القرية التي أبادت كلابها المسعورة



بوزيان bouziane

  

القرية التي أبادت كلابها المسعورة


 

      التضاريس تضاريس بلاد البربر والسماء فوقها معتمة مثقلة بغيومها الرمادية التي تكتنز حبّات المطر وبرد قارس مُطبق، كأنه ما فتئ يرثي ويتوعد فلزم الأهالي بيوتهم إلا بعض الرعاة الذين تعودوا دخول القرية متأخرين بقطعانهم التي تقودها الكلاب، وفيما كان قد اقترب موعد المغرب بدأت أولى الزخات الخفيفة من المطر في الهطول لكنّها لم تُغشي لا كآبةً ولا رُوتينًا أبديان كانا معهودين، ولا غموضا ستبقى القرية دونه غامضة، سرعان ما أطلقت لأجلها البهائم صيحات غريبة وهي تدخل القرية عبر المسالك الغابية المحاذية، وكأنها صيحات الاستبشار بالعودة من جديد إلى المرابض قبل اشتداد المطر واشتداد الصقيع وقبل فيضان الأودية والمجاري ، لكن الغريب أن الأبقار استمرت في الصياح بعد أن سكنت في زرائبها وخيّم اللّيل على القرية فأضحى السامعون يرتابون من صياحها، حتى أن حيرة أحد الرعاة البربر جعلته يستفسر عن الأمر لدى جاره الذي كان هو الآخر في حيرة من أمره، فأخبره أنه لأول مرة منذ بداية عهده بحرفة الرعي تصدر بقراته هذه الصيحات الغريبة وأنه لأول مرة ينتابه الخوف ، خوف غريب كأنه أمارات تنبأ بقرب وقوع المكروه.

    جاء الصّبح بسرعة واستمرت الديّكة في الصياح، وكان الرعاة رفقة كلاب رعيهم المتيقظة هم أول المنطلقين من بيوتهم المتناثرة فوق التلال استعدادا لقيادة قطعان الماشية نحو المروج والأودية ، لكن ما أثار قلقهم وزاد في حيرتهم هو اكتشاف الكلاب لآثار شعر متناثر حول جذوع أشجار الغابة المحاذية للقرية، فراحت مسترسلة في نباح وهرير غير منقطع ينم على تنكرها البالغ لنوعية الرائحة وحداثتها، وما هي إلاّ لحظات حتى تجمّع ما يربوا عن أربعة قرويين في مكان النباح ليقفوا مذهولين مصدومي العاقرة مسترجعين حادثة صياح أبقارهم الغريبة ليلة الأمس وهي تعود من نفس الطريق.

ــــــ "لعلّ هناك لصوص في الغابة" قال أحد الرعاة.

ـــــــ عن أي لصوص تتحدث! إن هذه أثار حيوانات وليست آثار إنسان، لكن أي حيوانات وأي خنازير هذه التي تحك بأجسامها على جذوع الأشجار وتترك شعرا متناثرا؟

وفي أثناء عقدة الحل والربط هاته قادهم أحد الرعاة الفحول ويدعى عمران إلى بقايا آثار أقدام تشبه أقدام الفرس ثم جلب كلباه لتتبع الآثار حتى نهايتها، فانطلق الكلبان بكل حزم وشكيمة وما هي إلا لحظات حتى اهتديا إلى الواد ثم تبعا مجراه وصولا إلى الغابة حينها فقدا أي أثر لتلك المخلوقات التي تكون قد غزت عصر اليوم الفائت فجأةً القرية المسالمة الهادئة وترصدت معالمها وحركة مداشرها إلى ساعات متأخرة من الليل. لكن لا أحد من هؤلئك الرعاة الذين استبدت بهم الحيرة في رؤوسهم تمكّن من تحديد هوية هذه المخلوقات.

 ــــ "لا شك أن السير بأثناء الواد للاحتماء بالغابة لا يصدر إلا من أشخاص" تابع عمران محاولا إقناع أقرانه رافح و الدا موح بأن لصوصا على بغال يكونون قد تسللوا إلى أطراف قريتنا محاولين التعرف على ما نملك من قطعان حتى إذا عادوا في المرة القادمة عرفوا طريقهم إلى أملاكنا بدون عناء.

" ما لم يدخل في رأسي كيف يأتوا على البغال وهم في مهمة استطلاعية؟ " قال الدا موح.

