القائمة الرئيسية

الصفحات

أدونيس وأرباب الآلهة، إطلالة على منظومة الفكر العربي الراهن

أدونيس وأربـاب الآلهة، إطلالة على مـنظومة الفكـر العربي الراهن

بوزيان بغلول، الجزائر

     ذاك هو أدونيس رب الشعر بلا منازع ( وأدونيس هو بعل التجديد وإله السحاب و المطر في التراث الفينيقي، وهو ابن الملكة ميرا التي تحولت إلى شجرة اللّبان المر، أما آلهة الجمال والحب عشتار فهي مربيته، فمعشوقته كانت بيرسيفوني ملكة الجحيم وليست عشتار كما يذكر تضليلا الشيخ السلفي محمد رسلان الذي نحن بصدد قراءة نقده الديني لأدونيس) وحتى نضع القارئ الكريم بمنعة عن أي التباس، ما برح علي أحمد سعيد الشاعر والمفكر العربي الحداثي الرائد الذي لولا هفوته التي لا تُغتفر( الانتساب للتيار القومي العربي المعادي ﻟ "الإمبريالية"[1] بمساهماته في تأسيس مجلة شعر وآداب ذات التوجهين اليساريين لنال جائزة نوبل في الشعر مع بداية الألفية) وأقول الرائد لأنه مع وصول أحداث الربيع العربي في مصر وتونس وسوريا إلى نهايتها، والتي حضّ فيها الإسلاميون بخاصة الإرهابيون من اتباع مذهب أهل الحديث التيار الإلحادي و التيار العلماني و التيار العقلاني المستنير بالثقافة والعلم على التوالد بشكل مذهل، فالبروز، فالإسهام، فالنهوض بالأمة عكس ما كانوا يتوقعون، حتى صار لدينا عشرات من أمثال أدونيس في الوطن العربي، وربّما بعد عقودا وقرونا قادمة سيصبح لدينا مئات الآلاف من أدونيس الذين ينتقدون الإسلام من خارج الإسلام، وعشرات الآلاف من فرج فودة وحسن حنفي ونصر حامد أبو زيد والسيد القمني وإسلام البحيري ويوسف زيدان وعلي منصور الكيالي وغيرهم كثيرون، ممّن بدأوا يتناسلون بشكل مفرط، والذين بدأوا يجتهدون تعضدهم مواد مقننة جديدة كانوا في أمس الحاجة إليها قبلا وهي تلك التي تخص ديمقراطية الفكر وحرية التعبير دستوريا، أملاﹰ في الحد من جبروت أرباب الآلهة.

   تدل كلمة الرّبوبية من ناحية الاشتقاق اللّغوي على المُلك فيقال ربُّ الشّيء أي مالكُه وسيّدُه، فهم احتكروا " الله" لوحدهم محتفظين بحق الاحتكار بكل الوسائل حتى الحيوانية منها مع العلم أن العلم لا يقصي الفكر الظلامي ولا يفني قصد غاية نبيلة وهي رفع الجمود المضروب عن التفكير والاجتهاد للنهوض كما نهض الآخر غير المسلم ومن داخل الإسلام نفسه إلا بحجة المنطق العلمي ولا يتعامل مع الإنسان الظلامي إلا مشفوعا بربوبية المنطق الاستناري الذي يجمع بين خطاب العلم الذي هو المنطق العلمي وخطاب الدين الذي هو المنطق العاطفي، كون العلم هو أول من يدافع عن حرية التدين الخاص بين العبد وربّه دون أن يكون ذلك سببا في تحوله من عقيدة شخصية إلى أيديولوجيا تستغلها السلطوية، كيف أن أرباب العقول النيرة الذين تعودوا أساليب العلم، وطرقه الدقيقة يؤمنون بمعتقدات دينية، أو سياسية، أو سحرية، أو غيرها من المعتقدات التي ينهزم جيشها أمام المنطق العقلي الخالص؟ حقا يسهل الجواب عن ذلك، فالمنطق العقلي هو دليل هؤلاء الأرباب في مبادئهم العلمية وأما في معتقداتهم فإنهم ينقادون لقواعد المنطق الديني أو المنطق العاطفي، والعالم ينتقل من دائرة المعرفة إلى المعتقد كما ينتقل من مسكن إلى آخر، وإذا ذهب في الغالب ضحية الخطأ فذلك لمحاولته أن يطبق في تفسير مظاهر المنطق الديني أو العاطفي في معتقد وغيره تفسيرا علميا مناهج المنطق العقلي.[2]

   ونخشى أنه فقط مع مثل هذا المنهج العلمي في التعامل مع الموقف السلفي المتطرف سيصبح لنا (لأنّ أرباب الآلهة أنفسهم أرادوا ذلك بنيويا) في المستقبل على المدى الطويل مئات الآلاف من الملحدين لا يشكلون "أحياءً نيويوركية شرقية" بل مدن شرقية وعربية بكاملها أيضا، وكل هؤلاء وأولئك سيُسهمون أولاﹰ لا محالة في إقامة التوازن بالاختلاف الذي هو سنة الكون، وبناء المجتمع المدني صنو المجتمع المدني في الغرب قرين كل تطور مأمول ثانياﹰ.

