة، الساسي لعموري، محمد الصديق بن يحي، الشعراء أحمد حمدي ومالك مرتاض ولميس سعدي هذين الأخرين أصبح يضرب بهما المثل (لا قبلهما ولا بعدهما ذكرا و أنثى) عندما يتعلق الأمر باستثمار لشعريتهما ولوجا إلى الفكر السياسي و الفكر الديني! والروائي أمين الزاوي من كلية اللغة العربية وآدابها، كما لا يمكن المرور مرور الكرام أمام شاعران صنع مجد الجزائر الشعري في النصف الثاني من القرن العشرين، هما محمد العيد آل خليفة ومفدي زكريا، لمّا كان نسق الفحولة الشعرية نسقا مجبول على التقوّل على السلطة السياسية وحتى الدينية إذا لم تجزل له، ليس بوعي فكري لكن بوعي تاريخي، ولا أدل من تشبيه الأول للفرنسيين في زيهم بالغربان، والثاني تشبيه معارك ثورة الجزائر بمعركة بدر، فاكتسبا شعبية نخبوية سرعان ما رسختهما بطلين فحلين. لكن تم كشف زيف هذا التصور مع مرور الزمن نتيجة تطور أغراض الشعر في المشرق العربي/حداثته  و تخلفه في المغرب لعربي، وتطور أغراض النقد كالنقد الثقافي الذي يفكك النسق الثقافي مقرونا بتفكيكه بنية النسق السردي فإذا فهل أتاك أحد من يفكك غموض الشعر الجزائري المعاصر ليقوده بحثه إلى أن غموض الشعر الجزائري من طابع خاص لا علاقة له بالحداثة الشعرية بل له علاقة بتجربة الشاعر اللغوية[8] أو ترعرعه في سياق اللغة العربية من عدمه ( في سياق الفرنسية ومجتمعها الفرانكفوني الممسوخ اللغة) أي غموض شعره كنتيجة أساس من نتائج نظرية اكتساب اللغة تبع نعوم تشومسكي  Language acquisition device theory فهناك جهاز قبلي غريزي يكتسب اللغة في الإنسان لكنه مقترن بسن الطفولة الأولى، فاذا ما فاتت هذه المرحلة يصعب معها التحكم بأبجديات اللغة بالوجه الأكمل حتى ولو اضطر شاعرنا مفدي و خطيبنا الإبراهيمي إلى التعويض بتعلم القواعد والعروض وحفظ أشعار العرب عمرهما كله، فاكتساب اللغة  language Acquisition شيء والاكتساب اللغوي Acquisition  linguistic  شيء آخر وهو عمليات نقل الخبرات للأخرين وتلقيها، سواء بواسطة القراءة أو التعلم أو التدريب النطقي أو الكتابي بقصد الوصول إلى مرحلة افضل من المرحلة السابقة التي كان عليها الفرد..[9]  

وفي هذا الصدد نحاول رفع غطاء فحولة شعرية زائفة عن طريق اللغة نفسها (كشف محدودية طاقتهما الشعري) وهذا ما نلتمسه في هذه الشعرية المنتقصة: (..) وملأنا الدنا بشعر نرتله كالصٌــــــــــلاة تسابيحه من حنايا الجزائر (..) أو قوله: ودوار يستقبلُ الشهَداء ومَن أخلصوا للوفاء والذمام. هُم الثائرون الألى وَلدُوا.

    أولا الشعر يغوي فكيف ترفعه إلى درجة الترتيل والتسبيح؟ ثم إن الأصل في الصلاة القراءة لا الترتيل بيد أنه أصلٌ في صلاة المسيحيين لذا يمكن أن يكون الشاعر قد استعار التشبيه من الشعر الفرنسي، وثانيا هل تعتقد بأن الخلط باللفظ الأعجمي (الأسلبة) في الشطر الأول مضاف له قصور في فهم اللفظ العربي أو تداوله بشكل يسمح من استعارة معناه على الأقل في الشطر الثاني سيجيئنا ببعض شعرية؟ بل سينفر ويقزز الثائرون الأزليون في "الدوار"، ربما هذه الشعرية اللغز قد كشفها رحيل الاستعمار نفسه فسكتت قريحتهما الشعرية إلا فيما ندر؛ فهل استوقف هذا التشبيه أي ناقد؟ لوكان وعي النقاد الجزائريين وعي فكري وثقافي لوُجد منهم من أخذه الشك ونقد إنتاجاتهم لكنه كان ومازال وعي شعراني فحولي أو بالأحرى لاوعي شعراني من أجل الفحولة، أبداﹰ، قلّ من وجد من تجرأ وشكّ في أشخاص يعيشون بيننا يأكلون ويشربون مما نأكل ونشرب، أكيد أنه سيعتريه نفس هاجس الخوف من تلقيِ نفس مصير الشيخ مصطفى عبد الرازق وطه حسين ونصر حامد أبو زيد .. ومحمد أركون وهشام جعـيط وأخيرا وليس آخرا أمين الزاوي، نتيجة ضمور نسق أولئك الأشخاص وما يرتكبونه في حق الصالح العام للعباد والبلاد، فكر فحولي يمررونه تحت جنح الظلام، خطر داهم بما كان لكنه مغمط غير مشعور به؛ مالي أنا ومال تأويل المتشابه ونقد الأنبياء وعظام الإنسانية وأنا ليس لي أصلا تجربة وثقافة واسعة وربما تخصص وعلم كاف يؤهلني، وحتى وإن كانت لدي، ما بالك بالقطيع الذي لم تكفيه حشائش الأراضين كلها من حوله ليتعداها إلى تلك النابتة فوق (في حدائق بابل المعلقة)!