ــــ أشك في أنها خنازير الغابة الهائجة من شدة الجوع، لأن الكلاب قد توفقت عن النباح بمجرد أن دخلت الغابة لتتبع أثارها، هذا ما توحي إليها الأثار التي تركتها .. إنها مجرد ذئاب وضباع وخنازير فحسب، فلو كان غريبا آدميا لاستمرت الكلاب في البحث داخل الغابة لأن رائحة الإنسان مميزة عن رائحة الضباع والخنازير المألوفة .. مضيفا الدا موح.

  وفيما كانوا في حيرة من أمرهم متسائلين قلقين عن مصير أموالهم وزوجاتهم في الدّشرة ضُبطت رؤوس القطيع بمحاذات الغابات باتجاه السهول تتبعها الكلاب لحراستها وكل قطيع يقوده كلبان وراع، أما رافح فدعا أبناءه للاحتراس وهو يودعهم وهو يتأمل في بقايا الشعر على جذوع الأشجار.

    وما إن بسطت فجر يوم مشمس بنوره على تلك الربوع بعد يوم ممطر وبارد حتى انشرحت نفوس الرعاة وبادر القرويين إلى أعمالهم، وحتى إذا دنفت الشمس الحارقة رويدا رويدا من وقت الضحى سارت صفوف الماشية الرابضة في التلول والمنحدرات في أخذ طريقها إلى الحي، وكان أول قطيع يظهر قبالة بيوت الفلاحين البربر المترامية على أكتف الهضبة الزرقاء فتعالت أصوات الدا موح فعرفوا أنه لا مكروه قد حدث أثناء غيابهم.

     ولكم كانت سعادة الرهط من القرويين البربر كبيرة عندما لاحظوا أن الصياح والنباح الذي أقلقهم قد زال وهم مجتمعون قرب منزل عمران يتحدثون ويتنكّتون بعضهم لبعض، وقال الدا موح لعمران: " أنت الذي كنت متوجسا أكثر من غيرك سيبدأ الغول بالتهام أولادك وقطعانك لأنك سهل المنال وبيتك بعيد بعيد عن الشلة" فقاطعه ابن عم عمران قائلا : " لا يا الدا موح معشر الضباع قد شمت رائحة بغالك وحميرك وهي تتحين الفرص للانقضاض عليها"

.. اهاهااهاااههااااههها ضحكات الجميع متعالية وبعد لحظات تفرق الجمع مغتبطين منشرحين، بيد أن كل شيء انقلب راسا على عقب حين سمع عمران مناداة بن عمه الطيب وهو يستعد للنوم  فهرع اليه مسرعا: ـــ ماذا هناك ماذا حدث أهاجمتك الضباع؟

ــــ لا لا ، وأنا أمام البيت شاهدت نور صادر من الغابة تعالى وانظر تعالى، نور قد خفت الآن فمنزلي في أعلى تستطيع من خلاله أن تطل على كل الغابة.

ـــ المهبول، أعتقد انه مجنون جيراننا في قرية الديس، هذا هو الذي آثارنا يوم كامل إنه مجرد مجنون .. دعنا وشأنه .. ولنضطجع فقد فات من ميعاد نومنا الشيء الكثير

ـــ لكنه قادم إلينا أنتركه؟ ربّما كانت له حاجة، كأن يكون جائعا مثلا.

ـــ لا أعتقد ذلك يا السي عثمان، هذا المجنون من عائلة لا بأس بها، يقولون أنه معلم فقد عقله، لو أنه أحس بقهر الجوع لقفل راجعا إلى أهله .. أخشى أنه لا يفكر في الأكل قدر تفكيره بالشعر ، ألم تراه هائما على وجهه ينشد الأشعار بل و ما كان يعتزل بلدته أصلا.

ـــ إذن ما حمله على ترك كوخه في هذه الليلة الباردة، نحن لم نخسر شيء لو اقتربنا منه وسألناه عن حاجته؟

ـــ ها السي محمد .. آ السي محمد .. اربح ، أهلا و سهلا في قريتنا أترغب أن تحكي لنا شيئا؟

ـــ أنا عثمان يا خماس

ـــ أعرف أعرف أنك عثمان، هل خرجت عليك كلابنا هذه العشية؟

ـــ لا « هناك أناس ضحُّوا بأنفسهم فعدّهم البعض شهداء ولم يعدُهم البعض الآخر كذلك، لكن قالوا هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين، لقد ماتوا ككلاب حقيقية وكلما نبحت الكلاب الحقيقية قرب دشْرتهم عُدُّوا أشرافا ودماء تضحية زكية تستحق الفداء، وعندما جاء من يُسجِيهم اختلط عليهم الأمر.

