رؤى نقدية (9) تاريخ الظلم من عهد نوح إلى عهد الملالي والقاعدة، مقاربة في الأنثروبولوجيا الثقافية من خلال النصوص القديمة. الجزء 1


 زياد بوزيان


بوزيان بغلول*

 

    حدث وأن وجدت ناشر كتاب "الفلسفة" المُعد للطور الثانوي يقدم لكتابه قائلا أن الفلسفة هي ليست علم الأفكار بقدر ما هي علم الأدلة والحجج العقلية التي تنطلق دوما من المقدّمات، مضيفا أن مقدمات الحجة هي تلك الأساسيات التي يجب القبول بأنها صادقة لكي ينطلق التبرير ممثلا لقوله بحجة وجود الله (المختفي عن هذا العالم بحكمة بالغة) بأن الله لا يمكن أن يوجد لأن الشر موجود في العالم، والله الخيّر المقتدر لن يسمح بوجوده. فقمت مضيفا لقوله قولي حتى يستقيم قوله ذاك بقولي** بأن الله لا يمكن أن يوجد كخالق (إذن كقاضٍ) بين فريقين من البشر واحد شرير ظالم ولآخر خيّر لأنه سيكون إذن في موقع سخرية غير مقصودة من قبل الفريق الشرير، والله العادل لا يمكن بأن يوجد في مكان يعتدي فيه ظلما فريق من الناس على فريق آخر لأنه العدل نفسه. وعلى هذا الأساس فإنها الحجة الدامغة بأن الله (أعدل العادلين) موجود ما دام هناك ظلم على وجه الأرض، لذلك قيل العطش إلى الماء يدل على وجود الماء والعطش إلى العدل يدل على وجود العادل. ونحسب إن إطلالتنا هي إطلالة علمية عقلانية، وقد تعمدنا تسمية نصوص الدينية المعروفة التي أرخت وتنبأت مصير الإنسان بالنصوص القديمة لكي نقف على مسافة واحدة منها.

   ولمّا كانت إطلالتنا موصوفة بالعلمية فإن  "فريق الشر" المعني قد اصطُلح عليه علميا في عصرنا المعاصر بالدوجماطيقيين تسميةً لمفهوم مدرك عن الأشخاص غير العقلانيين، الذين يعتقدون اعتقادا جازما أنهم على صواب تام والآخرين على خطأ تام، إمّا لأنهم لا يستخدمون عقولهم مطلقا أو لأنهم يستخدمونه بطريقة خاطئة: أما الفئة الأولى منهم فلربما مثلنا لها بجموع العوام من العرب المسلمين أو الجماهير والتي تنظر إلى الآخر الغربي أنهم منحلين أخلاقيا، ولكن الجموع في العالم العربي الإسلامي، تتصرف بوحي الغريزة ووحي التاريخ تصرفا آخر: إنها تنتظر، بصبر سلبي أن يسقط الخصم وحده، أن تنهار الحضارة الغربية من الداخل .. ولو أنها تدرك أن هذا الأمر لو حدث سيكون بمثابة فناء للبشرية[1]. أما الفئة الثانية سيكونون من المتعلمين والنخبة، وهي التي يعجبها سلوك الفئة الأولى، فهي تشتهي التخلف وتستمتع به، فتدخل في السبات الدوجماطيقي الذي هو ملكية الحقيقة المطلقة بإلغاء العقل الناقد الذي هو أساس تطوير المجتمع، خُذ مفهوم الحرية التي اختزلها مونتسكيو (شارل لوي دي سيكوندا) في كتابه روح الشرائع "تتوقف حريتك عندما تبدأ حرية الآخرين" والتي مازالوا يتصورون خطأً أنها مقولة رومانسية كعهد أوائل الرومانسيين الأوروبيين (يعني من اتّباع الهوى) لكن المقولة في الحقيقة تلخص خمسة قرون أو أكثر من حركية الفكر الأوربي بين العقليين والنقليين والروحانيين (المتصوفة). فأنت كمؤمن اهتديت بنفسك (بعقلك وقلبك) أو بتحريض من شخص آخر في حين أنه لا علاقة لك إلا بنفسك لأن كل النفوس مالكة أو مكونة من عقل وقلب مثلك وهو ما يشكّل الروح أو الكيان الوجداني، لِصاحبها كامل الحرية في الاعتقاد بربه من تلقاء نفسه أو عدم الاعتقاد به، من خلال ما زرع الله فيها من أدوات تعرفه بها، لذا فإن تدخلك فيما لا يعنيك هو إنهاء لحريتك ودخولك في مرحلة الاستقواء والتجبر أي ظلم الآخرين.

   والمقولة القائلة بأن العقل أعدل قسمة بين الناس هي مقولة إسلامية (معتزلية) به ميزوا ويميزون  الشر وقيّمه عن الخير وقيمه، لأنه إذا قال قائل من هؤلاء الناس أن كل مُعظِّم لربه على هذه الأرض هو في مُبايعة له بالتكلّف جدليا؛ يريد مع تعظيمه أو من خلال تعظيم لربه تعظيم نفسه بين الناس، وقد كنّوا آدم بصفي الله، ونوح بشيخ الله، وإبراهيم بخليله وموسى بكليمه وعيسى بروح الله ومحمدا بحبيبه وصفيه، ليت شعري هل يوجد في البشر من إنسان عظّم الله تعظيما لم يعظمه به أحدا لكنه بقي شخصا متواضعا ونكرة غير معروف، يقارن نفسه بالمساكين والفقراء؟ أخشى أن هذا النوع إن وُجد سيثبت أن الشّر هو الاعتداء على الآخرين في المقام الأول وليس الاعتداء على النفس، بجعلها تنال كل ما تهواه بشرط أن لا تناله على حساب الآخرين، والشر ليس هو التواضع؛ ما سخر الله من شيء في الإنسان عقلا أو شهوةً إلّا كي يكرِّم به الإنسان، بل الشر كل الشر هو الاعتداء على الآخرين من خلال استغلال العلاقة مع الله والدّعاء التفوق والمزية بفضل "الانتساب إلى الله" على من يفتقدون لتلك العلاقة دون قصد أو نية الشر أو حتى من لا يجهرون بها لأنهم رَأوا أنها تخصهم وحدهم.

1 ـ الأنظمة العسكرية مقابل طبيعي (احتياطي) ضد مخاطر التسلط بمعونة الدين السياسي

   ثم وليكن هذا المدخل اخترناه في شكل مأثرة: لمّا واكب تحرير مقالنا هذا الحملة الانتخابية الجزائرية 2019، وما عرف بمظاهرات الحراك لا بأس من التذكير والتكرار دون ملل، من منطلق أن خلفية تفكيرنا نقدي، وهو نقد علمي مسنود بسجية البرهان العقلي مع مراس التجربة، خبرة الميدان مع منطق التفكير العقلي سينيران درب طريقنا لا ريب ومن شأنهما تجاوز كومة التعتيم والهروب عن الحقيقة نزغا إلى الأمام وإلى كل كون يتعمّد التضليل عن طريق الغموض المطروح عنوة فيه: وما دام هناك استمرارية عوالم بعينيها في أنانيتها وعنصريتها الشاملة اتجاه الآخر سواء كان آخر محلي أو علمي أو عولمي، بالإقصاء والاحتقار، ما دام هناك استبداد ولا ديمقراطية متحركة بين طرفين هما المجتمع الديني(عقل جمعي) والمجتمع السلطوي (في صورة حزب أو عائلة سياسية لا تألو جهدا في عدم نقد نفسها) وهما عمودا نظام الرجعية وإرادة القوة، وهي الأنظمة التي يقف وراءها العسكر كالحالة الأكثر وضوحا المصرية والجزائرية لكن عندما تنتفي هذه الاستمرارية عن طريق تكريس الديمقراطية وثقافة التسامح والاجتهاد مع النص عمليا على أرض الواقع ينتفي بدوره ذلك الدعم العسكري وتزول غشاوة الديكتاتورية جدليا، لذلكم عليكم أن تفهموا يا رؤوس المحنة خاصة الذين ولدوا بعد عشرية الدم أننا ابتُلِينا (بمنطق  "خير أمة أخرجت للناس") لكن طريق العلم والعقل وحدهما الكفيلان بإزاحة هذا الابتلاء. فالعسكر في هذه الحالة هم بمثابة حامي لشبه الديمقراطية الموجودة ودِرعا لها وهي أفضل من لا شيء على كل حال.

     فالإسلام السياسي يجب أن يختفي فورا والدين يجب أن لا يحكُم ولا يسوس ما قامت حياة على الأرض لأنه يغيب معه مقياس العدالة والحرية الركنان الأساسيان في التنوير والديمقراطية، فإذا كان النظام العسكري لا يعدل بين الناس على أسس مادية فهذا أهون بل وحسن مقارنة بالإسلام السياسي الذي لا يعدل بين الناس على أسس ميتافيزيقية ــــ يعني أنت لا تصلي ستظلم شر ظلم بل تستأصل وتقصى بكل برودة دم! وإذا رفضت تموت! ومعروف أنه للإسلام بهذه الصورة قاعدة اجتماعية غير عقلانية، هوية حتى لا نقول عصبية لا يستهان بها وهي موجودة في شكل خلايا نائمة وقد ازدادت في جميع الدول العربية بعد الهزيمة التي جرت للعرب مع إسرائيل؛ فمتى تخلّى العسكر عن لعب دور الحصن المنيع ضد الدين السياسي ارتقى هذا الدين وتطلع إلى الحكم، فهم بديل للأنظمة العسكرية السلطوية الحتمي والغير مرغوب فيهم لدى جميع الأنظمة الديمقراطية غربية كانت أو شرقية، لا شك أن الحل الجذري لهذه المعضلة موجود لكن يتطلب زمن أطول قد يمتد إلى أكثر من قرن و نيف من الزمن، فالإسلام السياسي الذي نتحدث عنه عندنا عمره 40 سنة فقط فاستئصاله يتم بالتدريج عن طريق إحلال الوعي الديني اجتماعيا وثقافيا محل الذات المستقلة الحرة بدل محل الجماعة المتواطئة أيديولوجيا، أي أن طريقة معايشة الحياة الاجتماعية والأخلاقية تبقى هم ذاتي خاص بالفرد ليس له الحق نقل تجربته إلى الآخر مهما كان هذا الآخر جارا أو أخا أو أبا متفسخا أو ملائكيا. عندها سيظهر عبد الله جاب الله وعبد الرزاق مقري ومحمد دويبي كأنهم يمارسون وعظا وإرشادا دينيا خاص لصالح الأفراد لا الجماعات، كمرشدين لا كسياسيين، من شاء يأخذ بما يعظون ليطور من حياته ويسموا بها (لا يمكن إنكار أن نشاط الإنسان في أدائه الذهني والنفسي وهذا الأخير مرتبط بدوره بحياة أخلاقية سوية) ومن لم يشأ فذلك شأنه الخاص، أي يصبح هؤلاء الذين ذكرنا أعلاه متنورين مثل رجال الدين المسيحيين لا يتدخلون في السياسة. وهم في الواقع أقول في الواقع أعلم وأشهر وأطهر عند الناس من السياسيين أنفسهم، فأي مزية لهم من هذه المزية؟! لكنهم لا يعقلون. وهذا يتطلب عمليا ممارسة توعوية تنويرية تثقيفية طويلة وممتدة نَصِل على إثرها أن مقولة فصل الدين عن السياسة قاعديا ورأسيا وإن تحققت تحقّقت أكثر حتى من التجربة التركية والماليزية.

   والأمريكان مع الإنجليز والفرنسيين يعرفون هذه المعادلة حق المعرفة لذا يتعاملون معها بدهاء. لكن بالرغم من ذلك يسعون دائما إلى تطوير الأداء السياسي لتلك الأنظمة العسكرية وإلى مزيد من الاعتدالية في خطاباتها. أمريكا وبريطانيا مع مصر والعراق والمعارضة السورية يسعون إلى إنهاء سياسة مفهوم "مقاومة الإمبريالية" (التاريخ الإمبريالي القديم والجديد لدول الغرب مع دول الجنوب المتخلفة) في سوريا كما أنهوها في مصر والعراق، وفرنسا سعت ومازالت إلى إنهائها في الجزائر حتى أيامنا في خطاب إعلامها الحر حيال الرئيس المحتمل عبد المجيد تبون لأنها تفطنت بأنه كسب ود العسكر ومن يكسب ود العسكر يكسب ود الطبقة المتوسطة التي تشكل ثلاثة أرباع الساكنة. فيا لكم من مساكين واهمين أيها " لَمْصَاغر" فالنظام الذي تصفونه بالنظام العسكري هو حامي حمى البلد من السقوط في يد عصبة الدم والظلامية؛ ظلامية الحقد والفاشية المافيوية القروسطية.

    فعندما تزول تلك السطوة لمحدقة بالبلاد والعباد ويقتنع العسكر بأن لا خطر قائم عن تطبيق الازدواجية الثقافية من دون أن تنحى منحا أيديولوجيا، أو العلمانية المطلقة، لأن العلمانية الجزئية التي يقول بها بعض المفكرين المحسوبين على التيار اليسار الإسلامي مثل حنفي والمسيري* علمانية نظرية غير عملية وليست موجودة سوى في عقولهم المتوجسة اتجاه المظاهر الأخلاقية للعولمة والحداثة الغربية. وعندها وفقط عندها يعود العسكر إلى مهامهم الطبيعية ثم نصبح مثلنا مثل إسبانيا وفرنسا وكندا. أما كيف يقتنعون بالعلمانية المطلقة؟ نقول أن الوعي الثقافي والعلمي للأمة مازال قابعا في الحضيض الأسفل، لذا على كل تنمية اجتماعية أن توازى بتنمية ثقافية وعلمية؛ فالمجتمعات الأوروبية القديمة لم تتخلص من مخاطر هيمنة السلطة الدينية بين ليلة وضحاها ولكنها كابدت مُعترك خاضه المفكرون والساسة الحذقون مع المثقفين البسطاء مع سائر المكونات ضد الفكر المتحجر ما يربوا عن قرنين من الزمن.

   هذه المعادلة التي هي قضية الصراع الأزلي بين العلم والدين على وجه البسيطة حينما يهتدي العلم إلى العلمانية ويقول بها وبالتدين يقول بعض الدين لا يوجد تدين بل الموجود هو الدين، لكنهم يقولون بإمكانية علمانية جزئية فيرد عليهم العلمانيون بأنه لا توجد علمانية جزئية إنما العلمانية إما علمانية مطلقة أو لا، فغدا الصراع بين العلم والدين هو جوهر الحياة العاقلة عليها، من تمكّن من فك شفرتها أفلح في دنياه وآخرته كشفرة  "فصل القيمة عن المادة أو الإنسان"  التي تقول بها العلمانية الجزئية ولا تقول بها العلمانية الشاملة، لأنه ببساطة لا تفرض الدولة على الفرد ما لا يقع في يدها، فالدين عكس التدين يعكي مفهوما جبريا أيديولوجيا عندما يأمر به إنسان أو جماعة تقول أنها مختارة من الله أي مختارة من قوة غير مدركة، ولو قالوا أننا نمثل مجرّد مرسلين لتبليغ الرسالة ولسنا نمثل شيئا غير ذلك تكليفا انقلب الدين حينها إلى تدين، فالله موجود في قلب وضمير الإنسان به يعرفه أو لا يعرفه فكيف تتدخل الدولة في الحياة الخاصة للأفراد كأنها إذن تأمرهم كرها بممارسة الحب وحلق الشارب؟!

