الـمكارم والمظالم أو أنوار الظلمة

 


بوزيان أوراغ

الـمكارم والمظالم أو أنوار الظلمة

الجزء ــ 1 ــ


     كان هناك في أرض أورشليم العام 1000م شخص ظلّ يبني بيتا له ويهدم ، ومنذ أن كان عمره ستة عشرة عاما ما برح يفكك ويركب، وعندما أنفق ستة عشرة عاما أخرى من عمره وهو يفعل ذلك من دون توقف بانيا هادًا كمن أدرك بعد عمر ونَهِر أنّما كان يفعل ذلك دون جدوى وهو حيال بيته الجديد المأمول فاقد للوعي، فعاد يُحدّث نفسه عن ضلالة الإنسان وهداه على هذه الأرض حتى تبيّن له مع من لقيهم من المحدثين والواعظين من كبار سن قريته و أهل عشيرته، ومن أهل عشيرة عشيرته التي تجاورها من ناحية الشمال وناحية الجنوب فاتفقوا كلهم على إسداء مأْثرة النصح له وفي سبيل الله، فحرّروا تقريرا ليقرأه ويأخذ به لعله يفلح : « بإمكانك استرداد ما ضاع من عمرك سدى، إذْ يبدو من مقارنة عمرك لعمر المسيح،  أنه أفضل من وجب أن تستعين به لأجل هُداك، وفي وقت قصير يعادل العام واحد فقط، لأن المسيح قد توفاه الأجل ورفعه الله إليه وهو في عمر 33 عاما. واذا تمكنت أن تعمل عملا صالحا خارقا للعادة في عام واحد ربما اقتديت بآثار المسيح وتتبعت خطاه إلى الفردوس الأعلى .. »

    أجل، ولقد فهم من تطويلهم معه ما معناه أنه كان لِأشياء أربعة خصيصة العمل المفارق الذي به تميزوا واستحقوا تبعات الجنة وتبعات الرفع إليه من عدمه، فقد أحسن النبي العربي إلى الفقراء وخاصة الأيتام والمحصّنات والشيوخ لكنه لم يفعل مع المومسات، بينما أحسن المسيح إلى الإنسانية جمعاء كبيرهم وصغيرهم، قويهم وضعيفهم، خسيسهم وأنفهم فنال شرف الرفع إلى أرفع وأسمى سماء بقرب عرشه إلى يوم يبعثون، فإذا كان النبي الصليب بهذا السبب استحق من الله رفعةً فإن إبراهيم وموسى كانا في أعمالهما اتجاه بني جلدتهما بين بين، إذ أساء الأول إلى الشيوخ وفي صورة أباه آزر وقتل الثاني نفسا زكية، والأنبياء يهدون ولا يقتلون، فكان أن وراهم الله عن خلقه بعد أن أماتهم فهو جعلهم بين بين حيث لم يرفعهم ولم يقبرهم قبرة عين بل أقبرهم قبرة لم يعُد يعلَمُها إنسان، لا في المسجد الخليلي ولا في أرض مؤاب ولا مقاما محددا بدقة صنو الأقدمين آدم ونوحا.  « أما أنت أيها المهتدي من بلادنا الطاهرة فلك أن تتّعظ ثم تتمثل بقِصر عمر النبي عيسى لعلك تدنو من عرش الرحمن في أقصر وقت ممكن. » عبارة لم تفارق أسماعه منذ أن تهادت إليه فأضحت كأنها هاجسه الذي لا يريد مفارقته.

   ثم فكّر صاحبنا في الطريقة التي تمكّنه من نيل شرف عظيم كشرف النبي المسيح فاهتدى أخيرا إلى مدن واقعة بين مدن مظلمة يقال لها مدن "الإفك بالظلمة" رفعا للهوان والخجل، كون تحصيل أهلها لرزقهم يكون في ليلهم أكثر من نهارهم، وهي مدن منثورة بين مدن الحياة المُحصّلة لرزقها نهارا فقط ومعزولة عنها عزلة الشياطين عن عالم الإنس فدخل إحداها وأراد أن يعمل عملا لم يفعله إنسي قبله في هؤلاء المومسات اللائي يُقمن في مدن الإفك دون أن يكون لهنّ اتصال مباشر مع ناس مدن الحياة لعله ينال رضى ومحاباة من ربّه.