ــــ أتواري الكلاب النابحة بالأمس المرهوجة اليوم أم تواري الكلاب الآدمية، ولا ريح شذية نميز بها الدماء الزكية عن الدماء الجلخة؟ أم هذه الدماء بتلك أفِدُونا فقد اختلط علينا الأمر الذي ربّما كان أمرا مقضيا؟ »    .... !؟

ــــ إنّ كلامه كله أحكام، لقد انصرف دون أن يطلب شيئا ألم أقل لك أنه مجنون والمجنون مجنون.

ـــ ألا يخشى وحوش الليل؟

ــــ أخشى أنه نفسه وحش، ألم ترى كوخه الذي شيّده بحجارة الوادي المفلطحة و حجارة الرواسي المصفّحة، وهو على بعد ثلاثة أميال فقط من قرية الديس وعلى الطريق الرابط بينها و مدينته نحو عشرين ميلا.

 وكان إذا آوى إليه في الليل تراءت للرائي الذي يسلك طريقه من أو إلى البلدة ثقوب من نور منفلتة عبر الجدران المهترئ أو عبر السطح المكدّس بالسجف اليابسة، ولا يضيئ كوخه هذا غير شمعة موضوعة على رصفة في وسط الكوخ، وفانوس معلّق على جدرانه وعود يابس مضروب بقوة في الأرض يضع فوقه ثيابه، وهي كل ممتلكاته التي لا تعدو أن تكون كالترس القديم، فانوس عتيق وعود التعليق ومنجنيق، أما المنجنيق فيضع فيه فضلاته ويرمي بها من فوق إلى تحت حيث الطريق ، إذ مع توالي الرمي تكدّست فضلاته على الطريق فعلم المارون أنه من عمل المجنون وقد عمل لهم مِخرأةً على طريقهم فاشتد ببعضهم القنوط، فصعد له أحدهم وكان مع رفيقه غريبان وهما يضعان لثاما على وجهيهما، و راح مناديا عليه وهو بالداخل لكنه سمع صوتا موزونا ومقفًى صادرا من الكوخ كأنه الشعر ، أجل سمعه يرفعه ويُخفضه كأوركسترا الفالز وهو ينشد : اليوم لا عتبى ولا أسف ..

 يا أيها المُزجي مطيّته        في كل درب روضُها أنف

المانح الحرف المضيء فما    من ومضه تتمزق السجف

والباذل الأغلى بلا أسف      حاشاك أن ينتابك الأسف

فلأنت منذور لمكرمة         من حيث أن النهر لا يقف

........

طال السُّري وخطاك ترتجف    وأراك لا تلوي ولا تقف
يا أيها المزجي مطيته         في حيث لا ماء ولا علف
أقصر فدونك قنة صعد        وانظر فتحتك هوة جرف
دنياك تشنأ كل عارفة         ولها بكل نقيصة شغف

...    ألا ليت الشباب يعود يوما      فأخبره بما فعل المشيب

       ألا ليت المُغِيرةَ كان حيّاً       وأَفْنَى قبلَه الناسَ الفَنَاءُ

لكنه تشجع وناداه يا سي محمد يا سي محمد .. فخرج إليهم لكنه لم يتقدم أكثر من خطوة وهو متصنتا لمناديه وهو يُخاطبه :

ـــ بالله عليك يا السي محمد هل أنت من يرمي بالفضلات على الطريق؟

ــ وأين تريدني أن أرميها؟

ــ أرميها في مكان آخر

ــ أنا في عزلة وعل عن الناس كما ترى إذا ما رميتها يمينا ويسارا لا تتكركر إلى الأسفل فتبقي عالقة قربي فتصيبني شياطينها وأبالستها، لأن الفضلات كما تعلم تجذب معاشر الجن والغيلان

وبعدين أنا موش مجنون أنا للروح عبد جليل

ـــ لا حول ولا قوة إلا بالله. إنه مجنون .." لكنه يتكلم أحسن من العقلاء " رد الملثم في سريرته وهو نازلا إلى صاحبه ليخبره الأمر.

ـــ ها .. ما خطب هذا الرجل؟

ـــ يبدو أنه ليس عاقلا " يبدو كمعلم سابق وقد فقد عقله" أتدري ما قاله لي؟ لقد قال متفلسفا: الشعر لغة الروح وهو يتفتق من عوالم لا تمت بصلة لعالمنا ثم أنشد يقول: هو النفس بلا روح أرض قاحلة وهو للروح صحو مثل الماء للأرض القاحلة : على كلٍ إذا لم ينتهي نخبر الأمير.