   إن مثل هذا الجدل المفارق شكّل صراعا تاريخيا على مدى عصور بين البشر، وما تغير هو الشّكل الذي تلبسه في كل عهد أي أن التغيرات السوسيو ـــ تاريخية تؤثر على الشكل الخطاب لا على مضمونه فمنذ الإنسان الأول كان هناك صراع بين الخير والشر وكل طرف يدّعي الخير لنفسه وينفي الشر عنه. ولم يقوى أي طرف على إلغاء الآخر غير أنه أسلوب التعاطي تطور بتطور حياة الإنسان على الأرض، قبل اختراع الكتابة المسمارية في بلاد ما بين النهرين قبل العام 3000 ق.م وبعدها. غير أن الصراع كان أشد ضراوة وحمقا في بعض المحطات التاريخية حيث طال العداء واستحكم لعصور طويلة بين الفريقين، وأصبح ظلم أحد الفريقين للآخر معدود من الفضائل والهدايات، لعلنا نقصد هنا قصة العجل الواقعة للنبي موسى مع قوم بني إسرائيل، وتبنى معانيها النبي محمد في قومه المسلمين ضد كل من خالف اعتقاداتهم حتى من الملوك الجبابرة في ذلك الوقت كما ورد في سورة النازعات:  ﴿ اذهب إلى فرعون إنه طغى  17  فقل هل لك إلى أن تزكى 18 وأهديك إلى ربك فتخشى فمن سيغمط حق الوجه في النور وفي تنوير الآخرين بطلعة وجه المشرقة ويضع الوشاح أو اللثام على تلك الحقائق التي طرحنا فرضيات حولها غير مغتر، متعطش إلى التمثل بجبابرة الأساطير والخرافات إذن؟ من مثل ذلك النص المدوّن مع بداية عصر الكتابة بدءً بالأساطير والملاحم القديمة التي كانت تنتقل مشافهة جيل بعد جيل ثم تلتها النصوص الدينية المدونة: الريجفدا الهندوسية، الأبستاق الزرادشتية، التوراة والإنجيل والقرآن والسوترا الماسية البوذية، فكلّها فيها من معارضة العقل البشري معارضة مبشرة ببؤس الإنسان على الأرض، ومن ورائه بؤس كوني لا يسلم منه مخلوق.

   ثم لعلنا نبتدأ في هذا الجزء الأول من موضوع مقولتنا بمقولة الفيلسوف العربي ابن سينا " بُلينا بقوم يظنون أن الله لم يهدي سواهم" لنعود إليها في محطّتنا الأخيرة بعد أن نعْرُج إلى فجر التاريخ، إلى عهد نوح عليه السلام من ثمة إلى الحضارة المصرية المتقدمة والمتأخرة فالبابلية فاليونانية حتى ندلف داخلين على صدر الإسلام. مع العلم أننا لم نختر موضوع الدين كموضوع مفضّل لدى الظالمين بغريزة السيطرة في تاريخهم، لكن الواقع المعاش هو الذي ناب عنه والتاريخ المدوّن في المراجع والمخطوطات يحكم ويتحدث عن بنفسه عن نفسه وقد فضّلنا تاريخ الظلم من خلال النصوص لا من خلال الوقائع الاجتماعية الخارجية (على أن نجد له مقاربة تلقي به إلى خارجه) حتى نكون ملازمين لمجال التخصص/النقد الأدبي، فنحن لم نشأ حتى أن نجعل من الدين الإسلامي على رأس تلك الديانات كدين مرتب أولا في قائمة الأديان التي أذاقت مر العلقم لبني البشر على مرّ العصور باسم الهداية إلى الخير والجنة، حتى لا يقال بأنه كانت تحدونا عبر ما نكتبه هنا وهناك استعداء إلحادي أو نيّة مبيتة مسبقة بشكيمة وهي النيل من الدين الإسلامي.

   كلّا، لن يكون هذا الكلام صحيحا، بل الصحيح أننا تعرُضِنا لعلاقة الأديان جميعها مع الظلم المنجر عن شبهة الهداية المُشابة بالجبر أو غريزة التسلّط وما قاربها ولم نفرق بين دين وآخر إلاّ على سبيل المعطيات التاريخية المتوفرة بين أيدينا ثم محاولة تطبيقنا للمنهج التاريخي على الموضوع ــــ كما تصورناه شرط أن يكون لائق به ــــ لكن يرتبط هذا الموضوع في مادته بكل ما هو سوسيوــ أنثروبولوجي. لكن حتى نتفادى التعقيد الناجم عن تداخل المناهج فضلنا أن نكتفي بالمنهج التاريخي الصرف كما تتوخاه علميا عناصر الآتية: الظروف المحيطة بالدارس أو المؤرخ أو الأديب نفسه من مولده ونسبه، والبيئة أو السياق المحيط به، وظروفها التاريخية من جميع الجوانب.

   وفي هذه الإطلالة نحن أمام متغيرين هما الظلم البشري/ الجناية البشرية المترتبة عن الجماعة، أو وجود الآخر في حياة الفرد والجماعة والنصوص الدينية، أما مدى ارتباطهما ببعضهما فتلك مهمة المنهج الذي ارتضيناه لإطلالتنا، وهو حتما ليس المنهج التاريخي الخاص بالعلوم الذي يحلل الوثائق بغية سد الثغرات التاريخية، بل نحن بصدد المنهج التاريخي الخاص بعلم الأنثروبولوجيا الثقافية التي تتقاطع مع التاريخ والنقد الأدبي معرفيا، ولأننا أمام نصوص أدبية وتاريخية متمثلة في الكتب المقدسة الثلاث (ولم يتح لنا الرابع ألا وهو الزبور) زائد ما ورد في الأساطير والملاحم وأجناس الأدبية أخرى أن اقتضت الضرورة .

   ويعد النقد العلمي Critique Scientifique ، الذي ظهر في أواخر القرن التاسع عشر، شكلا مبكرا للنقد التاريخي، من أبرز ممثليه هيبوليت تينH.Taine (1828-1893) ، الفيلسوف والمؤرخ والناقد الفرنسي الشهير الذي درس النصوص الأدبية في ضوء تأثير ثلاثيته الشهيرة:


-1-  العرق أو الجنس (Race)؛ بمعنى الخصائص الفطرية الوراثية المشتركة بين أفراد الأمة الواحدة المنحدرة من جنس معين.

2- - البيئة، أو المكان أو الوسط، (Milieu) ؛ بمعنى الفضاء الجغرافي وانعكاساته الاجتماعية في النص الأدبي.

 3- - الزمان أو العصر(Temps)؛ أي مجموع الظروف السياسية والثقافية والدينية التي من شأنها أن تمارس تأثيرا على النص.[2]

   أما المنهج الجدلي المادي أو الديالكتيكية matérialisme dialectique فمذهب فلسفي يقوم على مبدأين أساسيين هما مادية الوجود، وجدلية المادة، وتتفرع منهما مجموعة من المبادئ الأخرى التي تعدّ الأساس في تفسير مظاهر الوجود المادية والحياتية المختلفة، فالوجود تبعًا لهذا التصور مادة تتجلى بأشكال عدّة، منها ما هو بسيط ومنها ما هو معقد ومنها ما هو شديد التعقيد، ويصنف الماديون الجدليون الفلاسفة بصورة عامة في اتجاهين أساسيين هما: الماديون والمثاليون[3]

   ففي حين يميل أصحاب الاتجاه الأول إلى القول بمادية الوجود وأسبقية المادة على الروح، أو الفكر، يقول أصحاب الاتجاه الثاني بأولوية الروح أو الفكر على المادة. أما فكرة الجدل فهي مبنية على 1/مبدأ التناقض، الذي يؤدي إلى الصيرورة والحركة، وأنه من دون التناقض بين الأشياء تنتفي إمكانية الحركة، وتنتفي إمكانية الحياة. و2/تحول الكم إلى الكيف و3/نفي النفي.

   لعلّ القارئ المثقف الذي له اطلاع بالديانات وعلما بالمجتمعات وثقافات الشعوب عبر العالم/ الأنثروبولوجيا الثقافية يدرك قبل غيره بما أصبح يحمله مدلول كلمة ثقافة في عصرنا، بكل بساطة أصبحت تشير إلى رفع الغطاء عن الانعزالية والتقوقع اللذين يتيحان انتهاك حقوق الإنسان بممارسة عقائد تؤدي في النهاية وبرغم دخولها كموجه حضاري إلى التخلف، أيًا كانت طقوسا أو شعارات أيديولوجية، بعدما أن كانت تشير في القرن العشرين إلى وقوف الحرية ضد حق الإنسان في الدين أصبحت في القرن 21 تضطلع بدور نحو التشتت والتفتت والتمذهب كالقول بالتدين بديل الدين، هذا الرفع الذي يُجلي: اللاعدالة، الأيديولوجيا إلى حد العصبية، والاعتداد بأهلية الغيب لا أهلية العلم. حيث في تظافر هذا الأخير مع أيديولوجيا الفكر السياسي/الطغمة التي تحكم باسم الدين أو باسم فلسفة معينة مسٌ بقيمة جوهرية في موازنة التقدم ـــــ التخلف ألا وهي العدالة، فإذا غابت هذه الأخيرة معناه واحد من اثنين؛ أنه هناك صراع أو احتقان أو تشنج أو استقطاب ثقافي أو تمزق حضاري في المجتمع الواحد لا يجد له حلولا والعينة جميع دول العالم الإسلامي، أو أن هناك حالة القبيلة البدائية كالتي مازالت تعيش في عالم آخر في عزلة تامة بعيدا عن الحضارة كالأسكيمو مثلا، وفي كلتا الحالتين ليس بمقدور الطاقات المثقفة الفردية عمل أي شيء لصالح الخروج من حالات عبودية الإنسان لأخيه الإنسان لأن الأمر يتطلب استعادة ثورة الغرب في القرون الوسطى في الشرق أو في المجتمعات الأخرى التي مازالت كابحة في معمعان ظلام اللاعدالة والحياة بالظلم ولأجل الظلم.

2. الفترة من نهاية العصر الحجري الحديث وبعثة نوح إلى بداية الحضارات القديمة (15000ـــ 4000 ق.م)

    في جميع العصور والأحقاب الزمنية الغابرة عرف الإنسان حب غريزي للسيطرة على أخيه الإنسان بعد التغلب عليه بشتى الطرق بخاصة كلما توقف عند شعور النقص اتجاه الخالق، الخالق الإله الذي يكون أمره بالسيطرة على كل شيء في الأرض عدا أخيه الإنسان حسب العهد الجديد: " نَعْمَلُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا، فَيَتَسَلَّطُونَ عَلَى سَمَكِ الْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ السَّمَاءِ وَعَلَى الْبَهَائِمِ، وَعَلَى كُلِّ الأَرْضِ، وَعَلَى جَمِيعِ الدَّبَّابَاتِ الَّتِي تَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ"[4]  نقصٌ ما فتئ يحاول عبثا أن ينقله أو يحسسه للناس الآخرين، ولعل أفضل النصوص المدونة والشفوية المقاربة للنص الديني من حيث تكريسها عوالم متصفة بالعظمة والألوهية، والتي ترجمت هذا السلوك هي الأساطير والملاحم لأنها نقلت الإنسان في محاولاته تطويع الطبيعة بما عليها من مخلوقات متسمة بالاعتيادية اتجاه السيطرة والإخضاع بالقوة إخضاعا حيوانيا إلى التماس الحيل والبدع التي تطورت عبر العصور، ومن ثم كان الظلم أيسر التحقق لدى المجتمعات البدائية بمجرد أن يرفض إنسان لِآخر طلبا، إننا لا نعني بإرادة القوة بالمفهوم النتشوي لكن بما يشبه القوة الخارقة التي تتولد في الإنسان الجبار بذكائه وجماله جراء رصد الظلم والتحقير فيتأله جراء ذلك، كأن الآلهة تنصفه بمنح جزء من مزاياها الإلهية، مهدى بركةً لبعض الجمال والذكاء الطبيعي غير المصطنع ودون سواه إن تطلب الأمر،  فارتسمت بهذه  البطولية الخارقة والتسيُّد معالم صفات الآلهة وأنصاف الآلهة والإنس والجن بحسب الأساطير القديمة وبالذات في هذه العصور التي بدأت تظهر فيها أولى التجمعات السكانية المعتاشة على الصيد لتنقش في حياتها الثقافة الأنثروبولوجية*. فآخيل بطل ملحمة طروادة لا يمكن القول أنه رفع لتلك المرتبة فقط لأنه أُستُبيح في شرفه وشرف قبيلته أسبرطا في هيلين التي اختطفها باريس الطروادي، بل يمكن أن يمتحن في ظلم مثله قساوةً أو أكبر منه كالعداء والاحتقار في كرامته أو في كرامة قبيلته وكل ما تعلّق بهما من شرور كالحقد والرصد التاريخي بالابتذال فرفعته الآلهة إلى مصاف إله ندا لند، جراء الظلم اللاحق به ممّن يدَّعون أنهم آلهة تماما مثل ما فعل الله مع موسى ضد الإله فرعون. ولذا لمّا نبذ السفسطائيون والفلاسفة الإغريق الآلهة وأنصاف الآلهة في تاريخهم نبذوهم من وجهة نظر سوسيو ثقافية وسياسية، لأن هناك عبرة تربوية وأخلاقية وأدبية شئنا أم أبينا أستقيت وما زالت تستقى من الميثولوجيا اليونانية القديمة وحدها.

