القائمة الرئيسية

الصفحات

رؤى نقدية (8) عن إشكالية اللغة العربية وأدبها في الجزائر







عن إشكالية اللغة العربية وأدبها في الجزائر

بوزيان bouziane/باحث


1.10 ـــ أتُراه يهدي قومه غير آخر المستنصِرين بالأدب؟

 

    كان قد جاءكم بنية صادقة كما يجيئ المخلص، كان قد جاء إلى هذه الدنيا ثم ما فتئ أن مضى كما تمضي سحابة صيف وإلى الآن ظل يستوقفهم عند مقولة " لم أزل جاهلا فيكم" أسوة بأخلاق و تواضع المخلص! لم يلتفت إلى الوراء ذات اليمين وذات الشمال إلا كي يرى بنفسه و يتأكد هل حقا إلى الآن لم يزل جاهلا!؟ فقد أصغى خلفه إلى ما يشبه وقع أقدام فسبحان الله، أكان هناك من كان يتتبع خطواته محاولا ثنيه عن فك قيود الجهل؟ وكيف لهم تَتَبُّع جاهلا أدرك ألفبائيته في العشرين و راح يقرأ بجشع دون هادٍ ولا معين فتاه إلى نبي جبران مباشرة و لم يتمِمْه إلا وقد بلغ الأربعين، كيف لهم أن يترصدوا صعلوكا شذّ عن قيم القبيلة ثم انزوى عنهم مائت الحركة والنشاط لأنه مُحبك الجهل؟

 

    ظلّت كل تلك الأسئلة المحيّرة تقض مضاجعه ، بل تقتله ، إن لم تحيونه فإنها تطارده إلى أقاصي الفكر الذي فيه هلاكه، لكن ليس ربّنا ما خلفت هذا باطلاً فقنا عذاب النار و لكن ربّنا ما خلقت هذا باطلا إن العقل ليخسئ وهو حسير ألا فحُقّ لك أن تفعل بنا ما تشاء ، و لكن وسعت رحمتك كل شيء .. من ملايين السنين و واد النيل جاري مجرى مشيئتك كم و كم من حيوان و شجر؟ كم من جد و فتية يافعين كم من أولاد و صبايا ، كم منهم قد مروا عليه، ترى أين هم جميعهم؟ تعاليت فسبحانك ذا الجلال و الأنعم المنهمرة ، أوَلم يدرك كنه حقيقتك غير اثنان : متأمل متشكك و متواضع عارف لقدر نفسه؟

كالبارحة و كاليوم و كغدٍ ما برح رابضا في نفس المكان كما تربض الحيوانات بل ما برح حيوانا يأكل و يروّث غير أنه وقف سعيدا مع نفسه يلهيها أحيانا باجترار ما كان وما لم يكن من لحظة مولده إلى يوم يبعث حيا، و أحيانا ﺒ " التزكّي" قرب روثه! و أحايين كثيرة بالاستثمار في ربوضه، كأن يصنع أدبا ونقدا، أجل يصنع نقدا خليق بأن يؤثره على ما سواه من الصنايع و أن ينقّحه و يدقّقه ويصوّبه دون ملل أو كلل حتى يخرج به من حيوانيته فيقتات من عرق جبينه. بيد أن كل شيء لم يسري على ما يرام لأنه قد مضى على / وفي تحيونه مدد أطول، فتطلب استعادته لإنسانيته مرة أخرى مدد أطول، سارت به فأدخلته مرحلة الشيخوخة. فسلِم حقا و خاف مقام ربه ثم اتّعظ من رآه وسمع قصته ، و شقى و عميت بصيرته أنانيةً ومصالح شخصية من أبى ، فهو كان بإزاء وطنه وطنيا شامخا لا يضاهيه شموخا أحدا ، لكن إزاء دينه كان مُصلحا منتقيا بما لا يعطل العقل فيجر به إلى حيوانيته ثانية، و هكذا دواليك آثر الزهد و التقشف كالمتصوفة بيد أنه لم يكن منهم و استوطن مدن الخيال ردحا و آثر البراري الخوالي و الجبال المستوحشة عمره كله بيد أنه لم يكن أديبا مجاهدا بالقلم ولا رحالة مستكشفا بالعلَم! لكن كان مهوسا ينبض بالشك.