    فتبيّن له بعد أن دخلها أن يجعل لهن وليمة كبيرة يفْرِح قلوبهنّ بها وهنّ اللائي يقرب عددهن حوالي 200 مومس، مقيمات في بيوتهن راضيات بعزلة وفقر بعيدا عن أنوار مدن الحياة التي لا تنتهي أفراحا وتكديسا للأموال والبنين، إنهن وأغلبهن في عز شبابهن لا ينلن من دريهمات إلا ما يسد الرمق ممّن يدخل عليهن من رجال مدن الحياة أطراف الأسبوع وأواسطه، فهن فقيرات برغم مهنتن التي تسيل اللعاب بالنسبة لأترابهن من مدن الحياة واللائي يمارسن مهنتهن سرا وقد دخل صاحبنا مدينة الظُّلمة هذه لمّا عزم على دخولها، فلم يجد من ساكنتها مِمّن عُرفوا بالعفاف والذين لم يتورطوا في تجارة الجنس غير حوالي 80 شخصا، فيهم عدد من المرذولين والفجّار الفساق والذين ليس لأغلبهم بيوتا، متّخذين من ألواح الخردة وصفائح الزنك والقش على أطراف الساحات والطرقات التي تجاور الغاب والترعات مساكن لهم. فبُهتت المومسات لمّا سمعن أن صاحبنا أراد بهن خيرا دون مقابل، وهو أن يُقيم لهن حفلة علنية ليوم كامل، مأدبة غدا وعشاء ، لهن كلهن و من يعيشون بقربهن في تلك المدينة من رجال فاسقون لا يبرحون يستجدون من يصلهن ويشمُمن عطرهُن ويبحلقون جمال جسدهن عندما يخرجن قربهم لقضاء حوائجهن في مدينة الموت والبغاء تلك، أجل عندما تجول في مدينتهن فرحن كثيرا به، وكيف لا يفرحن به وهو رجل وسيم وفتي تحدوه عزيمة الشباب، لكن قلبه فائض بالإيمان. وعندما رآه بعض متسكّعي المدينة ممن كانوا مستيقظين نهارا على غير العادة تبعوه لما رأوه عاشِر تسع من الرجال يجرُّون ثورين كبيرين استغربوا وتوسموا منه خيرا،  اجتمع بهم بعد أن حيّاهم وطلب منهم أن يساعدوه في إقامة الوليمة والحفل الكبير على شرف المومسات ولم يتعجبوا قط بل وافقوا من دون تفكير ورجعوا معه إلى مدينة الحياة الأقرب من مدينتهم وأحضروا جميع لوازم المأدبة من سميد كاف وخضر وفواكه وموائد وكل ما تتطلبه وليمة لزهاء 290 نفس لأن هناك مُغنِين وراقصين وراقصات جلبوهم معهم حسب الاتفاق لإقامة حفل يغبط المومسات ويسعدهن.

  وشرعوا لتوهم في ذبح الثورين الهائلين ثم تقاسموا العمل لتهيئة غذاءً، والذي لن يكون دسما للغاية لكن مائدته متنوعة بما لذّ وطاب من ألوان الأطعمة تتقدمها النقانق المُتوبلة جيدا والمصنوعة من كرش ورأس الثورين، والتي بدأ الفريق بتحضيرها لكم هائل منهن، لذا زعموا من البداية أن تحظى كل مومس بخمس نقانق على وجبة غذائها أما من سيُحاول من هؤلاء الثمانين أن يأخذ غذائه بعيدا عن مائدتهن احتقارا لهن أثناء الحفلة فيُمنع ولا يحظى بشيء. ولمّا قرب الغذاء بقليل فُرشت الطاولات ونُصبت منصة لأداء الفرقة الموسيقية المرافقة لغذائهن تحت وقع موسيقى راديو خفيفة حالمة و رومانسية، عالمية وهادئة، ثم بعد نهاية الغذاء توجّهن للرقص على أوزان موسيقى أخرى لم يسمعهن في حياتهن، فكانت رقصاتهن عشوائية وغير مهذّبة بل مغيظة لفريق الطهاة، وهكذا انتهى الشوط الأول من الحفل وبدأ التحضير للشوط الثاني منه والذي سيكون دسما من حيث القيمة الغذائية ومنوَّع الوجبات وألوان المشروبات والموسيقى المرحة الراقصة كذلك أكثر من الغذاء. وفي الساحة نفسها التي افترق عنها الجمع إلاّ عددا قليلا ممّن بقين للفرجة والترويح عن النفس، أعيدت الأواني والأقدار والدلاء الممتلئة باللحم البقري الطازج وأحضر الحطب وطابونات البوتان و أكياس ناضحة بما فيها من ملتزمات وضروريات الطهي. 