  ونوح   Noah هو نبي ورسول ورد ذكره في الكتب المقدسة لأتباع الديانات الإبراهيمية بالإضافة إلى ورود ذكر شخصية مشابهة له في أساطير بلاد الرافدين الذي دعا قومه إلى الله 950 سنة. والاعتقاد السائد حسب الديانات السماوية هو أن نوح كان شخصية تاريخية حقيقية وكان الحفيد التاسع أو العاشر لآدم وأنه الأب الثاني للبشرية بعد نجاته ومن معه من الطوفان العظيم الذي أباد البشرية جميعا باستثناء الذين نجوا من الطوفان لاستعصامهم بسفينة عملاقة اشتهرت باسم سفينة نوح ،وهذا مذكور في التوراة  وأسفار موسى الخمسة المسمّاة بالعهد القديم (التاناخ) ــــ مع العلم أن التوراة تختلف عن التاناخ، والتاناخ يختلف عن التلمود/زبور داوود وأقربها إلى الإقرار بالشرعية السماوية هو التاناخ ــــ وما هو مذكور في التناخ غير مذكور في العهد الجديد وما هو مذكور في الإنجيل نجده غير مذكور في القرآن بحكم الأسبقية؛ من ذلك أن في التاناخ يقر الله أن الإنسان شريرٌ مع ذلك يقول سأدعه وشره ولن أعود للعنه أو إماتته بالطوفان أو بغيره كما فعل مع قوم نوح الذين طغوا وتجبروا :" وقال الرب في قلبه لا أعود العن الأرض أيضا من أجل الإنسان لأن تصوّر قلب الإنسان شريرٌ منذ حداثته. ولا أعود أيضا أميت كل حي كما فعلته. مدة كل أيام الأرض زرع وحصاد وبرد وحرٌ وصيف وشتاء ونهار وليل لاتزال"[5]

   بهذا الفهم يتبين أن "الله" استقل بل تنزه بعد عبرة سفينة نوح أن يكون له تدخلا مباشرا لصالح زيد أو عمر من البشر مهما علت مكانتهم حتى بني إسرائيل أنفسهم الذين ذاقوا الويلات لقرون من قبل الفراعنة، ولكن أصبحت إرادته تعمل مقادير مضبوطة غير متسرعة ولا محابية بالمرة، وهي تمهل بعوامل الزمن والمادة وحدهما فإذا كان لكل فرعون موساه فانه سيكون لا محال، وإذا جاء لِبناية الطُّغاة الشاهقة موعد سقوطها فأنها ستسقط لعيب في استدارة زاويتها ليس إلا وهي نتيجة معنى "لن أعود العن الأرض" في العهد القديم، وبالفعل فإن هناك بعد سفر التكوين في العهد القديم ما يوحي بهذا المنطق، حيث جعل الله العالم يسير بحكمة من دون تدخل مباشر، فكما تأله فرعون على الناس أمر الله لموسى أن يتأله على فرعون وبأخيه يكون له نبيا[6] فقد وصل به الأمر أن يقول لموسى".. احترز. لا ترى وجهي أيضا. أنك يوم ترى وجهي تموت" وليس كما جاء في القرآن " وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا"  هذه الحكمة الأولى وهي ضرب الناس ببعضهم أو الشر بالشر بعد الطوفان فقط، ولعل في ارتفاع يشوع بن نون خليفة موسى إلى مصاف الآلهة في محاربة الكنعانيين:" يومئ للشمس بالكف عن المغيب ليلة بأكملها لكي يقضي على آخر نفس حية في بلدة جعبون الكنعانية قبل أن يحل فيها الظلام"[7] لا ينم عن غريزة الفتك بالآخر صنو عالم الحيوان بقدر ما ينم عن مقابلة طبيعية له، الشمس الحارقة تقابل بالبرد الشديد والرياح العتية تقابل بالجبال الصلدة وهكذا، أما الحكمة الثانية أن موسى كان يدرك كل مرة أن الناس لن يصدقوه ما لم يظهر له الله آيته لهم قائلا:  أنا أغلف الشفتين.  فكيف يسمع لي فرعون؟ تعبير مجازي يعني أنا مجرد عبد وليست لي بيّنة فكيف يصدفني فرعون؟ ولهذا سنفهم لماذا يجابه اليهود من قبل المسيحيين والمسلمين وكثير من الثقافات؟ لأن في التاناخ/ العهد القديم ما ينقض الكثير ما جاء في الأناجيل والقرآن، أي أنها خاصية تشابهت فيها كثير من الأنماط الثقافية التي تحدث بصورة مستقلة في الأماكن والعصور المختلفة وقتل الناس أو الأعداء كما يتصور يشوع لأنهم واقفين ضد إرادة موسى التي هي من إرادة رب موسى بل أن "الله" قال لموسى سأجعلك إلها لفرعون (بطريقة بنيوية) أي أن مجابهة التجبر والظلم لابد أن لا يخرج ـــ نفسه ـــ عن السياق أو العادة، فالشر يجابه بشر مثله سنّة كونية وقانون أرضي دون تدخل المباشر للرب (إبادة البشر ولعنتهم بالطوفان)

   ويشوع خليفة موسى كمن تجبّر على الكنعانيين وتسلط حين خالف هذه السنة واعتبر أن القانون أو الشريعة الدينية بمثابة فيتو إلى جانبه كما كان بجانب قايين حين قتل أخاه هابيل ردا لجوره وظلمه إياه، فحين قال له بأن الله قد تقبل قرباني ورفض قربانك سكت الشهود، ممّا يعني أنه يعني من وراء ذلك أن متع الرب المادية تذهب إلى هابيل لا إلى قايين. لأنه لو كان لحوار الله مع قايين بالشكل الذي ذكرته التوراة والإنجيل والقرآن فمن غير المعقول أن لا يدور في خلد قايين أن يطلب من ربه أن يحيي هابيل ويصلح بينهما لينتهي الأمر وتقطع الشرور من جذورها فلا يبقى قايين مطاردا ولا يبقى الانتقام ولا يدور الظلم بين نسله كما دار معه من أجل المادة، وفي تكرار تدخل الله أو يهوه أو تيوس منذ ذلك الحين تواليا مع حوادث نفسها مكررة : مادة ــــ أنا وآخر.  فما الوسيلة للحصول عليها؟ الوسيلة هي نفس العادة أعلاه التي دخلت كثقافة أنثروبولوجيا عصر بعد آخر، كما سنرى محاباة "الله" لهذا ضد ذاك.  فأساس الطغيان والتجبّر على الأرض العادة الثقافية لذلك قالت الحكمة أن العادات أساس الحياة، لأن الحياة هي العادة المكررة.  ولكن النص الديني المنسوب إلى الآلهة هو من شرع هذه العادة بل سيتعلم الناس الحيلة من عند الآلهة كي يستمر الظلم بينهم كما عمل الله لقايين علامة تدل على أنه هو ليس القاتل "وَجَعَلَ الرَّبُّ لِقَايِينَ عَلاَمَةً لِكَيْ لاَ يَقْتُلَهُ كُلُّ مَنْ وَجَدَهُ"[8] فيصير إذا قتل أو سلب المزارع الراعي والراعي الصانع حقه فضلا عن المالك الكبير أو القائد أخفوا كل علامة تدلل عليه. وهذا ما قال به مالينوفسكي:" الأفراد يمكنهم أن ينشئوا لأنفسهم ثقافة خاصة، أو أسلوباً معيّناً للحياة، يضمن لهم إشباع حاجاتهم الأساسية، البيولوجية والنفسيّة والاجتماعية. ولذلك ربط الثقافة بجوانبها المختلفة، المادية والروحية والاجتماعية، بالاحتياجات الإنسانية"[9] ونحن لم نبدأ من حادثة قايين مع هابيل كأول مظهر من مظاهر الظلم في التاريخ حسب النصوص الدينية على الإطلاق، وبدأنا بدلها من حادثة إهلاك قوم نوح بالطوفان، لأنه لم يبلغ معهما المجتمع إلى درجة تسمح بالاعتياد على رسوخية الثقافة البشرية لا الإلهية، كم كان قد بلغ الناس في عصرهما المئات، ألف، ألفين؟ هذا عدد ضئيل بالقياس إلى تجذّر أنثروبولوجيا الإنسان البدائي كالتي شهدها عصر نوح.

   ولعلّ السؤال المحير في هذه الآية في سورة مريم :" يا يحيى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً* وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا* وَبَرًّا بِوَلِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً* وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً" هو لماذا ربط التقوى والحكم والرفعة بين الناس بما هو ضد الظلم والتجبر غير الصريحين الذين ليس فيهما لبس ولا شبهة؟ يعني لماذا لم يقل ولم يكن جبارا عتيا فقط؟ بكل بساطة ــــ بل بداهةــــ حتى يُدخل "المعصية" التي تلتبس ثقافيا بخاصة عند المجتمعات البدوية والقديمة مع حرية الإنسان وحرية الإرادة وهي مجال إنساني بشكل أساسي، في أن يوافق منطق تفكيره ما غُرس به غريزيا من عقل لأن العقل في الإنسان غريزة تتحكم فيه عوامل نفسية، فيغدوا مخالفة الفطرة الثقافية وغير العقلانية معصية. فماذا لو كان الوالدان تثقفا على التجبر؟ فهؤلاء الطغاة يخطئون عندما يعتقدون أن الضعفاء أناس بدون إرادة القوة لأنه لا يوجد في الحياة مخلوق دون إرادة ( الاختيار نفسه إرادة) وهذا ما عبر عنه نتشة بقوله:" حيث وجدت الحياة وجدت إرادة القوة وحيثما وجدت عبدا وجدت إرادة أن يكون سيدا"[10]

   فمن ثمة فما الداعي أن خلق للإنسان عقلا وجعله بينهم قسمة عادلة؟ ضِف له أن هناك العقل المحض الذي بإمكانه الاستقلال عن الثقافة أو العادة الأنثروبولوجية السائدة بدون مشاكل كما أن هناك نباتات لا تنبت في غير التربة هناك أخرى تنبت وتثمر وتملك خصائص النباتات دونما تربة، فالوعي العلمي غدا أكثر من جلي منذ عزل الكنيسة وقيام الدولة المدنية العلمانية ـــــ إثر مجموعة من الإصلاحات قامت في فرنسا وإنجلترا خلال فترة التنوير مستندة على ما جاء في العهد الجديد في الشأن (روما 1:13 ) ـــ وعلى جميع المستويات العلمية والثقافية في العالم أجمع بيد أنه وعي لم يستقل عن الجماعة وسيطرتها على الأفراد لدى المسلمين دون غيرهم والنتيجة سريان التخلف بالقوة واستمراره وهو ما تلخصه هذه الآيات القرآنية من سورة البقرة " ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين 8 يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون 9 في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون 10 وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون 11 ألا انهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون 9 في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون 10 وغذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون 11 ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون 12 وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا أنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون " كل ذلك إنما يدلل أن النصوص الدينية أتت لترفع من قيمة الإنسان ظاهريا فقط لكن باطنا دلت على أن الاستقواء والظلم مصير الإنسان على الأرض إن اكتفى بالعادة وترك العمل بعقله، فإنه سيصير به مثل الحيوان يذبح ويسلخ، بل يقدم قربانا للآلهة من قبل عقل إنسان مثله يشبهه، فبرغم أربع رسالات سماوية وعديد الشرائع كان في انتشاره تعاليمها بين البشر ما كان من مجاوزة الحدود بذريعة سعادته غير أنها أدت إلى مفعول عكسي انتكاسي في سيادة  قانون الغاب من جديد في حواضر الإنسان المدن والأرياف في مراكز إشعاعها المستمر ولعلّ أقرب نموذج تاريخي إلينا هم سلاجقة حواضر بيزنطة الذين دخلوا الإسلام ثم راحوا يمشطون آسيا الصغرى مبيدين الأرمن اليهود والأتراك الوثنيين حتى دالت لهم الأناضول وتهيأت لهم فرصة حكم غالبية الرعية التي كانت من الروم النصارى، وارثين صفات الجنس التركي المختلط بالجنس الأصفر المغولي والروم والفرس والبابليين القدماء في الفتك، وكان لهم ما كان من تكوين نواة دولة الأتراك العثمانية التي سيكون لها بالغ الأثر في استمرار التوسع بقوة أسطولها وبطش قوادهم من رياس البحر خاصة تحت وقع الفوضى، تحت ضعف الحكم أمام أخلاط عدة من المسيحيين والشيعة والمغول والمماليك وسياسة فرق تسد للهجرات التركمانية الكبيرة اتجاه الأناضول بغية الاستقلال بإمارة صافية تعيد مجد العباسيين وهو ما كان، فكانت أول ضحية لها أوروبا الشرقية المسيحية الذي كان عداءها مضمرا منذ القرن 12م وكان ذلك بداية السقوط النهائي للحضارة الرومانية بسقوط القسنطينية عام 1435م برغم الزحف الصليبي المعيق وتوطيد ركائز الإسلام في شمال إفريقيا.

