القائمة الرئيسية

الصفحات

"الهُمن" و"المصطفى السعيد" مجموعة قصص قصيرة جدا


  بوزيان bouziane

1 ــ الـهُمن

 

    لمّا أُصيبت سفينة الرّيس الأخير من رياس بحور الشرق العظيم.. والسحري لم تصاب إلّا وهي بين خليج عدن وجزر الهند الشرقية، لكنّها مع ذلك لم تجنح هناك أين انطلقت منذ ما يناهز الشهرين، ولكنها تمكّنت من إكمال رحلتها حتى غرب المتوسط أين جنحت فتدفقت المياه إلى بعض أركانها وتيقّن ركابها أنهم هالكون لا محالة فبدأوا بالدعوات والتضرع بالصلوات، ولمّا كان هناك جزائر تقع إلى الجنوب من مسار سيرهم البحري، جزائر مغمورة وسط الضباب، شاور الرُّبان بحارته في أن يسلكوا إليها فأخبروه بأن الأمر يكاد يستحيل لكثرة النتوءات الصخرية، فما كان منهم إلى انتظار هلاكهم، قضاءً وقدرا مقضيا، ولسوء حظهم الآخر كان هلاكهم سريعا غر متوقعا .. فلم يُسعف راوي أخبارهم الوقت.. وقد وقع مغشيا فاقدا للوعي مع من وقع..

  ..لتظهر بعد لحظات وكأنها قرية سحرية أمام أنظار من نجى منهم ÷ موقعة قرية تقع أبعد عن وسط البحر الأبيض المتوسط الغربي بقليل، وإذا ما تخيل السائر عبر مياهه بأنها ستجف يوما ما فسيتوقف فيها المرتحل من جزائر بني مزغنّة إلى مرسيليا على الأرجل أو بالبيسيكلات قصد أخذ قليل من الراحة، وفيها يحدث شيء جلل يجعله يواصل المسيرة بسلام .. إنها قرية الهُمن الأسطورية × لكن يبدوا أن الناجين منهم لم يكن لا روبنسون كروزو ولا حي بن يقظان لكنهم كانوا أساطين الشرق في الحكمة وعلم اللاهوت ..

ـــــلهُمن مكان كالقرية اللغز في هذا العالم، لأنه مخفي عن هذا العالم بحكمة أحكم الحاكمين، وفي وسط قاع البحر الأبيض المتوسط."  قال المعلم الأبيض آخر حكماء الساموراي، واحد ممّن نزلوا بها مع النازلين، وكأنهم هبطوا إليها من السّماء، فهم لا يتكلموا اذا تكلّموا إلا بحكمة حكماء الشرق العظيم أو شيوخ بغداد الموقّرين، وكان بينهم أتباع بوذا وزرادشت وكونفوشيوس أنفسهم أيضا أما السامرائي؛ ذاك العربي المسلم الممتعض من احتساء المعلم الأبيض للنبيذ، فقد بدأ يفقد صوابهم وهو يحاول استفزازه قصد المبارزة ثم قتله، لكنّها السّماء التي بدأت تمطِر بشدّة جعلته يحترس و يؤجل استفزازه، ليسأل بعض النازلين مع من نزلوا في غمرة من ضباب شديد وعطش وجوع وخوف بدأ يستَتِب بهم جميعًا من جراء اكتساح الكلاب والقطط المتساقطة من كل حدب وصوب، فناب عنهم كونفوشيوسي مرتدي لقبعة النُّبلاء الفرنسيين ماسك بسيفٍ رشيق لوح به في اتجاه سماء قريبة لم يبصرها أحد قائلا:

ـــ إنها تمطر كلابا وقططا ..

ـــ " لكن من أين هبطوا إلينا هؤلاء العرب الأقذار؟ وأين هم سكان هذه القرية الأصليون؟ .. !" قال وليفه البوذي الأسمر ذو الأنف المفلطح.

ــــ "نحن الكونفوشيوسيون والبوذيون ومحاربو الساموراي الأسطوريين خير من عمّر الشرق العظيم وإذْ بنا نجد أنفسنا فجأة في هذا المكان القذر الذي تصول وتجول فيه القطط المجروحة والكلاب الجرباء أنظُرونا علّنا نصعد إلى بلادنا ثانية إني حائر كيف هبطنا إلى هذا المكان .."  قال النبيل الشرقي المتشبه بالفرنسيين.

ثم تجمّعوا وأرادوا بالسامرائي العربي وخادميه حاجة فطلبوه في مخدعه الذي هيّأه للصلاة والذكر لكن الرجل النّبيل منعهم قائلا : " لا تفعلوا، فإنه تحوّل إليه غلمان القرية وفقرائها كلهم وقد رضوا منه بقليل من التمر والحليب يوميا مقابل أن يعتصموا معه على حبل الله ما أغضب كثيرا الحكيم الزرادشتي، وجعله يعمل مثله، سَيِدًا على بعض أهل القرية الأصليون الفقراء، فبنى معبدا كمصلى السامرائي، أوَتريدون أن تغرقوا مع قوم فرعون إلى الأبد؟ دعوهم في جنتهم التي يهيمون ولنبتعد عنهم إلى فوق حيث الشمس والهواء العليل .."

لقد نقل الرجل النبيل خبرهما إلى حكماء الشرق الأقصى العظيم في مقدمتهم المعلم الأبيض. ليرد عليه المعلم الأبيض قائلا أو دخلت عليهم مستأنسين بعضهما أم متفرقين؟

ــــ بل متفرّقين مُتعادِين، كل واحد منهم يحسد صنوه مدّعيا أنه نسيب الله وحده وهو الفائز بالجنة من دونه.

ـــــ الجنة! الجنة! .. أوَيأملُ الجنّة من أُلقي في جهنم منذ دهر ونيف؟

ليتعجّب الحاضرون من كلام المعلم الأبيض قائلين بصوت واحد : ـــ أوأُلقينا معهما في جهنّم نحن يا معلم الساموراي؟

ـــــ أجل نحن أُلقينا فيها منذ أن نكرنا أنفسنا، فأمّا من كانت أمه هاوية فطفى على السطح جثة هامدة. وأما من قبع بعيدا عن القرار الأعمق بين بين فقد زُحزح عن النار .. ومن رسب في القرار الأعمق مأمول أن يزحزح عنها، لذا ترانا مع هذين راسبين برغم حكمة الحكمة التي شربنا.

ليتفوه الحاضرون بصوت واحد مرة أخرى، من شدة العجب بدى للسامعين وكأنهم ليسوا هم من ينطقون:

ــــ آ الآن فهمنا لماذا أخفاها ربُّ العزة عن الأنظار والعباد ..

2ــ العلم والأيديولوجيا

   كانت هناك امرأة متحجّبة وهزيلة البدن تقف على الرصيف وهي منتظرة، ورجل مفتول العضلات يمر قربها في شارع متسّع لكنه خالي من المارة والناس، لذلك عندما كان قادما وهو عابر الطريق خيل إليها أنه متجه صوبها لكنه في الحقيقة كان يريد الرصيف الذي على اليسار لأن به الظل، وعندها خالجت المرأة فكرة أن تنتفع من الرجل مادام هو قريب منها نادته بلطف: ـــ السلام عليكم .. رأيتك تخرج من العربة هل توصلني بها إلى بيتي، لقد تأخر زوجي عني وقد امرني منذ برهة أن اكتري عربة توصلني، عندما نصل سيكافئك.. هو أو أولادي..

ـــ في الحقيقة قد أحرجتني يا امرأة، انتظري قليلا ربّما يأتي الباص أو طاكسي المدينة

ـــ لقد مكثت هنا ساعة ولا من شخص غيرك، لأن اليوم هو يوم جمعة

ـــ على كل أنا رجل أمن لا أستطيع أن أوصلك .. إلا إذا ناولتني بطاقة هويتكِ

ـــ حسنا ها هي.

ـــ آ.. اسمك أيديولوجيا إذن .. إننا مأمورين بأن لا نحمل معنا الأيديولوجيات آ.. عفوا أقصد مأمورين أن لا نحمل النساء.

ثم يتمتم في سريرته قائلا: كم أكره الأيديولوجيات .. ويواصل: ـــ تفضلي اركبي لأوصلك

وفي داخل السيارة تتصل "أيديولوجيا" بزوجها بالهاتف فيخبرها زوجها بأن تسأل السائق عن اسمه ربما يكون يعرفه.

ــــ ما اسمك يا سيدي حتى أخبر زوجي لعله يعرفك؟

ــــ أنا السيد عِلم .. ويمضي مُتمتما بينه وبين نفسه ثانية .. أيوة أنْعَم أنا هو "علم" وغالب الظن أني تورطت معكي في هذه البلاد النائمون أهلها. ثم يمضي بصوت مسموع:

ــــ سنأخذ الطريق السيار، فأنا رجل لا يحب الطرق الضيقة الملتوية ناهيك عن الأحياء الفقيرة المعتمة.

ــــ هذا واضح من شكلك أنك ابن ناس، لكنني مع ذلك أفضّل أن تأخذ هذا الطريق الملتوي من فضلك حتى نصل بسرعة.