   وعند قُرب موعد غروب الشمس بدأت الساحة تكتظ بهن متطلّعات بشغف إلى مصدر أريج سماوي زكي وقد رجع صداه إلى المخ والساحة كلها بعد أن تلقفته حواس أنوفهن والتي لم تتعرف إليه إلا بمعونة الجهاز الهاضم من اللسان حتى المعدة، فهن منذ زمن لم يشممن هذا العبير الزكي المتصاعد للحم بقري ينضج بتؤدة في قدوره الضخمة وقد اختلط شذى مرقه بشذى أرزه المخضّب بتوابله وخُضره، وقد انتشرن مكتدحات جوابات للسّاحة وهن مائلات بأعناقهن تارة إلى بعضهن بعض وطورا ناحية المرق والكباب والفواكه والمشروبات المتنوعة الموضوعة على الطاولات، أين تقف كل طاولة على ما يربوا من عشرة نسوة  لانتشالهن ولو للحظات من كدر البؤس الذي عبث بشبابهن سنينا فأهلكه، حتى أضحين خيالات أشباح شبح الموت نفسه، كم وكم من يوم جديد قديم قد ترسّب في قاع أنفسهن مؤديا بهن و بمدينتهن المعزولة إلى ما يشبه الموت البطيء إغماءً في غرفهن، فلا أوجاع ولا سقم العمر و لا أوجاع الروح تمكّنت من شنقهن بعد أن سلمن من الوأد في بيوت والدهن، يوم بعد يوم وهن يبحلِقن إلى مرآة وجوهن ولكن لا حياة لمن تنادي، حتى جاء هذا المخلّص مع فريق عمله المطيعين مناديا من مدينة الحياة باسم الرب لئلا يبدأ التوزيع و العرض دون ماكياج وموسيقى كيما تُبعث منسابة كإشراقة شمس يوم ربيعي لطيف الأنسم وقد تلونت الساحة ما شيّد أرصفتها الرخامية الأولون بسلسلة مزركشة من ألوان المصابيح والقمر فوقهن مشرق. كأنها صورة مهرّبة وقد أطلّت عليهن من زمن سيأتي، يمجّد الرّب فيه يسوعه مرتين، مرة في رسالة بلّغها عن ربه ومرة في نسوة ساقطات برّ بهن.

   وإذا بالمشهد كأنه مقتطع من مسرحية الحياة التي بطلاتها ساقطات مدن الإفك لوحدهن من دون ساقطات مدن الحياة ولا حتى ساقطات مدن العالم كله! لكن لا علينا، امتدت المشاهد وتتابعت المعالق إلى الأفواه بتكاثر ثم بتسارع، وقرع الكؤوس في تصاعد مع الضحكات وحتى القهقهات المنطلقة مع قرقعات الصحون، كل هذا ومجموعة صاحبنا لاتزال في غدو و رواح لخدمتهن بكل ما أوتوا من قوة ثم أن بعضهم تناول عشاءه مباشرة من القدور والجفان .. وهكذا ما إن تم الأكل والشرب حتى ضُربت الدفوف ورقص الحفل وغنى كما لم يغني ويرقص من قبل وإلى غاية منتصف الليل لكن فيهن وفيهم من سأل عن المناسبة اللائي هن فيها أو الذين هم فيها! وصاحبنا لأول ما زال يزوّدهن بالشاي والمشروبات الحلوة حتى بدأت ملامح العياء والكفاية تظهر عليهن وبدأت الواحدة بعد الأخرى في المغادرة وهي متخمة، عندها شدّت المجموعة على سواعدها أخماس على أسداس لأجل تطهير ساحة المدينة من مُخلّفات الحفل، فاستمر بهم الوقت إلى الفجر عندها طلبوا صاحبهم فافتقدوه، فبحثوا عنه فلم يجدوه إلاّ وهو يعلو شجرة وقد انعكس عليها ضوء القمر، حيث كان يرقبهم في غبطة وسرور،  ثم إذْ هم يعاودون طلبه على الشجرة ذاتها فلم يجدوا له من أثر غير هالة قوية من الضوء كادت أن تذهب بأبصارهم فخرُّوا صرعى مصعوقين. وعندما استعادوا وعيهم لم يدروا إزاء ما أصابهم أغثيان لحم الثيران على حين غرة كان؟

ـــ "كـأن الأرض انشقت وبلعته؟" قال أحدهم للآخر.