   والأدنى إلى اليقين منه إلى الارتياب أنه أحد أهم أسباب استمرار الطغيان والتجبر على الأرض بل تطوره إلى ما هو اشنع في الاستهانة بمقوم إنساني جوهري يفقد الإنسان دونه إنسانيته ألا وهو العقل، وهذه الاستهانة ظهرت وهي بصدد استخدام الدين ذريعة وليس أي دين إنما نقصد الدين المعروف المتمثل في الإسلام والمسيحية واليهودية عند نسبة ضئيلة وهو استخدام يقل عن 4 % تعدادا سكانيا حسب اطلاعنا من اتباع اليهودية مع اتباع النصرانية أيضا من موكا بيدا والأرثوذكس والبروتستانت بخاصة* أما مع المسلمين بما نسبته غالبة 99% مازالوا كلما حدثت ظواهر طبيعية كالفيضانات أو صراعات مسلحة أو مجازر تظلم فيها مجموعة قوية مجموعة ضعيفة من البشر أرجعوا ذلك إلى إرادة الله، لا بل ربما كانت إرادة الله هاته هي التي أوحت الحرب العالمية الثانية!  وفي الحقيقة شيوع هذا التصور لدى الإنسان ما قبل التاريخ (ومازال لدى بعض المجتمعات المتخلفة إلى أيامنا) راجع إلى الفقر والجهل وإذا ما تمكّن من تجاوز الفقر فإن الجهل سيقف حائلا وراء التحرر من العادات والغرائز التي سرعان ما تكرسها ثقافة القانون الوضعي أو الإلهي الذي يرتضون به، فيمنعهم من التفكير خارج الحدود المرسومة ومن ذلك العبادات الوثنية لآلهة الشمس وآلهة القمر وآلهة البحار والأنهار وغيرها، وشريعة القائد والحكيم البابلي حمورابي (1792 ـــ 1750 ق.م) المعروفة بشريعة حمورابي باعتبارها قانونا دوّرت حلقة الجهل المقنّع بقناع العدالة والتي استمد بعض شرائعها المتمثلة في دفع التعويض وقطع الأيدي والآذان والألسن من تراث العبرانيين واحتفظت بالوضع المظلم كما هو خلفا عن سلف، بالرغم أنه بنى إمبراطورية مترامية الأطراف فإنه لم يثق في أقرب مقربيه المحيطين ببابل فضرب عليها ونفسه طوقا من الأسوار العالية وعرمرم من الجند المدرّبين بينما لم يفعل مع سائر مدن إمبراطورتيه، هذا يعني أن قانونه الذي قيل عنه أنه أول قانون في التاريخ رجّح كفة العلم والعقل غير أنه في حقيقته ينام على أوهام عدة، فكلما توغل العلم الحديث في تحليل أصوله ومراميه وجده مؤسس على الطغيان والجبروت، تارة بذريعة القوة المادية (الأسوار والجند المدربين) وطورا بذريعة إله العدل البابلي الشماش، علما أن كتاب اليهود المقدّس (العهد القديم) يختلف عن الكتاب المقدس المسيحي (الإنجيل) بأنه لا يذكر أو يتنبأ بالعهد الجديد مع  بداية اضطهاد الروم لليهود نحو 75 ق.م ، كما أن هناك اختلافاً طفيفاً في ترتيب تقديم الأنبياء. وتم تحديد العلامات الصوتية المميزة (لتبيين النطق والإنشاد) في القرن العاشر، ولم يشمل الحاخامات الذين شاركوا في تحديد المضمون النهائي للكتاب المقدس في عهده القديم بعض النصوص التي تُعرف بالكتب الخارجية، أي غير المدرجة في الكتاب المقدس وهي الأسفار apocrypha التي ألحقت بالأسفار الخمسة بعد 400 ق.م لأنه لم يستشهد بها، فيها ربما ما هو منسوب للتلمود نفسه فلم يعتبروها ذات إيحاء مزيف غير إلهي وقد انتقل مصطلح لأبو كريفا هذا إلى كتبة وفريسيين المسيحية الذين أضافوا أناجيل لم يعترف بها رسل المسيح. ويتدخل الزمن في البعد التاريخي المعتبر عن العصر الوسيط في هذا التداخل في رأيي فالقرآن برغم أنه ينتمي تقريبا إلى العصر الوسيط غير أنه قد شهد هو أيضا التباسات القراءات فما بلك لو جاء قبل المسيح بقرون عدة فماذا سيكون لحق به؟ وهذه المطية (مطية التحريف) التي يتمسك بها المسلمون في مهاجمة العهد القديم والجديد معا غير علمية ( أذكر هنا موسوعة المسيري بخاصة) على اعتبار أولا أن كتابهم الأحدث زمانا وقد طاله الالتباس، وأن ما يقولونه على أنه الوحي الإلهي في الإسلام قد شهد به القرآن للديانة اليهودية والمسيحية ثانيا؛ فإذا كان القرآن اشتمل على ما جاء في التوراة والإنجيل فكيف تجيئ الآثار والمكتشفات متفقة معه فقط، دون أقوال التوراة والإنجيل التي تتردد على ألسن الباباوات والحاخامات كما يتردد القرآن على ألسن الفقهاء؟[11] هذا من جهة أما من جهة أخرى فإنه قد أفرزت العصور الوسطى التي غلت على صفيح ساخن إلى التنوير الذي انجلى على نوعية جديدة في الثقافة الأوروبية الغربية مفادها أن طي صفحة الظلام ماثل في العصور التي تلت وهج الفترة الإغريقية علميا، فهي لم تصل إليها رغم أنها أتت بعدها بقرون وهي تواليا الرومانية والإسلامية والقوطية مما يعني أن العودة للتراث الإغريقي الماثل وتجاوز غيره هو السبيل الأنجع.

   وللتمثيل فإن في الكتاب المقدس يأتي الكلام عن نوح :" فَقَالَ اللهُ لِنُوحٍ : نِهَايَةُ كُلِّ بَشَرٍ قَدْ أَتَتْ أَمَامِي، لأَنَّ الأَرْضَ امْتَلأَتْ ظُلْمًا مِنْهُمْ. فَهَا أَنَا مُهْلِكُهُمْ مَعَ الأَرْضِ"[12] وفي القرآن الكريم  كذلك :" ولقد أرسلنا نوحا إِلى قَوْمهِ إني لكم نذير مبين 25 أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم 26 فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأيِ وما نرى لكم علينا من فضلٍ بل نظنكم كاذبين"[13] والأقاويل التي تحاول تفسير وتأويل موضوع واحد في الكتب الثلاثة تختلف باختلاف التفاصيل أو الجزئيات فمثلا استنادا على الموسوعة الكاثوليكية فإن والد نوح لاميخ أطلق عليه هذا الاسم لقناعته بأن نوح سوف يخلص البشرية من العقوبة التي أنزلها الخالق الأعظم على آدم ويوصل الإنسانية إلى حالة من الطمأنينة والاستراحة. ويرى المسلمون أن النبي نوح هو أول الرسل، ومن أولي العزم الخمسة، بعثه الله لما عبدت الأصنام والطواغيت، وحاد الناس عن التوحيد، وقد ذكر الله قصته، وما كان من قومه، وما أنزل بمن كفر به من العذاب بالطوفان، وكيف أنجاه وأصحاب السفينة في غير ما موضع من القرآن الكريم.

       لقد ظل الإنسان منذ أقدم العصور على وجه البسيطة (قبل أن يخرج من الكهوف) يعزوا لنفسه رفعة على الأرض دون غيره تارة بالاستحواذ دون غيره، وعلى أكبر قدر ممكن من الأملاك المادية وطورا بإيجاد علاقة له بالآلهة، محاولا جعل تلك العلاقة شرعية دون غيرها من العلاقات كما يقول البرهان والمنطق العقلي المجردان من السياقات الثقافية العاطفية التي ستكون حجتنا في هذه الإطلالة البحثية، إذن رفعةً لنفسه ووضاعة لغيره ولما كان هناك في خاصية الإنسان كما سبق وإن ذكرنا العقل الذي هو أعدل قسمة بين بني الإنسان، من جهة والغريزة التي من العاطفة أي من وجدان الميل إلى الذات وهوى ما تطلب حتى ولو ظهر ذلك في شكل التعدي على الآخرين وإجبارهم سيطرة وطغيانا، وهو ثاني ما نسب لبني البشر على وجه الأرض بعد السيطرة على الأملاك أي أن الإنسان يحابي نفسه عند الله باسم الدين بانه محظي الله دون غيره أو أنه قد اختارته الآلهة ليكون نبيه أو صفيه من بعده، وفي كلتا الحالتين كان الدين شركي أو موحد لإله واحد تحت هواجس أخلاقية مجاوزة لغريزة الضمير أو غير مقتنعة بها للتقليل من قيمة وشأن العقل. ولعلّ الصورة الماثلة لهذا الحكم هي البوذية الجديدة وهي تعاليم بوذا المختلطة بآراء فلسفيَّة وقياسات عقليَّة عن الكون والحياة في مقابلتها للبوذية القديمة المُعلية لشأن النزعة الأخلاقية ــــ وقد لاقت مفاهيمها مثل النرفانا ولع الاستشراق الأوروبي خلال النصف الأول من القرن 19 لدراستها تأويليا لِما وجدت فيها من تقدم ثقافي وسنتناول ذلك في الجزء الثاني من هذا البحث ـــــــ وهي خير دليل على أهمية العقل في درء المظالم والمفاسد وشرور النفس التي بقدر ما جبلت بغريزة تقديم الأنا جبلت أيضا بضمير وعقل كمقابلين جدليين لها، لذا نجد اليوم اتباع هذه الديانة غير السماوية في مراتب متقدمة ومن الغربيين أنفسهم وكذلك الديانة أو الفلسفة غير السماوية الثانية المستحوذة على أعداد هائلة من البشر بحرصها على نزعة العقل وهي الهندوسية البرهمية بما فيها من دعوة إلى التصوُّف وخشونة في التعامل مع نوازع الذات ونبذ الترف، والمناداة بالمحبَّة والتسامح وفعل الخير والصواب في الاعتقاد، والعزم، والقول، والسلوك، والمهنة التي تُتَّخذ لكسب العيش، والجهد، والتأمل الفكري والروحي.

   وإنما حضارة الشرق الأقصى القديمة في الصين منذ أربع ألاف سنة خلت والهند منذ ثلاث آلاف سنة في نظرهما وتعاملهما مع المتجبّر الطاغية بالطريقتين المذكورتين أعلاه كانتا مثالا يحتذى مقارنة مع حضارة بين النهرين القديمة/السومرية حتى وان ديانتيهما الأرضية لم تتفاعل مع قصة نوح أسطرةً كما تفاعلت معها الأديان الشرق الأدنى التي قامت بين النهرين ( زرادشتية والبابلية والكنعانية الشركية) والتي أولت شعوبها قصة نوح مع الطوفان المذكورة في النصوص الدينية التوراتية وقرأتها أسطورياو خرافيا، حيث تذكُر لنا وتؤول النصوص الدينية على أنها مشوهة لا يُفهَم منها إلا أن الآلهة قد خلقت البشر وجعلت لهم خمس مدن كبيرة، هي في التاريخ الواقعي مراكز الحضارة السومرية، ثم هناك مقطع غير مقروء من النص، وبعده تتابع القصة أن الآلهة قد قررت إفناء البشر بالطوفان. لكن النص يبين أن الآلهة لم تكن كلها راضية عن هذا القرار، فبينما يقره "آنو" أبو الآلهة و"إنليل" كبير المجمع الإلهي، فإن "إنانا" آلهة الحب والخصوبة "ناحت على شعبها" و"ننتو" الأم الكبرى "بكت كامرأة في المخاض"، و"إنكي" إله الحكمة "فكر ملياً وقلب الأمر على وجهه" وقرر أن ينقذ البشرية من الفناء. في ذلك الوقت كان يحكم مدينة شوريباك. هناك أيضًا قصص مشابهة في الأساطير اليونانية القديمة تتحدث عن شخص يدعى ديوكاليون قام بإنقاذ ذريته ومجموعة من الحيوانات من الطوفان بواسطة سفينة وهناك أساطير من أيرلندا عن ملكة أبحرت في سفينة مع مجموعة لمدة 7 سنوات ليتجنبوا الغرق نتيجة الطوفان الذي عم أيرلندا.

  إن هذا الظلم الذي تكرس بلاوعي الثقافة الأنثروبولوجيا (طقوسية) دينية وأسطورية فكرية المشار إليه في بحثنا أعلاه لا يفتأ أن يكون نتاج سببين اثنين هما الفقر والجهل بمعونة التشريع الإنساني أو الإلهي المخول البقاء تحت أسر الجهل، العدو الحقيقي المثبط للتقدم ولتحوُل نمط معيشة الإنسان وطرائق تفكيره وسلوكياته الحضارية. هو في الحقيقة إما الظرف أو السياق الغير مباشر المساهم في بلوغه عن طريق غريزة السيطرة التي خولته إياه العادة الأنثروبولوجية المستقاة بمحاكاة عالم الحيوان الغامض والتائه في فوضى غريزة الشهوة وإشباع البطن بعشوائية ووحشية، وهي التي ميزت الحيوان المفترس عن الحيوان الأليف الذي أستأنسها الإنسان، وأثار الحفريات ورسومات الجداريات الصخرية تبين أن كلا الحيوانات المستأنسة والمفترسة قد شغلت فكر الإنسان العصور القديمة أي أن الإنسان حاكى في هذه العصور المتقدمة من جهة في تسيدها في مجالها الحيوي بقانون الغالب هو الأقوى. وإما باعتقادات روحانية (وهي ما لمسها العلماء من الرسومات ومن طقوس التي وصلتنا عن الإغريق والقبائل الأكثر بدائية على كوكبنا ) والتي مفادها أن روح الإنسان المتوفي تسكن الحيوان، لأنه يفتقد للعقل وهذه حجة أخرى أو ذريعة اتخذها للإنسان للتشبه بسلوكيات الحيوان في الاعتداء وسلب الموجودات حريتها وإنهائها إخضاعا كما يفعل الفحل أو بالقتل كما يفعل الأسد وجميع الوحوش. إذن ليس بغريزة البقاء وحدها ما انمى في الإنسان القديم قدرته على سلب الآخرين حرياتهم، وإنما الحيل العقلية وهي إن لم تكن المواضعة والتجانس على معتقدات بعينها: دينية ملحمية وأسطورية غدت بالتقادم طقس وعادة اجتماعية فهي سياسية كما يذكُر لنا التاريخ في هذه الحيلة اليهودية والتي تبين أنه لا انفصام للأنثروبولوجيا الثقافية عن الأنثروبولوجيا الاجتماعية عن الأنثروبولوجيا الطبيعية حيث كان بطليموس بن أبوبس قد أقيم قائدا في بقعة أريحا، وكان عنده من الفضة والذهب شيء كثير، لأنه كان صهر عظيم الكهنة فتشامخ في قلبه وسعي أن يستولي على البلاد، وقد نوى الغدر بسمعان وبنيه حتى يهلكهم، وكان سمعان يجول في مدن البلاد، يهتم بشؤونها، فنزل إلى أريحا هو ومتتيا ويهوذا ابناه في السنة المائة والسابعة والسبعين، في شهر شباط فاستقبلهم ابن أبوبس في حصين كان قد بناه يقال له دوق، وهو يضمر لهم الغدر وأقام لهم مأدبة عظيمة وأخفى هناك رجالا. فلا سكر سمعان وبنوه، قام بطلیموس ومن معه وأخذوا سلاحهم ووثبوا على سمعان في قاعة المأدبة، وقتلوه وابنيه وبعضا من خدامه"[14]

   وزمن الأسطورة كجنس ونوع أدبي يستعان به في الدراسات الأنثروبولوجيا هو زمن غارق في الأزلية أكثر من زمن الملحمة القرين بنمو المجتمعات وقدرتها على الفتك بمجتمعات أخرى تضاهيها قوة وبأسا حيث ترجع أقدم الملاحم فقط إلى 1200 ق.م فضلا أن الملحمة تدور أحداثها حول حركة شعوب أو مجتمعات أو قبائل ما، ومن الممكن أن تدخل الأسطورة في سياق أحداث الملحمة، لكن من المستحيل أن تدخل الملحمة في سياق الأسطورة، لأن أبطال الأسطورة هم من الآلهة أما أبطال الملحمة فمن البشر غير العاديين الخارقين لكن مهما اتصفوا بالشبه بالآلهة يبقوا أرضيين كأنصاف آلهة فقط كآخيل بطل ملحمة طروادة وجلجامش لكن منطق التفكير البشري في الأسطورة يخول لأبطال الملاحم الاتصاف بكل أوصاف البشر من ظلم وطغيان وقتل وسفك وغدر وانتقام والتماس الحيلة، وغيرها من الشرور التي تنشأ نتيجة من التفكير البشري نفسه، لهذا نجد جمال الغيطاني يحدثنا دالفا إلى التاريخ الفرعوني متوقفا عند أسطورة الإلهة إيزيس التي دبّرت حيلة لتعرف الاسم الحقيقي لجلالة الملك رع، الذي كانت له أسماء عديدة منها اسم خفي، وتنتهز إيزيس تدهور حالة الملك رع بعد أن لدغه ثعبان وتسأله:  ـــ اكشف لي عن اسمك يا والدي المقدس لأن الشخص يحيا بذلك[15].