ـــ ألم تقولي لي أنك ستكافئينني .. إذن ما ضرَّك من أخذ الطريق المريح؟ .. ثم يتمتم من جديد .. لن أفعل، أبدا، لن ألتوي معكي، إني أعرفكن جيدا أنتن معشر جنس النساء ومنذ عرفتكن وجربتكن عرفت ما معنى الشر أولم يقل الأولون "الخير امرأة و الشر امرأة"؟ غير صحيح بالمرة بأن المرأة خير بل أكاد أوقن بأنها كلها شر، هكذا إذا تريدين أن تفضحيني أمام زملائي الضباط والعمداء وأنا شخص معروف بنزاهتي واستقامتي ها..؟ سترين كيف أسير ببطء على الطريق السيار ملتزما أقصى اليمين كعادتي وسأضطرك إلى مراجعة نفسك أيتها الضالة المضللة..

ـــ عندما قلت أني سأكافئُك يعني أن تلتزم بمطالبي يا سيد عِلم، لا أن تفعل ما يحلو لك.

ـــ أبدا، أنا معروفة نزاهتي واستقامتي، ولن أقبل من أي كان رشوة حتى ولو كانت امرأة اسمها أيديولوجيا فانا مع القانون ماقِت لكل الأيديولوجيات، دينية محافظة أو متمدنة سافرة .. فهمتي؟

ــ فهمت يا عِلم حالما نصل أُخبر زوجي وأولادي، صحيح أنهم غير مسلحين وغير مُدربين ولا مفتولي العضلات مثلك لكنهم أقوياء في تكاتفهم بما فيه نهايتك "أشداء على الكفار رحماء بينهم" سترى كيف سيؤدبونك..

ـــ أنت تحلمين يا أيديولوجيا أنت وأمثالك من الأيديولوجيات متحجّبات أو غير متحجّبات جد واهمات ثم إلا تعرفين أنت وأولادك كانوا من هذا النحلة أو هذه الملة أنّ اسمي هو السيد علم السديد الذي تذوبن كل الأيديولوجيات في حضرتي بمجرد ذكر اسمي ومهما تكابرت مثلك مكابرة الأنثى متمنعة وهي راغبة، بل وتحاول أن تستثمر بخبث كعادتها أمام العالم أنها راكبة إلى جانب السيد علم، وفي عربته الخاصة ومارة في شارع وحي العلم بقرب لابريڤاد والرفاق، هذا معروف منكن والعلم ولله الحمد يقرأ نفسه من هذا الجانب .. فهو لا يقع من تلقاء نفسه فيكنّ أبدا ولو وقع لَمّا سُمي عِلما أصلا

ـــ إذن أنزلني هنا فقد وصلت .. اوووف .. إنك خنثى لا تقدر في الأنوثة حقها.

ـــ ومتى قدر العلم المفتول العضلات الناضح ذكورة سلك أيديولوجيا أسود مبذول للعوام بأقبح وأرذل وأشنع بذل سلك مُقيِّئ لكل من هب ودب، حتى أيديولوجيا الشوذوذية أنت مسخرة لهن تنظفين أوساخهم فكفينا سخافاتك يرحمك الله وابعدي اهلك عني بهم بأموالهم القذرة فأنا أضحيت أعرف فسادكم معشر اليسار النتن ولكثرة ما مررت قربَكُم درستكم دراسات علمية مستفيضة.

   وماهي إلا لحظات حتى نزلت السيدة وهي ممتلئة غيضا ومشت قليلا وهي مبتعدة إلى جيتوهاتها المعروفة، لكن في كل خطوة كانت تخطوها تفقد من هيولى جسدها قيد وزن كيل، ربما غيظ الإحراج الذكوري هو، أو لِمَا سمعته من دقة علم في حقها وحق أهلها وهي متباعدة ذائبة شيئا فشيئا من أمام ناظريه متلاشية مختفية حتى انتهت كليا من الزمان والمكان رزمة من الكتان الأسود وبقي بعد أن عصف ريح على حين غرة قرب منزلها في تلك الجيتوهات متلاعبا بجلبابها الأسود ليشي للتاريخ أن الأيديولوجيا في الأصل امرأة بغي في صورة امرأة شرف.

  .. وفي يوم من أيام الشتاء البارد رُئي شبح تلك المرأة المدعوة أيديولوجيا ثانية تطوف في نفس المكان الذي تعوّدت أن تطوف فيه وقد زاد هُزالها وافتعالها التقوى إلى أن صادفت زوجها السابق فسألها أين كانت كل هذه المدة فقالت له "كنت عند أمي في الريف" فقال لها: طيب أنت امرأة صالحة .. وقد كافأتُكِ بأن لا أسألك أسئلة غِيرة الرجال وشكّهم بنسائهم أبدَ الدهر فحلي ذلك لها كثيرا وبدت أن تطلق العنان بحثا عن ذلك السيد الشهم المدعو "علم" لتخُون به عهد عشرة وثقة زوجها، لكنها عبثا فتشت وفتشت فلم تجده، ما يُوحي أنه فارق مضارب الأيديولوجيات إلى هناك، إلى الضفة الأخرى حيث بلاد بني عمومته "بلاد العلم" غير أنه لما كانت متعودة على الخيانة طلبت علما عفوا طلبت رجلا آخر غيره في حي العلم القديم لعله يكون يشبهه شهامة فوجدتهُ على الفور، وتلبّسَته وتلبّسها كما يتلبس الشيطان للعلم فيغدو عِلما مزيفا ...

3 ــ المصطفى السعيد

 

  عندما مررت قرب بعضا من الجيران وأهل حيّنا سمعتهم يقولون إني مت! أجل، قالوا إني مِت في ديار الغربة بعد صراع مع المرض الخبيث! ولمّا ولجتُ عتبة باب داري وأنا مختبرٌ لذاكرتي وجدت أنّ من مات في نظر هؤلاء الجيران هو نفسه الذي يعيش بينهم غريبا لا يعرفون عنه شيئا بعد أن تحوّل إلى رجل آخر، غير الذي كانوا يعرفون ويمدحون ويتعظون، أما الذي يرون أمامهم كل يوم فهو بالذات ظِل ذلك الرجل الذي ركب موج البحر شابا يافعًا بعد نجاح مُبهر لكي يدرس هناك في بلد الإنجليز ثم يعود بشهادة الدكتوراه ، ولعل الصورة التي ظلت تمر أمامهم يوميا متخيلة بل ممحية لا يعرفونها بل يعرفوا بدلها صورة ذلك الفتى الطموح قبل عشرين سنة الفتى المفتول العضلات والكيّس الصالح الذي لا يعرف من جِد العلم غير قمّته، ومن قَوام الشّهامة غير تلك التي تنم عن رجولة واستقامة خلق، أما ذلك الشاب الكهل الذي فقد تلكم المزايا راجعا بخفي حنين من أرض الغربة فليس هو بل هو عزاء نفسه ومواطن عادي يعيش لخبز وحليب، واحد ممّن يتاخمهم الضعف والفقر من كل جانب فلا يُلفت لافتًا إليه إلا يوم يسقط على الأرض مغشيا عليه أو يقال أنه قد مات فيقومون مسرعين لمواراته و ربما يوارونه وبقايا من نبض لا تزال تنبض فيه!

  ثم قال آخر، فردا منهم، أنّ الإنجليز أقدم عروش عصرنا الحديث. فرد عليه ابن حيِّه قائلا وما مناسبة حديثك؟ فقال: ــــ على هذا التاريخ الطويل رأيتهم يفضّلون الهنود على العرب، قال: البارحة كنت عندهم، لأن أكثرية المهاجرين على أرضهم من الهنود والسيخ لم يعِرُوني أي اهتمام واحسب أني كنت الفنان العربي الوحيد بينهم، ألم يقولو أن نوحا عاش عشرة قرون إلا خمسين، ترى لو عاش إنسان غربي إنجليزي هذا الزمن أسيحكم بمثل هذا الحكم؟

ـــ كأنك تريد الإشارة إلى تاريخ ولادته الذي هو تاريخ الحروب الصليبية، والتي لم ينسوها أبدا وكانت بالنسبة لهم آخر حرب قامت بسبب العدوان والظلم، وجميع الحروب التي ستأتي بعدها ستقوم بسبب اللا مساواة واللا عدالة.

ـــ لو كان رجل على وجه الأرض عاش عشرة قرون سيكون شاهدا عليها، شاهدا على تاريخ الظلم واللا مساواة البشري وما بالك لو عاش أربعة عشرة قرنا أو يزيد سيكون حينئذ تجربة خارجة عن طور الزمن .. ولا يخرج عن طور الزمن إلا من تأله، ترى كيف سيكون شكله حينئذ؟ لا شك أن مظهره سينطق بدل لسانه وسينتزع صدارة عظماء الإنسانية من الأنبياء.