   ففي صراعه المحتدم، صراعاﹰ مستميتا تلو آخر مع التيارات الإسلامية، وصل الأمر بأدونيس إلى أرباب الآلهة؛ هؤلاء الذين نصبوا أنفسهم ناطقين باسم " الله" على الأرض مصوّبين غلوائهم نحو الاتجاه العقلي الذي يخشونه كثيرا، مُرهبين لكل من لا يعتقد بهم وبما يقولون ويعملون ويفكرون، إنهم تحولوا إلا أرباب بالتقادم والتراكم من حيث أرادوا أن يهْدوا البشر إلى الرّب ويحثوا عليه ليُعبد ويطاع فتحولوا بمحاولات "هداية" البشر و"رقيتهم" إلى "آلهة جديدة" مُكلّفة زورا وبهتانا من قبل الآلهة الحق! من بينهم السلفي محمد رسلان الذي اعتلى المنابر باسم الشيخ والعالم الأزهري وباسم العلم أي "علم العقيدة"؛ فعندهم الغيبيات هي التي توصف بالعلم، جوهر كل حقيقة وهي التي يقضي فيها صاحبها بعضاﹰ أو كل عمره في تفسير القرآن وشرح السنة وإثباتهما لغةً واصطلاحا (تأويلا تفسيريا) ذلك هو العلم! ــــــ ولكن مع رفع الحجاب مؤخرا عن كثير من مصنفات تراثية عريقة في "علم تفسير القرآن" حيث أصبحت محل النقد الصارم، وحتى تهجّم من منابر إعلامية، بتعبير آخر لم تعد بوسع بعض القراءات والتفاسير بخاصة في المتشابه مقاومة التأويلات الجديدة الجريئة، مما سيترتب عنه محاولات سد الثغرات وتأويل معاني بعينها رتقاﹰ وبحثا عن المخرج ليس إلاّ، من قبل زيد أو عمر من المتمطّعين من هذا الاتجاه أو ذاك، حتى كأنهم الملائكة لا يخطئون ولا يزلّون ولا يجدون نزرا من الاعوجاج فيه أبداﹰ ــــــ بينما علوم المادة عندهم التي تبحث في الفيزياء والطبيعة والتقنية هي "العلم ثانوي"! ـ ولعلّ أمر الاجتهاد موكول يقينا لأصحاب الاختصاص وهم علماء التراث والدراسات الإسلامية الذين أبلوا بلاءهم الحسن، سواء متقدمين كابن رشد (صاحب نظرية التأويل الشهيرة التي أخذ بها الغرب وذمّه وأهلكه بها التيار الأصولي منذ ابن تيمية) والفارابي وأبو حيان التوحيدي السابقين لعصرهم أو متأخرين جاءوا بعدما بلغ فيه بطش الباطشين الحلقـوم، في تأليه البخاري ومسلم و الإمام الشافعي وابن القيم وابن كثير والرواة ... أصل كل الفتاوي التي أباحت تكفير وتقتيل من يخالفهم، بينما علماء الطبيعة والماديات غير المتخصصين، كم ألفينا غير المؤهلين  منهم كالمهندس السوري علي منصور الكيالي ــــ للغاية ذاتهاـــ ونظرا لعدم التماسهم الروُّية إثر الأحداث الجارية في بلده سورية، فأساءوا للقرآن من حيث أرادوا به خيرا وأعطوا الحجة الدامغة بأن الإسلام ليس بدين يحث على العلم أكثر من كونه يحث على علم "الغيب"، والأكثر من ذلك بأن القرآن كلام من صنع مواضعة أخلاقية بشرية.

   حيث أولاﹰ كل ما ظهرت نظرية علمية من لدن علماء الغرب مطابقة بالصدفة لآية من آيات القرآن قالوا هذه إعجاز القرآن العلمي، ولم يعلموا أن النظرية العلمية في تغير وتبدل مستمر! فعلى سبيل المثال نظرية أنشتاين "النسبية" لم تعد تساوي شيء في نطاق سرعة الفتون الضوئي، بعد اكتشاف ما تحت الإلكترون أو النوترينو Notrino ثم الكواركQuark top ، وثانيا بحوثهم في تأويل المتشابه في القرآن ما برحت متسرعةﹰ مبخسةً حق علماء الفقه والحديث المتقدمين، صحيح أن هؤلاء ليسوا أنبياءً ويجوز مخالفتهم وانتقادهم في أمر المتشابه، لكن هؤلاء أيضا ليسوا مغفلين كما تتصورون ولا موظفين كلهم لخدمة البلاط، لنكن واقعيين، هؤلاء علماء منهم الأقحاح، عاشوا في سياق العصر الذهبي للغة العربية قبل 250ه كيف يفوتهم جملة وتفصيلاً ما يعرف بالمعنى المجازي السياقي؟ هم أدرى بلغة شبه الجزيرة العربية بلاغة وفصاحة قبيلةﹰ قبيلة من المهندس السوري منصور علي الكيالي، لا يعقل أن يغيب عنهم معنى العُقود، أي عَقدَ بمعنى ذبح البهيمة شرعا مثلاﹰ، المعنى الذي أتى به الكيالي مخالفا لتفسيرهم للعقود بعقود الشراء والبيع. وخلاصة عدم الرّوية في تأويل القرآن ههنا تحصيل حاصل لسمة العنف التي تميز به الإسلام دون الديانات السماوية الأخرى، وهي التي أخرجت أمثال الكيالي لكي يسيئوا إليه من حيث أرادوا عزل السلفية الجهادية بعلومها وبسياساتها المتطرفة في المنطقة. والسؤال الطارح لنفسه هو أين كان الكيالي قبل اندلاع الحرب في سورية؟!