ـــ لِمَا لا تقول أن السماء قد بلعته ألم يكن راكبا فوق شجرة طويلة؟ ولربما أن السماء ويسوع قد أكرمتاه على قدر ما يستحق.

ـــ "إما شيئا ما صدر عن صاحبهم لم يجدوا له تفسيرا وإما يكون قد أصابه مكروه من أحد." قال آخر كان يراقب صاحبيه من بعيد.

ـــ أتظن أنه شخص مسحور مثلا. إنه من أهل أرضنا فكيف يكون له ذلك؟ لكن أين ذهب؟ تلك هي المشكلة.

منها جاء أول مرة ومنها اقتبس نورا، رأيناه لما رأيناه ، لا لا لا .. لعلها منزلة و رِفعة، فرحم الله امرئ قال أن الخير لا يعرف غير الظلمة وهو من قلب الشر يولد. 

 


 


 

 

الجزء ــ 2 ـــ


     وفي العام 2017 للميلاد طلع فجأة من على إحدى غابات سواحل البحر الأبيض المتوسط العاتمة القائمة بين مدن أضحت كلها تدعى عند أهلها مدن الحياة إلاّ ما رحم ربك، متخذة لها بين جهة الشرق نحو المتوسط وغرب البحر الميت موقعا سرمديا، وهي المدن والقرى التي بقيت منذ عهد يرجع إلى عشر قرون خلت محتفظة باسمها "مدن الظلمة" ولم تتغير منعا للاختلاط بمدن الشرق الممتدة من شمال عكا إلى جنوب غزة أيامنا، على امتداد بصر الشط الساحلي للبحر المتوسط، غير موزعة بين مدن الحياة ومدن الظلمة كما كانت في غابر الأزمان بل تجمع كل مدينة من مدنها الخطايا والسجايا معا في أنس وشِركة، بل في توافق ومصافاة تحار لها الألباب ليلقى ذلك الفتى الطالع منها فتاة قاطنة طرف مدينة محاذية للغابة، مدينة هي وحذوها ترعرعت على معيشة القرن العشرين الملتبسة، بيوت من هنا مُشعّة الأصوات وبيوت من هنا مضمرة الأفواه مجلجلة كأن ما بها من شياطين أخرسها، جل من فيها "أوانس" بالعادة .. و ترقبن قادمين صوبهن، ولما وصل جاست قدما ذلك الشاب المفتول العضلات المستقيم الخلقة والرجولة الحد الفاصل بين الغاب والمدينة، وكان أن وقع نظره على كوخ حقير قرب قصب وعفش قديم ونور شمع ضئيل منبعث منه فأراد أصحابه علُّه يظفر منهم بحاجته، لكنه ما برح يُصعق من ساقية نتنة قرب شُعبة يراع فتظاهر حين خرجت منه إليه فتاة في عمر الشباب وهي واقفة حياله تشم ولا تشم تظاهر هو كذلك إثرها أنه لم يشتم أي رائحة كريهة لكنه أضاع الحاجة فجـأة .. نسي الكلام .. بل ضاعت منه ذاكرة السؤال فراح متأتئا متعثرا في كلامه وفي صَغَر وتسمُّر كالمعتوه ..

قناع الدهور وتــبليس النخبة

ثم عاود سؤالها أريد زوجك أو ولي أمرك لو سمحت؟ ثم لا إجابة إلا بعد انسراح وحيرة بادية على محيا الفتاة الفقيرة ، سكوت وانحباس في تطلُّع إلى الرجل الغريب الوسيم كتطلع الفتاة الساذجة لا الفتاة الأصيلة المحتشمة أو كأنها العادة السيئة وقد تعودت عليها وهي كشف سريرة الزبائن من أول نظرة، حتى تستطيع التكلم معه كما تهوى هي لا كما يهوى هو ومن دون أن تشككه في هفتها لكنها عندما نطقت أخيرا لم تنطق إلا متلعثمة هي الأخرى: ااااا بي ليس هنا وااااامي ليست هنا أيضا ومن ااااانت وما تريد؟