ـــ ها أنت قلتها بلسانك ورجعت تفاضل بين البشر، معيشة القرون والقرون ليس معيارا للحكم على الناس والمفاضلة بين الشعوب، سيكون كقطعة جامدة أُعيدت إلى عروقها الحياة بوضعها في مادة هلامية مليئة بالعناصر المغذية للعضوية طبعا، وماذا تعتقد أن يكون غير ذلك؟ أولم ترى جثة رجل عمرها 3235 سنة وُجدت قرب القطب الشمالي قيل حينها أنها جثة ميت ولم يُقل غير ذلك! وسيقال نفس الشيء عن الذي عمره 1,5 مليون عام وما بالك بالذي تجاوز عمره عشرات الملايين أو مئات، لا بل قل آلاف، بل ملايين الملايين، أخشى أن ما بلغناه نحن من تقدم علمي قد بلغته شعوبا قبلنا وتجاوزته لدرجة لا يمكن لعقولنا أن تتصورها، وربما كانوا مثل الآلهة غير مقيّدين بزمن أو أنفسهم تقمصوا الزمن فكانوا كالآلهة تحيط بالملكوت في نطاق محدد من الزمن. أرأيت ذلك الشخص النحيل الذي مرّ أمامنا منذ قيل ربما يكون كبير في العمر كِبرًا لا تتوقعه. لعل الإمساك بالزمن على مر الزمن أو مجرد محاولة فهمه يجعل من صاحبه خارجًا عن طور من قيّدهم الزمن بنفسه.

ـــ وما دليل حدسك؟

ـــ لأنه يعيش وحيدا في حيّنا ومن يعيش وحيدا في مكان واحد يستطيع أن يعيش وحيدا في أي مكان وزمان ولا يمكن أن يكون حديث السن.

ـــ أتريد أن تقول أنه إنسان مجرب أو حكيم مثلا.

ـــ أجل، وأكثر من حكيم لدرجة أن يتوفاه الأجل مرات ومرات في أعين الناس لكنه حي باق في عين الملكوت!

 

 4 ــ الحالم بفطير وحليب

 

     ما كان ذلك الحالم بدولة فلسطين وبدولة "عليها نحيا وعليها نعيش" غير حالم كبير بلقمة طعام يطفئ بها جوعه الطويل، وفي كل حين وحين رأيناه لما رأيناه فلم نره إلا كما يرى الناس شخصا طريدا أو جنديا فارا من صفوف الخدمة، كأنها كانت تطارده أعيننا فيستحيل معه البقاء في منتصف الطريق جحيما لا يطاق، لكن هو هنا باقٍ في القرية يسأل أهلها كسرة أو دُنيريات أو كسوة قديمة، مختفيا في جلباب مغربي معتوه يبحث في أكثر من مضرب عن مكان ملائم ليستقر فيه بعض الوقت من جناية الأعين والبرد، أجل، فقد كان عربيا فقيرا لكنه كان يقرأ ويكتب ولما كان يقرأ ويكتب قرأ كثيرا عن أرض كنعان، وعن أرض الميعاد، وأورشليم، وتاريخ الشرق الأوسط من بدء الخليقة إلى اليوم، قرأ وقرأ ففاته أن يعمل فسقط المسكين في في غفلة وسذاجة في فقر متصل.

ليت شعري، أخشى هذا البليد ليس بليد العقل ولا بليد الأصل لأن لله أصل عربي قح كنعاني صحيح ولكنه أوري شركسي أيضا، لذا كان بليد الأيديولوجيا التي اضطهدته في إنسانيته بالمقايضة: المقاومة مقابل الخبز والحليب.

وعندما دخل تائها كالمعتوه إلى بساتين العرب واليهود صرفوه عنها كما تعودوا أن يصرفوا الحيوانات ولكنه لما دخل ديرا غير مسيّج لم يجد فيه ما يسد رمقه غير شربة ماء من بئر عتيق من ثمة اتجّه إلى المنازل المحيطة بالدير، أخبره قس الكوخ المقدس الذي من رام الله أن الأهالي قد رحلوا طالبين أرزاقهم بعد أن اشتد سغبهم، منهم من اتّجه شرقا ومنهم من اتّجه غربا .. أما أنت فإذا أردت أن تُكسّر معي خبزا وتشرب حليبا ههنا فعليك أن تنفذ ما أمرك به: عليك أن تحفظ  للأرض كرامتها وكرامة الأرض هي التجدّد .. وكما ترى فكل شيء على هذه البقاع قد شاخ ومات، إن إرادة الله أرادت بالمسغَبة أن تُذهب بهذه الأجيال المتكلسة المنتهية الصلاحية وتأتي بجديد ينمو كما تنموا براعم الرّبيع ويتفتّق كما يتفتّق الزّرع الجديد الحامل تباشير الحلم الذي تتوق إليه.

ـــ كيف لي أن أُجدّد وأنا ميّت من الجوع؟ أتهزأ بي يا شيخ؟

ـــ ما أهون موتك الذي تدّعيه، موت المنبوذين هو! إنّ الموت الحقيقي هو عندما تطمح إلى غاية وتترك جميع الصّعاب دونك غير آبهٍ بها، تدعها تنهشك وتقهرك لكن لا تغلبك فإن غلبتك تسمى حينها مائتا، أن تُجدّد الأرض يعني أن تستميت في الدفاع عن الحقيقة ومن يدافع عن الحقيقة بشراسة لم يكن في يوم من الأيام مغلوبا ولا منبوذا.

ـــ كأني أسمع هذا الكلام لأول مرة، وأين هي الحقيقة؟ .. ما الحقيقة؟

ـــ الحقيقة هي أمام عينيك لكنك لا ترها وهي التي جعلتك تحلُم بالخبز والحليب لِتطفئ به جوعك، وهي التي ترك من أجلها هؤلاء القرويون منازلهم.

   لِمَا تُغالب بعد أن بدأت بتحريض من السماء؟ هل مللت ولم تجد ما ينير دربك ويجعلك تستمر؟ ولو أن الله لم يشأ أن تُجدّد الأرض ما كان ليجعلك والأهالي تقاومون بالجوع لا بالشبع فأنت كنت شعاع منفلت بسيرتك التي رُسَمت لك، تكون قد انتصرت وجدّدت الأرض، وقاب وقوسين أو أدنى أنت فاعل فلا تنتظر أن تمدّك السماء خبزا بعد أن هيأتك لها، هذه البئر قد طفحت بمياهها بمجرد أن خرجت إليك من كوخي فشمر على ساعديك واطرد بالهمة جبروت الخنوع، اقلِب وازرَع وانكُث عهد الشّبع بالمقايضة ترى أرضا جديدة كلها خضرة وسلام ومحبة.

 

في بيت الدجاج لا في خُم الدجاج

 

     لقد استبدت بالقوم أيام الحر، رشوة، واختلاس المال العام، وافتراءٌ وكذب، واستعمال المزور، وشراء لذمم ومصالح بالنفوذ والجاه، وجريٌ وراء الصدقات الشخصية، فكانت تلكم الأمراض الاجتماعية القذرة كمجمرة طُهيت عليها أعضاءهم عُضوا عضوًا، ولمّا جاءت أيام القر كانت النفوس هي هي، ولو أن "الأعضاء" قد تقلّصت أعدادها جرّاء البرد، فرأيت الفرد الواحد منهم من أفراد الشعب يحاول "الاصطلاء"، بما بقي لهم من نفوذ ومعرفة قديمة أو جديدة حتى لا يُرمى عضو من أعضائهم ثانيةً على مقلاة الطّهي، فتكفيه حينئذ قليل من التوابل ليُأكل عضوا عضوا وبشهية تُشعل الشهية .. ذاك ما عزم عليه مرؤوسي الشعب.

   ليت شعري، قد علمت بعد هذه الفاجعة التي ألمت بـ"الأعضاء" أمام المرؤوسين أن الدّيار التي يعج بها الوطن قد تقلصت هي الأخرى إلى أدنى الدرجات، وقل ترتيبها وتزيينها على غير العادة، لأن مرض الحر والقر لم يترك فردا من أفرادها إلا وأحال صحته سقما مزمنا وأفكاره هواجس ومخاوف من المستقبل فإذا عضوٌ شكت فيه بقايا الأعضاء بأنّ له ضلع أو فيه نزغ من فساد فرّت منه إلى الأعشاش، في كل ركن، وتركته كالمسكين يتلقّف حظه التعس في وسط البيت الخُم وحده حتى يراه المرؤوس فيسرع به إلى المقلاة أو إلى الثلاجة وهو يردد: ويلا لك أيها المفسد أما تستحي لوثت عرضك ووسّخت بيتك أيها اللئيم القذر ألا تستحي؟ وقد أمددناك بثروة لا تنضب ثروة أمة محمد القرآن وتاريخها المجيد الساطع الذي حدث (هل الحدث الحمراء تعرف لونها سقتها الغمام الغر قبل نزوله)، الذي حدث ذات يوم من الخامس من تشرين وفي 23 من يوليو وفي الفاتح من نوفمبر والفاتح من سبتمبر العظيم فأبهر العالم الحر والعالم المُستبعد ولم يترك قرنا من قرون القارات الخمس ولا فجا من فجاج البحور السبع إلا ولفتها إلينا فما لكم يا عرة البطن والفرج تنالون من وطنكم وبيتكم بهكذا جبن وخديعة، بل بهكذا جوع، وبتملُصكم عن الوديعة!