   ولعلّ جسارة هؤلاء الحداثيين دون أدنى شك جاءت من حسن نية ردا على جمود الفكر الإسلامي المزمن بل واتجاهه لتكريس الأمر الواقع عنفا وطغيانا و"ربوبية" فكرا وممارسة، وهؤلاء في نضالهم بخاصة ما تعلق بقراءة التراث الإسلامي قراءة علمية دقيقة يشبهون في جرأتهم أيضا بظهور طائفة حديثة من مسيحيين عرب؛ علماء لغة غير اعتقاديين أو فلاسفة رواقيين تعلموا في أوروبا، وعن طريق فسحة حرية المواقع الاجتماعية وأمانها راحوا كاشفين عن أخطاء نحوية وأخرى صرفية يقولون أنها سبب "ركاكة القرآن"! وهم حتما لديهم غاية غير غاية أدونيس ونضال علمانيو الفكر العربي برغم أن كلا الفريقين يوجهون نقدا للإسلام من خارج الإسلام (وإلاّ ما كان السلفيون بقنواتهم الأنترنتية ليغُضُّوا الطرف عن "الشماتة" فيهم كما فعل الشيخ رسلان مع العالم العلماني أدونيس وغيره). أما جماعة أدونيس فنادوا منذ عقود وعلميا بضرورة إحلال المجتمع المدني مكان المجتمع الديني كي يتغير حال المسلمين إلى الأفضل؛ فالإمام بسلطته وسطوته الاجتماعية والأئمة الأربعة ومسلم والبخاري وابن تيمية وابن الجوزية وابن كثير.. فخرٌ بالنسب لأرباب الآلهة الجدد بدء من الأفغاني ومحمد عبده والترابي وحسن البنا وسيد قطب وصولاﹰ إلى القرضاوي ومحمد عمارة ومحمد رسلان، كل في مضربه القصي عن حضارة العلم والاختلاف بالرأي والفكر ينهى ويضرب ويتعرض، ثم يحتقر ويجدّف ويسفك بالتماس "الدليل الشرعي" من آلهتهم الأقدمون، لكنهم تحولوا بعد ما توهموا أنهم ظفروا بالدين استعبادا[3]، إلى شياطين لا ملائكة كما كانوا يأملون؛ لا وجود للحرية بدون عبودية كما يقول المفكر الإفرنجي في عصر هو عصر انبثاق التنوير: ".. من تظن أنه أعطى الإغريق ، وهم آنذاك قلّة، الشجاعة، إن لم نقل المقدرة على الصمود أمام أساطيل غطت وجه البحر لكثرتها ، وإلحاق الهزيمة بأمم كثيرة وافرة العدد ، حتى أن كتيبة الإغريق كلها(..) ما الذي مكنّهم من ذلك في تلك الأيام المجيدة، لو أن المعركة لم تكن ضد الفرس بقدر ما كانت انتصار الحرية على الهيمنة والاستعباد"[4]ـــــ والحق أنهم لم يكونوا ليظفروا به، لولا تفطير الناشئة عليه حتى وهم بعد في بطون أمهاتهم أجنّة وبالسّحر أحيانا، حتى إذا وُلِدوا مسَدُوهم بالعقاقير وبصقوا عليهم مهيأينهم آلهة جديدة مع سبق الإصرار. بيد أن العلم اكتشف بأن الإنسان من تكوينه الخلقي مفطور طبيعيا بمعرفة دينه وربّه دون أن يفطرانه أبواه ولا أن يعلمه أحد، فهو يهتدي إليه بغريزته المرتبطة بالإدراك الخاص به؛ تماما كالحب المدرك بقلب يختلف عن إدراك غيره، غريزة خاصة أودعها الله فيه لا تمت بصلة بغرائز الغير المشوبة بالغل والسحر، إذ كل فرد يولد على شكل أشخاص عديدين ويموت شخصا واحدا فقط باعتقاد مارتن هيدجر ــــــ إلى الاستعداء بالدين لكل من لا يبتسم لفكرهم ولا يستجيب لهم، فأسموا هذا كافرا والآخر صابئا أو جهْميا أو ملحدا أو زنديقا، بل إلى الترهيب الرّهيب، والتصفية الهمجية، التي هي من جنس الأسطورة، إنهم الأرباب الذين تحدث عنهم جبران خليل جبران وقد استعلوا في الأرض وورثوا صفات الآلهة نفسها في تسلطهم وظلمهم للناس.

   لكن ربما أكون أنا ومعي الإسرائيليين والآخرين، لم يسعفنا عقلنا البشري على أن نؤمن بما تقولونه وقاله نبيكم قبلكم، أي عاقل سيقول عندها أن الأمر أكثر من عادي، لا مشكلة، الكل يذهب في حاله والأرض واسعة جدا وانتهى الأمر، وأي عاقل سيقول أيضا أن أمة إسرائيل الأقدم ومن تلاها اليوم من جماعات ومذاهب وأفراد ليسوا من جنس قطيع البهيم بحيث كلما أتت ريح تميل بهم إلى حيث تميل، من خصائص العقل البشري عدم التصديق وعدم الإيمان إلا ببرهان، وتلكم سجيّة تحسب للإنسان لا عليه، هي صفة الإنسان السوي في أوج طاقته العقلية الخام، ليت شعري شتان بين الشخص الذي يقولون عنه هؤلاء الأرباب أنه مؤمن/مسلم وبين الشخص الناكث الذي لا يقتنع إلا ببرهان وبحجة بيّنة، أخشى إذن أن اليهود في تاريخهم ومن حذا حذوهم هم الأقرب إلى الآلهة الحقة من غيرهم، أما من انقادوا لأرباب الآلهة فهم غثاء مستضعفين يستقوون بمن يستر ضعفا للإنسان فيهم؛ كونهم يعلمون الحقيقة لكن ما ضرّهم إن لم يكن كتابهم المقدس حقا من عند الآلهة، فهو قانون وضعي لا يضاهيه قانون وضعي آخر، صالح لحياتهم وحياة فلذات أكبادهم من بعدهم، بل سترٌ ذرائعي لضعفهم بخاصة في جانبه الأخلاقي والأسري.