ـــ في الحقيقة أنا رجل انقطعت به السبل بعد مسيرة يوم كامل، ولجت الغابة السوداء التي حذّرني الناس من شساعتها ومتاهاتها .. وكنت أبغي مدن وأقاليم الجنوب ومشيا طبعا ، لكي استكشف برارينا وجبالها الطالما منيت النفس بفضّها يوما، ولما أتى ذلك اليوم قلت لِما لا أقدّم لنفسي متعة الصيد والفسحة لكني لما لم أستمع إلى نصائحهم تهت، ولولا فضلا من ربي لمّا تمكنت من إيجاد طريقي بعد ليلة قضيتها في مدينة "الكيت" إلى الشمال من هنا ألم تسمعي بها؟ إنها من أقدم حواضر أورشليم ، يا لي من مغرور لقد قالوا لي أن الغابة السوداء متوحشة بها ذئاب كثيرة وممتدة يستغرق قطعها باتجاه الجنوب عدة ساعات وما بالك إذا ما اتجهت شرقا أو غربا. وها أنا كما ترينا خرجت منها بقدرة قادر وإلى قريتكم مباشرة .. اهتديت إليها ومن حظي السعيد أني اهتديت إليها .. آاه .. ( لهث و تقطعات أنفاس ) ف.. فــ..اوف  أخيرا .. و لولا الأنوار والدخان المتصاعد لما نجوت ..

وتبسمت الفتاة وكادت أن تضحك لولا أن الرجل غريب

ـــ كما ترين معي حجلين وقد تمكنت منهما بعد أن علقتا في ليلك شوكي وهما مذبوحتين لو أني أنست نارا أو زنادا لشويتهما .. آه لقد أضعت وكم أضعت من وقت طويل في تلك المرتفعات السوداء هناك أدور في نفس المكان ما إن أنزل لتتبع مسار الواد حتى أعود إلى نفس المكان .. ولم ولم أهتدي إلى المنخفضات إلا إلا بعد جهد وجهد جهيد وقد أدركني الظلام كما ترين.

انتهى صاحبنا من حديثه فأطبق الصمت ولم تجد الفتاة ما تقوله فعادت تبحث عن كلام

ـــ على كل حال .. (سكوت) .. ولو وجدت نارا هل كنت ستشوي الحجلين؟

ـــ "بدون شك" ردّ " بل ربّما كنت أعددت مكانا لي على طرف الغابة للتخييم بقرب جذوع الأشجار ذات الهواء نقي والجو مناسب للمبيت على كل حال"

سكتت الفتاة طرفة وهي تبحث عن أنسب كلام يبعد شبهة البغاء عنها، لأن الشاب شاب محترم وقد أطل على كوخها دون علمه أنه كوخ وسخ الشرف وأخيرا قالت:

ـــ حسنا، إن أبي وأمي مضيا لقضاء حفلة أقامها شريف البلدة لأشرافها .. لأشرافها فقط، أشرافها من رجال أعمال وأساتذة ودبلوماسيين وتجار ..

ـــ فهمت: يعني حفلة نخبة أليس كذلك؟

ـــ أجل، نعم هذا يعني أنكِ ابنة تاجر كبير .. لكن بيتكم لا ينم عن شرف؟ متزوجة من فقير أليس كذلك؟!

ــ لا لا ، هذا البيت هو بيتنا الريفي فقط، وكما تعرف نستعمله لقضاء حوائج الراعي، فالراعي الذي يرعى أغنامنا والنّحال الذي يربي نحلنا يسكنانه.

ــ آاا فهمت، إذن ما دام كذلك سأنتظره لأقضي حجات كثيرة ــ بإذن الرب ــ منه.

ـــ لا لا، لا يمكن. ما دمت غريبا الأفضل .. ما رأيك أن نلحق بأمي وأمي في الحفلة

ـــ ولكن ثيابي رثة و..

ـــ هاك هذا الثوب عسى أن يناسبك، أترك الحجلين للراعي ودعنا نلحق بالحفلة، إنها حفلة تنكرية وراقصة أيضا أما المأكولات فحدّث ولا حرج ، أشهى الأطباق من كل نوع سيجنّنك مذاق مدينتنا !