كالحيوان كان، في خرصه، لكن إنسانيته وعقلانيته العلمانية[1] فاقت كل تصور فهو ما برح يدافع عن الأدب الجزائري الذي أضاعته حيوانات ناطقة بطريقته الخاصة التي لا يضاهيه فيها أحد فما بالك إذن لو كان إنسانا ناطقا. إنه مازال يقول لهم ساخرا إنكم تسخرون من أنفسكم يا رؤوس المحنة و تلحقون بها أذىً ومزيد حقارة. أيها النقاد و الأكاديميون الجزائريون بخاصة أنتم القابعون في بروجكم العاجية في مدنكم الساحلية الكبرى أنتم الأسوأ على مر الدهور فمتى ستستفيقون من غفوتكم؟ كنت فيكم سأبجل محمد أركون و الجيلالي اليابس و ملك شبل و العربي سعدوني و الآخر الذي و الأخرى التي من فلاسفة ومؤرخين و علماء اجتماع ، لا فرق بينهم و بين الطيب تيزيني و صادق العظم و السيد ياسين علما عندي. غير أنه في ميدان الأدب فلا و ألف لا ، مع اللغة العربية وأدبها الأمر هنا يختلف و من أجله كنت قد جئتكم مثل ما جاءكم المخلص الذي لا يعرف عبارة " اخطي راسي" ولا يعرف عبارة "شوف صلاحك" باختصار لا يعرف النفاق و التملق، فكم تخدعون أنفسكم يا أبناء جلدتي و أنتم تعرفون و تتظاهرون عدم المعرفة! لا تتكلمون العربية إذا تكلمتموها إلا و نزعتم عنها صفتها الجوهرية حتى لتضيع معالمها ، المجهور يصبح مهموس و الممدود مقصور.. فتنكب اللغة وأصواتها على أعقابها قالبةً آيتها سفيرا على عفير. و لا تكتبونها اذا كتبتموها إلا وقد اِعوَجت حروفها و ترادف معتلها مع صحيحها ترادف السقوط في معمعان وحل الخطيئة الأولى، فكيف إذن بكم تصنعون بها نقدا وأدبا! لا زلتم ترفعون المنصوب و تنصبون المرفوع دون حشمة ولا خجل! فلا تتوهّموا أن العرب قد أبهرهم جمال عيونكم أكانوا خليجيون أم شواما، فإنهم أيديولوجيون مصلحيُون كدأبهم يستغلون سذاجتكم للسخرية منكم و خداعكم فلا تصدقوا أنفسكم إذا قالوا لكم أن لديكم لسانا و أدبا و نحن معجبون بهما، بل إنهم يخدعونكم لوجود مصالحهم الكثيرة عندكم، و هم عندما يفرغون منكم بينهم و بين أنفسهم تراهم يظهرون على حقيقتهم فيخاطبون ذويهم و بعضهم بعضا خطاب لعنات : بأن اذهب لعنة الله عليك مسخ الله لسانك لسانا جزائريا! و قبح الله أدبك أدبا جزائريا اذهب يا لك من ممسوخ مقطوع من شجرة مرة!

 