    ليت شعري، أليس المفروض إذن أن صفة عدم التصديق/الإيمان أنها صفة حميدة عقلية إنسانية، لا عجب من أن تسعد بها الآلهة الحقـة، غير أن في عالمنا العرضي المادي المفصول عن المثل وعالم الجوهر/الروح المطلق (وفي ذلكم الفصل تكمن حكمة وحقل هوية أو الأثير champ الذي لم يوجده موجد إلا لسريان طاقة التفكير الإنسانية فيه) تجسد أربابٌ ممّن لا تسعد بهم الآلهة الحقة لينوبوا مقام الآلهة. ولدرجة أنها تدّعي وتتقول باسم تلك الروح وربما تحرّف كلام الآلهة وتلبس لباس ليس هو من ديدنها أصلاﹰ، كالترهيب والتعذيب فأضحت في مقام رب الآلهة، لكن هل تنطلي معهم الحيلة على إله الشعر ورب التجديد أدونيس؟ هذا ما نحن بصدده في هذه السانحة.

   لعلّ معرفة الباحث المدقق أو الناقد الممحّص أو أي شخص يعمل في مجال الفكر بالتراث وبآفاق الحداثة معا تجعله قادر بل من المعول عليهم في إعطاء إسهام إضافي نحو خدمة التقدم والإنسانية وإبطال كل من يهددهما ويسعى لاضطهادهما بمقولة الخير الذي يضمر الشر، من ثمة عمله كمضاد للجرثومة التي تعرف من خبرتها أن موطأ الفقر والتخلف الحضاري هو موطِئها، ومن ثمة استباقه لسعهِ لِعالم من عُرفوا منذ ال14 قرنا الماضية باسم المسلمين، بما فيهم اثنياتهم لسعة مراجعة الذات لذاتها وهم يُعرَفون باسمهم الديني ليس مقابلة للمسيحيين ولا اليهود، بل هم من أرادوا ذلك الاسم الذي يلحقهم ويربطهم بإصرار بالدين كي يكون هو كل شيء بالنسبة لهم؛ دنيا ودين كما يقولون، لأن المسيحيين واليهود أصبحوا ينعتون أنفسهم اليوم بالغرب أو العالم الحر أو عالم الشمال، وغيرها من الأسماء التي أصبحت تهمل التسمية الدينية منذ بدء الحداثة وفصل تعاليم الكنيسة من التدخل في شؤون الدولة في القرون الوسطى.

   ولعلّ مثقفاﹰ مأمولا كهكذا مثقف هو الأقدر على مواجهة المسلّمات التي ضربت عليها الرسوخية الثقافية الطويلة جدارا صلدا من الأسمنت المسلح تفكيكها وترويضا لتشنّجها، ولعلّ من هؤلاء الذين حملوا لواء هذا التفكيك مفكرون عرب أشاوس على سبيل المثال لا الحصر نجد مراد وهبة وصادق جلال العظم وأدونيس، هذا الأخير ما انفك ينادي بضرورة استقلال الدين عن أي تجربة أيديولوجية، وبضرورة أن يسند الحكم للنظام الديمقراطي وحده، مازال بعد عقود من النضال المستميت يجابه من الأصوليين مع كل ظهور لهم منذ الستينيات، كانوا هم الإخوان وأصبحوا اليوم أكثر من فرقة، يجمعهم هدف واحد هو الإصرار على التخلف؛ فهم السلفيون الجهاديون أو هم الداعشيون أو تيار المقاومة الإسلامية أو أصحاب قرار العقد والحل، في مجامعهم الإسلامية العلمية وفي أزهرهم ولم يختلفوا في عد المفكر أدونيس متطرفا، مستنسخين خطاب الآخر حولهم بأنهم متطرفون هدامون لكل محاولة بناء حضاري منفتح على الحضارات الأخرى، كقول الشيخ محمد رسلان في القناة السلفية[5]عن أدونيس بأنه هدام للحضارة يروم هدم التراث بحداثته الشعرية! ولا يذكره حتى باسمه من شدة الغل والتعصب والكِبر المرضي فدعاه بالمسخ و الشيء، والغثاء، والمتهور النفسي، والمراهق المتمرد عن عائلته ـ والمتقيّئ والنعل بالنعل.