أنا قد شككت في إنتاج هذا المدعو روائي جزائري كبير، عن وعي واعي أن صح التعبير و واقعي بعيد عن خُيلاء العظمة، عندما رأيت واسيني الأعرج لا يترك ميدانا من الميادين؛ لا رواية، ولا منبرا إعلاميا، ولا منتدًى فكريا، ولا درسا أكاديمياﹰ إلا ونقد فيه بأسلوب غير أدبي أو غير فني وبغلٍ واضح! هل ذلك سيعفيني بعد الشك في صحة ما يقول عن الشك كيف قاله ولماذا قاله؟ حتما لا، إذن لا مناص من تحويل الشك إلى الشك في مستواه هو ، لا مستوى من يتحدث عنه ؟ ثم لعلّ أقوى دعم لشكي هو تلك المرامي البعيدة بل هي أبعد ما تكون عن الحقيقة والتي ما فتئت ترمي إليها إنتاجاته الروائية، ببساطة لأن أسلوبه الذي يغلف به تلك الأفكار، والتي تنتقد بفحولة النبي الفلاني والحاكم العلاني ركيك، أجل ركيك بالقطع إن لغةﹰ أو خطابا، خُذ مظاهرات الربيع العربي مثلاً التي حاول انتهازها لكي يصنع منه شخصية ناقدة للحكام العرب بوعي فحولي تاريخي في كذا من رواية، فالجواب عن شكنا موجود في رواية أصابع لوليتا، التي ألّفها في ظرف قياسي شتاء 2012-2013، ثلاثة أشهر بالكاد وهي تعد 438 صفحة! ليس هذا فقط: فهو يدرّس بالجزائر وبالسوربون وعندما يكون في كليهما يجري لقاءات صحفية ويحضُر لنشاطات ثقافية بل حتى يُدعى لندوات ــــ مما يعني التحضير لها وقد رأيته بنفسي أكثر من مرة في إحداها بالعاصمة الجزائرـــ ألا يطرح ذلك كله السؤال: من أين لك طاقة إخراج رواية تعد 438 صفحة إلى العلن وأنت لست متفرغ أصلا لكتابة مقالة أدبية؟ الجواب كامن في الصفحة الأخيرة لرواية أصابع لوليتا (التي يذم فيها الرئيس الراحل هواري بومدين مقابل أحمد بن بلة ويمدح فيها ظلّه مفكرا وكاتبا محاكيا لسلمان رشدي " يونس مارينا "، مدافعا عن الحرية في وجه الإسلاميين وهو غائص في حالات جنسية مزمنة) أجل، تجده في كلمة الشكر المعبر إلى طالبتيه في السوربون و الجزائر، العاملتين في الموضة وكذا إلى ابنته العاملة في ميدان السينما؛ إنه الشكر الفخ الذي أبانه قامة وهمية.

    الشكر المعبّر المرفوع والممتن فيه منًا يفوق الوصف، كالذي يوجهه الكتّاب عادة إلى عظماء الإنسانية! ستجده هو مكافأة منه لهن على مساهمتهن في كتابة روايته "الملحمة" تلك! التي أخرجها بهكذا طريقة، بوعي ضمير الكاتب العربي الكبير إلى العلن في زمن قياسي! لعل أصدق ما يعضد هذه النتيجة هو الأخطاء النحوية والتركيبية الغير مسبوقة في الطبعة الأولى، والتي قام الناشر في الطبعة الثانية من تصحيحها (بالإمارات) ما يعني أن الكاتب لم يأخذ الوقت الكافي لتدقيق رواياته حتى ينتهز فرصة أحداث الربيع العربي. ليس هذا فقط فستجد زملائه في ذات الكلية، التي مقرها في ابن عكنون بعقليتهم العصبية النرجسية لحد الساعة فيه مناهج نقدية تعنى بالمضمون زي نقد خطاب ما بعد ‏الاستعمار مثلا، يعمل الناقد والأستاذ الجامعي الجزائري فيها على شحن ذاته بالمحتوى الأيديولوجي ‏شحنا، فيهم من هي مشحونة ذاته مئة بالمئة بالأيديولوجية وكذلكم بالعصبية اللي أكل عليها الدهر وشرب‏؛ هذا النوع لا تصادفون عنده المعارف الأساسية لِأستاذ يقول أنا أستاذ اللغة العربية وآدابها البتة، ‏وهي المعرفة الجيدة المعمقة باللغة العربية كتابة ونطقا وكل ما تعلق بنحوها و قواعدها وتراثها ‏وأسولبياتها ومطواعية أهلها اللسانية، يعني محتوى معارفه التقنية فارغ منها وممتلأ بدله ‏بالأيديولوجيا، مثل نقد ليل نهار إسرائيل والاستعمار وثقافته! الاستعمار الذي من الواضح من ‏دلالة اسمه، أنه انتقل نقلة حضارية ليُعمّر أرض من وقف أصحابها في القرون الوسطى من ‏الموريسكيين وعصاباتهم ومرتزقتهم على القرصنة وزرع الرعب في أعالي البحار، واستعداء ‏المسيحيين الذين طردوهم من الجزيرة الإيبيرية شر طردة، بدل تعمير أرضهم، وستجدون أن هذا ‏النوع من الأساتذة بين قوسين نرجسي خاوي الوفاض على عروشه، بدل أن يعمل على كسب ‏مزيد من التجارب (‏‎ ‎وهو في مقتبل العمر، في الأربعينيات من عمره)  بملازمة التدريس في ‏الليسانس سيُذهل بنفسه وتعتريه نشوة الكِبر والعظمة ، بل خيلاء "التدكتر" و"الباحث الفذ" في نقد ‏خطاب ما بعد الاستعمار، فيعامِل نفسه كأنها جورج جارودي أو نعوم تشومسكي، فيتحول عن طريق ‏تبادل المنافع الشخصية إلى التسيير والتدريس في الدراسات العليا بدل ترك ذلك لمن هم ذوو ‏خبرة و تجارب، أي لمن هم في الستينيات من أعمارهم. إنه امتلاء المحتوى بالوهم و ‏الأباطيل بدل العلم و التقنية، الذي يكون خطير علينا بما كان نحن الجزائريين، لكن أهون من بيت العنكبوت لا يوجد ، فعلى نقاد الجيل الجديد الحذر ورفع التحدي، يعني نقْر إن لزم الأمر ذلك المحتوى الذي يشبه ‏فقاعة صابون، لينتفي وهم الفحولة الفكرية إلى غير رجعة.