   ولعل الأسطورة كجنس أدبي، وهي الحكاية التقليدية التي تلعب الكائنات الماورائية أدوارها الرئيسية[16]. طبعا يستهدف بحثنا فنا الملاحم والأساطير كنصوص شفاهية أما النصوص الدينية فالمكتوبة، (وفي الحقيقة النواة التي تشكل جوهر الملحمة ـــــ كفن ينتمي للأدب وبالتالي يجلي خصائصه لا خصائص الفلسفة والعلوم الاجتماعية والميتافيزيقية ـــــ هو هذا الإنسان فردا أو جماعة والذي يأخذه نقص ما اتجاه إنسان فرد أو جماعة فيسلبه حقا من حقوقه ثم يعمد بعد أن يدرك أنه لم يؤثر فيه حتى يترجاه أو يخضع له فيُصيّره عبدا بالإخضاع والسيطرة بشتى أنواع الشر والحقد والكراهية العظيمة فيكتسب المضطهد صفات الآلهة نتيجة هذا السلوك غير العقلي كهبة من الآلهة ـــــ الكبرى الحقيقية في الفكر الأسطوري والملحمي ـــــ ناتجة عن الآلية نفسها التي تقف ضد غريزة الإنسان في العيش بحرية كما خلقه الخالق لا كما أراده المخلوق المتجبّر الظالم وفي هذا التحويل إلى آلهة بإرادة من الله شيء من المشابهة مع تأليه الله لموسى المضطهد وقومه من قبل الفراعنة. بل أخشى أنه هناك منطق عقلي يحكم النص الديني والملحمة معا اتجاه الظلم الذي يضطلع به البشر باسم خادع وواهم هو أنهم "أرباب" أو "آلهة" على بعضهم البعض أو محظيين من قبل الآلهة وهي سندهم في ظلمهم وتجبرهم من دون منطق عقلي! لأن الخيوط الأولى للظلم تظهر في دلائله المتصلة بعواطف الإنسان وذاتيته، أنانيته وحبه لنفسه. ونخشى هنا إضافة إلى هذا الجوهر الذي يخص فن الملحمة والذي لا يستوي إلا ضمن شروط أساسية متناغمة معه وهي أن يُروى شعرا شفاهيا وأن يكون المُضطهِد والمضطهَد من شعبين مختلفين، نخشى أن هناك في كلية بن عكنون من في جعبته 40 سنة تدريس لهذا الفن لكنه لا زال لم يفهم جوهره ولم يأخذ عبرة ًساعيا لاضطهاد تلامذته كما في الملاحم تماما! بل يسعى عُمره للبحث عنه في منطقة غليزان! إنه حري به أن يتحول إلى أقسام الفلسفة وعلم الاجتماع خير له لأن الأدب عبرة، موقف وسلوك)

     انطلاقا من هذا التعريف يتجلى أن الأسطورة خير عاكس للظاهرة الأنثروبولوجيا بخصوصية وميز عال. وهذا التميز لا يهم فقط باحثي الميثولوجيا بل بقية الباحثين في حقول العلوم الإنسانية المختلفة، وعلى وجه الخصوص تاريخ الأديان وعلم الأديان المقارن والأنثروبولوجيا والأثنولوجيا والسيكولوجيا، نظرا لما تقدمه أساطير الشعوب إلى هذه المجالات من مادة غنية تساعدها على نهم وتفسير ظواهر الثقافة الإنسانية الأخرى[17]. وقصة بروميثيوس سارق النار تقول أنه ما إن عهد زيوس ملك الآلهة وحاكمها وإله الرعد والبرق إلى بروميثيوس وأخيه ابيمثيوس تشكيل البشر والحيوانات حتى أبطأ بروميثيوس، ما جعله يشفق عليهم وكان زيوس يرغب في أن يبقى البشر على ضعفهم غير أن بروميثيوس سرق العديد من الهبات منها قبس من النار من آلهة الأوليمب وأعطاها للبشر ممّا أغضب زيوس غضباً شديداً أهتز له جبل الأوليمب، وقرر عقاب بروميثيوس على الإثم الذي أرتكبه في حق سادة الأوليمب. استدعى هيفاستوس وطلب منه أن يصنع سلاسل قويه حتى يقيد بها بروميثيوس على صخره في جبال القوقاز، وكان كل صباح يأتيه نسر عملاق يدعى أثون ينهش كبده، لكن كبده يعود لينمو من جديد في المساء ليستمر عقاب بروميثيوس الأبدى، ولم يجد زيوس بدًا من معاقبة البشر أيضا فقرر إعطائهم هبة أخرى من شأنها تغيير كل الخير الذي جلبته هبات بروميثيوس لهم وهي امرأة تدعى باندورا مشكّلة من نار وهي من حملت في صندوق الأرواح الشريرة  (الفقر، النفاق، المرض والجوع..) إلى البشر[18]. ولعل هذه الأسطورة تبين أن المرأة انتقلت إلى مستوى أقل من الرجل بتصور ديني من نظام الآلهة بل شرا بالنسبة له.  فقبلاً، في العصور الحجرية كانت خيرا كلها لكن مع تطور الحياة الأنثروبولوجيا في الشرق الأدنى والأقصى القديم اضطهدها الرجل كما يضطهد القوي الضعيف، وبقيت كذلك في صورة أدنى منه كما صُوْرتها في الكتب السماوية أيضا والقوانين الأرضية في تعاليم الزرادشتية وكونفوشيوس وبوذا تواليا مع تقدم حركة التاريخ في الثقافات الأنثروبولوجية للشعوب لاحقا، ولم تتغير إلا في عصر التنوير لما تراجع الدور السياسي والاجتماعي للدين مع وجود بعض الاستثناءات بالنسبة لشعب الأوا في الأمازون.

   ولقد عرف العصر النيوليتي أي العصر الحجري الحديث تكريس سيطرة الرجل على المرأة وسحب البساط من تحت أقدام المجتمع الأمومي الذي سادت فيه ثقافة الأم الرّبة التي وصلتنا من تواتر رواية الأساطير بأن الآلهة الأولى البدائية في الأصل أنثى (كاوس وجايا وهيميرا ونيكس.. ) فضلا عن الحوريات وعملاقات الأنهار والجبارات وأنصاف الآلهة وهي سابقة لكبير الآلهة زيوس حيث قيس مجتمعا أموميا بدائيا على مقاس مجتمع الآلهة أن صح التعبير، فهي التي كانت تزرع وتحصد وتتكفل بالصناعة التحويلية لِما يصطاده الرجل وما تحصله من حبوب ونباتات، وبحكم ذلك اضطلعت بأمور سحرية وغيبية ظلامية فسرعان ما ألقت الأسطورة التي ذاعت في تلك العصور البعيدة ــــ المجتمع يتقدم عن الفرد ففي الاجتماع تتضح ملامح بناء اجتماعي وسياق أنثروبولوجي/ثقافة عيش مستقلة عن الأفراد بل تصبح قهرية على الأفراد أنفسهم كما يقول إميل دوركايم ــــ بظلالها على صورة الربة صورة سلبية فتمكن الرجل من قلب الطاولة لصالحه عندما بدأ الكهنة من الرجال بتفكيك الأسطورة الأنثوية وبعد فترة لم يبق من الأم الكبرى سوى جانبها السالب المعتم الذي ما فتئت الأسطورة الذكرية تكرسه وتعززه حتى لم يبق سوى "جنية الظلام" و"الغولة" و"الساحرة العجوز" [19]هذا المثال يوضح ما لقوة الواقع المادي من تأثير على ما تفرزه الأفكار والعكس صحيح لكن بفعالية الدّهر وحده تنتج سيطرة بعض الإنسان القوي على بعضه الآخر الضعيف، سيطرة تصل إلى سلب إرادته طوعا أو كرها تحت ذريعة تجسيد رغبات "أوزيريس" إله الزراعة في مصر والإله باخوس في اليونان فنتيجة للثقافة الدينية بالأساس تكون مفهوم التسلّط على المرأة في العصور ما قبل الحديثة بخاصة عند اليهود وقدماء المصريين ثم نما بالتدريج بالتعايش الأنثروبولوجي على القيم الأسطورية حيث تنكر إحدى الأساطير المصرية دور الأنثى في الحمل تماما، إذ كانوا يعتقدون أن الإله المصري "أتوم" خلق الكون من جسمه بالاستمناء. هذا وإنّ الديانات الذكرية المتطرفة قد حاولت أن تجتث تماما صورة الأم الكبرى من نظامها الأسطوري، كما هو الحال في ديانة العبرانيين بشكلها التوراتي المتأخر حيث لا نكاد نعثر ما يذّكر بالأم الكبرى سوى أثر باهت باق في شخصية حواء التي حولتها الأسطورة التوراتية من مبدأ للكون إلى مجرد أم للجنس البشري.. بل بتجريدها حتى من أمومة البشر وإعطاء آدم فضل الأبوة والأمومة، الأبوة لإنجابه الجنس البشري بواسطة حواء، والأمومة لإنجابه حواء نفسها[20].

3. فترة العصور القديمة (من 4 آلاف سنة إلى سقوط الإمبراطورية الرومانية 476م)

    في هذه العصور بلغ الإنسان مبلغا عظيما في التفكير والاعتناء بالطرق السليمة في التفكير بالموازاة مع إنشائه للمجتمع الزراعي فالتجاري فالصناعي لأن التفكير في توسيع الفائدة المادية غالبا ما يتبعه حسن التفكير، فما خلّفه تراث الإغريق يقول أنهم تجاوزوا المصريين في الاعتناء بالعلم لأنهم حرصوا على الرقي الحضاري فبدأوا بسلوك منهجية في التفكير العقلي أولا، ولعل مقولة أفلاطون "من لا يظلم الناس يظلم" تلخص مضمونا في ظل مرجع العالم المفتقد وهو الخالق الأكبر للكون، الذي سيصبح كشرطي مفترق الطرق الغائب، فيتدافع الناس إلى الفوضى حتى بالسفسطة سعيا للمرور أولا، وهناك من الإغريق من آمن بدينيس يوس وهو إله الخصب والنشوة في تراثهم ــــ وأصله من تراقيا Trakya التي هي منطقة تاريخية وجغرافية في جنوب شرق البلقان تضم شمال شرق البلقان وجنوب بلغاريا وتركيا الأوروبية ــــ وتطورت عبادته إلى أول عبادة توحيدية في العالم، فالديونيسية أصبحت توحيد صارم بحلول القرن الرابع الميلادي جنبا إلى جنب مع الميثرائية أو زرادشتية والطوائف الأخرى، شكلت الديونيسية مثالا "للتوحيد الوثني"  في منافسة مباشرة مع المسيحية خلال العصور المتأخرة القديمة التي جاز للمؤرخين أن يطلقوا عليها عصور العبودية، والسبب أن عصور بدائية الإنسان لم تتطور بشكل يجعل من العبودية عمل مشروع طبعا تحت مسمّيات أخرى مضلّلة  (وهي اليوم طنانة) أقواها الإكراه على عبادة "الله" بالطريقة التوحيدية عينها أو تلقي الأذية المشروعة لأن في شريعتها  "الله"  في الشريعة السماوية التوراة ثم التلمود خاصة (قبل تبلور العهد القديم : التاناخ) أو في قانون المصريين والبابليين وصولا إلى عصور الظلام الأوروبية الأولى مع أفول نجم الإغريق الحضاري هو الذي فرض عقاب على غير المؤمنين به لذلك نجد أنه في هذه المرحلة ـــــ وتوارثته النظم المكرّسة للعبودية والإقطاعية بعد ذلك كابر عن كابر وجيل عن جيل ـــــ تجسيد مقولة باخوس بالقوة من قبلهم أي أن للإقطاعي والسيد النبيل بأمر من دينيسيوس أو باخوس إله الخمر والنشوة جاز له أن ينكح أولا عروسة خادمه ومواطنه الفقير في ليلة زفافها أولا لكي يبارك دينيسيوس هذا الزواج! أما أدنا منه فالإقطاع الذي تطور إلى نظام اقتصادي متفنن في اغتصاب الآخرين الحق في تملك الأرض والسعي وراء الرزق وجراء الملكية الشاسعة لمصادر الرزق السهلة والمعتادة نشأت العبودية بعد أن تطورت آليات تحصيل لقمة العيش إلى الإجبار على العمل الرخيص (في الحقل وفي المنجم وفي الماخور..) ما يشبه النواة الأولى للتراتبية الاجتماعية في التاريخ فيصبح العمل في الزراعة والصيد والحرف الخدماتية بانتظام واجب لمصلحة السادة وبولاء وركوع يضاهي النظام العسكري حاليا. (وتشكلت المراحل الاقتصادية التي طبعت تاريخ البشرية بطابعها إثر ذلك ألا وهي عصر العبودية ثم عصر الإقطاع ثم البورجوازية ثم الليبرالية فالاشتراكية) وهو تشكل النسق الثقافي الأنثروبولوجي وفقا لمعادلة الآلهة خالق البشر/ Théos والأنا والآخر، فما من بؤرة اجتماعية إلا وتشكّل إطارها الثقافي من استثمار في كل ما يمكن أن تجلبه، ثم تقنين العلاقة مع الله وشرعنتها للفوائد الجانبية التي تجلبها في سبيل تكوين المجتمع الاقتصادي المتطور وفضلا عن الأساطير البابلية والإغريقية التي تحدثت عن تعاطف كل من الآلهة إيا/إنكي وآلهة الأوليمب مع البشر فإن التوراة والقرآن أكثر النصوص المبينة لاستثمار الإنسان في تلكم العلاقة لتجسيد مقولة البقاء للأقوى والأصلح، ففي العهد القديم/التاناخ يحيط الله بني إسرائيل بعناية شديدة فهو لا يفتأ يرعاهم وحدهم من دون الخلائق، بل يبعث في كل مرة بموسى وأخاه هارون إلى فرعون ليفاوضاه في اطلاق العبيد كي يعبدوا الله[21] بل ستصل عنايته بهم إلى كيفية أكل قربان لحم الخروف وبأقصى درجات الدقة! :" تأخذونه من الخرفان أو المواعز. ويكون عندكم تحت الحفظ إلى اليوم الرابع عشر من هذا الشهر. ثم يذبحه كل جمهور بني إسرائيل في العشية. ويأخذون من الدم ويجعلونه على القائمتين والعتبة العليا في البيوت التي يأكلون فيها. ويأكلون اللحم تلك الليلة مشويا بالنار مع فطير. على أعشاب مرة يأكلونه. لا تأكلون منه نيئا أو طبيخا مطبوخا بالماء بل مشويا بالنار. رأسه مع أكارعه مع جوفه. ولا تبقوا منه إلى الصباح.. [22]"