2.10 ـــ عندما تُهمِل الصراعات الأيديولوجية أدبنا الجزائري و تُهلكه 

    عندما نقول السياسة و عندما نقول الثقافة فنحن نعني الأيديولوجيا لأن السياسة و الثقافة هما أولا و أخيرا أيديولوجيا. أمست كل عام في غمرة الاحتفال بمولد النبوي الشريف أمتنا الإسلامية أمة خير الأنام أمة النور و العلم و الحضارة ، أمة العزة و الكرامة ، أمة الازدهار و عبق التاريخ.. أما في الجهة المقابلة أمسى كل عام بمناسبة أو غير مناسبة ؛ تخلَّصوا من إرهابي خطير يضاهي أبو بكر البغدادي أم لم يتخلصوا ، لا تمر شهور السنة من  دون أن يعتلي ناطق البيت الأبيض المنبر ليقول أن الإرهاب المتأتي من الحواضر الإسلامية مازال هو الخطر الأول المحدق بالسلم و الأمن العالميين! هذا كله من واقعنا المعاش فأيّهما بصدد الحقيقة يا ترى؟ سندع هذا لأصحاب الاختصاص ليروا حقا هذا الافتخار الذي يدلي به كل الأئمة المعتلين للمنابر يطابق الواقع أم لا؟ و نعرّج على خير نموذج  يستحق المتابعة و المناقشة قصد قطف بعض النتائج عن أكاذيب و ترَّهات الواقع النظري الذي يدحضه الواقع العملي يوميا، هكذا سطحيا من دون إجراء تحليلا بحثيا معمقا ألا وهو واقع تعليم اللغة العربية وآدابها في أغلب جامعات الجزائر في شقه الجوهري و هو مستوى الأساتذة العلمي و الأدبي من الجيل السابق، المتقاعد حاليا، إلى الجيل الحالي. 

 

    من كانت له مشكلة مع اللغة لا يقدر أن يصنع بها أدبا بغض النظر عن مستوى هذا الأدب أي لا يحق له أن يتباهى بشيء اسمه أدب نتيجة علاقته المتردية مع اللغة ، هكذا يقول المنطق وهكذا قال رواد الأدب العربي الحديث و فطاحلته طه حسين و علي الجارم و جبران خليل جبران وغيرهم، بيد أن العبرة الحقة في هذا المسمى " أدب" تكمن في المعنى الثاني له و هي جوهره : تخلُّق صاحبه بأخلاق العلم (النزاهة و النية الصادقة ) و الفن و الذوق الرفيع فلا يعرف بغير طهر النفس و فضيلة النأي عن حشر النفس في أتون الأيديولوجيا المقيتة وكل البرك النتنة العفنة المحيطة بها، أما وأن تكون هذه المزايا غائبة تماما فطبيعي جدا أن يُفهم أن قاعدة صاحبه المعرفية ضعيفة أو مشوهة قصرا و العكس غير صحيح كون السلوك و المظهر يعكس الجودة و الكفاءة، نقول ذلك من منطلق المقارنة مع الأدب الموجود في المشرق العربي الذي يعتبر مصدر نشوء أدب المغرب العربي ككل و لكن يوجد من هؤلاء المغرورين وما أكثرهم من تجاوَزهُ محاولا إيجاد صلة لأدبه بتجاوز أبوية و فضل أدب النهضة العربية عليه ، كأن يصله بالأدب الأندلسي على سبيل المثال أو حتى بأدب المغرب الإسلامي الهزيل/المغرب الأوسط ) 1492 1830 – ). أي أننا بصدد نكران معروف الأساتذة العرب من مصر و سوريا و العراق الذين حملوا زادهم لغةً و أدباً نهضويا قيما وحطوا به في الجزائر لتعليمها إياه بعد الاستقلال مباشرة. 