   و بما أنه سبق لنا وأن تمثلنا بأساتذة، نقاد، ومفكرين من كلية اللغة العربية وآدابها واللغات الشرقية بعينهم في مقالاتنا السابقة، لذلكم نكتفي في هذا المقال الموضوعي بالتعرض كذلك لطلبتهم الذين ورثوا عنهم تلك " الفحولية المومئة إلى التفوق" المحكمة الإضمار ضمن سياقاتها النخبوية الأكاديمية:

   ما الذي جعل شاب في الثلاثينات يخرج إلينا عبر قناته اليوتيوبية وهو ما أصبح يطلق عليه أكاديميا بالإعلام الجديد، ليطرق مواضيع غاية في التعقيد، تحتاج إلى عقود من تفرغ وتجرد في نوازع التفكير الفلسفي واللاهوتي المضنى، في فيديو يقول فيه أنه باحث؟ لولا حب مغالٍ للذات مكتسب في سياق تبرز فيه المجموعات النسقية حتى لا أقول الحساسيات النسقية المكرسة للعظمة والفحولية المطردة التي ما لها حدود، طالت وتفرعنت في نفق الإضمار، كون لا أحد استطاع رفع غطاء الوهم البطولي المُشرع عليها، ونقصد ههنا الفحل المفكر والناقد الأكاديمي الذي يتخذه الطلاب مرجعا لهم، ربما يصل إلى ذروة الشهرة والمجد المادي والمعنوي، وما أكثر عدد ما تراكم من هؤلاء في الجامعات الجزائرية لغياب تأسيس النقد الثقافي على ما يواجه ويقابل الذوات الجمعية المستندة إلى ثقافة وقوانين اجتماعية منومة بل مظهرة للذات البخسة على أنها في أبهى صورها! و لعل من أمثلة تلك الهامات المتمتعة بالفحولة الفكرية واللغوية/البلاغية المنكفئة عن النقد في جامعة الجزائر2! والتي أصبحت مرجع الطلاب والمثقفين على سبيل المثال لا الحصر؛ أولهم البروفيسور الشجرة عبد الرحمن الحاج صالح مسيطر على الدرس اللساني داخل الجزائر طولا وعرضا بينما لا يكاد يسمع له صوت خارجها، وكذلكم الحال مع قامات أصبحت أسمائها مرادفة للفكر والثقافة في ثقافة النخب الجزائرية الراهنة بينما إنتاجها لا يكاد يتعدى حدود أسوار الجامعات التي سطعت فيها فحولتهم الفكرية الفجة واستقرت لعقود، وإن تعدتها فبكتيّب أو اثنين في أفضل الأحوال كالعربي ولد خليفة وأبو القاسم سعد الله وأبو العيد دودو، أحمد جبار ومحمد حربي و مصطفى شريف وصولا إلى أحمد يوسف وأمين الزاوي، وبالعودة إلى الشاب الثلاثيني الطامح في أن يصبح في يوم من الأيام "مفكرا فحلاﹰ" مثل قدوته أمين الزاوي قائلاﹰ بوهم انفصال الروح، الروح واحدة غير منفصلة مجسدة في أشكال مختلفة، هي روح الله الأزلي فينا التي لا تغادر أجسادنا إلا وتعود إليها، ولم يأتي بسيرة الاتحاد والحلول أو نظرية التقمص الأفلاطونية على لسانه! ربما معتقدا أنها أفكار دينية! ولم يذكر ولو بإشارة، الفكر الصوفي ولا زعيمهم الحلاج المصلوب لأجل فكرته التي ود إقناع المشاهدين بها(مقولة ما في الجبة إلا الله) ، ولا حتى مدرسة ابن عربي؛ بل هي فكرة دينية هندوسية (الله مستقر في أعماق النفس) ثم أصبحت فلسفة قبل أن ينطق بها الحلاج ، والحلاج لم يصلُبه الخليفة العباسي المقتدر بالله إلا بعد أن تمادى في التمكين لفلسفة وحدة الوجود التي ترى توحّد الخالق بمخلوقاته بقوله: ما رأيت شيئاً إلاّ رأيت الله فيه، وله قصيدة طويلة تمدح هذه الفكرة أصبحت بمثابة قرآن ثان يتلى عند أتباعه من المتصوفة الحلوليين.

    وليس هذا ما يفسر تطفله (الشاب المغتر بظاهرة الفحولة الفكرية) على دروب وعرة فقط، لكن أيضا في اعتقاده أن صحة طروحاته في منطقيتها وفي ردها على أسئلة كثيرة، أتعني بمنطقيتها في أن روح الله تحس بإحساس الخبث والزنا فينا؟! وتُجيب على أسئلة معتبرة عددها 500 من ملايين المشاركات!! ثم ينتقد الإعجاز العلمي واللغوي في القرآن قائلا باليقين القاطع: بالرغم منن وجود ما يسمى بالإعجاز العلمي واللغوي في القرآن فإن ذلك لا يعني أنه وحي إلهي مقدس، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لماذا؟ يقول بكل بساطة لأن حضارات قديمة تعود إلى 6000 سنة ناهيك عن الحضارتين السومرية والفرعونية عرفت هي أيضا منتهى الإعجاز العلمي واللغوي! غير مدرك للقانون القائل الأشياء بجزئياتها تكتمل، الإعجاز العلمي واللغوي في الكتب السماوية وليس في القرآن وحده مكمّل لنواحٍ عدة مُبهرة وغير إنسانية بالمرة فيه حتى لا أقول معجزة للعقل، توحي في تكامل بنيانها بألوهية الكتاب إذ ليس الإعجاز في المعنى لكنه في النظم والصياغة.