ليت شعري، قد علِمت كما عِلم مرؤوسيكم أيها الأعضاء المُدجّنون تدجين السادة للرق أن نعمة ربكم زائلة عنكم في القريب العاجل أو في طريقها إلى الزوال، فستضحون غرباء في هذا الكون كما كنتم أول مرة، فما تجمُّعكم تحت راية " الشعب" الواحد الأحد إلا وهم وهو لم يعد يجدي نفعا، وأن مرؤوسيكم أنفسهم قد أتت عليهم أوجاع الجوع وأسقام العصر الغير المنتهية فهم بالكاد قادرون على توفير جرعات من جرع الأكسجين التي باتت جد عزيزة أو أنه سيزوركم مذيعا عليكم أصوات مسجل يقول ويكرر على مسامعكم ليل نهار: "أشهد أن لا اله إلا الله واشهد أن محمدا رسول الله" عدة مرات، وقبل أن تسمعُون مقولته الشهيرة فيكم (اللي كْلاَ بالشّيشة كلاها بالحلال) يفرش أمامكم سجل الحرام والحلال القائل: من أكل حرام ينزعه منه بتطهيره في الحياة سلخا طمعا في دخوله الجنة، لا تخافوا لن يُرجم أو يُسلخ فيكم أحدا دون قاعدة قانونية ولن يُرفع على أحدكم باب سجل الحرام ويوضع له باب الحلال إلا بعد أن يقتنع الجميع أنه مِثل كما أن "أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون" مِثل أنّ بيتكم هذا وليس حيِّكم هذا لا خوف عليه ولا هم يحزنون، لأنه بيت ياما أعطى وجاد بالكثير من أعز ما يملك، جاد في أيام الحر والقر مقابل القليل القليل من بُر المساء والصباح، فقد بذل هذا البيت ما لم يبذله أولياء الله وحتى من شجي أصواته الفجرية العذبة وأعضائه البضّة ما شاء له أن يبذل.

 

الضرير المستكفي بضرره

 

    يُسأل ضرير من قبل صديق له: ــــ ما ذهب الله ببصر عبد من عباده إلا وأبدله بحاسة مثلها أو خير منها فتُرى ما أبدلك الله بها يا صديقي العزيز؟

قبل أن يأتيه الضرير بالفضيلة التي يكون منحها له الله تعويضا عن فقدان البصر يروح يسرد عليه مجموعة من أشهر عظماء الإنسانية الذين يكون أبدلهم الله خيرا ممّا افتقدوه، أبدلهم طاقات جمّة؛ بصائر وإبداعات جعلتهم في مصاف عظماء الإنسانية كلٌ في النول الذي يفقه.

" ـــ أتعلم يا صديقي المشاكس أن جبران الذي تاه متأملا في الذات التي وجد فيها بعضا من نابليون وفكتور هوغو وسقراط وسبينوزا وشكسبير وفولتير وبولس الرسول ونتشه وسيسرون وهنيبال وسرفا نتيس ولا فيات وغولد سميت وأديب إسحاق وبلزاك وتولستوي وولت واتمن ودي موسه وغيرهم، قد وصل إلى أرفع نفس يمكن أن تصل إليها نفس مبدع فنان، لا نفس حكيم أو نبي، ولعلّ العبارة التي تلخّص ذلك قوله: ÷ لا تحارب العالم من أجل شخص لا يستطيع محاربة كبريائه من أجلك ×

أجل، وصل به الأمر إلى ما وصل مُحاكيا مُعجبا بصنيعهم المُضاهي لصنيع العباقرة، لا طامحا إلى مجد العظمة وكبريائها، لم يكن يدري أنه هو واحد منهم في استنكافه عن الاجتماع بالناس ومخالطتهم ضعف نفسي خلقي، وقد أبدله الله به طاقة تحمُّل العزلة والتأمُّل الملي الذي ضخّت لنا من قلمه وريشته مشاعر وأفكار متدفقة، أخال أنها أنارت دربنا غير يسير من الزّمن كما تُنير طاقة الشلال الدافق كهرباءً، ضخ وأسال من حبر قلمه الكثير الأجود ما شاء له أن يضخ ..

ـــ لكن ماذا عنك يا صديقي فما ضخّت لنا قريحتك؟

ـــ لقد جادت عليّ بطمأنينة سرمدية غامرة، سعادتها كفعل هرمونات التي يحقنها الممرّض في ساعد المريض هي، أجل وقد تدفّقت في دمي فزكّتها خاثرة، فَرَضَت ولم تتطلع إلى ما ليس لها فيه لا ناقة ولا جمل، لقد جادت عليّ براضا النفس، ولعل عدم رؤية أمثالك من المشاكسين المتكلفين البحث في خبايا الناس وسرائرهم رضا خيرُ رضا للنفس.  

ـــ أنت تتكلم وتجادل بمثالية أصحابها ـــ وأخشى أنك واحد منهم ـــ وقد تجاوزكم الزمن وكأنكم في سكرة مثاليتكم مسجونين بالمؤبد.

ـــ إن ما تسميه فكرا مثاليا لم يبتدعه أصحابه هيغل، وهوسرل، وجبران إلا بعد أن وضعوا أنفسهم موضع عامة البشرية، ليس من ميزة بين عجمي وعربي إلا من يسارع في خدمة الإنسانية كافة لا خدمة الأيديولوجيا، ما يسمى أخلاقا (يجب أن تضبط في الفكر الأيديولوجي) ليست هي كذلك في الفكر المثالي، بل هي حاجات طبيعية عقلية في الإنسان، وتستطيع أن تثبت جدلية العقل والنفس/ الأخلاق بنفسك عن طريق الفن أو عن طريق تغيير البيئة من مكان إلى مكان، فستجد أن الأمازونيات يسخرن من النساء اللواتي يغطين صدورهن! ثم أن حتمية المسلّمَة التي تقول: كي يعمل لابد له أن يأكل ويتزوج هي حتمية مثالية، ولا يُحرم منها أي إنسان إلا من أراد إقصاء نفسه أيديولوجيا فيتطلع إلى إشباع نفسه وقبيلته بقيم المادة المغلفة بقيم الأيديولوجيا، وهي أنانية أولا، تقدم للنفس بتدخل الهواجس النفسية قبل أن تقدم للإنسان بتدخل من العوارض العقلية الطبيعية المدفونة في أعمق كوامن النفس، فما تسميه فكرا مثاليا جدليا من طبيعة الإنسان وليس من طبيعة الذوات، أي لا تكتمل عقلانيته إلا وهي مرتبطة بِما يُكمّلها ماديا بعد التحرر من النوازع والهواجس، بينما الفكر الأيديولوجي تستطيع من أول وهلة أن تلحظ التمايز الاجتماعي فيه، بل الطبقية ومصلحة السادة التي تقتضي عبودية، بالتالي اللا توازن في العمل ينتج عنه فقر، والفقر تكريس للأمر الواقع والثبات على القيم الأيديولوجية.

 

ـــ الآن زال قلقي لمّا اقتنعت أنك ضرير مستكفي بضرره.

         

 

 7. الجامعة والكلاب

   كانت البلاد تعد ما يربوا عن ستين جامعة بين رئيسية وفرعية وكانت تلك الجامعات يؤمّها الكلاب والقطط والجرذان من كل نوع وصنف، أما الجرذان والقطط فلأن بعضها يقع في مراكز المدن قرب الإقامات الجامعية أحيانا، ما ساهم كثيرا في تنقل الجرذان من وإلى الجامعة أو من وإلى الإقامة الجامعية بحسب أوقات انقطاع الحركة عنهما؛ إما منجذبة بالرائحة التي تخرج من دورات مياهها أو الأطعمة المخزنة في مطاعمها أو ربّما حتى قاذورات المفرغات تجذبها أيضا في أوقات محددة، فيكون بمقدورها التجول ببطء لأنها سمينة بين الأقسام والفصول في عز النهار، وربما بين بنايات المعاهد قاطعة الساحات دون أن يستوقفها أحد إلا القطط التي تعودت على حركتها بين الجامعة وإقامات الطلبة، لكنها في الحقيقة قطط جبانة تروح منتشرة في مواسم العطل بين المساكن القريبة من الجامعة ليلا لتجري وراء الفئران لا الجرذان.

   فجرذان الجامعات سمينة تهابها القطط الجائعة المجروحة ولا تقترب منها فيكون عدوها الأول هو الطعام المسموم الذي تتركه عاملات النظافة في دورات المياه وقرب المطابخ و النفايات، وقد تغدو الجامعة بإقاماتها مقرا لانتشار نتن الجيفة إلى الأحياء المجاورة بخاصة في فترة العطل لما يموت فيها كثير من القطط والجرذان إما لانقطاع مفاجئ للمؤونة في هذه الفترة أو لتناولها السّم، وربما يقفز أحد المتطوعين إلى الداخل لدفنها أو رميها بعيدا إن لم يتحرك أعوان الأمن القاطنين بحجة أن ذلك ليس من عملهم.