   وقد يقول قائل أن كل ما تقوله يصدق على أيام زمان حين كان للجزائر إشكالية مع التعريب لكنس مخلفات الاستعمار السلبية على اللغة و الأدب العربي في هذا البلد أما الآن فالأمر تغير و تطور. نقول له مازالت آثاره بالغة الأثر أكثر من زمان، لأننا أيام زمان كنا بإزاء أناس لطفاء معترفين بضعفهم في الميدان أما الآن ستجد كل من تعلم له حرفين تفرعن و ستجده قاب قوسين أو أدنى من تلحيف ذاته برداء الملوك لا الأساتذة، كـأنك بإزائه تقف الى قدسية المعرفة و ملكة الإبداع اللامحدودة، لا أستاذ بسيط كان له حظ من تعلم اللغة العربية وآدابها كغيره ، هذا الزيف و هذا الغرور و هذه العصبية سببها المباشر عدم الكفاءة ، لعبت فيها الصراعات الأيديولوجية في المعهد الواحد و المدرسة الواحدة و الجامعة الواحدة دورها التاريخي الخطير؛ فعدم التواضع للعلم و الكِبر و الغرور، موروث أيديولوجي تبنّتها التوجهات الماركسية و الأصولية المتطرفة المحكمة الإحكام في كل مناحي الحياة والمجتمع ؛ كما تبنّتها عقلية الوطنية الزائفة المشكوك في نواياها، تبناها حزب عتيد عند الجزائريين اسمه " جبهة التحرير الوطني" و هو حزب وطني لكن قد تجد من المتعاطفين و المنضوين تحته حتى اللائكيين و الماركسيين والشيوعيين ، فعندما تنام مع أساتذة الأدب ـــ بدرجة أستاذ التعليم العالي ـــ  في الجامعات الجزائرية الأحقاد و الإكراهات الحزبية مدة تفوق الأربعين عاما كيف لا يُلحقون ضررا بالغا في بنية وطرائق تدريس هذه المادة ؟ أولا عند الإلقاء بها في وحل التعصب للإنتاج الوطني ( وأي إنتاج وطني؟) خدمةً لمبادئ أول نوفمبر المجيدة و المظفرة و.. و.. ، بإبداع مجموعة من الأعمال الشعرية و الروائية ثم تقديسها أمام غيرها إن وجدت ، حتى لو كانت مسخرة الأدب الجزائري الحديث في مستواها الفني على شاكلة ديوان اللهب المقدس و إلياذة الجزائر و روايات : " غادة أم القرى/1947" لرضا حوحو و" الطالب المنكوب/1951" لعبد المجيد الشافعي و "الحريق/1957" لنور الدين بوجدرة و "ريح الجنوب/1971" لعبد الحميد بن هدوقة و" نار و نور/1974" لمالك مرتاض و "الشمس تشرق على الجميع/1978 " لإسماعيل غموقات على سبيل المثال لا الحصر. والتي قال عنها البروفيسور الراحل أبو القاسم سعد الله ( انظر الصفحة التالية ) أنها تشكل أدبا جزائريا حديثا راقيا!  في المقابل هناك الطرف المحافظ الراديكالي القائل بضرورة أن نخدم بالعربية و أدبها الدين و نذود عنها بقيم القرآن و الإسلام  وحدهما. و من أمثلة ما نورد عن هذا الطرف الأيديولوجي هو ولوج جيله الحالي ميدان التجلي الروحي روايةً و شعراً صوفياً  ، و معلوم أن من يلج هذا النوع عليه أن يصفّي نيته اتجاه اللغة لأنه بصدد مستوى رفيع من الذائقة الشعرية ثم اتجاه شعر النسيب و الغزل المتداول عند الطرف المقابل ( أي أن يتوقف عن إتهام أصحابه بما هو ليس  فيهم كالمروق و نشر الفسق و الرذيلة مع العلم أنه هو أيضا والج هذا الشعر لكن تحت قناع صوفي!) قبل أن يصفي نيته بين أذرع الله في مدارج التحلي و التخلي، وهذا ما لم نقف عنده في نموذج أبيات فاتح علاق القائلة :

مصلوبا هنا ما زلت انتظر

و هذا الوقت يمضي مسرعا

و العمر و الأحلام  و المطر

وذي دنياي واقفة

فلا ريح تجرجر جثتي عبر المدى

لا نهر يجرفني من الأعماق

ليت الصوت ينفجر

فيسمع صرختي الناس

و يسمع ضجتي الحجر

أنا حي أنا حي

وقتلي في المدى فرس تخب*

وأدمعي نهر

و ضلعي في الهوى وتر

 أغني للألى

ظلوا و ما عبروا

أنا حي هنا في القفر

لي سمع و لي بصر

فما صلبوا سوى هويتي

وما قتلوا سوى ليلي

لهذا عشت و انتحروا

أنا حي أضيئ الليل من جرحي

فيزدهر

فما صلبوا سوى كفي

وما قتلوا سوى خوفي

لهذا قمت و اندحروا

و أوراق غصني النضر*

و مالت نحوي الشمس

و قبل جبهتي القمر

..