ـــ ما دام الأمر كذلك أنا موافق .. هيا هيا بنا ..

و في الطريق يحاول كل منهما مزيد تعارف واستئناس بصاحبه ..

ـــ أنا اسمي ماجدة فما اسمك أنتَ؟

ـــ أنا آ.. آه اسمي ميسي

تشهق الفتاة شهقة من اندفع عليه ملاك الموت دون سابق إنذار لكنها تتمالك نفسها وترد عليه بحزن "عاشت الأسامي" ولكن في قرارة نفسها تتمتم : " يارب يارب أنقذني من هذه الورطة التي حشرت فيها نفسي، يا رب يا لطيف أسالك المخرج .. ميسي! ميسي مرة وحدة؟ ثم أحذت تحدث نفسها بأن تخبره حقيقتها كاملة مخافة أن تتطور الأحداث فتلحق بابن ناس بريء وبنفسها ضررا لا يستحقانه، .. ثم بالكاد تكون فرصة هزيمة الجبن لن أندم عليه إن أنا هزمته فلو لم أهزمه الآن فمتى سأهزمه .." ثم تقدمت خطوة وهي تتأحأح ثم أخيرا تشجّعت وقالت:

ـــ شوف يا سيد ميسي أنا آسفة لقد كذبت عليك. الحفلة التي نحن ذاهبان إلهيا ليست حفلة أشراف بل حفلة تعوَّد بليس هذه البلدة كما تعود أهلها على تسميته محوِّرين اسمه من Paiiss  يعني سلام إلى بليس وهو شخص قذر وعمدة سابق بل وبارون يتحكم في مصائر الناس أقصد في صناعة الخمور وتجارتها ليس في بلدتنا فحسب لكن في كامل البلد. أما المدعوين لحفلته التنكرية الدورية فليسوا أشرافا أيضا ولا نبلاء ولكنّهم رجال السلطة من جميع الوظائف والأسلاك ما عدا الضباط ورجال الدين، رجال تعودنا رؤيتهم عبر وسائل الإعلام، هذا مدير سابق للأمن الوطني وذاك روائي مشهور، والآخر أكاديمي يبيع الشهادات زورا، والذي يليه شاعر يمدح مقايضة، أما النقاد والمطربون والعاملين بمجال الثقافة فهم الأغلبية ممّن يحلوا لهم كثيرا ارتداء قناع الوجه أثناء رقصهم مع زوجاتهم كما أمرهم وليهم الباييس وليجربوا أجدد ماركات الخمر، لأنهم بكل بساطة رجال النظام الفاسد، أو الأوفياء الذين جبلوا على الوفاء والإخلاص لسيدهم فأرسل سيدهم قائمة أسماءهم إلى دار السلطان العالي ودار الصحافة العليا ودار الثقافة العليا فأضحوا بمثابة نخبة البلد وزبدتها في الثقافة وغير الثقافة، فعلى القائم بشؤون السلطان أو سيدهم ديمونيك[*] أو أيا كان إحلال رعايا السلطان العالي إن لم يكن محل تكريم وإن كان بالتدليك والتفشيش كتفشيش العجلات التي تسير بكيان الدولة فبها ونعمة، بإقامة حفلا تنكريا باذخ كل أسبوعين مثلا، شرط أن لا يشرّف الزوج الحفل إلا وهو مرفوقا بزوجته الرسمية ولا يشرِّف العازب إلا وأمه أو شقيقته الرسميتين أو زوجة الأخ معه وما عدا ذلك فغير مسموح ثم ليتذوقوا مكافأتهم وصنيع وفائهم شهدا نقيا فهم يستحقونه.

ـــ أنا لا أرى من صنيع القوم هذا ما يميّزهم عن باقي الأجناس مقايضةً للولاء بالحياة السعيدة، هكذا كانت سنة الحياة من عهد نوح وعهد أجدادنا في أورشليم القديمة أو الكيت.

ـــ لكن يا سيدي الذي يبدوا عليه ملامح الشرق أنا لست امرأة شريفة .. أبدا، لقد كذبت عليك أنا أكاديمية سابقة اسمي "سارة أفرام" كان لي زوج يشبهك كثيرا وقد طلقني فلم أجد بدا من الالتحاق بمهنة البغاء وفي الكوخ الذي وجدتني فيه أما والداي فمتوفيان، أجل وقد طلقني زوجي بعد أن صيّرني إلى ذلك الحفل الخليع الماجن عدة مرات حتى أدمنت الدعارة ..