والحقيقة أن القطط الشاردة التي تتحرّك في الجامعة أكبر عددا من الجرذان والكلاب وقطعانها مشاهدة في كل الأوقات، أما أنواعها فمن كل صنف، منها الجرداء المسنة التي ليس لها مآوي ومنها المتجولة بالعادة ومنها الولعانة عشقا وغرام في القطات، لذلك قد يُسمع لها صوت يشبه صوت الرّضع والأستاذ يشرح درسه. ولعل جميع مهازل القطط والجرذان في جامعاتنا الوطنية لا يوازيها فتنة معشر كلبان بالجامعة توقا للعلم ولأشياء أخرى لا تعرفها إلا هي، بخاصة في الجامعات الواقعة في أطراف المدن كونها تصبح مرتعا للكلاب المشرّدة من كل الأنواع، مختلطة بالطلبة ولا أحد يتحرك إزائها، ربّما يقودها فضولها اتجاه الدرس دون أن ينهروها لأنهم تعودوا عليها.

إن غزو الكلاب للجامعات الجزائرية التي تقع وسط المدن مصدرها اثنان؛ إما تتبُّع خطوات أصحابها أعوان الحراسة الليلية وهي بدورها توقظ حاسة شم كلاب مجاورة فتتصل بها فيغدو أثير الجامعة أثيرا مُلتقطا من قبل حاسات شم كلبية عدة بعد مغادرة أعوان الأمن. وإما أنها تلجها من ثقوب الجدران أو قفزا من سطوح المنازل المجاورة بحثا عن الطعام ثم تبيت فيها طلبا للدفء وهدوء البال حتى يطلع عليها الصباح فتغادرها.

أما كلاب جامعات الحواضر فحدّث ولا حرج، فغير ببعيد ولج قطيع منها وفي موسم تزاوجه في شكل جمع كلبي ضم ثلاثة أنواع: كلاب رعي مشعرة مع كلاب سلوقية طويلة السيقان مع كلاب صفراء مرداء إلى أكبر جامعة سهبية جزائرية من بابها الخلفي حينما كانوا الحراس ملتهين في تناول ما وصلهم من مأدبة أحد رفاقهم العرسان وكان ما كان بعدها من أحداث. أما الجامعة التي تواجدت فيها كلابا عدة متقفية كلبة واحدة فكانت جامعة أصوارها بها ثقوب، أو غير مكتملة البناء أو قصيرة بشكل كافً فأضحت بذلك هذه الجامعة مرتع وساحة تصول فيها الكلاب وتجول خاصة في وقت ما بعد الزوال إلى المغرب حين تقل الحركة، أجل، فقد رئي يوما كلبا جامعيا ملتصقا بكلبة جامعية في مشهد فاضح، ثم دخلا الجامعة تتبعهما دزينة من الكلاب وهما في وضعية تناسلية لكأنهم كانوا يتظاهرون قرب الطلبة عرايا عنوة مطالبة يحقوقهم هم أيضا وليمتحنوا ردة فعل الآدميين المحاكين لهم خلف المباني الطرفية، فكان إذاك أن تجمع حولهم غفر كبير بين طلبة وأساتذة وأسلاك مشتركة في غياب تام لأعوان الحراسة الأمنية مصورين الفيلم و واضعينه على اليوتيوب فأثار الفيلم ضجة كبرى بعد أن نشرت الخبر جل صحف ووكالات أنباء البلاد، بل حتى قنوات عالمية جاءت بالخبر تفكيهًا. فتسبب فيديو كلاب الجامعة المسرب وبقدرة قادر من قطع دابر فساد كبير، أولا طيّر مدير الجامعة أعوان أمن عديدين والذين كانوا في وقت الحادثة في لهوهم محاكاةً، ثم ما فتئ بعد أيام أن وصل قرار فصل المدير نفسه من قبل الوزارة الوصية لسماحه بـ "التكوين العالي لمجتمع الكلاب" ثم تبعه فصل رئيس البلدية لأنه ترك الكلاب المتشردة تتكاثر.

 

الحرب الخاسرة

 

   جندي أثناء الاستعداد للحرب يتذكر عائلته في قريته البائسة وهي في غير مأمن من خطر الموت جوعا فيطلب معونة العريف في أن يسمح له بالذهاب لمد يد المساعدة لها ثم العودة لكن يفاجئ في أن العريف هو نفسه له جد وجدة فقيران ليس لهما من يكفلهما غيره بعد وفاة ابنيهما، فيقف وقفة خشوع أمامه ويستأذنه في الذهاب إلى العريف الأول لطلب السماح له بإسداء المعروف ثم العودة، لكنه يفاجأ بمثل ما تفاجأ به من العريف ويقرر الذهاب إلى القائد فوجد هذا الأخير في حزن وغم عظيم لأن كما قال أنّ عدوه لم يترك أسرته وشأنها برغم تخلقها وتدينها فاحتار الجندي من أمر الجوع والفقر الذي أطبق على عوائل قادة الجيش! متنبها في مثل هذه الحال إلى شيء غير محمود التنبه به وهو كيف لجيش أن يربح معركة حرب العدو وهو خاسر لمعركة الفقر والجوع ! بيد أنه ترك ذلك السؤال للمستقبل ومضى إلى أسرته بعد أن نجى بأعجوبة في حرب العدو الحقيقي اقفل إليهم بعد أن أسال له ببسالته العرق البارد، أقفل وهو حامل لهدايا كثيرة ومالا سيوفرُوه لتقلّبات الزمن كأنها هداية النصر على الأعداء.

   لكنه عندما شارفت عطلته على الانقضاء ذهب إلى بقال القرية للتبضُّع ففاجأه صاحبها بكارت يناصيب مع البضائع، وقال أنها كارتات كسدت في القرية ولم يشتريها أحد فقرر أن يهديها للزبائن مجانا قائلا أن من بين ربع مليون كارت هناك حظ واحد لربح المليارات.

ـــ "غاية أم وسيلة تسلية لا أدري؟ على كل حال سأحكّها عندما أصل إلى البيت" قال الجندي 

وصل الجندي إلى منزل عائلته الطّوبي وفرح الجميع بكثرة المآكل والمشارب هذه الليلة على أن يغادر في الصباح متجها إلى ثكنته لكنه في غمرة من سعادة اللقاء نسي أمر الكارت كليا. وعندا ركب في الصباح الباكر الحافلة وضع يده في جيبه لرؤية كم من نقود يحمل سدادا لأجرة الحافلة وكان الكارت مع النقود فحكّها بها ولمّا حكها وظهر له المبلغ المكتوب على الكارت وقف ومشى إلى السائق .. ثم لم يسأله قط بل توجّه إلى باب الحافلة وهي تسير على الطريق السريع وشرع في فتحه فصرح السائق ومعاونه في وجهه:

ـــ ماذا تفعل يا رجل هل فقدت عقلك..؟ أتريد أن تنتحر.. انتظر حتى المحطة الموالية وانتحر على روحك. يا خي حالة يا خي ..

ورد عليه معاونه: " ـــ لقد فقد الناس عقولهم .. لقد هبل الناس جميعا يا الهي ما هذا العصر الذي نعيش فيه! " ثم امسك الجندي من يده وهو يقول: ماذا بك ماذا دهاك ؟ كنت تطلب منا إنزالك أم أنك مجنون؟

  أجل، هكذا كان تصرف الجندي الذي يبدو أن الإرادة الإلهية اختارت أن تهبه مليارات من الدينارات دون الناس جميعا، وقد تاه عقله إثرها، لا ندري أمن شدة الفرح أم من شدة صدمة المفاجأة؟ حتى أنه حاول مغادرة الحافلة وهي تسير بسرعة 100 كيلومتر في الساعة. ثم ما أن توقفت الحافلة في أقرب محطة حتى نزل الجندي دون أن يدري لماذا نزل، حتى كاد أن ينسى حقائبه لولا المسافرين الذين احتاروا من تصرفاته ثم اتجه إلى أحد المراهقين وأراه الكارت ليتأكد إن كان فعلا قد ربح مبلغا أسطوريا من المال، مبلغ ولا في الأحلام ربحه جراء يناصيب لم يلعبها أصلا. فقال له الشاب مبروك عليك يا عم سأدلك على كْيُوسك اليناصيب لكن لا تنساني.

ثم ماهي إلا سويعات حتى أصبح صاحبنا مليارديرا، يملك أموالا لم تملكها كل أسر قريته مع القرى المحاذية لها مجتمعةً، ثم تلقى شيك العمر من يد السيد محافظ العام نفسه لكنه قبل أن يستأنف سفره رفع سماعة الهاتف ليخبر الثكنة بتأخره يوما آخر لأجل التفكير في هذه الأموال التي سقطت عليه من السماء بهكذا شكل وليتأمل فيما حصل له، أحرام هكذا أموا يناصيب أم هي حلال؟ هل يقبل بها وهو رجل كله عفاف وطهر وكرامة نفس، هذا ما ضّل يفكر فيه طول ليلته التي صرفها في فندق مريح اختاره لقضاء يومه مفكرا في الأمر دون أن يخبر أحدا إلى أن استقر به الأمر في الأخير حين تفتّق من فيض جوانحه فجأة، وطي الألم الليلي، الأنا العميق أو ذلك الهو عامل النفس ومصدر قوتها تفوقها أو تحلفها، أجل إنه "الهو" الحريص عليها من السقوط في المهالك خرج من ذاته كفجر صبح فضي أو كمولود قيصري ليخبر قرينه الهيولي بما هو آت:

 (( أنت رجل شريف أيها الجندي ما عرفتك هكذا، تأكل من أموال غيرك! عهدي بك أنك تكره المال الحرام برغم أنك غير متدين، هل تغيّرت وسفهت إلى هذه الدرجة؟ فأنت طول عمرك شهم وعزيز النفس كيف تأخذ أموالا ليست لك؟ عليك إذن أن تسلمها للمسلمين للانتفاع بوقفها ومن الغد افعل ذلك، اتّجه إلى دار الوعظ والإرشاد الإسلامية وأخبرهم بالأمر واترُك لهم الشيك وانصرف تعِش سالما والدين فيك جميل.))