فما صلبوا سوى همي

وما قتلوا سوى غمي

 

فمضمون هذه القصيدة راق وهو مُحاكاة صلب الحلاج لصلب عيسى عليه السلام بيد أن شعرية صاحبها جد متواضعة بالرغم أنه أستاذ التعليم العالي في قسم اللغة العربية وآدابها جامعة الجزائر2 :  هناك أكثر من كلمة (التي تحتها سطر) مقحمة إقحاما لأجل استقامة الوزن فما دخل المطر في الأحلام؟ و كيف صلبوا كفك؟ ربما لو قلت ذراعي لا كان أهون.  كما كان من الأجدى شعريا حذف اسم الإشارة "هنا" أما "من" في قوله "لا نهر يجرفني من الأعماق"  و تكرار "لهذا" ففي غير محلهما بلاغة شعرية لا تركيبا نحويا ، فبالأحرى القول بدلهما إلى ولذا على التوالي ، فمثل ما قلت "وذي دنياي واقفة" بدل "وهاذي دنياي واقفة" كان عليك القول  "لذا عشت وانتحروا" بدل "لهذا عشت وانتحروا". أما الجمل المؤشرة بنجمة إمّا فيها إحالة حيث لا منطق يعتريها مما انجر عنها قلة الجودة الجمالية للمعاني التي حملتها وإمّا هي مقحمة حيث لا رابطة تربطها بما قبلها و ما بعدها.  لعل السؤال الذي يطرح نفسه لماذا ولج هذا الأستاذ غمار هذه التجربة الوعرة وهو غير مسلح كفاية؟ الإجابة تكمن في حب التقليد مضاف له الفارق المعتبر بين مستوى الشعرية عامة في إطارها الأكاديمي في الجزائر  والشعر الصوفي المعروف عربيا مع ذاك الذي يمارسه المتصوفون الجزائريون عفويا في معترك الفقر والعزلة في مناطقهم السهبية والصحراوية تجعله يدخله دونما خوف.

 

    و الحقيقة أن الأدب الجزائري قد ضاعت به السبل فعلا لَمّا دخل مجال الصراعات الأيديولوجية وهو بعد طفل رضيع في بداية السبعينات، وقد عكف على تشبيبه و مرافقته إلى الانحراف عن سبيل الصواب في ثمانينات و تسعينيات القرن الماضي العقلية نفسها و التعصب الأيديولوجي للرداءة و الانطواء به بمعزل عن قلاع الأدب العربية الحقة، التعصب المقترن بالتقليد المهوس بالكبرياء و الغرور لمدارس بعينها ( إما الماركسية أو التراثية الرجعية)، قد يكون صاحبه  محافظا و وطنيا في نفس الوقت لكنه محابيًا بالفطرة يحمل في نفسه وهم وهج الثورة و البطولية! و إلى هنا سيكون الانحراف مأساوياً عندما يقترن عند هؤلاء و أولئك بمحاولة إظهار بطوليتهم في مجال اللغة العربية وآدابها.  بطولية هذه الثورة التحريرية و هذه الأيديولوجية الجد مترفعة عن مجالها الحيوي انتقلت إلى صدور المثقفين بخاصة أساتذة التعليم العالي منذ سنوات الثمانينات بخاصة من هم في أقسام بعينها كاللغة العربية وأدبها لنقص كفاءتهم وانسجامهم مع طبيعة هذا التخصص الذي يزدري من المتكلّفين فضلا عن المتشدقين المستبدين بالتعصب للفكرة بما يجادلها ألا وهي المادة! حين كان الدكتور و مازال لا يحاسب (ربما لأنه دكتور!!) بخاصة إذا كان محسوبا على الطائفتين المذكورتين، متعاضدين فيما بينهم تعاضدا ينافي الروح النقدية العلمية، فمن سيكون بمقدرته استبدالهم بذوي الضمائر المهنية و ما أكثرهم مهمشين في بطونهم المعروفة عنهم بالمناطق الداخلية لأجل تخليص اللغة العربية وأدبها من أزمتها؟ كأن شهادة الدكتوراه أصبحت وثيقة رسمية تعني الحصول على الراتب الشهري دون مقابل أو جهد، أي أصبحت شهادة الدكتوراه نفسها أيقونة للراتب الشهري دون مقابل، لَمَّا لم تكترث الدولة لهذا السلوك الذي عمّ وترسّم لقِلّة هذه الفئة أولا، و أصبح ثقافة لا تقبل النقد أي ممارسة مغضوض الطرف عنها، وثانيا انتقال ضجيج و عويل الممارسات الأيديولوجية اللا أخلاقية التي كانت ممارسة سرا ثم أصبحت علنية بالتقادم إلى الممارسة الثقافية و الأنشطة التربوية و العلمية في الجامعات الرئيسية بين الفريقين المتضادين تاريخيا: الإسلاميين و العلمانيين ، حيث كل طرف يحاول استعراض عضلاته على المسكينة اللغة العربية وأدبها ونقدها في القسم الذي نحن بصدده باتجاه تكريس الأمر الواقع الأيديولوجي عليها.