  وهذا السلوك يشبه سلوك رب الأسرة المصاب بمرض السكر والذي يحرم أبنائه من الحلويات لأنها ترفع له نسبة السكر في الدم! أخشى أن كثيرا من أتباع موسى لا يأكلون اللحم إلا مطبوخا بعد تجفيفه لأكثر من يوم فماذا يدعى سلوك موسى هذا مع أمته في شهر القربان الإلهي هذا أليس هو ظلم مقنّع بقناع تقديم الأنا عن الآخر حتى في أسفه الأمور؟ ثم ماذا عن شعوب الجارة لبني إسرائيل؟ الواقع المكرس يقول أنها ثقافة أنثروبولوجية إسرائيلية في المنطقة وإلى يوم الناس هذا على أنها شعوب غير معنية بأوامر تخص شعب الله المختار فقط! وفي الحقيقة نفس السلوك نجده في القرآن الذي نزل على النبي محمد بعد سقوط روما بقرن ونيف العام 610م فالنبي محمد يدعوهم نفس الدعوة التي دعا إليها موسى قومه بني إسرائيل غير أن هذه الثقافة الأنثروبولوجيا لحداثتها بالمقارنة مع الأسفار الخمس دعمت شريعة أو فقه العقيدة بشريعة أوفقه العبادات، وهي خطوط عريضة شكلت أو قولبت الذهنية الاجتماعيةــ الثقافية وإلى الآن يصعب تغييرها، منها أن تكون أضحية عيد الأضحى/قربان المسلمين في كل عام وليس كل شهر كما أمر رب موسى وكما أمر به الله نبيه محمدا شرط أن تكون سليمة وأن يأكل من كبدها بعد الذبح مباشرة ومن كتفها مطبوخا. أما وأن الإسلام يعترف بالرسالات السماوية قبله لكنه وهو يعيد ذكر قصص كثيرة توراتية وإنجيلية بصفة تكاد تكون متطابقة وفي نفس الوقت لا يعترف بكثير من الأسفار التوراتية بدعوة أنها محرّفة! ولعلّ من تلك القصص قصة إرسال رب موسى لموسى وهارون إلى فرعون لتحرير العباد لعبادته لكن بوعيد أكبر في حال عدم أخذ العبرة من وعيد رب موسى لبني إسرائيل:" اذهب إلى فرعون إنه طغى 17 فقل هل لك إلى أن تزكى 18 وأهديك إلى ربك فتخشى 19 فأراه الآية الكبرى 20 فكذب وعصى 21 ثم أدبر يسعى 22 فحشر فنادى 23 فقال أنا ربكم الأعلى 24 فأخذه الله نكال الآخرة والأولى 25 إن في ذلك لعبرة لمن يخشى 26 أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها 27 رفع سمكها فسواها 28 وأغطش ليلها وأخرج ضحاها 29 والأرض بعد ذاك دحاها 30 أخرج منها ماءها ومرعاها 31 والجبال أرساها 32 متاعا لكم ولأنعامكم 33 فإذا جاءت الطامة الكبرى 34 يوم يتذكر الإنسان ما سعى 35 وبرزت الجحيم لمن يرى 36 فأما من طغى 37 وآثر الحياة الدنيا 38 فإن الجحيم هي المأوى"(سورة النازعات)

   ففي سالف العصر والأوان (عصور العبودية الموافقة من مصر القديمة إلى القرون الوسطى) لا عبرة إلا في الظلم بين الناس، كان ضاربا الأطناب، لا تخلوا منه قرية من القرى ولا حارة من الحرات، وقد تفشى تفشي النار في الهشيم لما شكله الوعي المادي بمقولة البقاء للأقوى من لا وعي ثقافي أقام عليه البشر العادة بالتوارث، حيث من تقوم له قوة يقوم ليبطش لا رادع ولا قانون يمنعه إلا قوة المنافس، وهكذا فلا ريب أن نجد من أب الديانات السماوية إبراهيم نفسه لا يؤمن جانبه من قبل ابيمالك كما يذكر العهد القديم وباسم الله يشك في غدره له ! :" وحدث في ذلك الزمان أن ابيمالك وفيكول رئيس جيشه كلّما إبراهيم قائلين الله معك في كل ما أنت صانع. فالآن احلف لي بالله ههنا أنك لا تغدر بي ولا بنسلي وذرّيتي"[23]  وأن نجد من آلهة الإغريق الأشهر التي وصلتنا آلهة الحرب وأخرى للسلام، بالاس أثينا وأريس وغيرهما، وهذا أن دلّ إنما يدل على أن القوة قانون المجتمعات البدائية الأولى وقد اكتسبها للتطور معه عادة اجتماعية مثل اللغة تمامالقد كان كل من يملك ملكية خاصة يستدر منها قوته تصادرها كلها أو جزء منها وحدة هي الأقوى من نظيرتها بقانون القوة وحدها؛ كأن يملك شخص ما قطعة أرض يحصل من زراعتها قوته، يأتي من هو أقوى منه ليس شرطا أن يكون قائدا أو ملكا ويأمره بملأ كيس الغلة وإن رفض تكون عاقبته وخيمة، هذا الوضع هو الذي كان سائدا في عصور العبودية الأولى ثم استمر إلى عصر متقدمة، لكن في عصر النبي نوح تغيّرت بعض المعطيات وغدا الظلم يتم باسم الآلهة! الآلهة التي يؤمن بها المتعدي ولا يؤمن بها المعتدى عليه؛ أي آلهة متصورة في فكر المعتدين فقط وهي ذات قوة وبطش حتى على الضعفاء الذين لاحول ولا قوة لهم!

     لقد حاول الكثيرون عبر التاريخ تقديم الملاحظات الخاصة بالطبيعة الإنسانية والوجود البشري، كما افترضوا بعض التفسيرات للاختلافات القائمة بين الشعوب سواء في النواحي الجسمية أو في التقاليد والعرف والاعتقادات ولا نخال أن دراساتنا هذه تحيد عن هذه التفسيرات على اعتبار أن الحرب أو استعمال القوة  (الصراع ضد الآخر) سمة إنسانية وهي متمايزة وغير متمايزة في الأعراف والتقاليد الميثولوجيا والأثنولوجيا في نفس الوقت لدى الشعوب التي عرفت الحضارات القديمة، وهي في أغلبها تقع في الشرق الأدنى/الأوسط والشرق الأقصى كما وصلتنا عن طريق النصوص الدينية السماوية أو غير الإبراهيمية وهو الاسم المُفضل من اسم "الديانات التوحيدية" لأن هناك ديانات غير إبراهيمية في الحضارة الفرعونية لكنها توحيدية أو كما وصلتنا مدونة في الملاحم والأساطير، فأفروديت الحب والجمال مثلا في الميثولوجيا اليونانية هي عشتار آلهة الحب والحرب والجمال والتضحية في الحروب في الميثولوجيا البابلية وهي عشتروت عند الفينيقيين وفينوس عند الرومان.

   لم تمل الأجناس الهندو أوروبية ولا تكل في شن حروب مستمرة ضد اليهود في إسرائيل (اليوم) لأن اليهود لم يقبلوا بأن تكون أرضهم (أرض الميعاد وجبل صهيون) وشعبهم تابع لغيرهم بل كانوا يرون أنه يجب أن يكونا متبوعين لا تابعين لهذا كانت كل ما سطع نجم مركز إمبراطورية قوي إلا وأذاقهم الويلات عدا الإمبراطورية الإخمينية أو الساسانية الفارسية التي سعت إلى التحالف معهم، ولعل استرجاع تاريخ الشرق الأوسط عقائد وأيديولوجيات والتي مضت وتركت أثرها في ذاكرة التاريخ، ليس المراد منه الإخبار عن الشعوب والأقوام الأوليين فسحب، بل يُشكل عاملًا مهمًا في إيجاد خيط يربط قضايانا المعاصرة المعقّدة بأصولها السحيقة، كمسألة الأحقية والهوية التاريخية للشعوب التي سُلبت أراضيها أو العكس، كما أنه يُعطي الأفضلية للبلاد التي سبقت غيرها في البحث والتدقيق، وأخيرًا يُقدم لنا التسلسل الزمني لنهوض الحضارات البشرية بكل المجالات، أهمها الدين، حتى وصلنا لما وصلنا إليه.

   أما أول حرب سُلطت على اليهود هي التي سلطها الفراعنة على الجيل الثالث وما تلاهم من بني إسرائيل وإن لم تكن حربا بيد أنها بدت كذلك لعلم الفراعنة أنهم موحدين ومغالين في تمجيد سلالتهم فعملوا على إذلالهم بشتى الطرق إلى أن جاء النبي موسى وأخيه هارون فأخرجوا قومهم من العبودية والاضطهاد الفرعوني، وما إن استقر بني إسرائيل المقام في أرضهم بعد ضياع في الصحراء دام أربعين عام حتى هاجمهم الكنعانيين بدون أن يقدروا عليهم، وبعد أن أسسّوا مملكتين واحدة في الشمال في السامرة من قبيلة افريم وأخرى في القدس إلى الجنوب من قبل قبيلة يهوذا، قام الملك المصري شيشنق بمهاجمة مملكة يهوذا ونهب هيكل سليمان :" انتهز شيشق انقسام إسرائيل إلى دولتين بعد موت سليمان، وزحف إلى اليهودية، ونهب الهيكل ( 1 مل 14: 25 و26 و2  أخبار  12: 2-9) "[24]  ثم بعد ذلك غزا الآشوريين ارض كنعان ( تشمل غرب البحر الميت والجولان) ودمروا مملكة إسرائيل في السامرة وسلمت مملكة يهوذا، لكنه بعدها تمكن البابليين من الاستلاء على ما استولى عليه الآشوريين وتمّ لهم الاستلاء على مملكة يهوذا أيضا، ويقال أنه بسبب اكتشاف مؤامرة ضدهم قام بها الحاكم المحلي ليهوذا مع مصر فدمروا ما تبقى من هيكل سليمان بعد الاستلاء على مملكة يهوذا التي عاصمتها القدس أخذوا كثير من اليهود للعمل عندهم كعبيد، وبعدما انهارت المملكة البابلية استولى قورش الفارسي على بابل في العام 539ق.م بعدما أسس الدولة الإخمينية، وسمح لليهود بالعودة إلى ارض كنعان، واستمر الحكم الفارسي للعالم القديم حتى العام 333 ق.م حين قضى الإسكندر المقدوني على الدولة الإخمينية الفارسية، وحكم الإغريق الشرق الأوسط كله بما في ذلك مملكة يهوذا والشام وسعى بطليموس إلى أغرقته وعامل اليهود بقسوة حيث دمّر القدس ونفى سكانها إلى مصر، وفي هذه الفترة انقسم اليهود إلى قسمين قسم اندمج في الثقافة اليونانية وقسم تمسك بتعاليمهم الدينية في القدس وهم المكابيين نسبة إلى يهوذا المُكابي وظلوا حتى العام 64 ق.م عندما أزال الرومان الحكم الإغريقي فاحتلوا القدس وأسموها جوديا واليهود المُكابيين يعملون تحت سلطتهم.

  وفي هذه الفترة ولد السيد المسيح والذي بدأ في نشر تعاليمه في مدينة القدس والناصرة ومن بعده استمر الحوريين في ذلك، ولكن بعدما انتشرت التعاليم المسيحية كثيرا رفض اليهود تعاليم المسيحية ودخلوا في عداء مع المسيحيين ممّا جعلهم يرفضون الثقافة والحكم الرومانيين وإذا ما حللنا هذا الرفض من منطق ثقافي أنثروبولوجي في زمن مبكر جدا ما زالت فيه العبودية بأنواعها قائمة (المفهوم الموازي لها في أيامنا هو الجهل والتخلف) وجدنا فيه نوع من الإرهاصات المبكرة لحرية التي ناضل من أجلها الإيطاليون في بداية عصر النهضة الحضارية الكبرى 14 ــــ 17م والتي عرفت بـ renaissance باعتبارها حركة ثقافية ثورية لكن الفرق بينها وبين ثورة المكابيين أن الأولى كانت ضد الدين والأولى من أجل المبادئ الدينية التي تُبقي على التميُّز الثقافي وعدم الذوبان في الثقافة الرومانية لكن كليهما اصطبغا بصبغة حضارية هي الحرية ولما كانت النهضة هي من جلبت التنوير في القرنين 17 و18 ثم عصر الثورة الصناعية في نهاية القرن 19 ثم ما بعد الحداثة بما أفضى ازدهار حضاري غير مسبوق للعالم قاطبة، وبفضل الرجوع إلى مخلفات اليونانية العلمية، المخلفات التي لم يمنعها الاعتقاد الوثني بأن تصل إلى ما وصلته من منطق تفكير علمي لوجود حرية التدين، فالحركة العلمية تزدهر بازدهار الحركة الثقافية، وهذه الأخيرة مبنية على أساس الاختيار الديمقراطي والحرية لا الجبرية والاستعباد، والنتيجة أن الأبنية الأنثروبولوجية التي سادت العالم منذ اقدم العصور سرت في منظومة متراوحة بين الجبرية التي يتبعها بالضرورة جهل وتخلف وحرية يواكبها بالضرورة ديمقراطية وعلم، منظومة يضمر أحد طرفيها بوجود العوامل المساعدة على ضموره، وبالفعل لم يدم التنوير الإغريقي إلا عهدا من الزمن لتعود حليمة إلى عاداتها القديمة. وبين هذا وذاك هناك الأيديولوجيا التي يكرسها عامل الترّسب والتحول إلى عادات وتقاليد عتيدة، وهذه الأخيرة في عتاقتها تصبح منزّلة لدى أصحابها منزلة سماوية علوية (تصبح من القداسة بحيث تجد علاقة مع الله أو يهوه أو تيوس بسهولة) ونحن هنا لم نلحق الأيديولوجيا بعقيدة الجبر والظلم والاضطهاد لأن الأولى تصنعها العادة والطقس المجتمعي وهي متغيرة متحركة بينما الثانية غريزية مغروسة في نفس البشر.

   وأيديولوجية الرفض المستمدة من عقيدة اليهود التي اعتاد عليها اليهود منذ قرون ( أصبحت في القرن العشرين حقا إنسانيا مضمونا) لسوء الحظ اصطدمت كذا من مرة بعقيدة الظلم والاضطهاد وهو ما أدى بالإمبراطور تيتوس العام 70م إلى تدمير القدس وهيكل سليمان بالكامل وتشتيت اليهود عبر الإمبراطورية، وفي ظل حظر الشعائر اليهودية بالقوة عليهم قام اليهود بثورة العام 135م لكن الرومان تمكنوا من إخمادها وقتل قائدها " باركخبا " وآلاف اليهود وتشتيتهم بحيث خلت القدس من اليهود تقريبا إلّا من أضمروا يهوديتهم خشية التنكيل، أما المشتَّتين منهم في المستعمرات القريبة فتمكن منهم من العودة خفية إلى القدس عاصمة مملكة يهوذا التاريخية، والتي حافظت على تعاليم اليهودية وأسفار موسى ورفضت الذوبان في الحضارة الرومانية، وهل يوجد سكان أصليين يتعرضوا للاضطهاد والمحو الأسطوري ويبقون بعيدين عن بلادهم التي تربوا فيه أجدادهم تاركين غيرهم ينعم فيها؟ حتى الحيوانات لا يخضعوا لهذا المنطق ويعودون غريزيا إلى منطقة الولادة والترعرع الأولى.