    نموذج آخر لثقافة "المفكر الفحل" التي ترسخت في ثقافتنا الجزائرية المعاصرة نلتمس بعض ملامحها بكل عفوية من سؤال عن الجسد ألقاه الروائي والإعلامي أمين الزاوي في حديث إذاعي أجراه مع الشاعر اللبناني بول شاؤول، و لعلّ حديث أمين الزاوي لم يكن حديث عن مضمر/ محظور ثقافي في ذاته بل كان أيضا حديث عن حامل هذا المضمر والواقع في شبهة "الفحل المفكر" دون أن يعي، ومنذ عقود من الزمن كتخصص مفضل درج عليه هو وبعض "الحساسيات" جلّها متأتية من قطاعي الإعلام والسياسة، فإذا كانت بلاغة وفكر الشاعر أبو الطيب المتنبي الفحولية وارثا إياها من تقاليد الشعرية العربية في ذلك الوقت، والتي أصبحت نسقا ثقافيا مضمر لا أحد تطاول عليها و فككها قبل عبد الله الغذامي فإن فحولية هذا الروائي الجزائري (أ. الزاوي) ورثها بدوره عن روائيين وإعلامين وسياسيين جزائيين تخصصهم أبعد ما يكون مقدرةﹰ على إثارة قضايا فكرية عويصة كنقد الخطاب الديني، مثل محمد ديب وآسيا جبار وجمال علام وغيرهم، الذي أصبح في أيامنا موضة؛ كل من لم يمضي عليها برهة من حمل لشهادة عليا أو من مر مِن على منصة قطاع جماهري فأصابه ما أصابه من شهرة زاد كبرياءً إلا والتمس عن قصد أمور فقهية تقع في درك ما يعرف بالمتشابه أو الأحاديث الضعيفة السند كأمين الزاوي نفسه.

 لكن ليت شعري، كيف يخوض في أمور الأدب فضلا عن الفقه والمتشابه من لا تلين له لغة الضاد بالمرة! لا على لسانه ولا على جرات قلمه! وهنا يكمن الفرق بين الجرأة الطفيلية للأكاديمي والمثقف الجزائري والجرأة الطفيلية للمثقف والأكاديمي المشرقي التي سمحت لكليهما دخول فضاءات لا ترحب بهما أصلا، ألا وهي معترك "الفحولة الفكرية" حتى أن حالة السكر أو العمى اللاشعوري الذي يدور في حلقته هؤلاء الفحول مجبرين غير مخيرين، سيتحول إلى خطر داهم يوشك أن تنفجر قنبلته على المجتمع من داخل الأعراف الثقافية الفكرية المستفحلة الخُيلاء المرضي، كلٌ على حدى بالإجهاز بضربة قاضية، لعل أقربها إلى الرصد والمتابعة والذكر في هذه السانحة قبل أي إجهاز هي مراكز البحوث التي أنشأها الصحفيون كمركز صحفيين بلا حدود، ومراكز البحوث التي تشرف عليها منظمات حقوقية كمؤمنون بلا حدود، ومخابر البحث التابعة لجامعت دول لا هي بالعلمانية ولا هي بالإسلامية كالجزائر، فهنا مفكرا آخر هو السيد القمني أصبح واثقا أن الله أهداه أغلى ما يملك وهو نعمة العقل المفكر بمجرد أنه حاضر في تلكم المراكز كثيرا! أجل الفرق هو في لغة أهل المغرب العربي التي زادت في الحقيقة في استفحال وتبلور نمط ثقافي كنمط " المفكر الفحل"  بحيث تتكشف للناقد الثقافي المُؤول المُعمل لبصيص تأمل فقط، وبسرعة أكثر ما تتكشف له فيما أنه اعتمد على غـير عــورة عـدم التحكم في اللغة التي يتميز بها نسق "فحول المغرب" عن نسق "فحول المشرق" من المفكرين، خذ المفكر الراحل محمد أركون رحمه الله مثلا لم أتمكن في حياتي من متابعة محاضراته باللغة العربية لأنه لا ينتقي الألفاظ الدالة على المعنى المراد بدقة بينما العكس هو الحاصل مع المفكر السوري الراحل أيضا رحمه الله عبد الكريم اليافي و ناصيف نصار، ألفاظ جرت منهما مجرى الحُسن والسلاسة والكياسة والبلاغة بما يدفع للتساؤل والمقارنة، ولعل ما يساعد الناقد على كشف " فحولة المفكر الجزائري" أكثر من غيره من المفكرين الفحول مشرقا ومغربا فضلا عن الثقافة السطحية واللسان المصطنع هو أيديولوجية المجتمع الجزائري، وظاهرة المحاباة واللاعدالة المتفشية فيه منذ أن استقل عن فرنسا سنة 1962.