 

    و لتقريب الفهم نضرب واقعة حقيقية جرت في مناقشة في الدراسات العليا بجامعة الجزائر قسم اللغة العربية وآدابها، حيث قال رئيس لجنة المناقشة المنتمي إلى اتجاه وطني إسلاماوي مكرّس لتعصبا أيديولوجيا في موقع لا يليق فيه غير الموضوعية العلمية ، قال لطالبه لا تستعمل تعبير التعدد الثقافي واستعمل بدله الاختلاف الثقافي ، طبعا نسبةً لقول القرآن بالاختلاف لا التعدد، ولم يجرؤ الطالب على الرد خوفا من بطشه، علما أنه كان بمقدوره الرد المنطقي الذي يفحم مناقِشِه وهو أن هناك أربع لغات في الجزائر القابائلية و الشاوية و المزابية و الترقية ، و هذا تعدد و ليس اختلاف لكن عدم مطالبة هؤلاء بثقافتهم اللغوية كما هو واقع في بلدان أخرى جعل من الأمر يقوي الاختلاف و يحجب التعدد ، و رّبما لو أن أصحاب تلك اللغات طالبوا بالديمقراطية نظريا/دستوريا و عمَلياً لما كنت أنت من يناقشني بل كان آخر غيرك أكثر علمية و موضوعية. 