الإصرار على التخلف وبعصبية التّرهيب هذه، والتي لها مرجعها ألفيناه قاعدة قانونية في آيات بعينها من القرآن، وهي التي أراد بها التيار الرشدي العقلي تأويلا منذ سبع قرون غير ما مر دون جدوى، إصرار ستمسسه درجة من الهيستيرية فيعمل على خلط الحقائق عنوةﹰ، أو ضياع طريق العقل من أمامه من شدة التشنج، والهدف واحد هو الإلغاء والإقصاء لكل فكر مجدّد محرج لشريعتهم المحنّطة؛ فكر ناقد بالاختلاف أولا وأخير أو قل بالبرهان والديموقراطية ــــــ بالرغم من أن القرآن الكريم نفسه يشيد بسنة الاختلاف عماد بنيوية العالم « لنجعلكم قبائل وشعوب لتعارفوا..» ــــــ وبإقامة الحجة والدليل العلمي دون طمس للآخر: "الكفار والصليبيين" عندهم، وهم المسيحيين واليهود تاريخيا، غير أن الشيخ  السلفي رسلان يعود إليهم (للكفار) ليستحكم بهم في أمر التجديد الشعري الذي يدعو إليه أدونيس! إذ يستحكم بالمستشرقين ضد تجديد أدونيس الشعري والفكري ويقول أن في ذلك مبالغة في الإنصاف! لكن أليس الإنصاف الحقيقي هو قرار الأغلبية الذي تقر به اللجنة العلمية الدارسة و المتساوية الأعضاء من إسلاميين، مسيحيين وعلمانيين متدينين ولا متدينين؟ كمن يحاول ذر الغبار في العيون وهو يعلم من أن الآخر/ " الكفار" اليوم لا تحكمهم قوانين الكنيسة بل تحكمهم الديمقراطية والنظام المدني بسلطتيه اللتين لا يعلو عليهما سلطان: سلطة العدالة وسلطة العقل، المجتمع المدني هو البديل الذي يعنيه أدونيس، لا تعصب الإسلام المتمثل في التيار السلفي الذي له مؤسساته المرهّبة للناس، كما له ميليشياته المذبّحة للبشر دون وجه حق اليوم في أكثر من دولة عربية، وتلكم المؤسسة إنما هي آمنة محمية من قبل أنظمة تصف نفسها بأنها وطنية تروم خير الأمة ، غير أنها في نظر كل متأمل فج وما بلك بمفكر راشد أنظمة متسلطة، غير منبثقة من صلب المجتمع المدني ، بل منبثقة جراء تواطؤ تاريخي مع المجتمع الديني بكل أطيافه : مذهبية وطائفية ، طرق صوفية وزوايا وغيرها وصولا إلى مرحلة الأصولية التي تكفلت اليوم بضمان ازدهار ودكتاتورية الأنظمة وشرعيتها!! ـــــ بعد ما انكشف أدواء المستور عنها في عالمنا اليوم المليء بالتحديات الاقتصادية والاجتماعية ــــــ عن طريق "المنفعة والخدمة المتبادلة" بينها وبين مؤسسات المجتمع الديني كمؤسسة الأزهر في مصر ونظام المشيخة في قطر، وجمعية العلماء المسلمين في الجزائر وكلهم رضو بحفنة الأموال التي وفرها لهم قطاع الرأسمالية الطفيلية.

تغيير المجتمع الديني بالمجتمع المدني الذي دعا اليه أدونيس هو أمر واضح لا يحتاج إلى توضيح، غير أن هذا السلفي يبدو متظاهرا كأنه لم يفهمه ليغمط من حقه بل يحتقر علمه؛ حيث يستحكم أمر أدونيس وجماعة الشعراء الحداثيين بمن لا يفقه أعرافهم الثقافية ومزاج حياتهم الثقافية بسننها الفكرية واللغوية، لعمري متى عرفت شعاب مكة من دون أهلها وهل رفعن أشعار العرب في الجاهلية وفي الإسلام ومجدت من غير أهلها؟! أولد المستشرقون أو عاشوا سنون طوال بين المسلمين، بين مختلف طبقاتهم حتى يفقهوا أنساقهم الثقافية كفقه أدونيس وزمرته لها؟ ثم أن  السلفي رسلان يعرِف أن أدونيس مفكر يفور دمه ألما على واقع أمته المُظلم بالظلم وسلاحه الوحيد هو العلم والعقلانية؛ فالعلم وحده طريق التغلب على التقوقع وتفكيك التخلف؛ لذا يستعير السلفيين ـــــــ وينحو منحاهم في ذلك كذلك الحكّام ــــــ كما مرّ معنا خطاب الغرب إزاء الشرق بأنه "شرق الجهل" ليعيدوا استنساخه واستعارته ورده على أهله، وهذه الاستعارة في الحقيقة هي الدليل على العجز وعدم القدرة على مناظرة أرباب الآلهة لأدونيس[6] علمياﹰ فارين إلى ما هو من صفاته "ادعاء العلم" ونفيه عن صاحبه الحقيقي كالزوجة الشبقة الباحثة عن متعتها التي لا تجد من وسيلة لذلك إلا التماس طلاقها بادعاء عجز زوجها و عذرا على التشبيه المسفّه لكنه الأبلغ، لذلكم تغوّل الشيخ رسلان على أدونيس وقابل به المستشرقين بإطلاقيه وبأنه "قليل علم" والرجل رجل متبحر في ضروب المعرفة، مقتحم لمغاور الفكر منذ نصف قرن! لعمري تصرف مثل هذا يشبه تصرف رب آلهة وليس داعية آلهة.

لعلّ بعض شعراء المستشرقين ﻛالمستشرق Stephen Spender بالخصوص الذين خطأوا أدونيس فعلاﹰ في قراءته التجديدية للتراث فغير عارفين بما يميز سياق المجتمع الديني الإسلامي عن نظيره المسيحي  والعلماني، وهو سلطة التقاليد الاجتماعية وترسب الغل ثم أفلا يعلم الشيخ رسلان ومعشر السلفية أن المستشرقين أولا ماديون ليسوا روحانيين كأهل الشرق؟ وهم مازالوا في حاجة إلى ربح بعض الدولارات مع العرب ولن يحدث ذلك إلاّ بتركهم في سباتهم لفترات أطول أخرى من الزمن، والمستشرقون كما تدل عليه التسمية ينفّذون أول ما ينفذون مخططات حكوماتهم باستشراقهم، كالمستشرقين الإيطاليين الشهيرين باتريشيا كرون ومارتن هندز، وهما غيظ من فيض، وفي كتابهما « خليفة الله : السلطة الدينية في العصور الإسلامية الأولى» يقولان أن العالم والخليفة في الإسلام هو خليفة الله على الأرض بسلطة الدين[7] أيخفى ذلك عن هذا السلفي المبخس لحق أدونيس بأحقر العبارات  وأجرح النعوت؟ كقوله: هذا الشيء "المهرطق المُجدّف".