    فالروائي أمين الزاوي هو أروع من تتجلى فيه السمات الثلاثة دفعة واحدة فهو الذي قال أن مدير الثانوية الفلانية سمح له أن يمتحن البكالوريا وهو في السنة الأولى ثانوي لنباهته ونبوغه و لم يشعر أنه ما كان له ليحرق المراحل حرقا بذلكم الشكل لولا أيديولوجية البلد السائدة آنذاك ( 1976) ، حتى لو كان عبقرياﹰ في مجتمع العدالة والديمقراطية؛ العبقرية ليست وثيقة إثبات المستوى التي تقدم للمسئولين والإدارة بل هي مزية مضافة خاصة، لا يجوز أن تحرق بها المراحل ثم لو فكّـر هذا الكاتب الذي تنطبق عليه مقولة "المفكر الفحل" في الثقافة الجزائرية المعاصرة قليلا فقط لما تجرّأ على ذكر حادثة حرقه للمراحل تعظيما لذاته. لو عرف أن واقع الجزائر في محاربة المحاباة والنفوذ هو اليوم غير ما كان بالأمس؛ اليوم لا يتمكن العباقرة من أبناء كبار المسئولين في الدولة حتى من تحويل ملفات دراستهم من مكان لآخر وما بالك بحرق المراحل. إنه الخُيلاء الذي به نمت شجرته البلاغية والموضوعتية حتى استعصت على كل اجتراح أو إمالة أمام رياح هوجاء صرصر.

    فإن كان رشيد بوجدرة اختصّ بإثارة محظور التقوّل الرمزي على الدين في الرواية الجزائرية المعاصرة، فإن الزاوي اختص بمحظور التفنن في وصف الجنس فيها، ما من رواية يكتبها إلا ويكون الجنس موضوعها الأساسي، ما من ندوة أو مقابلة مع قامة كبيرة إلاّ وكان الجنس ضمن الثلاثي الروائي المحرّم موضوعها الأساسي، لكن في سؤاله لضيفه الشاعر اللبناني الكبير تنكشف أدواء فحولة متمركزة حول ذاتها تمركزا وهميا لا شعوريا وآليا، ليس ليكوّن جمهوره من خلالها لكن كي يطعن كذلك في الدين والسلطة، طبعا المقاومة والشد والجذب مع جمعية العلماء المسلمين وغيرها ـــ كما حدث في قضية ازدراء الرسول (ص) عام 2009 إثر استضافته لأدونيس بالمكتبة الوطنية ــــ ستثبته فرضيا وترسبه مفكرا فحلا في مخيال الثقافة الجزائرية الراهنة؛ فهو بعد أن طرح السؤال : ما علاقة الجسد بالكتابة؟[10] على ضيفه الشاعر والمفكر أيضا بول شاؤول، الذي كان ذكيا ولم يكن مراوغا، كما قد يتبدى لغير المختصين، بحيث كشف احتكار أمين زاوي  والتعاطي الغامض مع قضايا مثل هذه، والمرتبطة بالسياقات الثقافية، إما الفرانكفونية أو الأنجلو سكسونية. لكن يظهر الالتباس مع محاولة ترجمتها ﻔ le corps مثلا في فرنسا يحمل معنى الجنس، ومعنى "الجسد" غير معنى "جماليات الجسد" عندنا لذلك كان حري به باعتباره أكاديمي قول "جمال الجسد"، ففي بلد كالجزائر وحتى لبنان ستبقى دلالات "الجسد" هي الجسد عموما (خارج سياق الفن والإبداع الروائي وداخله معا) وفي مستوى سؤال الزاوي الغامض جاءته الإجابة، حيث إجابة ضيفه الشاعر بول شاوول كانت كالآتي: الجسد هو الذي يكتب موش إحنا، الدماغ جسد، اليد جسد هي التي تكتب.. وعُقد بعدها لسان أمين الزاوي تماما ولم يزد ببنت شفة! معتقدا أنه سيقول له أن الجسد هو العملة الصعبة في الرواية.

    ذات يوم وأنا في طريقي إلى جامعة ابن عكنون بالعاصمة الجزائر فوجئت بشخص يسير إلى جانبي فلم أدري من أين خرج، إلاّ أن يكون خرج من إحدى بنايات ابن عكنون ولا أظّنه، كونه يحمل سمات لم أعهدها في ساكنة ابن عكنون قط؛ فقد كان شديد بياض الثياب وشديد سواد اللحية به فصاحة اللسان وجهورية صوت وصحة بدن لا تكتمل إلاّ لبدو، البدو الذين يبعدون عنا نحو ثلاثة مئة كيلومتر! وعندما حاولت الابتعاد سألني قائلا:

ــــ أنا أطلب جامعة بن عكنون فهلا دللتني عليها؟

فقلت له: أترى تلك العمارات الزجاجية الفاخرة هناك؟ إنها كلية الطب، قربها على اليمين توجد كازينات خشبية تبدو كأنها مراقد حراس كلية الطب. هي تلك جامعة الجزائر2 التي تبحث.

ثم سألني ثانية: هل أنت قاصد إليها أيضا؟

   فتلعثمت في الإجابة كوني لم أتعود على مصاحبة السلفيين في حياتي. لكن كنت مضطرا لإجابته فقلت له: نعم، أجل أنا قاصد إليها أيضا لكن ليس قبل أن أقضي حاجة.

 ففكر قليلا ثم قال: لا بأس أريد أن ندخل معا إذا لم يكن عندك مانع، لحضور مؤتمر "منهج النقل والعقل في تأويل المتشابه".

ــــ ولماذا تريد أن ندخل معا؟

ــــ لأني من غير منتسبي الجامعة، فأنا لم أدرس بها وإنما درست عصاميا في مدرسة الوحي. فالدعوة وصلتني من صديق يدرّس عندكم، دعاني لكنه حذّرني من الدخول لوحدي بل قال يجب أن أدخل مع أحد المنتسبين.

ــــ وما موعد بدء المحاضرة؟

ـــ الساعة الواحدة بعد الزوال.

ـــ "مازال الوقت مبكرا" قلت له بصوت عال ثم رحت متمتماﹰ في نفسي « قد وقعت في ورطة! ترى ما تلك الحاجة التي يجب أن أتظاهر بقضائها لأملص! لابد إذن عندما نصل إلى الكلية أن أشير له إليها بيدي ثم أعطف يمينا»

.......هذه هي الكلية هناك، بالتوفيق، فأنا سأسلك هذه الطريق لقضاء بعض حوائجي.