   كما أصبحت اللغة عند الفريق الأول هي ترجمة أعمال جورج لوكاش و ميكائيل باختين في فلسفة اللغة و الاحتذاء بها و إهمال تراثها النحوي و الصرفي المتداول وغير المتداول، أما في أدبها فيتمثل في ترجمة أعمال ماكسيم جوركي و تولستوي و تقليدهما و إهمال تراث النهضة الذي جاء به طه حسن و أمثاله. و هذا الطرف سرعان ما استفزّ و أحيا المحافظون المتعصبون للدرس اللغوي الذي أفاض فيه الأصوليون في النحو و فقه اللغة، كألفية ابن مالك، وفقه اللغة وأسرار العربية للفقيه الثعالبي ليخدمون به حججهم و تفاسيرهم الفقهية متحاشين نحويات أحمد أمين وعلي الجارم كأنهم بصدد الدنس! وهم لا يميلون إلى أدب عصر النهضة العربية إذا ما مالوا إلاّ لأمثال نجيب الكيلاني و محمود شاكر و سيد قطب و البشير الإبراهيمي أما أدباء الحداثة العربية المصريين و اللبنانيين المعروفين فعنهم معرضون. لعل هناك من وقعت نفسه موقع الفريقين معا فالتّسم بالوطنية المغالية و الإسلامية المحافظة لأنه خريج الزيتونة ولأنه مجاهد في ثورة التحرير و ما أكثر هذه الفئة التي عُهد لها إدارة أقسام اللغة العربية بعد الاستقلال وسنجد ابرزهم أبو القاسم سعد الله. وسنجد عنده انسحاب البطولية الوطنية النوفمبرية مع العفة و الاعتزاز الديني  وارثا إياها نهجا  أيديولوجيا ممارسا لعقود سياسيا و اجتماعيا إلى الدرس الأدبي، فيفقد معه ذلك الدرس علميته فضلا عن أدبيته الشيء الكثير، بل أن الظاهر هو أن يفقد الدرس الأدبي المتعلمن (من العلم لا من العلمانية) صوابه غير متحمّل إياه مصابا بغثيان المسخ، حيث تظهر الأيديولوجيا الزائفة  و الكِبر الذي لا لزوم له مقحمةً في نصوصه إقحاماً ( لعل ما ينم عن التكبر و النفاق هو مستوى اللغة العربية وأدبها لدى باقي الدول العربية ، فهم الأفضل من الجزائر بما في ذلك تونس بالرغم أنهم تعرضوا لاستعمار واحد ما يثبت أن بطولية ثورتها المسلحة المغالية زائفة وإلاّ كيف لم تنسحب تلك البطولية على أهل بلدها بعد لاستقلال ثقافيا وعلميا؟) فيظهر تنظيره عادي جدا في مؤلفه " دراسات في الأدب الجزائري الحديث/1985" لغويا/أسلوبيا و أدبيا، بل مقلّد لعنوان لويس عوض ولعناوين مصريين وعرب كثُر شاعت في عشرية السبعينات و الثمانينات من قبيل "دراسات في الأدب الفلاني أو العلاني".                  

     واحد ممّن أصبحت الجامعة الجزائرية اليوم تحمل اسمه ألا وهو المؤرخ و الأستاذ الدكتور أبو القاسم سعد الله، يقول في مقدمة طبعة كتابه "دراسات في الأدب الجزائري الحديث" الثالثة : « تتميز هذه الطبعة بإضافة ثبت عام يشمل الأعلام و الأماكن و المنظمات و الدوريات و الكتب التي وردت في المتن. وقد فاتنا من قبل وضع هذا المثبت، رغم ضرورته، لأن الكتاب تم طبعه بعيدا عنا. وقد تمكنا كذلك من تصحيح الأخطاء المطبعية التي وردت في الطبعة الثانية. إن نظرة سريعة إلى الإنتاج الصادر عن الأدب الجزائري الحديث تبرهن على أن الساحة مازالت غير مكتظة وأن هذا الإنتاج ما يزال دون المستوى، كما أن النقاد الذين تناولوه بالدرس لم يبلغوا الشأو المطلوب وإذا استثنينا بعض الأطروحات الجامعية فإن النقد الأدبي الحر غائبا تماما، وحتى هذه الأطروحات يغلب عليها السرد و الجمع و الأحكام الجوفاء، و قلما تميّزت بالرصانة والأصالة والزيادة، إن حالة الأدب الجزائري الحديث حالة يرثى لها، و ما أضأل حركة هذا الأدب اليوم إزاء حركته خلال الثلاثينات والأربعينات من هذا القرن رغم اختلاف الظروف والدوافع والإمكانات »[2]