   ولنقف قليلا مع هذين النعتين الشنيعين في حق رب صنعة الشعر والفكر العربيين لنستقي منهما أندى مظاهر ثقافة التخلف، هل يعي الشيخ السلفي معنى الهرطقة ههنا؟ فأدونيس أصلاﹰ ليس مسيحيا اعتقادا حتى يهرطق وهو عالم ومفكر حر، و"المفكر" يعني الاتزان والمسالمة ـــــــ ولا يجابه الحداثيين طولا وعرضا المتطرفين الإسلاميين بالعنف ولا يبادلون الغل بغل إلا فيما ندر، ولا حتى التحقير والسب بتحقير وسب مثله؛ كان بإمكان أدونيس أن يرد و يصف الشيخ رسلان بأنه الخنزير البري الذي يحاول قتله بينما هو ماض في تجديده، فضراوة وغلظة الألفاظ المستعملة من هذا السلفي تطرح سؤالا مفاده هو أن بإمكان الحداثيين اللجوء إلى مهاجمة السلفيين لتكون ضربة استباقية تأديبية لهم، ولعل الوقت مناسب أكثر من أي وقت مضى لكنهم لا يفعلون ولا يُعتقد أنهم سيفعلون، لسبب بسيط هو أنهم ليسوا من أرباب آلهة و لا حتى من أولياء الآلهة/الصوفيين ، بل هم لسان حال إنسان يختلف عن الحيوان والجماد بقوة التفكير، التي لو سلبت منه فقد إنسانيته، بل يجابهونهم برباطة الجأش والرزانة وبالرجاحة والدليل العلمي ــــــ فأين هي صفة التجديف! بل هو ظلم وعدوان ما بعده ظلم وعدوان، ثم هل  اسم علي أحمد  سعيد هو اسم إسلامي فقط حتى تدعي أيها السلفي المتملق ليل نهار لولي أمرك عبد الفتاح السيسي، أن أدونيس قد تركه واختار اسما وضيعاﹰ بدله؟ ألم يخطر ببالك أنه يعني الإله الموقظ الأمم من سباتها ؟ بعد السحاب والمطر يأتي التفكير والحكمة في التراث اليوناني الذي اتكأت عليه الحضارة الكونية الحديثة في النهوض مجددا على قدميها بعد قرون من السبات! بل هو اسم عربي كذلك؛ لأن هناك من عرب الشام من هم مسيحيون ومن هم مسلمون ومن هم بين هذا وذاك. أم أنك رب آلهة تجحد من يخالفك ويخالف ولي أمرك في أمر بعوضة ولا أحد يعترض؟

  ولعلّ الشيخ السلفي في انتقاده لأدونيس وهو لا يفرق بين التجديد في أسلوب الشعر التقليدي وبين التجديد في روح الشعر العربي، فأدونيس ويوسف الخال وغيرهما وقفا على تجديد أسلوب الشعر العربي متكئِين على روح التراث الشعري التقليدي، فالشعر التقليدي مصون، غير مهدم لكنه مجدد، بالتالي فإن الشيخ يخلط بين مفهوم الحداثة التي ترتكز على القديم ولا تلغيه وبين ما بعد الحداثة التي تتجاوز التراث وتدعو إلى القطيعة المعرفية معه. ربّما ما دعى الشيخ رسلان إلى تحريف مفهوم الحداثة الشعرية على لسان أدونيس هو تأكيد أدونيس على نسب تهمة وأْد جودة الشعر العربي الجاهلي إلى احتكار الدين التبحُّر في عوالم الفكر وقول كل ما يحرك ويُعمل العقل لنفسه ومن دون الشعر، ديوان العرب الذي يجب أن يبقى موضوعه العاطفة الشخصية فقط كما يريده السلفيون، فهم أفسدوا الشعر كما أفسد أفلاطون الشعر الإغريقي القديم.

فأن تكون شاعرا حقيقيا كما يغالط به الشيخ رسلان هو أن تكون هداما للتراث الشعري التقليدي بل في أن تحيي مجد الشعر الجاهلي وهذا أمر لن يكون من دون إمام الابتكار والتجديد أدونيس، الأجدى هو أن توجه معول النقد إلى الشعر الذي خلف مجد الشعر الجاهلي لأنه شعر إيديولوجي يعرِض عن كل حقيقة محرجة للدين ، إنه شعر لا يعبّر عن طاقة الشاعر العربي غير المنفصلة عن الفكر وعن ترجمة الجمال في الطبيعة وما وراء الطبيعة، وها هو إليكم النموذج الذي يبين صدق أدونيس ؛ أن الإسلام ضرب الشعر العربي ضربة قاضية، أو ضرية منجل على القدمين حزّته ولم تنهضه إلاّ مجرورا على كرسيه المتحرك على أسوأ تقدير، ولعل استشهادهم بهذا البيت بالذات مع أنه له في خمرياته أبيات أكثر قذاعة أرادت منه هذه الشاكلة من المدونون ــــ مع أن القهوة مرادفة للخمر ههنا ــــ إحداث نوع من الإرباك لدى القراء المعاصرين الغير قارئين للشعر الجاهلي تجعلهم يعتقدون أنها قهوة عصرنا كانت موجودة في ذلك العصر، وأن أبي نواس يدعو للتوبة من المعاصي في قوله:

             يا أحمد المرتجى في كل نائبة            قم سيدي نعصي جبّار السموات

             وهاكها قهوةً صهباء صافية           منسوبة لقرى هيتٍ وعاتناتٍ

لعلّ محمد رسلان في انتقاده لأدونيس يعرف جيدا أن أدونيس لا يعني اجتثاث التراث الشعري، من ذا الذي بمقدوره الاستغناء عن القصيدة التراثية ويقول أنا شاعر، بحكم أنه خريج قسم اللغة العربية وآدابها وحافظ لمتون الشعر، فشعراء الحداثة/التفعيلة لم يكونوا بوسعهم أن يكونوا كذلك لولا تراث أبي نواس ــــ أشعر العرب عند أدونيس ــــ وأبي تمام والبحتري وأبي فراس والفرزدق والمتنبي وابن هانئ وابن زيدون.. ولولا الشعر التقليدي أيضا/ شعر النهضة العربية، فلينظر الشيخ رسلان وأمثاله إلى شعر السياب والبياتي وأدونيس وأمل دنقل وصلاح عبد الصبور ومن جاء بعدهم، يجده يتكئ على التراث الشعري تناصاﹰ ايقاعاﹰ وبلاغة وعقلية فحولة وبطولية كذلك. والحقيقة هي أن معشر السلفية يعرفون أن أدونيس يعني بالتجديد عدم قتل قوة الابتكار؛ السبيل الأوحد للتقدم مناديا بالقطيعة المعرفية مع التراث الذي يقسم العالم إلى عالم مسلم وعالم كافر، وعدم التقوقع على الذات والقرف من الآخر المختلف، بل ولأنه هو المتقدم عنّا لا بد لنا نحن من التقرب منه وإفهامه آدابنا وديننا، ويعرفون أن الضّيم كل الضيم يرجعه أدونيس لتحطيم الإسلام لجبل الشعر الجاهلي الشامخ لا غير، عن طريق تجريده من صفة إثارة الفكر، إلحاقا للدين به، مع ذلك يكابرون فيدّعون غير ذلك.

    ثم عجبنا لبعض المواقع الإلكترونية العربية العاكفة على نشر محتويات إبداعية تستهتر بعقول الناس أيّما عجب ــــــ التي ألفينا جلها تنطوي على شكلين؛ إما في شكل تجمع شبابي غاوي تعارف وصدقات الترويح والمتعة تحت مظلة الكتابة والثقافة، وإما في شكل تجمع لكبار السن من المتقاعدين هروبا من العزلة ــــــ ثم إنها تشترط نشر أعمالهم بعدم التعرّض للأشخاص انتقادا أو تشويه صورة! فلمن يتعرضوا إذن، باعتبار أن خلف كل كتاب كاتب؟، أيتعرضوا للرؤساء والأنبياء؟ فإما تكون تلكم المواقع منابر معدة للمدح والإطراء إذن أو أن تترك الإبداع وتلج عوالم التفكه بالسياسة ــــ كما هو حاصل بالفعل ــــ مع مزيد من تملق الرعية للراعي، بالتالي تكريس ثقافة الخنوع والاستعباد. هذا الاشتراط إن نم عن شيء فإنه ينم عن عدم الكفاءة التي لا تأتي إلا بالتجربة التي يعضدها التخصص ـــ الدراسة الأكاديمية[8]ـــ

وإذا حصل و جاز أن نقف للساسة والرؤساء بالتعريض فهناك من الرؤساء العرب بالرغم من نياشين الشبهة المعلق على صدورهم، فإن هناك من يستحقون الاحترام والتقدير، رحل معظمهم بداية الألفية كالشيخ زايد آل نهيان وياسر عرفات والملك حسين بن طلال، ولعلّ مثل هؤلاء كسبوا احترام الناس لهم بعقلانيتهم أو ثوريتهم المدنية الفردية إن جاز التعبير، كان رئيس الجزائر لاجئا في الإمارات العربية المتحدة وعندما عاد لبلده رئيسا أمر بإجلال الشيخ زايد وأبناء الراحل عبد العزيز آل سعود حتى آخر ابن، أي حتى وفاة سلمان ومتعب، أما دون ذلك من الأبناء والأحفاد فعليهم مثل ما على الرؤساء من المعارضة وحسن التقويم بمعاول النقد ومشارطه المعهودة ، حتى لا يقال عنّا " آخر الأمم المستضعفة المستعبدة في الأرض" ولكأنّ علماء الفقه  منخرطين هم أيضا في مدنيتهم! اتجهوا نفس الاتجاه مع شيوخ السلفية المحسوبين على التيار المتشدد أهل الحديث، كالشيخ الشعراوي والقرضاوي وشيوخ الأزهر، لبسوا لباس السياسة أم لم يلبسوها أسوة بديمقراطية الغرب وديمقراطية الشيعة في إيران، وقد كان مثقفو ما بعد الحداثة العربية فضلاﹰ عن مثقفي الحداثة العربية قد تجاوزوا كل الخطوط الحمراء عندما انتقدوا شخصية الأنبياء منهم النبي محمد (ص) على جميع الأصعدة، ما عدا تلك التي تخص الوحي القرآني المنزل عليه من السماء ، لمّا كانت حياة الناس الاجتماعية حول الرسول تختلف عن حياتهم الروحية، لذا لم تعلوا سنته النبوية عن النقد، بينما علت سنته الرسولية، ليس لأنه الوحي المنزل من عند الله وكفى، بل لعجز العلم في سباقه ضد الساعة منذ ما يربو عن ال500 عام عن إثبات غير ذلك لكنه لم يفلح.

  وهناك من المنظرين الحداثيين من يقولون من أن العرب لن يضعوا قدما على سكة التقدم قبل استئصال التيار السلفي الأصولي عن بكرة أبيه، لأنه هو التخلف الحضاري بعينه ويحددون موعدا لذلك، أي في غضون الثلاثين سنة القادمة، ويبقى تيار الإسلام المعتدل بشقيه الذي يصون قداسة القرآن والذي يؤول تلك القداسة، لكن وجب في غضون المئة سنة المقبلة أن لا يبقى غير التيار الصوفي والشق الذي يقبل بتأويل المقدس بذلك يعبّد طريق العرب نحو تقدم كاسح مُفك من عِقال.