   وفي الحقيقة تطرح قضية الإخضاع بالتسلط والاضطهاد والقبول به وشرعنته  بالمواضعة على المستوى الاجتماعي صاعدا إلى المستوى السياسي وإلا تنكيل الإنسان بأخيه الإنسان كما مرّ مع اليهود وقبلهم قوم نوح ــــ وسيأتي معنا تاليا حالات أقليات القرون الوسطى الدينية والأثنية وما تلاها من تفاقم الظلم البشري واستفحاله وليس تراجعه من المفروض مع الطراد تقدم حضارة الإنسان على الأرض ـــــ ولعلّ الذي حدث في فترتين مختلفتين وأخذ هذا الظلم ظلما بالتنكيل بُعدُهُ الأسطوري والذي لم يجد له مثيل في سيرورة تاريخية متصلة حسب رأينا الشخصي ـــــ يعني خلف الأسلاف تعرضوا لنفس اضطهاد وتنكيل ما تعرض له الأجداد ـــ ألا وهما فترة فرعون مع النبي موسى وهي التي سميت في التاريخ بالخروج الأول* وقد وقعت العام 1225ق.م الموافق لعصر فرعون تتحمس الثالث وفترة ثورة الثائر الموكابيدي باركخبا التي حدثت العام 135م ضد حكم الإمبراطور الروماني بومبي وهادريان في القدس أو أورشليم كما كانت تسمى، والملاحظ في كلتا الحالتين أن الظلم قد انتقل في فترة الحكم الروماني لشعوب البحر الأبيض المتوسط إلى صور مقنّعة من الاضطهاد باسم عقيدة سماوية توحيدية وهي مُجلة المسيحية لعقيدة سماوية سابقة لها بعد أن كان طيلة العصور البرونزية يتم بذريعة أو إيعاز من الآلهة الوثنية المتعددة تبع الفراعنة أو الآلهة الخارقة كما وصلتهم ووصلتنا من أساطير البابليين والإغريق وربما حتى الموَحدة التي سميت "حدد" آلهة العواصف عند الهكسوس كما يذكر المؤرخون. ففقط الذي تغير هو أسلوب التنكيل فإذا كان فرعون صلَب على جذوع النخل وغمس في حمم البرونز فان الإمبراطور الروماني تيتوس وخليفته هادريان عاثا في الأرض وفي اليهود فسادا، فأقاموا المشانق والصلبان على الأوتاد وأشجار الغار والغرقد، والنتيجة آخرون بشر تحولوا بالعرف وبالفاعلية السياقية الثقافية إلى مادة/ لقمة مستباحة يُفعل بهم ما تشمئز له النفوس.

  4. فترة العصور الوسطى (من 479م إلى سقوط القسطنطينية عام 1453م)

    في هذه المرحلة التاريخية المهمة في تطور وازدهار الحضارات الإنسانية، استطاع الإنسان أن يقفز قفزات هائلة نحو سيطرته على الطبيعة ونقل مركز الكون كما هو متصور ميتافيزيقيا وكما ترسّب في أنثروبولوجيا الثقافات المنصرمة:  أن هناك قوة خفية تدير الكون غير مدركة لكن الأنسان ادرك ذاته كمركز جديد للكون بسلطان العلم، وقبل أن نصل إلى النهضة الأوروبية في الفنون والفلك التي ازدهرت في إيطاليا في القرنين الثالث عشر والرابع عشر ثم انتقلت إلى باقي أوروبا في شكل حداثة علمية في علوم الفلسفة ثم علوم المادة الفيزياء والرياضيات والطب التي مكنت من تجاوز العصور القر وسطية المظلمة إلى نور التنوير والعلمانية فغدت المسيحية أول ديانة تستقل عن الدولة، وتصبح القوانين الوضعية هي التي تحكم القوانين العامة بين الناس وليس القوانين الإلهية إلا ما كان خاصية الذات تتبع الفراد لا المجتمع، المجتمع الذي أصبح نظامه مدني وليس ديني رجعي، ولا بد لمعرفة لماذا لم تتحقق الآلية نفسها مع المسيحية واليهودية لا بأس من أن نعرج على الوضع العام السياسي في منطقة الشرق الذي الأوسط الموطن والمركز الطبيعي والأصلي للديانات الثلاث .

1.4 فترة الحروب الصليبية

   وهي الحروب التي قام بها الأوروبيون في الفترة التاريخية الممتدة من (1096ـــ 1291 )، وكانت بشكل رئيسي حروب أمراء وفرسان، وسميت بهذا الاسم نسبة إلى الذين اشتركوا فيها الذين رفعوا شعار الصليب من أجل الدفاع عنه، وذلك لتحقيق هدف الرئيسي وهو تأمين الطرق والمنافذ إلى الأراض المقدسة بخاصة كنيسة القيامة، ولذلك كانوا يخيطون على ألبستهم على الصدر والكتف علامة الصليب ليومئوا إلى عدد من المجموعات العرقية والدينية هناك والتي اشتملت على المسلمين، والوثنيين السلاف، والمسيحيين الروس والأرثوذكسية اليونانية، والمغول، وجلهم اصبحوا الأعداء السياسيين للباباوات وطبقة النبلاء في بلاد الإفرنج وروما وإنجلترا بعد تمسح النورماند طواعية، والذين يكونون قد غضوا الطرف مرارا وتكرارا عن حقوق الحجاج المسيحيين في مقدساتهم، فالغاية هي تخليص المسيحية ليس إلا بيد أن الطرف المقابل هناك (السلاجقة والفاطميين) لفّق له تهمة السيطرة والاحتلال الدائم عن طريق التوسع الإقليمي المدروس منذ البداية (نهاية القرن التاسع) وهو الأمر الذي نفاه واستبعدته نسبة كبيرة من النبلاء بدلائل أغلبها منطقي، وكان هناك استثناء واحد هو حروب الاسترداد في شبه الجزيرة الإيبيرية. لا ريب أن الصليبيون يأخذون الوعود منهم ويمنحون التساهل كما كان يفعل النبي محمد في أول حجة له. فقد أعطى البابا إسكندر الثاني عام 1063 بركته لمسيحيو إيبيريا في حروبهم ضد المسلمين. ولما سارت الأمور على ما يرام في بداية القرن الحادي عشر كانت مباركة لا تقل أهمية من سابقتها وهي مباركة بابا روما لأمراء شمال الغال لمحاربة أمراء جنوب الغال لخروجهم عن سلطته فتحمس هؤلاء المراء لحرب صليبية ضد الأمراء الإقطاعيين وحلفائهم من فرق الهرطقة "الأطهار الألبيجنسيون" في مقاطعة تولوز، فكان من السهل أن تندفع جيوش هؤلاء الأمراء بحماس بعد استتباب الأمن الكنسي إن صح التعبير لضرب عصفورين بدل واحد، أي استغلال الفرصة ما دام دم الحملة حامٍ، وليس للجيوش الصليبية ما تفعلها غير توجيه الاهتمام أخيرا إلى أزمة البقاع المقدسة في الشام عامة وفي القدس خاصة التي أصبحت عسيرة على المسيحيين وحجاجهم بخاصة في كنيسة القيامة التي دمّرت وأعيد بناؤها، واستجابة لحملة كان قد أطلقها البابا أوربان الثاني عام 1095 في كليرمونت فران دعاها تطبيق "دعوة الرب" ونصرة المسيحيين ضد اضطهاد الحكم الفاطمي الإسلامي والأرثودوكسي البيزنطي على السواء.

   وتضع التقديرات عدد الضحايا الذين قضوا في الحروب الصليبية بين مليون إلى حوالي ثلاثة مليون شخص [25]، أي أننا هنا أيضا بصدد معادلة الحرية في صراعها مع التنكر للحقوق ظلما وبالاضطهاد وبالتمكين والعادة الثقافية المتمثلة في رفض الحضارات الهندو ـــ أوروبية الوثنية للدين المستحدث والذي لا يقارعها حسبها في الأسبقية التاريخية، فبعد أن كنا بصدد إبادة وتنكيل تاريخي أسطوري ليهود بني إسرائيل، وقد وصلنا فيه إلى تنكيل بومباي الروماني لليهود وثورتهم بقيادة باركخبا شر تنكيل نصل الأن إلى القرن العاشر الميلادي لكي نشهد كيف أن الدين الجديد المستحدث وهو الدين الإسلامي الذي جاء كرسالة سماوية بالقرآن وآياته أغلبها إعادة للعهد القديم والعهد الجديد بأسلوب مختلف، وهو لا يجابه بالوثنيات كما حدث مع أسفار موسى، بل أنها جميع وثنيات الشّرق الأوسط وأسيا الصغرى ستنهار أمام سيف الإسلام البتار و أمام سلطة الفاتحين الذين يحملون على خوذاتهم رمز الهلال، لتدخل فيه شعوبها زرافات زرافات  لكن المسيحية كدين سابق للإسلام جابهَهُ بحجّة التسييف أو التسلط بالمصادرة والجباية والاستعداء وعدم ترك حرية الاختيار للمقاطعات التي فتحها المسلمون، وامتد الإكراه إلى أن وصل إلى الأماكن المقدسة في القدس وبيت لحم والتي باتت تحت حكم السلاجقة والفاطميين عوض أن تكون تحت سلطة الباباوات والكرادلة، وشكل محاولة الاسترجاع مطية الحروب الصليبية لتحقيق طلب القسطنطينية بالوقوف مع الإمبراطورية البيزنطية الأرثوذكسية لمساعدتها ضد توسع السلاجقة الأتراك والمستقوين بعدها بالإمارة التركية التي ستشكل النواة الأولى للأمبراطورية العثمانية* وإخضاع الأناضول للسيطرة وذلك لأن جيوشهم تمر عبر الأناضول إلى الشام وفلسطين، ناهيك عن عدم نوم الصليبيين عن محاولة المسلمين غزو أوروبا بكل ما انجر عنه من آلام لشعوبها خاصة الإفرنجة**.

   فشكّلت الحروب الصليبية إذن علامة فارقة في صراع المجتمعات الأكثر حداثة في شريعتها السماوية إلا وهما بلاد الغال المسيحية ووراءها المجتمعات المسيحية بكل إرثها الأنثروبولوجي، الذي مازال يزخم إلى ذلك الحين بوهج الحركة الدينية التي خلّفها المسيح وحواريه الاثنا عشر، إذن هي حملات بإيعاز من بابا الكنيسة الكاثوليكية الإنجليكية الذي كان حينها الحامل المبارك للسلطة السياسية، بينما استقى الإسلام قوته كثيرا من ذوبان بقايا المجتمعات والديانات الوثنية القديمة، فإلى أي كفة ستميل الكفة بين الطرفين في هذه الحروب، وهل من تجاوز للأطر والقوانين والأعراف الإنسانية تنكيلا واستباحة الإنسان لأخيه الإنسان بأنكر الحيل بحجة أن "الله" يأمره بذلك، والذي من شأنه أن ينسينا في بشاعة مما تعرض له اليهود قبلا؟

   صحيح أن هكذا حملات بحجم الحملات الصليبية يمكن أن تجب معها الأخضر واليابس بل وأن تحيد عن بعض أهدافها كأن تنكل بيهود مملكة يهوذا في مذابح اشتهرت باسم مذابح راينلاند أو تحتل القسطنطينية إثر ما عرف بالحملة الصليبية الرابعة (1202 ـــ1204) وتستهدف الحملة كذلك الوثنيين و"الهراطقة" في طريقها وهم ليس لهم لا ناقة ولا جمل بالموضوع! لكن هل هو جائز ومعقول أن يقول بعض المؤرخين العرب اليوم بحملات صليبية شعبية وأخرى رسمية؟ إن هذا التصنيف برأيي لا يخرج عن إطار الصراع نفسه صراع الشر ضد الخير بمعونة الآلهة، موضوع دراستنا، أي توظيف الدين/الثقافة لأغراض ذاتية توسعية سياسية أو مادية اقتصادية، وهو لا يخرج عن أهداف الحملات الصليبية والتي دارت بموافقة البابا فكانت حروبا دينية بين أكبر ديانتين آنذاك المسيحية والإسلام، بتوجيه وتحريض من مبادئ دينية متضادة راكمت العداء بالنسبة لكليهما لقرون للاستيلاء والتسيُّد دون عمل حساب للجانب الإنساني والشعبي الذي قد يكون ينطوي على مذاهبا وتيارات تمقت الظلم بالدين، لكن سلطة السياق الثقافي دائما تغطي كنهر جارف على كل جدول في عصرنا عصر الديمقراطية وحقوق الإنسان وما بالك بعصر القرون الوسطى المظلمة، أما الجانب الاقتصادي فملموس ازدهاره في المدن الإيطالية واليونانية القريبة كجنوا والبندقية من ساحات المعارك، حيث شهدت ازدهارا تاريخيا نتيجة التجارة مع الأسواق السلجقية والبزنطية فالعثمانية، ونتيجة الإشادة ببطولات الصليبيين من قبل الكنيسة ازدهر أيضا الفن والأدب والفلسفة الرومانية، والعكس بالنسبة للمسلمين؛ فمن وجد حينها وقد تطلع لمدح بطولات المسلمين في الدفاع عن قلاعهم اتهم بالميل إلى اللهو والمجون فتأخر الإبداع الأدبي ثم خبت الابتكارات آليا حتى انطفأت نهائيا مع حكم العثمانيين. ولعلّ العقل الجمعي الذي احتاطت الكنيسة البابوية بأن لا تساير تطلعاته وهي بإزاء الحكم بقوانين غير عقلية من ذلك عدم إهمال القيم الإنسانية مقارنة بطغيان القيم الروحية الإطلاقية لدى الجانب الإسلامي هو ما سيكون لها بالغ الأثر في تغليب كفة المسيحيين.