    في هذه الفقرة التقديمية لكتابه ينعكس شنآن الغلو و البطولية المحتقرة لمجال الأدب لا شعوريا لأن صاحبه له ثقافة إسلامية و تاريخية واسعة (الموسوعية) ناهيك عن الانتماء لبلد المليون شهيد ـــــ رحمة الله عليه على كل حال ــــ فلو كانت شخصية مقدّرة للأدب حق قدره لما وقعت في ركاكة التعبير كإتيانه بألفاظ في غير محلها مِن التعبير السلس المنسجم مع الرقي الأدبي الذي هو موضوع تعبيره! كقوله: ثبت عام؟!، المثبت؟ الساحة غير مكتظة! ، أضأل! و تزييف واقع تاريخ الأدب في بلده الجزائر كقوله " النقد الأدبي الحر" وكيف يكون ذلك في ظل حكم سلطوي استبدادي؟ و قوله "حركية الأدب الكبيرة خلال الثلاثينيات و الأربعينيات " لكن أين منتجات تلك الحركية التي تتحدث عنها من تاريخ الأدب العربي المعروف و المدرّس عربيا و عالميا؟ و لماذا لم تنعكس على المستوى بعد الاستقلال؟  إلاّ إذا كنت تقصد مقالات و شعر الوعاظ أمثال البشير الإبراهيمي و العيد آل خليفة و غيرهما فمعلوم أن الشعر في تصور الأصمعي مجاله الشر ( يقصد الفن و الجمال ). وإذا تناول الموضوعات الأخلاقية و الدينية (الخير) ضعف و تهافت ، وقد كان هذا المعنى واضحا عند أشد الأخلاقيين تزمتا، ولهذا اخرجوا من الشعر ما كان وعظا أخلاقيا، ولَمَا وقع أيضا في الكِبر بالتعطش لتفخيم الأنا في قوله « لأنّ الكتاب تم طبعه بعيدا عنا » و السعي للنجومية الزائدة عن اللزوم وهي لا تستحقها؛ لأن اللغة لغة واحدة وهي تلك التي اسمها "اللغة العربية" في اشتقاقها وفي معجمها وقواعدها، مع ذلك فإن مستوى أدبها يختلف من بلد عربي لآخر، إذن فإنّ تلك النجومية ستختلف (تتجه) إلى ذلك البلد العربي المشرقي بالضرورة، وكما قلنا سابقا التحذلق ناتج عن انعزالية هذه الفئة و قلّتها في تلك المرحلة ( عشرات الدكاترة فقط في التخصص مع وجود الازدواجية الثقافية/النخبة الفرانكفونية مقابل آلاف الدكاترة في نفس التخصص في مصر مثلا وفي غياب تلك الازدواجية ). إن تكديس وهم البطولية جيل بعد جيل انجر عنه عقلية التعصب التي حوّرت طبيعة النقد الذي يطرق المحامد و المثالب معا إلى ما يشبه المدح العصبي للذات مدح الجاهلية الأولى فقط، فأين اختفت من نقودكم تلكم الدراسات المعقولة الطرح النقدي كهذا العنوان مثلا:" حركة الشعر الحديث بين النكبة و النكسة (1947-1967)" أم أن أدبكم نازل إلينا من السماء؟

 



[1] ـ  يعني بها الكاتب العلمانية و العِلمية معا و الإنسانية العلمانية Secular humanism   هي فلسفة إنسانية تعلي من شأن العقل ، الأخلاق ، و العدالة لكنها ترفض التقاليد و الطقوس الدينية كوسيلة لضمان صلاح الإنسان و جودة الحياة الاجتماعية. درج هذا المصلح في القرن العشرين ليشير بوضوح على الفارق عن الإنسانية الدينية Religious humanism . أحيانا تستخدم بدلها " إنسانية علمية" scientific humanism   التي استخدمها عالم الأحياء إدوارد ويلسون باعتبارها الرؤية الكونية الوحيدة المتوافقة مع المعارف العلمية.    ينظر موقع معرفة ، العنوان: https://www.marefa.org/

[2] ـ  أبو القاسم سعد الله : دراسات في الأدب الجزائري الحديث ، دار الرائد للكتاب ، ط5 ، الجزائر 2007، ص5.



رابط مفيد :    https://www.mediafire.com/file/dodx7gm4w5yjvih/عن+إشكالية+اللغة+العربية+وأدبها+في+الجزائر.pdf/file


author-img
موقع تنويري فكري وشبه أكاديمي، يتغيا تقديم إضافات نقدية تخص تحليل الخطابات الثقافية ونظرية النقد والأدب متوسلا بجماليات التلقي والنقد الثقافي، كما يعنى بنشر إبداع قصصي جديد ليس له ما يماثله على الساحة الجزائرية، والمقال المتناول للشؤون السياسية والإعلامية والاجتماعية المقاربة للظاهرة الأدبية والمحاكية المكملة لها.

تعليقات