ـــ وأنا الذي كنت أعتقد أن أصحاب الدعارة يكونون من الفقراء فقط فتراني أرى النخبة وقد احترفت الدعارة .. غاية!

ـــ أصبحتُ بعدها غير قادرة على مزاولة عملي الأكاديمي ولمّا كنت تشبه طليقي فسوف يتعرف عليك السيد Paiiss  فقط أظهر ابتسامتك وسنمر من أمامه. إنَّ من عادة الجمع الغفير التجمع حول الموائد الشهية للقْم ما لذّ وطاب من المآكل ثم التوجه إلى قاعة كبرى في الطابق العلوي وهي قاعة فسيحة بها زوايا رومانسية ممتدة وشرفات عدة موضوعة، بها موائد عالية عليها زجاجات خمر ملكية منكّهة، لأنها ذات ماركة عالمية ثم بعدها تُطلق الموسيقى الهادئة وتُنار الأضواء الحمراء الخافتة بعد أن يضع كل زوج وكل زوجة أو شقيق و شقيقة القناع على وجهه بإحكام حتى لا تُعرف هويته، وربّما يضعون أيضا الشعر الكلاسيكي على رؤوسهم، نساءً ورجالا، وعندما تدور الخمرة في الرؤوس يسترسل الراقصان الزوجان أو الشقيقان في التفاعل مع الموسيقى بحركات مثيرة ليأتي السيد بليس عفوا السيد باييس وهو في قمة السعادة فيُطفئ النور ويُصفِّق بيديه إيذانا بالاختلاط فيفوز كل واحد بامرأة غريبة والعكس تفوز كل امرأة برجل غريب عنها، أي يحدث تبادل للزوجات أو للأزواج أثناء الظلام ثم عندما يُنير باييس النور ثانية يُهنئ القوم أولا بالقسمة والنصيب و يشكرهُم على الرّضا والشجاعة ثم يُخيِّرهم إما بانصراف كل واحد بخليلته التي كانت من نصيبه إلى بيته وهما مقنّعان أو يستمران في القاعة التي تستهويه كثيرا فيقوم بزرع الوسادات والبانكات في كل فج عميق من تلك القاعة الواسعة تمهيدا للتعري دون خلع القناع والشعر المستعار فتصبح القاعة مرتع للعراة المقنعين وهم يمارسون الجنس مثنى مثنى وأحيانا جماعيا حتى يملوه أو يطلع عليهم وقت الفجر و"السيد باليس" عفوا مرة أخرى أقصد "السيد باييس" يحرص ويراقب بل يمتهن القوادة وهو في قمة الانتشاء.. وذاك ديدنه .. الشيطان

ـــ حسنا لقد فهمت، أشكرك على صراحتك، أما الآن فسأتظاهر أني زوجك ونقبل عليهم كأن شيئا لم يكن وسترين شيئا عجبا

ــ أستشرب الخمر الذي ..؟ إنه لا يشبه خمرنا أخشى أن يسكرك يا سيدي، إنه نوع لا يشبه ما تعودنا عليه.

ــ سأشرب وسأكسّر الخبز مثلي مثل سائر المدعوين

وعندما بدأت حفلة المجون واقتربت ساعة إطفاء النور والتصفيق إيذانا بالاختلاط المُحرَّم تهيّأ السيد Paiiss  ليُصفّق بعد أن أطفأ النور وما كاد حتى سبقه ميسي فظن السيد  Paiiss أنّ الذي صفّق مكانه مدعوا متطوعا قد أضرّت به الخمرة المنكّهة أو أنه أراد أن يعبّر للسيد عن امتنانه للحفلة التنكرية التي ينتظرها بفارغ الصبر فتبادل إثره الأزواج والزوجات أدوار البطولة متوقعين أن يسري كل شيء على ما يرام كما جرت العادة بيد أنه بعد هنيهات صفى كل زوج مختلط مقنّع إلى بيته الزوجية الجديدة، فلم يبقى إذاك في القاعة الفسيحة سوى بليس مشدوها وهو كظيم  وحتى إذا وصل جميع الأزواج كل إلى بيت الرجل لا بيت المرأة تطلَّع الزوج في زوجته الجديدة مضمرا في نفسه جمالا منقطع النظير ليبدأ في نزع قناعها وثيابها وتنزع هي قناعه، لكن الدهشة العظيمة التي أصابت أعضاء الحفل التنكري ولم يجدوا لها جوابا إلا أن تكون معجزة ربانية ضد نخبة بليس وزبانيته هي أن الاختلاط لم يُسفر عن تبادل الأزواج والزوجات هذه المرة ولا حتى ببقاء أي أحد في قصر نخبة بليس قط، فقد رجع كل رجل إلى بيته ومع زوجته أو شقيقته أو أمّه الحقيقية الشرعية.