9ــ ممثلين سذج لأيديولوجيا القهر والاضطهاد

   التقى شاب بصديق عمره فأخذه معه إلى مقر عمله في الجامعة حيث يعمل موظفًا، وهما في مقهى الجامعة يتناولان شايُهُما قال الشاب لرفيقه:

ــــ أترى كل هذا الجمهور واقفيهم بجالسيهم .. أترى ذلك الأستاذ الأقنوم الطويل الواقف هناك إنه ممثل ساذج لخطاب القهر والاضطهاد لأنه يدرس تحليل الخطاب.

ـــ أوَلأنه يدرّس تحليل الخطاب هو كذلك، غير معقول، لم أفهم؟ إما تفهمني أو تتقي ربك في عباد الله.

ــــ قلت هو كذلك لأنه يدرّس تحليل الخطاب، يدرّس تحليل الحطاب لكنه لا تستوي على لسانه جملة بسيطة خطابا، ففي لسانه عجمة اللغة فما بالك بالخطاب، وصنوه كثيرين دونه لا يحسن مثلهم الكلام بعربية سليمة بالرغم أنه قضى تاريخا من عمره يحدثهم عن الخطاب!

ـــ ربما يكون أمازيغي. مسكين، إذن هو من جامعة المدية أو البليدة أو الجزائر.

ـــ لماذا ذكرت هذه الجامعات بالتحديد؟

ـــ أنا أقطن في شمال الجلفة، وحين اتجه إلى فرنسا أين اعمل منذ حوالي عشرة أعوام، أمر بسيارتي على جامعة المدية التي تقع على طرف المدينة الشرقي ثم على جامعة البليدة التي تقع على طرف المدينة الشرقي الشمالي هي الأخرى، وأخيرا على جامعة الجزائر التي تقع هي أيضا على طرف المدينة غير بعيد عن مقر عملي، وكثيرا ما شهدت الداخلين الخارجين إليها وهم يخاطبون بعضهم بعضا جماعات وفرادة.

ــــ اهههه اهههه لالالا ، ليس هذا ما قصدته، أههههه .. أنا كنت أريد إفهامك أن كل الجزائريين والمغاربة يتساوون في هذه الإشكالية، لأن النقد والأدب أصبح يطلب كعلم وليس كفن.

ــــ لكن أين الاضطهاد والقهر؟

في اللحظة التي حمي فيها وطيس الكلام جلس بقرب الشابين مجموعة من الأساتذة فحمل الشابان شايهُما وابتعدا وتمشّيا معا عبر الحديقة، أين راح الشاب يقص على مضيّفه متفلسفا تفلسف مشائي أرسطو قائلا: أما القهر ــ كوني شاهد عليه لمّا درست عند بعضهم ــ وهم إزاء هذا الوضع الكارثي لا يطلبون المناقشة مع طلبتهم وكأن في خطاباتهم قمة الفصاحة والبلاغة لا يطلبون السقطات أبدا .. ممنوع التحدث عن الأغلاط اللغوية ولا مناقشة القضايا الفكرية التي ترتبط بالدين أبدا، وهذا هو القهر الذي درجوا يربون عليه الأجيال، بل يفطرونهم على القبول بالأمر الواقع أبا عن جد.

أما الاضطهاد فهو اضطهاد الموقف إزاء كل قانون أو نظرية يمدّونها لطلبتهم، فعندما يعيدونها طلبتهم إليهم بالشكل الذي أمدوها لهم عن طريق الامتحان أو الواجب أو البحث العلمي فإنه يجب على هؤلاء الطلبة أن يبالغوا في شكرهم يعني إسداء الشكر الغريب هكذا : شكرا شكرا شكرا أستاذ بل "شكرا مليون شكرا " وهم مطأطئي الرأس كرقيق عصور العبودية.

ـــ ولكن على ماذا على ماذا كل هذا الشكر؟

ـــ على لا شيء! إنه الاضطهاد ليس على ركاكة اللغة والأسلوب يُطلب الشكر لكنه يطلب على مجهود الإمداد بالركاكة والفجاجة الشديدة في الخطاب! كأنما هو ليس موظفا يأخذ رزمة من الأوراق النقدية كل شهر، إن أشنع رأسمالية القرن العشرين لم تشهد اضطهادا كهذا الاضطهاد. لقد علِمت لمّا اقتربت من هؤلاء المساكين أنهم لو فتحوا أفواههم وتكلموا لا يمنحون علامات النجاح، فهذا الاضطهاد صعب لأنه سيف مسلول على الرقاب بمنتهى المكر، بطون هؤلاء المساكين مع عوائلهم ليسوا في قبضة العلم لكن في قبضة عصابات جد منتظمة، ولم تتغير برغم تغير الذهنيات وزوال الأيديولوجيات.

 

10. عصيدة بالحديد

 

عندما عاد المساجين إلى غرفهم سأل بعضهم ممن لم يبرحوا أمكنتهم بعضهم الآخر عما أكلوه في غذائهم فرد أحدهم: أكّلونا عصيدة بالحديد.

ـــ إنما العصيدة عرفناها وياما أكلنا منها بس الحديد موش عارفينو؟

ـــ آه فهمت مناوشات من جديد يعني ضربوكم ضرب مبرح مثل اللي يضرب بالحديد! صح؟ قال مسجون آخر

ـــ والله لا! كل ما في الأمر أن طبق الحديد اللي تعوّدنا عليه بدل الطباق الزجاجية ما فيهش حاجة بس بيضتين مسلوقتين ورُز يابس لا يصلح إلا للدجاج مع حبتين تمر مدودتين.

ـــ وفين العصيدة؟

ـــ العصيدة عَمْلِينها بالطحين والسّمن العادي وملح زي اللي يعملوها العجايز عندنا في الصعيد عشان أسنانهم خربانة، والعصيدة ديا علشان الناس الرجيم اللي عندها تسوس وتعبانة من أكلة الروتين. يعني حطِينها في وسط المطعم اللي عاوز يغيّر الروتين ياكُل ويغيّرو

أهو زي ما أنت شايف أكلنا عصيدة وحدها، أكلناها في طبق حديد .. أكلنا العصيدة من غير عسل يعني الحديد كان هو العسل ... اوووف زهقنا .. ما كفايا بق

ـــ كثر خير دولتنا.. تحيا الثورة .. عاشت الأمة العربية يعيش احمد عرابي.. عاشت الثورة الزراعية، لازم تشكروا ربّنا عالنعمة ديا .. يا ناس تتسجنو في مصر ولا تتسجنوش في أي حِتّ، دي الحياة عندنا أرحم بكثير من فلسطين ومن العراق ومن سوريا، لازم تحمدو ربنا.

ــــ عُرابي إيه ووحدة إيه ودولة إيه موش واخد بالك ولا إيه؟ إحنا موش في مصر إحنا في إسرائيل أيوة المَّال بقلنا 49 سنة واحنا مسجونين في إسرائيل وابتُوع السجن يكذبوا علينا يقولو إحنا في كفر الشيخ ومرسى مطروح .. لا إحنا في إسرائيل ودولتنا بقلها خمسين سنة نسيتنا ..

 

11 ـ حين كلمتني أضاحي العيد

 

كلّمتني أضاحي العيد عشية يوم العيد فقالت: يا ابن الجنة لا ابن الإنسان ادنوا منا نحدثك!

ولكن خوفي كان أشد عليَ وطأةً من أن أدنوا منهم، فانصرفت وجلاً ولم أبت تلك اللية خوفا حتى إذا طلع صبح نهار جديد جبُنت واختصرت الطريق إلى المدينة دون أن أسلك طريق المزرعة

ـــ « إليك عن هؤلاء البشر إن في هجرك لهم سلامتك » قالت خراف المزرعة من بعيد وهي تحيي فيا إخلاصي .. وكأنها كانت تتحدث إليَ عبر مكبر للصوت أو هاتف خلوي غير مرأي

ـ .....؟!!!