ـــ يا أخ العرب هل تريد أن تتركني وحيدا في مكان لا أعرفه ثم أن الوقت مازال مبكرا! فهلا سمحت لي بمرافقتك لتمضية الوقت؟

   عندها زاد اهتياجي وقلقي إلى درجة لم أحسن فيها التصرف قط فقلت بتسرع: هذه الطريق تؤدي إلى حديقة ملعب 5 جويلية الأولمبي سيرها ذهابا وإيابا يستغرق ساعة كاملة فلا تلم إلا نفسك!

ـــ لا بأس، لكن ماذا تفعل في ملعب 5 جويلية هذا؟

ــــ أشتري بطاقة دخول لأحد أصدقائي أوصاني بها.

ـــ إذن هي فرصتنا لنتناقش عبر الحديقة المؤدية للملعب كمشائي تلامذة أرسطو ونحن نتجاذب أطراف النقاش حول الموضوع.

ـــ أي موضوع؟

ـــ "الـتـأويـــل بيننا وبينهم" أليس هو القائل في سورة آل عمران: « هو الّذي أنزَل عَلَيك الْكتَاب منه آيَات محكمات هن أُم الكِتَاب وأُخَر مُتَشَابِهَات، فَأَما الّذِين فِي قُلوبِهِم زَيغ فَيَتبعون ما تَشَابه مِنه  ابْتِغَاء الفِتنَة وَابتغَاء تَأوِيله، وَمَا يَعلَم تَأوِيلَه إِلَّا اللّه، وَالرَّاسخُون فِي الْعِلم يَقُولون آمنَا بِه كُل من عِند ربنا، وما يَذّكر إِلّا أُولو الأَلبَاب»؟

ــــ وكأني بك قد حضّرت ورقة حول تأويل المحكم والمتشابه لإلقائها في المحاضرة.

ــــ لا، كلاّ والله، ما ضرك بأخٍ كريم يسدي النصيحة لأخٍ كريم.

ــــ أولا لدي تعقيب حول قولك الراسخون في العلم لكن بما أنه خارج موضوعنا " التأويل بيننا وبينهم" فسأمر إلى التأويل المذكور في الآية، حتما المقصود هو غير تأويل العلمانيين، لكن لماذا يأتي الله بالمتشابه ويقول أنه لا يعلم تأويله إلاّ هو، أليس هناك تناقض؟ ما خلق الله الأعين إلا لترى والعقول إلا لتفكر. ثم أليس أن عقل الإنسان عندما يريد أن يستقصي أمر ما يشك فيه، والشك هنا عملية فطرية وعقلية نفسية واعية فيه، وليست زيغ من الشيطان، حتى الرسول نفسه شك في أناس وأحداث وأشياء كثيرة قبل أن يثبت شكه، فهل كان في قلبه زيغ؟

ــــ كأنك تبغي تلميحا إلى مناقضة الذات الإلهية لذاتها أخطأت والله. ألم تقرأ قوله «ويحَذركُم الله نَفسه، وَاللّه رَءوف بالعباد. قُل إِن كنتم تحِبّون الله فاتّبعُونِي يُحبِبكم اللّه ويَغفر لَكم ذُنوبَكم، وَاللّه غَفور رحِيم ....... إِنّ اللَّه اصطفا آدم نوحا وآلَ إِبرَاهيم وآلَ عمرَان علَى العَالمِينَ« هو من خلق النار والماء لحكمة في نفسه، يبطش ويرحم واصطفى أنبيائه لحكمة. لكنك أصبت في معنى التأويل في الإسلام المفارق لمعناه عند العقليين كما تقول.

ـــــ والله لقد ذكرتني بمقال ليس لفحل أكاديمي حقيقي عندنا واسمه وحيد بوعزيز لكنه في سباق ضد الساعة للظفر بالفحولة ولو على حساب إهمال التزاماته المهنية من خلال حشر هامته فيما ليس له فيه لا ناقة ولا جمل، وغير ما مرة في غمرة الفيض الانفعالي الانتهازي مع الأحداث السياسية من هنا وهناك سعى  في مقال له ـــ وللسعي ثقافة وتجارب ـــ محاولاﹰ الربط بين نظريات مختلفة فلسفية و نقدية لسانية كانت أو أدبية ــــ كونه بالأساس مختص في النقد السيميائي ــــ لكن بعناء شديد كمن لا هم له غير محاولة التسلق المضنية إلى قامة المسيري وجورج جارودي وتشومسكي في عدائيتهم لإسرائيل، أي أنه ترك تحليل ما ينتج من روايات ويثار حولها من نظريات نقدية بعينها في بلده قافزا إلى الفكر السياسي، ليس متأثرا بفلسفة اللغة تبَع باختين لكن متأثرا بـتسييس اللغة تبَع ريكور، حاثا على مقاومة كولونيالية إسرائيل تخييلا! بدل الحث على تأويل تراثه بما فيه المتشابه أو ما يسميه هو بالمجاز المهيمن في تراثه الديني تأويلا عقليا لمقابلة الحضارة بحضارة لا حضارة بتزمت وانتقام بقوله: « لا يبقى لنا في الأخير إلا أن نؤيد الرأي الذي يذهب إلى أن أحسن طريقة لنسف الاستعارات المهيمنة هو صناعة استعارات مضادة، تفضحها وتخلخل نسقها الظاهر والمضمر، إن الرد بالكتابة ورفع شعار ثقافة المقاومة لابد أن يبدأ من النقطة الحاسمة، التي لا تكتفي بنعي تخلفنا وانبطاحنا بقدر ما تساهم بطريقة جادة وذكية في إذكاء مرويات مضادة وسرديات موازية لتبيين الصورة كاملة ولجعل الاستعارات مرتعا لمحفل متعدد من المرايا المتقابلة »[11]

ـــ أنا لا أعرف سوى مالك بن نبي قديما ومحمد أركون عندكم، أما بوعزيز هذا الذي تذكره فلا أعرفه.