    يصر بعض المؤرخين العرب أنه لما حميت المعارك بين الطرفين وبلغت ذروتها في معركة حطين التاريخية بين الجيش المسيحي بقيادة ريتشارد قلب الأسد والجيش الإسلامي بقيادة صلاح الدين الأيوبي (1138 ـــ 1193) أنه قد ارتكب الصليبيون مجازر رهيبة في حق المسلمين بينما كان المسلمون ودعون وإنسانيون للغاية إذ بزعم المؤرخين المسلمين ومن شايعهم يناقض الحقيقة القائلة بتدمير قواد الفرس والإخشيد المسلمين لكنيسة القيامة ــــ أقدس موقع مسيحي على الإطلاق ـــ لمنع الحج المسيحي، وانتهاز السلفيين للفرصة في مواجهة حملة الصليبيين قصد تنحية الفاطميين وعزلهم عن الحكم في مصر بعد تعثرهم في سد حملة الصليبيين الأولى التي أقامت أربع مراكز لها في الشام والأناضول بالإضافة إلى تحرير القدس التي كانت تضم كنائس مختلفة: بطريركية اليونان الأرثوذكس، والفرانسيسكان من كنيسة الرومان الكاثوليك والبطريركية الأرمنية، فضلا عن الأقباط، والإثيوبيين، والكنيسة السريانية الأرثوذكسية، وتأسيس بذلك مملكة القدس اللاتينية، انتصارات مسيحية جاءت كتحصيل حاصل لخلاف السلاجقة الأتراك مع الفاطميين ولكن الأيوبيين أرجعوا سببها لمذابح يكون قد روع بها الصليبيون المسلمين وهذا لكي يتملصوا (بقيادة صلاح الدين الأيوبي) من جميع القيم الإنسانية والأعراف ـــ إن وجدت ـــ ويعملوا شرا وظلما أسطوريا في أهل الذمة أو أولو الكتاب (حرمة دماء أهل الذمة) لا شيء إلا أنهم أرادوا تأمين طرق الحج.

    أجل فقد وصفوهم بالكفار المهاجمين بيد انهم كانوا في حكم المدافعين ولعل هذا التصرف سيكون أول إرهاصات التشدد الأصولي السلفي ألا وهو التشدد في تكفير الناس أولا في الإساءة للإسلام نفسه وهو الأول في التاريخ الإسلامي ثم ثانيا بالإساءة إلى الآخر هو في حكم "أولوا الكتاب وأولوا العزم" وذلك ما سيكون له أثر بالغ في الاحتكام إلى هذه الفرقة وإضفاء الشرعية عليها لدى مسلمو القرن العشرين في شكل صحوة إسلام السياسي منجر عن هزيمة القومية العربية ضد إسرائيل، لأنها دافعت وانتصرت في تصورهم عن الكفار الصليبيين في معركة حطين، والتي عرفت بمعركة الحملة الصليبية الثانية بعد حملة الأولى التي استولت على الرها وطرطوس ودمشق, دمشق التي قال الشيخ التابلي أن الصليبيين أجروا زقاقها أنهارا من الدماء بعد أن دخلوها في خضم لتمثيله لحديث عصمة المسلم من ارتكاب المعاصي: " أُمِرْت أن أقاتل النَّاس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمَن قالها فقد عصم مني مالَه ونفسه" في أحد دروسه الفقهية.

    بينما تقول الرواية العربية أنه بعد انهزام جيش مملكة القدس اللاتينية عام 1187م على أيدي قوات صلاح الدين هزيمة استراتيجية (بعد الاستلاء على منابع الماء وحرق الأشجار) وعامل صلاح الدين الأسرى وسكان القدس معاملة حسنة بيد أن الرواية المناوئة تقول أنه هو من أجرى دماء المقدسيين اللاتين انهارا وبأعداد تقترب من 70 ألف وليس العكس، وجلهم في ساحة الكنيسة ومنع الماء على أسرى الجيش الصليبي حتى الموت عطشا بل قتلهم بضرب العنق، وكان يُخيّرهم بين الدخول في الإسلام أو ضرب العنق منهم قائدهم. وفي هذا المقام لا يسعني سوى الأسف على المغالطات التاريخية المستمرة للمؤرخين العرب والمسلمين بخاصة المحسوبين على السلفية، منهم الشيخ النابلسي كجزء لا يتجزأ من تعاملهم اللاعقلاني مع الحقائق العلمية لصبغها دوما بالصبغة الدينية.. ومازالت تشد بهم إلى التخلف.

                                                                     يُتبع بالجزء 2

 

 

 

 

 

 

 

 



* . باحث في الدراسات الثقافية

** . كونها حجّة غير خالصة العقلانية بل حجة عقلية سياقا ثقافيا يعني ملتبسة بمواضعة عقل جمعي أنثروبولوجيًا، وهي مواضعة لا تخضع لقوانين العقل المحض بقدر ما تخضع لقانون الجماعة الذي يضمن حاجة البطن والفرج أي أولوية ربط الفكر بثقافة الأهواء، ولعل ما يجعل تحديدا مشتركا دونما أولوية بينهما صعبا ملتبسا هو ضعف العقيدة أو الأسطورة أو عجزها في إحلال توازن وظيفي معياري بين العقل والنفس.

[1] . شكري عياد، المذاهب الأدبية والنقدية عند العرب والغربيين، عالم المعرفة، العدد 177 ، ص 13 .

* . وهو في كتابه اللغة والمجاز غير مقنع لما يقفز من الميتافيزيقيا إلى الواقع المادي من غير برهان أو دليل علمي مثله مثل من يقوم بطرح أحجيات على الناس لكنه يعود يفكها بنفسه في قوله بالصفحة 5:" تذهب الرؤية التوحيدية إلى أن الله رحيم مفارق، منفصل عن هذا العالم، منمل به. خلفه، ولكن لم يهجره، بل يرعاه ومنحه الهدف والغاية والغرض. من يؤمن بمثل هذه الرقية يؤمن أيضا بوجود عدل في الأرض، وأن العالم له معنى، وتحكمه قوانين و سنن، وينعكس هذا على الموقف من اللغة، إذ إن مثل هذا الإنسان سيرى أن اللغة هي الأخرى تشكل نظاما تحكمه قوانين ثابتة، ولذا يمكن التواصل من خلالها.." ومن كشف عن هذا النظام في اللغة أوليسوا هم معشر الملاحدة والبروتستانت الكلفانيين؟ وهؤلاء أول من يقول:" هذا يعني أن العدل لا يمكن أن يوجد في الأرض، بل ستسود رؤية داروينية تذهب إلى أن أي مفاهيم أخلاقية إن هي إلا مؤامرة الضعفاء على الأقوياء، وأنه لا يوجد قانون في الأرض وإنما يوجد صراع. فالإنسان ذنب لأخيه الإنسان، والقيمة الأسمى هي البقاء، وآلية حسم الصراع هي القوة. واللغة بالتالي تصبح تعبيرا عن موازين القوى لا أداة للتواصل، ودلالة الكلمات، يفرضها القوي في عالم لا معني له ولا غاية، تسيطر عليه في الوقت نفسه القوانين الطبيعية الحتمية. كما أن الصور المجازية والعضوية الإدراكية مناسبة تماما للتعبير من رؤية للكون تراه باعتباره خاضعا تماما لقوانين الطبيعة المضطردة، لا تتخلله مسافات أو ثغرات" لكن المسيري ينسب هذا القول فقط إلى الحلوليين! أما ما يفرضه منطق التفكير المنهجي والعقلي الصائب الذي أوصل أصحابه إلى ما هم عليه فقوله:" والاتجاه نحو تفتيت الظواهر الإنسانية لدراستها، أمر منتشر في بعض الأوساط الأكاديمية التي تنزيا بلباسي العلمية والموضوعية، وباسمهما تدعو إلى عدم الخلط بين المجالات المختلفة للنشاط الإنساني، وعدم الالتفات إلى مفاهيم الميتافيزيقية أو ثوابت إنسانية مثل الطبيعة البشرية أو القيم الإنسانية. فالعلم حسب تصور هؤلاء منفصل عن القيمة (بالإنجليزية: value-free) أي أنه في واقع الأمر منفصل عن الإنسان (إذ لا توجد قيمة في عالم الطبيعة/ المادة، فالقيمة المتجاوزة لقوانين الطبيعية المادة أمر مقصور على الإنسان، فيما يحكم الكائنات الأخرى برنامج جيني وراثي حتمي، يتحكم فيها ولا تتحكم هي فيه). وانطلاقا من هذا الموقف، يذهب هؤلاء إلى أنه حينما نتعامل مع ظاهرة اقتصادية يجب استخدام معايير اقتصادية وحسب، وحينما نتعامل مع ظاهرة سياسية يجب استخدام معايير سياسية، وحينما نتعامل مع الأعمال الفنية يجب استخدام معايير جمالية، كما يجب استبعاد أية معايير أخلاقية أو إنسانية عامة، لأن في هذا سفوا في الذاتية ا وفصل النشاطات الإنسانية عن المعايير الأخلاقية والإنسانية يؤدي إلى ضمور المرجعية الإنسانية ثم اختفائها.. " يحاجي فيه المسيري (يتفكّه به عن نفسه وهو لا يعلم فيجعل نفسه مسخرة) لأنه عين الصواب لكنه يتجاوزه إلى الغلط المقنّع الذي أنموذجه هو شخصه، يقيم نفسه دون تقديم ملموسا ماديا منتكسا إلى المرحلة اللاهوتية.

[2] . يوسف وغليسي، مناهج النقد الأدبي، الجزائر: جسور للنشر والتوزيع، 2010، ص16.

[3] .  د. م، مادية جدلية، 2019/ 11/ 21 ، موقع معرفة،  مادية جدلية https://www.marefa.org/

[4] . الكتاب المقدس العهد الجديد، سفر التكوين، الأصحاح 1 ، مزمور 26.

* . مصطلح الأنثروبولوجيا الثقافية Cultural Anthropology ليعني مجموع التخصصات التي تدرس النواحي الاجتماعية والثقافية لحياة الإنسان. يدخل في ذلك الدراسات التي تتعلق بحياة الإنسان القديم (أو حضارات ما قبل التاريخ)، والتي يشار إليها بعلم الأركيولوجيا Archeology . تتناول الأنثروبولوجيا الثقافية كذلك دراسة لغات الشعوب البدائية، واللهجات المحلية، والتأثيرات المتبادلة بين اللغة والثقافة بصفة عامة، وذلك في إطار ما يعرف بعلم اللغويات Linguistics علاوة على ذلك، يوجد مجالان دراسيان آخران ذوا أهمية كبيرة، وهما الأثنولوجيا .  ينظر حسين فهيم، قصة الأنثروبولوجيا، عالم المعرفة، العدد 98، يناير 1978، ص15.

[5] . العهد القديم ) التاناخ ( ، الأصحاح الثامن، مزمور21 .

[6] . العهد القديم، الأصحاح السابع، مزمور 1 و 2.

[7] . علي الشوك، الأساطير بين المعتقدات القديمة والتوراة، دار السلام، لندن 1987 ، ص 5 .

[8] . سفر التكوين، الأصحاح الرابع، مزمور 15.

[9] . لبيب الطاهر ، سوسيولوجيا الثقافة، ط3، اللاذقية: دار الحوار، 1987، ص12.

[10] . فريديريك نتشة، هكذا تكلم زرادتش، القاهرة: دار هنداوي، 2014، ص144.

* .  الكلفنية مذهب لاهوتي إصلاحي بروتستانتي لجون كلفن  1564 – 1509 وأتباعه يرون أن أشخاصا بعينهم يختارهم الرب لخلاصهم وذلك لا يكون إلا بالنعمة الإلهية والكلفنية هي أساس عقيدة الهرجونوت ) البروتستانت الفرنسيين ( والبيورتان والمشيخانية والكنائس الإصلاحية . ينظر ج . تيمونز روبيرتس من الحداثة إلى العولمة عالم الفكر، العدد 309 ، ص 107.

[11] . ينظر سهيل زكار، التوراة ترجمة عربية عمرها أكثر من ألف عام، دمشق: دار كتيب 2007، ص13.

[12] سفر التكوين، الأصحاح السادس، مزمور 13.

[13] . سورة هود، الآية 25 و 26.

[14] . العهد القديم، سفر المكابيين أول، 11 ــ16.

[15] . جمال الغيطاني، نزول النقطة الاستمرارية والتغير في مصر، كتاب اليوم، العدد 524 ، مايو 2009 ، ص5.

[16] . فراس السواح، الأسطورة والمعنى دراسات في الميثولوجيا والديانات الشرقية، ط 2 ، دمشق: دار علاء الدين، 2001 ، ص 10 

[17].  المرجع نفسه، ص 10.

[18] ينظر أمين سلامة ، أيسخولوس حياته ومسرحياته، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1979 ، ص 56ـ  57ـ  59 .

[19] . أحمد صالح، الر بات المد م رات الوجه الآخر للأم الكبرى، المعرفة، العدد 629 ، شباط 2016 ، ص 5.

[20] . المرجع نفسه، ص56.

[21] . ينظر التوراة (أسفار موسى الخمسة)، سفر الخروج، أصحاح 10 و 11.

[22] سفر الخروج، أصحاح 12 ، مزمور من 5 إلى 11 .

[23] . العهد القديم، سفر التكوين، مزمور 22 و  23.

[24] .  ينظر شرح الكتاب المقدس  العهد القديم - الأنبا مكاريوس الأسقف العام، موقع الأنبا تكلاهيمانوت،

https://st-takla.org/Full-Free-Coptic-Books/FreeCopticBooks-002-Holy-Arabic-Bible- Dictionary/13_SH/SH_230.html

*  . )لأن هناك خروج اليهود/ الكنعانيين الثاني نتيجة اضطهاد سلالة الملوك الهكسوس لهم حوالي 300 ق.م بقيادة متمرد مصري يدعى سرساف(

[25] .  حملات صليبية (4/6/2021)، ويكيبيديا، عنوان:            https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%AD%D9%85%D9%84%D8%A7%D8%AA_%D8%B5%D9%84%D9%8A%D8%A8%D  9%8A%D8%A9     

* . وهذا ما دفع بعض المُؤرخين إلى اعتبار أنَّ نتيجة معارك السلاجقة ضد بيزنطة اتخذها الأوروبيون حُجَّةً من بين عدَّة حُجج لإعلان حملاتهم الصليبية ضد الإسلام، ينظر  دولة سلاجقة الروم (1/6/2021 ) ويكيبيديا، عنوان: https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A9_%D8%B3%D9%84%D8%A7%D8%AC%D9%82%D8 %A9_%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%88%D9%85

** . معركة بلاط الشهداء أو معركة تورز وقعت في 10 أكتوبر عام 732 م بين قوات المسلمين بقيادة عبد الرحمن الغافقي وقوات الإفرنج بقيادة تشارلز مارتل. هُزم المسلمون في هذه المعركة وقتل قائدهم وأوقفت هذه الهزيمة الزحف الإسلامي تجاه قلب أوروبا وحفظت المسيحية كديانة سائدة فيها.  ينظر  معركة بلاط الشهداء (23/4/2021) معرفة، معركة بلاط الشهداءhttps://www.marefa.org/

 

 بوزيان bouziane
بواسطة : بوزيان bouziane
موقع تنويري فكري وشبه أكاديمي، يتغيا تقديم إضافات نقدية تخص تحليل الخطابات الثقافية ونظرية النقد والأدب متوسلا بجماليات التلقي والنقد الثقافي، كما يعنى بنشر إبداع قصصي جديد ليس له ما يماثله على الساحة الجزائرية، والمقال المتناول للشؤون السياسية والإعلامية والاجتماعية المقاربة للظاهرة الأدبية والمحاكية المكملة لها.
تعليقات