... صوت مهموس اسمعه بقرب مني كأنه سماعة أذن ... ـــ أدنو منا ولا تهب ادنوا منا نغطيك بصوفنا ونروي عطشك من لبننا فأنت ولد مخلّد مثلنا .. ×

ـــ ولد مخلد!  ما أنا بجان ولا عفريت ابتعدي عني أيتها الجن المُخرَورَفة ابتعدي مني واتركيني في آمان .. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم أعوذ بالله وباسم الله أعوذ بالله وباسم الله لا أريد منك عطفا ولا شكورا فترُكنِي واغربي عني إلى جحورك النتنة أيتها الشياطين الخبيثة

ـــ « أمْ صه، اقترب ولا تجزع نحن رفقائك في الجنة » قالت خراف العيد الرابضة قرب المزرعة بلسان واحد ثم أحنت رؤوسها تقضم الأحراش والأحزان ثم تقدمت كبيرتهم النعجة:

ـــ ما با لك يا ابن الجنة نحن ملائكة السماء فهل تخشى من ملائكة السماء وأنت منهم؟ اقترب ندنوك من وعدك ومن لحوم أضاحي الجنة نهديك، ادنوا واقترب، نخبرك بوعدك الذي وشى لنا به الرب عندما قرب وقت العيد .. وبأنك ستقيم معنا يوم الميعاد عندما نعقل و يجنُّون عندما نُلحم ويُعشبون هؤلاء البشر، فيكتنزون شحما و لحما حلالا لنا وسيمشون على ضفافها على اثنين، لكننا سنذبحهم ونشوي لحومهم اللذيذة يوم العيد، وعلى جمار الجنة ونحن نمشي على اثنين. 

.. أعوذ الله .. أعوذ بالله ما هذا غير صوت عفريت وادي الصرف الصحي المار قرب المزرعة يريد الإيقاع بيني وبين سنة إبراهيم الخليل. تلبسني الشيطان الرجيم حتى بهيئة خراف العيد هكذا ودون سابق إنذار، فكم أنت ملعون إلى يوم يبعثون يا من تركت الواد القذر يمر من ههنا.

12 ــ شجار شعبوي على خلفية "التّفليق"

   ذات سبت مشمس جلس شيخ مسن مرتدٍ لعمامة وقشّابية بيضاوين قرب ساحة البريد المركزي. بدى ذلك الشيخ الذي تدل ملامحه أنه من منطقة الأطلس البليدي أو الونشريس، وكان وكأنه سارح بفكره مسترجعا ذكريات مظاهرات الأمس الجُمُعِية، تلك المظاهرات التي درجت دورية تغص بالشباب والغوغاء من كل الأصناف عاطلين، منحرفين ومرتزقة وحتى العاملين الموسميين.. إلى أن قطع تفكيره شخصان يتعاركان غير بعيد عنه وعن مركز الساحة.

  أجل، حيال شخص هَرِم يناديه أطفال الساحة ب "المعلم الأبيض" تحقيرا وسخرية، لشبه موجود بينه وبين أبطال الكونغ فو المشهورين، قعد المعلم الأبيض قعدته المعهودة على أدرج البريد المركزي الجانبية وهو يجلو بطرفه إلى أقنومان غريبان وبانتباه شديد، وهما يناوشان بعضهما بالنظرات الحادة ثم بالكلام والسّباب، أما أحدهما فكان طويلا أجرد، صلعةُ رأسه مدببة منتصبة فوق منكبيه، كأنه مصارع جيدو محترف والآخر كان قصيرا ملتف الشحم واللحم حول جانبيه، خلقته مكببة كالكباب أو كوّر الشحم التي تصنعها عجائز البوادي، وفي غمرة من بَحْلقات وحِنق شديد إذْ بهذا الأخير يقول لخصمه:

ـــ إذا لم أُتَفلِقُك يا تبون مزود تبن لا تسميني أبو تفليقة.  فرد الآخر عليه قائلا:

ـــ ها هاهه..ها..هاهه، وما معنى أُتفلِقُك؟

ـــ معناها أن أباعد بين فلقتي دبرك فلقة فلقة، واحدة تروح ذات الشمال والأخرى ذات اليمين حتى يظن الناس أني أهيِئُك للنكاح غير أني أُمهلك حشمة منهم فلا أفعل.

فحنق الذي اسمه تبون حنقا شديدا كاد أن يخرج من جلده ويرد عليه قائلا:

ـــ إذن أنا من سينكح أمك .. إثرها هاجمه أبو تفليقة شادا برجليه محاولا طرحه أرضا وهو يقول: وأنا انكح أختك يا مُرضي..

ـــ أريني إن كنت تقدر.. إنك مخلوق للقوادة و الانبطاح يا كلبة يوليوس..

وبدأت معركة الأيدي والأكتاف والأرجل المتمرّغة على الإسفلت الأرضي الذي قرب البريد المركزي وهي تشتد بينهما والمارة المتفرّجون عليهم يتجمّعون رويدا رويدا، منهم من هم في سنهما تقريبا ممّن يحملون صيتا و وقارا وطنيا وثوريا في الحي ففضّوا التشّابك بينهما بصعوبة بالغة، الأول أمسك بالرجل الفرطاس المدعو تبّون دافعا إياه بقوة والآخر أخذ معه أبو تفليقة بول دو سويف، لكنه كان الأكثر حنقا ونرفزة من غريمه لمّا جرّوه بقوة سُمع صوته من بعيد صارخا كالمجنون "سأُتفلِقُك أيها الخنثى أُتفلِقك.. وأنُصّب مكانك شقيقنا وقرةّ أعيننا السعيد أبو تفليقة" ثم استطاع أن ينفلت من ماسكيه مندفعا بقوة ناحية تبونا لمّا سمعه يرد عليه قائلا:

ــــ تتفلق أختك يا نقش الصحرا 57  وهو .. يقاوم .. ويقاوم ليسرع إليه ويُوّجه له لكْمة ممّا حدا بالحضور إلى الجري ورائه جريا مثيرا للضحك والسخرية حقا لمنعه.

ــــ عشرون عام ونحن نأكّلكم كفاف عيش ونؤمنكم من خوف انقلاب الأزمنة تجي أنت اليوم يا مُرضي تقول لي هذا الكلام غاية! عشرين عام يا عباد الله وصْحابي أويحي وسلال يْقَوتُوا فيكم ليل ونهار تركوا عوائلهم ونساو صحتهم من أجلكم واليوم تقُوموا راميينهم في لَحْباس يا زعكة اليهودي.. ها يا وجه المُوفيصُو

عندها لم يتمالك تبون أيضا نفسه قائما متخلصا من ماسكيه مسرعا كالبرق إلى خضمه لضربه لكن القوم جروا وراءه وامسكوا بع وأبعدوه وهو يبزق على أبوتفليقة ويشتمه شتائم تغيض الأبالسة والناس يرددُون "يا راجل العن الشيطان العن الشيطان" ما حدا ببوتفليقة إلى محاولة نزع ثيابه والجري إلى تبون للكشف له عن عورته، وإنما جرى ذلك كله أمام أعين المعلم الشيخ الأبيض المعروف عند العامة والخاصة أنه حكمة الله على الأرض. والذي وأخيرا نطق حِيال حشد من أناس الحي الوقورين المسنين المتجهين صوبه وهو يشير بإبهامه إلى المتشاجرَين الشّعبويين قائلا:" إن شرّ البلية ما يبكي بل ما يدمي القلب حقا، أنتما في الهوى سوى، وإن الأيام بينكما لَدُول؛ ألم يرسل الله عقابه إليكم طاعونا اسمه "الكورونا"، هذا الكورونا لم يخُص به جلّت قدرته لا الصينيين ولا قوم عيسى ولا اليهود، بل خصَّ به هذه الأمة المنافقة، والتي لا زال القوي الغني يأكل فيها الضعيف الفقير بقوة القانون"

   أجل، في هذه البلاد يفر المدني إلى المنفى ليموت هناك مغتاظا من غدر أصفّائه، ويسقم العسكري حتى الموت وهو بين أحبابه، وخلانه، والجزائر شيخٌ يجلس القرفصاء عند مدخل البريد المركزي ينظر إلى صورته على جدرانه المصقولة مدندنا ومُعجبا بنفسه ليواصل الدّندنات الطربية المسكوكة على المارة مُتحمسا، دندنات وكأنها من عالم المجذوبين متلقّفة، من تذوّقها أصيب فورا بتخدّر وسواسي أو سحر يجعله يُغيّر وجهته وينسى هدفه.

 

13 ــ أصحاب الرّامتان وأصحاب وأصحاب الأخدود

 

أمتّان متجاورتان شاء لهما أن تعيش كل منهما عيشة ود وسلام، واحدة كانت تقع في الشمال ويقال لها لبنان، وأخرى في الجنوب ويقال لها إسرائيل، غير أنه بعد هذا الود والمصافاة ما برح أقوام على شمال ويمين الأمّتين يزرعون العداوة بينهما، لقد اتفقوا أن يعكروا صفو هذا التعايش السلمي حسدا وغيلة فخرج منهم إلى أرض لبنان أناس متعصبون للعقيدة والمذهب، فهم عرفوا أن هؤلاء مسيحيين وأولئك يهود ولابد من التفرقة بينهما لأن شريعة هؤلاء مستنبطة من شريعة أولئك فدخلوا بين المسيحيين عن طريق المداخل الشرقية حتى بعلبك من ثمة إلى صيدا ومرجعيون ولأن المسيحيين أقوام ميالون للسّلم سمحوا لهم بالإقامة بينهم ما دامو يحصّلون لأرزاقهم ورزق الوطن أولا وأخيرا من سواعد الجميع، ثم ما المانع مادام طاب لهم العيش بينهم. لكن ما فتئ هؤلاء القوم الداخلون أن تكاثروا وتناسلوا كثيرا ونسوا مواثيق الأمن والآمان المعقودة بينهم وبين المسيحيين واتخذوا المذهبية عنوانا للتقدم فزرعوا الحقد وأوغلوه في نفوس أبنائهم وزرعوه في جنوب لبنان على طول الشريط الحدودي مع إسرائيل عوض أن يزرعوه زرعا ونباتا، فما كان من أهل البلد الأصليون إلّا أن ذاقوا ذرعا بنكثهم للعهود والمواثيق وبدأوا بإدانة عملهم ومجافاتهم، وراحت أمة المسيحيين المخترقة بهذا الشكل مع جارتها أمة إسرائيل تحاولان تعليم المنتكسين من عتاه الشيعة وغلاتها ممن قدموا إليها من فجاج اليمن السعيد الجبلية ما هو مطلوب منهم عمله؛ إما فنا وأدبا أو استنباتا للأرض وتشييد لمصانع التمدن لكن دون جدوى.