أما الميسي فظن مُلهمًا أن الكوخ الذي أتى منه هو بيته فلقف مُقنَّعته هو الآخر وطار بها إلى الكوخ الذي أتى منه. أما السيد و عصابته فكاد ينفجر من الغضب وهو معصوب عِصبة بليس يوم لعنه رب العزة وهو مَقِيدُه إلى جهنّم، فما ترك جسد كل زوج مألوف لصاحبه غير كثير من الحسرة و الخيبة ترجماها دموعا حرّة جارية وقلوب منكسرة ذليلة، لكن يختلجها نور من قبس التوبة الضارب على الأفق وهو مُحلّق فوق أرض الميعاد، أجل قد ظفر كل زوج بزوجته بحضور الرّجل الغريب ميسي وببقاء بليس وحيدا يحدث نفسه كالمجنون انتهت الحفلة الفاحشة بحضور مهدي قرن الواحد والعشرين المنتظر رحمة للعالمين، وكم كان سروره عظيما عندما وافقته إحدى تلك النسوة التي شكّت في رفعه إليه بالأمس التليد، كذكرى غربته في هذا العالم كانت وكان شكّها، فلولا قبس روحي، أو لعله هو خير المومسات الذي طلع من كوخ ماجدة، كأنه بضاعته وشرف طويّته الذي رُدّ إليه وستُرَد إليه عبر توالي الأزمنة والدهور، ذاك مَا كان من حدس ماجدة الساقطة التي جُلبت إلى الكوخ جلبا جديدا كغريبة عن هذا العالم ورفقة عمر وقد ولدت من جديد .. وهو ما ظل يتحسّسه في كيانه مع كل خطوة يخطوها إلى الكوخ، بل لم تكن غانيته تلك غير روح خليلة و تلميذة تليدة، أجل، وقد كُسيت بجسد منحته مدن الظلمة والإفك المُقنّع أبا عن جد علما ليغدو علَمًا ذائع الصيت صنو أحفاد وخلف سابقون، فأدركت عودة السيد الميسي هي أيضا، فقد عادت بها ذاكرتها إلى قرونا عشرٍ خلت فاتحة شفاها في وجل اصطفاق أسنان: " كأني رأيت هذا الرجل من قبل، كأنه قد جمعتني به ساحة من ساحات مدن أرض الميعاد حين تغلّب بخيره وعظمته عن شر وموت مدن غابرة زرعتها أنانية الإنسان وسط أخيه الإنسان وسطوته، كما يزرع إبليس الظّلمة في قصور نخبة الشر في أيامنا، إنه هو طريق الجنة أو قبس من جنان قد اختارها الله لعباده الصالحين أو حقل من الحقول بيت لحم تفتّق منه مجدَك ومجَدك على تلاميذك .."

وما أن استعاد الميسي ذلك التاريخ المُمحى من ذاكرة البشرية هو أيضا حتى بدأت عينه تغرورق وقوامه ينتصب صغرا و شفتيه تلهج لنطق اسمها أنتِ هي .. هي .. مريم المجدلية ...    



[*] ـDémonique


للتحميل pdf :   

https://fr.scribd.com/document/405198833/المكارم-والمظالم-أو-أنوار-الظلمة

 بوزيان bouziane
بواسطة : بوزيان bouziane
موقع تنويري فكري وشبه أكاديمي، يتغيا تقديم إضافات نقدية تخص تحليل الخطابات الثقافية ونظرية النقد والأدب متوسلا بجماليات التلقي والنقد الثقافي، كما يعنى بنشر إبداع قصصي جديد ليس له ما يماثله على الساحة الجزائرية، والمقال المتناول للشؤون السياسية والإعلامية والاجتماعية المقاربة للظاهرة الأدبية والمحاكية المكملة لها.
تعليقات