ـــ ولماذا لا تعرف سوى هذين المفكرين من بين قوافل هائلة منهم.

ـــ بصراحة لأن الأول خدمت تأويلاته الإسلام بينما الثاني خذلته جدا.

ـــ ولماذا لم تقل تأويلاته العقلية؟ هل تنتظر من عالم درس في الغرب أن يفسر القرآن حسب هوى فقهاء المالكية أو المتكلمين؟.. انتظر سأشتري مشروبين وأعود.

ـــ شكرا لك من المفروض أنا الذي أدفع.

ـــ لا عليك، أنت ضيفي.

ـــ أمازال الملعب بعيدا؟ ستقتنع معي في مداخلات الندوة إنشاء الله أن هؤلاء هم المعنيون بقوله « في قلوبهم زيغ »

ـــ أنت مخطئ أتعتقد أنك داخل إلى جامعة شريعة أنت بصدد كلية أدب، هنا ليس مثل هناك، يوجد من سيقرأ المتشابه قراءة تأويلية تفسيرية ومن سيقرأها قراءة تأويلية عقلية، ربما أن أمين الزاوي فحل هذه الكلية بلا منازع، الذي لا تخطئه عين سيقنعك بضرورة منهج ابن رشد التوفيقي بين البرهان والتفسير.

ــــ « إِن الذِين كفَروا بِآيَات الله لهم عذَاب شدِيد، وَالله عَزِيز ذو انتقَام» 

«إِن الذِينَ يكفرون بِآيات الله و(..) فَبشرْهُم بِعذَاب أَلِيم. أُولَٰئك الَّذين حَبِطت أَعمَالُهم فِي الدُنيَا وَالْآخِرَة وَمَا لَهُم مِّن ناصِرِين»

ـــ يا راجل حسبك كيف إحنا في القرن ال21 موش في القرن الأول الهجري لقد مضت عصور الانتقام والظلامية إلى غير رجعة. على العموم هذا هو الملعب الشهير5 جويلية هل أعجبك؟

ـــ أنا لا أوافقك .. لكن هل هذا هو الملعب الذي طالما شاهدناه على التلفزيون.

ـــ نعم هو بعينه، سأـشتري كذلك "ساندويش" لي ولك لعلّنا نتابع ندوتنا المنتظرة بانتباه.

بعد نصف ساعة من الحوار الأرسطي بيني وبينه وصلنا إلى الكلية ودخلنا، وإذ بنا نصادف المؤتمرون يغادرون! يا لها من خيبة، فقد أقيمت الندوة مقدمة عن موعدها! وإذ بي ألتفت طالبا صاحبي السلفي دون أن أجد له أثر!! ثم رجعت بي ذاكرتي إلى كلامه « تعلمت في مدرسة الوحي» أيكون جبريل عاد ليعلم العباد دينهم؟ لا أعتقد! لوكان كذلك ما كان ليكون للمتشابه في القرآن من أثر.

   خاتمة: خلاصة القول أنه لم تكن العلمانية التي ارتقت بحياة الإنسان أبدا في يوم من الأيام ميدان للتعدي المباشر على الدين ولا على المبشرين بذلك الدين، في أي عصر من العصور، إلا عندما أحس أصحابها بإحساس الفحولة الفكرية المترعرع معهم جراء سياق براغماتية وإيديولوجية مفرطة طغت عليها المآرب الخاصة، تجلت في تملق النخبة لبعضها بعض، مجاملات تلو الأخرى شرعنت لنسق الفحولة لكل من كان له حظ استيعاب بصيصا من العلم، إنه التحول من إجلال العلم ووضع المقدسات في إطارها الطبيعي إلى عبادة الإنسان. ولعل إنزال هؤلاء المنزوون في بروجهم العالية، من خيلاء العلم والكبر اللاشعوري، جلهم صعد إليها من مجالات تستأثر بتلك المحاصصات الخاصة وهي الإعلام والسياسة والنقد والإبداع الأدبيين بخاصة الشعراء وغيرهم منوط اليوم بالنقد الذاتي أو النقد الثقافي دون غيرهما.

وأستاذ الدراسات الثقافية الذي تحدثنا عنه أعلاه عندما يعلم جيدا أن الثقافة عند الغربيين تعني فلسفة الإنسان وعند الماركسيين تعني فلسفة المجتمع وعند المسلمين تعني السلوك الأخلاقي والاجتماعي وبانحيازه لهذه الأخيرة فقط وعنوة يصبح بريء من الدراسات الثقافة، ويصبح موضوع ثقافي ونسق يجب حينئذ أن يتناوله النقد الثقافي بالتحليل والمناقشة، لأنه شكّل نسق ثقافي أيديولوجي مضمر ولا واعي متوهم أنه درس ويدرّس الحقيقة العلمية، ولا يشكل له هذا الزيف شعورا رادعا أخلاقيا أبدا كونه منحاز عن القاعدة أو النظرية العلمية. والنسق الثقافي كما هو معلوم ينتقل في نظام متواصل من جيل إلى أخر عن طريق المحاكاة أو التكرار بشكل لاشعوري كما في تعلم الأفراد للغة، فهي تبدأ مع الإنسان منذ لحظة ولادته، وتستمر معه طوال حياته. والثقافة كذلك فهي تحيط بالإنسان كالهواء الذي يتنفسه، فهي تأثر في أفعاله وتفكيره وسلوكه وعاداته. وحتى الغرائز والحالات الطبيعية يمارسها الإنسان من خلال هذه الأنساق، فعملية الأكل والشرب وإن كانت رد فعل واستجابة لدافع غريزي هو الجوع، إلا أن تلبية هذا الدافع وإشباعه يتم وق النسق الثقافي الخاص بتناول الطعام وآداب المائدة في المجتمع الذي ينتمي إليه الإنسان.