 لقد فطن المتمذهبين بمذهب النار والحديد أن أريج السّلم المنبعث من لدن الأمتين الجارتين هو من جعل منهم قوما، لكن لم يعترفوا وتكبّروا، فهم ما جاءوا لذلك السّلم بل جاءوا لإثارة النعرات بين الأمتين المتجاورتين، فأصرّوا على الغل والنار والحديد وحرّموا الفن والأدب وحفروا الأنفاق، وأقاموا الأخاديد باحثين فيها عن معدن الأورانيوم فغيّروا بحفرهم مسار الوديان فهلك الزرع والنبت إلا قليلا، وهكذا تصوروا أن المزية في الجبروت والطغيان كما تصوّر الشيطان نفسه أنه مخلوق ليكون أفضل من غيره من المخلوقين مثله غير مساوٍ لهم. بيد أن دوام الحال من المحال فقد جاءهم برهان وقوف العدالة الإلهية إلى جانب الأمّتين المتجاورتين المتسامحتين المتعاهدتين على الخير والسلام حين كُلّما كَبُرت أمة مجاورة لهما فتفرعنت على جارتيها الصغيرتين تهديدا ووعيدا جاءت أمم أقوى من بعيد كي تسحقها وتعود من دون طلب الدولتين الصغيرتين منهم ذلك.

وعندما ادّعت فِرقا وأحزابا مُجبولة على الطغيان والتجبُّر همها حفر الحُفر بغية إعادة إحياء صنيع أجدادها غلا وجبروتا لرمي الناس في لهيبها، وهي متغلغلة دوما طي أجنحة الدولتين الأمتين تدفأ وتأكل وتكتسي من خيراتهما لكنّها لا تشكر، غير مبدية سوى لمزيد من الحقد تلو الحقد، ادّعت أنها أعراق أصيلة ذات حقوق مسلوبة وهي بصدد إفناء الدولتين الجارتين، فأخرجتهم الدولتين من دارهما وطردتهما من رحمتهما، فأدرجتهم الأمم الأخرى في سجلاتها لحفظ الأمن والسلام العالميين كمنظمات إرهابية خطيرة مدونة على سجلّاتها تلك عوضا عن الدولتين الجارتين الكلمات التالية: ( لِمَا تتوانُون أيها الإرهابيون في حفر الأخاديد تلو الأخاديد مشوهين الرامتان مخر بينها وكأنكم على غير علم بخبر إرمَ ذات العِماد) فردّ حُفّار الأخاديد بعنجهية دون تروٍ قائلين: ــــ من كلّم موسى قادر على ضياعه في الصحراء وهو على ضياع الدولتين الجارتين القذرتين بقادر!     

14. التّيس الأعمى

كان هناك في براري إفريقيا الشمالية وتلالاها الغربية تيس أعمى يقود قطيع كبير من الماعز وقد كان بصيرا جمّ النشاط قبل حلول الربيع.

ـــ "ماذا حل بالفحل أخبرني بسرعة ويحك؟" قال مالك القطيع لموظفه الراعي الخمّاس.

ـــ لا أدري يا سيدي لكن كما تعلم أن الماعز يُحب المرتفعات كثيرا فعندما حل الربيع ذهبت بالقطيع إلى المرتفعات لأنوّع لهم في المأكولات لكن بعد أيام لاحظت سلوكا غريبا لفحلنا التيس أحضرت له البيطري فقال لي أن التيس فقد بصره نتيجة نوع غازي من النباتات يكون قد أكلها.

ـــ ولماذا لم تخبرني أنك ستقود القطيع إلى الجبال؟ ها .. ؟ أمليح يا سيدي الربيع في كل مكان وأنت تصعد للجبال كأنك ذهبت تتغوط هناك .. سأعاقبك أشد العقاب أيها المجرم 

وعندما انسل مطأطَأ الرأس سأله سيده ثانية:

ـــ وكيف عرف البيطري أن التّيس مصاب بالعمى فإني رأيته بالأمس يقود القطيع! كيف بقي فحلا ولم يتراجع أو لم تغلبه التيوس الصغيرة إذن؟ يعني هل أعطاك دليلا قاطعا أن التيس فقد بصره، أخشى أن الطبيب يكون غير صائب.  ثم أي حشيش ذاك الذي يُفقد البصر! قنب هندي؟

ـــ لا يا سيدي       

لقد سمعت بجزيرة تدعى جزيرة الماعز، قيل لي أنها هناك على بعد عدة أميال من سواحل جزائر بني مزغنة. ولما ذهبت للبحث عنها لم أجدها إلا بصعوبة بالغة كان في بالي أنها جزيرة كبيرة تحتشد بالماعز والتيوس صنو جزيرة الماعز الأمريكو لاتينية، هناك وجدت أربع جزر وبينها جزيرة صغيرة جدا بمساحة 200 متر مربع ولمّا دلوني عليها لم أجد فيها لا ماعز ولا تيوس كلمّا وجدته فيها هو رجل مسكين وقد كلفوه بحراسة ثمار أشجار الزيتون المتواجدة بها. فكنت عزمت أن أسال رعيان الماعز عن تيسِنا المنكوب غير أني لم أجد غير هذا المسكين فاعتقد أني قصدته لأجل قنينة من زيت الزيتون، كما يفعل غيري لذا كان قد أخرج إليَ لتوه عندما وقفت قبالته بالقنينتين وقال:

ــــ أمّا هذه فبألف دينار أما هذه الصغيرة فهدية مني لقطعك كل هذه المسافة لأجل زيتنا الجيد.

ـــ "لكن أنا لم آتيك لأجل زيت الزيتون .. رد الراعي الخمّاس .. لكن أتيتك لأجلي تيسي المنكوب.

  فهز الحارس راسه وقال له بكل وثوقية أوصيك أن تذبحه وتلتهم عينا وتترك لي الأخرى فهي مفيدة للحسد هكذا قالوا ناس زمان فأنت وأنا كلانا مصابين بالحسد وأنا كما ترى قد أفلست منذ قرابة الشهر بعد لم أبع قنينة واحدة.

ـــ لكن لست أنا صاحبه أنا مجرد عامل بسيط.

ــ فهمت، فهمت، إذن فإن جمهورية أرض الجزائر التي تنتج زيت الزيتون وتملك أكبر قطعان الماعز في العالم هي مشروع دولة القانون والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وهي التي على علَمِها خمسة نجوم بدل جمهورية الجزائر الحالية فارجع إليه وقل له ملّكني أرض الجزائر تُنتج الأرض عنبا وزيتونا وتأتي من كل بطن توائم. فإن أمارة التيس الأعمى هي أن أصحاب الأرض مُغيبُون بل الأرض نفسها مُغيبة، متباعدة شقاقا تعصبا وعداوة لا تنتهي عن ذويها الحقيقيين. 

 

                                           انتهى

كانت هذه المجموعة الثانية مجموعة "الإنسان والأيديولوجيا" بامتياز

ويعتزم الكاتب بعد صدور المجموعة الثالثة أن يجعل من المجموعات القصصية الثلاث كتابا أثيرا في القصة القصيرة جدا المعاصرة.

 

للتحميل انقر على الرابط التالي:

 https://fr.scribd.com/document/416166837/%D8%A7%D9%84%D9%87%D9%8F%D9%85%D9%86-%D9%88-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B5%D8%B7%D9%81%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%B9%D9%8A%D8%AF-%D9%85%D8%AC%D9%85%D9%88%D8%B9%D8%A9-%D9%82%D8%B5%D8%B5-%D9%82%D8%B5%D9%8A%D8%B1%D8%A9-%D8%AC%D8%AF%D8%A7 





author-img
موقع تنويري فكري وشبه أكاديمي، يتغيا تقديم إضافات نقدية تخص تحليل الخطابات الثقافية ونظرية النقد والأدب متوسلا بجماليات التلقي والنقد الثقافي، كما يعنى بنشر إبداع قصصي جديد ليس له ما يماثله على الساحة الجزائرية، والمقال المتناول للشؤون السياسية والإعلامية والاجتماعية المقاربة للظاهرة الأدبية والمحاكية المكملة لها.

تعليقات