   وخلاصة القول هو أن كل فكر يوظّف نعمة العقل فاصلا عالم الروح عن عالم المادة وفاصلا الواقع العملي عن الواقع المدون النظري في وقتنا الحاضر وفي التاريخ الإسلامي كله محتملاﹰ مشاق ذلك، هو رب الصنعة، صنعة العقل والشعر لا ريب، وكل فكر يتعدى بالغيب والميتافيزيقيا على نعمة العقل هو رب لخِلقتِه وتجاوُز للألوهية، لأنه تجاوُز لخطاب الآلهة الحقة نفسها والذي لا يمكن أن يكون إلا خطاب عقل.

                                                                  

 

 



[1]- بلى، كانت هي هفوته الوحيدة القاسية عليه كمفكر وشاعر مقتدر في رأيي بلغ المنبع بعد عمر ومسيرة شاقة لكنه لم يشرب، ولعله كان واحدا ضمن أغلب مثقفي الوطن العربي في سنوات الخمسينات والستينيات الذين اضطروا إلى التخندُق تحت راية مقاومة الإمبريالية ومقاطعة حليفتها الاستراتيجية في المنطقة إسرائيل تحت ضغوط اجتماعية نفسية (لعل المجال غير مناسب للتفصيل) وأخرى سياسية للسلطوية لها فيها اليد الطولى، لكن هل صحيح أن الإمبريالية هي أساسا شكل من أشكال الاستعمار واحتقار الآخر الضعيف، أم أنها شكل من أشكال رد الفعل على إرادة القوة والعنف التي نهض بها الإسلام والإسلام السياسي بالخصوص ضد الآخر، تلك السيطرة بقوة الدين التي نهضت بها آية "رباط الخيل" وغيرها لا تعود إلى الحروب الصليبية بل إلى أبعد، إلى بدايات نشأة الدولة الإسلامية ، أيعقل أن يواجه إنسانا إنسانا آخر باسم الدين، مستعملاﹰ القوة والقوة فالقوة ثم القوة ولا شيء آخر غير القوة معه، ويبقى ذلك الإنسان مكتوف الأيدي أمامه؟ ليت شعري، إن الحيوان الذي لا يعقل سيبحث حينئذ طريقة للدفاع عن نفسه وما بالك بالإنسان.

[2]ــــ غوستاف لوبون، الآراء والمعتقدات، ترجمة عادل زعيتر، مؤسسة هنداوي، ط1، القاهرة، 2014، ص85.

[3] ــــــ أطلق كل من جبران خليل جبران في كتابه "أرباب الأرض" وعلي حرب في كتابه "الآلهة الجدد وخراب العالم" على الذين يستعبدون البشر بالدين اسم أرباب الآلهـة وكذلك فعل جورج طرابيشي في كتابه "المثقفون العرب والـتراث التحليل النفسى لعصاب جماعي "

[4] - ينظر إتيان جولا بويسي: العبودية المختارة مرافعة قوية ضد الطغيان ، ترجمة صالح الأشمر، دار الساقي ، بيروت 2016 ، ص29.

[5]- قناة على اليوتيوب اسمها قناة أبو إسلام السلفي يرد فيها الشيخ محمد سعيد رسلان عن التجديد في الشعر والدين في كتابي أدونيس "ديوان العرب" و"الثابت والمتحول" بأسلوب عصبي مغمط لكثير من الحقائق. الرابط هو https://www.youtube.com/watch?v=g3VfI0K56uc

[6] - كثير من تعوزهم البيّنة والحجة بالدليل العلمي من الأصوليين ومن سار في دربهم و شاركوهم جحودهم ﻛ : رمضان سعيد البوطي  مع طه حسين.  ومشايخ الأزهر مع السيد القمني ومع الروائي المفكر يوسف زيدان صديق المفكر الراحل نصر أبو زيد و.. وحتى مجلة العربي الكويتية سارت على الدرب نتيجة تحالف استراتيجي يربطها مع مصر، واتهمت أدونيس أحد أبرز شعراء الحداثة العربية بعدما رفض الكتابة فيها بالسرقة الفكرية ونكرانا لهيبته العلمية!

[7] - ينظر باتريشيا كرون ومارتن هندز: خليفة الله ؛ السلطة الدينية في العصور الإسلامية الأولى ، دار جسور ، الجزائر 2017، ص8.

[8]- فعلا، كثير من المواقع الإلكترونية اليوم حشرت لا بل ورطت نفسها في أمور لا ناقة و لا جمل لها فيها، ويلاحظ القارىء العادي ذلك ومن الوهلة الأولى في التواضع اللغوي والتقني عند أصحابها فهم لم يتعلموا حتى أبسط أبجديات الكتابة محاولين القفز لاقتحام مغاور حصون عالية عليهم أشد العلي!

 

للقراءة والتحميل بصيغة PDF:

https://www.4shared.com/web/preview/pdf/geSQ3Bv_iq? 

https://www.academia.edu/37820548/ 

author-img
موقع تنويري فكري وشبه أكاديمي، يتغيا تقديم إضافات نقدية تخص تحليل الخطابات الثقافية ونظرية النقد والأدب متوسلا بجماليات التلقي والنقد الثقافي، كما يعنى بنشر إبداع قصصي جديد ليس له ما يماثله على الساحة الجزائرية، والمقال المتناول للشؤون السياسية والإعلامية والاجتماعية المقاربة للظاهرة الأدبية والمحاكية المكملة لها.

تعليقات