 



[1] ــــ باحث في الدراسات الثقافية، الجزائر.

[2] ــــ يقول عبد الله الغذّامي في كتابه "النقد الثقافي قراءة في الأنساق الثقافية العربية": يقودنا النقد الثقافي إلى التعرف على عيوبنا الحضارية والعراقيل التي اعترضت مسيرة النهضة العربية. وقد اختار الغذّامي نسق "الفحل" الذي يؤكد أنه في الثقافة العربية قد انتقل من الشعر إلى مختلف نواحي الحياة. فصار لدينا، إلى جانب الشاعر الفحل: الفحل الاجتماعي والفحل الثقافي والفحل الإعلامي والفحل السياسي..." كما يقول أيضا:" يتحدد النسق عبر وظيفته، عندما يمتلك الخطاب نسقين أحدهما ظاهر، والأخر مضمر، ويكون المضمر أو الخفي مخالف للظاهر، بشرط وجودهما في نص واحد، أو وحدة خطابية واحدة. والنسق بهذه الصفة يحتاج إلى قراءة خاصة، تكون هي الأصل في تأويل الخطاب؛ لأنه يري أن النسق هو معنی مضمر ورمزی منغرس في الخطاب. وعلى ذلك فالدلالة النسقية هي الأصل في الكشف عن مغزي الخطاب وتأويله" ينظر عبد الله الغذامي: النقد الثقافي قراءة في الأنساق الثقافية العربية، المركز الثقافي العربي، ط3، بيروت 2005، ص77.

[3] ـــــ هذا الفحل لطول تمرسه في النقد الثقافي ستجده على علم بأن أهم أنساق الرواية العربية الجزائرية المعاصرة قد انتهت إلى شكلين طاغيين: الشكل الأول تناول نسق الحرمان في رواية التابو/جماليات الجسد، وهي إنما تعبر عن أزمة مرجعية على أرض الواقع : أخلاقية سياسية اجتماعية (أصابع لوليتا مثلا) أما الشكل الثاني فهو الذي تبنى نسق قوة المعرفة التي تنتجها السلطة في مقابل المستويات المهمشة شعبيا وحتى نخبويا بسلطة المعرفة تبع المؤسسة مستقوية باللاعدالة و النفوذ و التزوير وللاديمقراطية، إن لم تقوى بالفعل على بسط سلطان المعرفة الحقة، هذه الكتابة إنما تعكس أزمة فكرية شاملة ( رواية كيف ترضع من الذئبة دون أن تعضك) . أجل ستجده على علم ولسان حاله يقول: " السلطة كالشمس من يبتعد عنها يتجمد ومن يقترب منها يحترق"

[4] ـ رومان جاكبسون: قضايا الشعرية ترجمة الولي ومبارك حنون، دار توبقال للنشر، المغرب،1988 ، ص 33.

[5] ـ عبد الله الغذامي: النقد الثقافي قراءة في الأنساق الثقافية العربية، ص 17-18.

[6] ـ المرجع نفسه، ص 83-84.

[7] ـ المرجع نفسه، ص66 -67.

[8] ـ تحتل خبرة أو تجربة الواقع في اللغة (ذات الارتباط بالمجتمع) أهمية قصوى تفوق جميع العلوم، فتجربة في الجيب بالنسبة للمتعامل مع علوم الأدب والنقد خير من مليار نظرية، والمجبول على لغته وإن كان يخالف أشخاصا آخرين ثقافيا فإنه بالنسبة لجماليات اللغة وشعريتها سيلتقي بهم حتما في جانب من الجوانب، ففي التجربة مع اللغة وعلى اللغة الخير كله وإلا الشر كله وهي تحصيل حاصل لنظرية اكتساب اللغة تبع نعوم تشومسكي  Language acquisition device theory  حيث هناك جهاز قبلي غريزي يكتسب اللغة في الإنسان لكنه مقترن بسن الطفولة الأولى، فاذا ما فاتت هذه المرحلة يصعب معها التحكم بأبجديات اللغة بالوجه الأكمل حتى ولو اضطر شاعرنا مفدي و خطيبنا الإبراهيمي إلى التعويض بتعلم القواعد والعروض وحفظ أشعار العرب في الزيتونة والأزهر عمرهما كله، أما ذلك الذي جاء إليها كي يحفظ أو يسترزق بمعونة التملق أو يعظ فإنه سيكون عالة عليها وعلى المنتسبين الحقيقيين إليها.

[9] ــ سمير حجازي: معجم المصطلحات الأنثروبولوجيا والفلسفة وعلوم اللسان والمذاهب النقدية والأدبية ، دار الطلائع ، د ت، ص9ـ10.

[10] ـ الإذاعة الجزائرية القـناة الأولى: بول شاؤول في ضيافة حصة حبر وأوراق، اقتباس من بث تم يوم الأربعاء 25/5/2016 ، الساعة الثانية زوالا.

author-img
موقع تنويري فكري وشبه أكاديمي، يتغيا تقديم إضافات نقدية تخص تحليل الخطابات الثقافية ونظرية النقد والأدب متوسلا بجماليات التلقي والنقد الثقافي، كما يعنى بنشر إبداع قصصي جديد ليس له ما يماثله على الساحة الجزائرية، والمقال المتناول للشؤون السياسية والإعلامية والاجتماعية المقاربة للظاهرة الأدبية والمحاكية المكملة لها.

تعليقات