ـــ أعتقد أنه آخر ما حفظه من درس ساعة جنونه، لكن الأمير سيأمرنا بتأديبه حتى وإن كان مجنونا.

   وفي يوم من الأيام والدّا موح راجع من البلدة المجاورة وجد ذلك المجنون ملقى على الأرض وحاله حال من التمرغ على الأتربة، وجده تارةً زاحف على بطنه وطورا دانف على كعبيه فتقدم منه سائلاً :

ـــ لقد ضربُوني المُلثّمين، ضربُوني بالفلقة عصبوا عيني واقتدوني ليضربوني الفلقة ..

ــ أين ومتى، ويحك؟    

ــ لا أعلم .. لم أرى شيء لقد وضعوا على عيني عصابا كي لا أرى شيئا.

وكأنما الدا موح قد سقط في يم من الغم من ساعتها لكنه تجلد واصطبر ثم أمر المجنون المكوث حتى العودة إليه بالدابة التي سيحضرها له من قرية الديس ولم تمضي غير دقائق حتى ظهر الدا موح من بعيد ومعه الدابة ورافح وقاما بإركاب المجنون وعادا به إلى القرية وعلى الطريق تفوّه المجنون شعرا ثم تنكه فيهم:

ـــ أو تدرون خَطْبَ الرجل الذي يجلخ ويأكل ثم يأكل ويجلخ؟

قالا: لماذا؟

ـــ قال: لأن بطش سيّده الذي يعمل عنده يجعله يقلق فيذهب لينكح ويأكل ليفرج عن هاجس العبودية! كذلك أمرهُ معي ذلك الذي ضربني وكأنني نكحت امرأته ..

ــ " إنها عصابة مجرمين وقطاع طرق تقيم في الغابة يا الداموح علينا أن نخبر الدرك" قال رافح

ــ "حتى نتبين ما زال الوقت مبكرا على ذلك حتى نتبين، حتى نتبين .. "  رد السي رابح الذي مضى سائلا المجنون : ــــ عليك أن تتذكر من أين اقتدوك وماذا فعلت في أيامك الأخيرة

ـــ كنت جالسا على الطريق وفجأة تقدم إليّ ملثمان مع بغلهما وقاما بتقييدي و وضعا شريطا أسودا على عيني وفي الطريق قال أحدهم " لم تنتهي من عمل الشياطين فصدرت الأوامر بتأديبك"

ـــ ثم ماذا ثم ماذا؟ أقصد ماذا سمعتهم يتحدثون أيضا؟

ــ لا شيء، لم أسمعهم .. لم أسمعهم بعد ذلك لقد سكتوا كالكلاب سكتوا كالكلاب المسعورة

ــ ها .. " كلاب مسعورة!"

ـــ تذكّر عليك أن تتذكر، تذكر جيدا وقل لنا وسنصنع لك طعاما طيبا

لكن المجنون الشاعر لم يتذكر شيئا لكن بعد مدة جاءه الدا موح بالطعام وتقدموا له وهم مشطونين،

أكل المجنون الطعام ولم يبقي زلم يذر ثم تجشع وقال دون سابق إنذار "إن الطعام هو سبب المِخرأة"

ــ أي مَخرأة؟  قال الدا موح

ــ إنها المِخرأة التي على الطريق ... المِخرأة التي قالوا لي أنني أن الذي صنعتها.

ــ آه قد فهمت، فهمت الآن .. إنها مجموعة إرهابية كما توقعت .. توجد مجموعة إرهابية في الغابة يا السي رافح، فعلينا من اليوم الاحتراس.

 ثم بعد أن أمضى شاعر قرية الديس المجنون في زريبة ماعز الدّا موح بضعة أيام أخر يأكل و يتعافى من قرائح الفلاقة جاءه الدّا موح قائلاً : ــ الآن بعون الله تكون قد شفيت والآن .. عليك العودة إلى بيتك ، فعاد المجنون دون أن يتفوه ببنت شفة لكنه لما وصل إلى بيته وجده مهدما فعاد إلى القرية ثانية وتسمّر أمام زريبة بيت الدّا موح وهو متسمرا أمام جروين نابحين وهو لا يدري ما يقول.

   وكان الدا موح قد ذبح أرنبين سمينين للعشاء وعلّقهُما على حبل مشدود بين الزريبة وشجرة قريبة وبقي يوظب فروتهما الجميلة توضيبا والكلبين الجروين منشغلين بأكل ما رماه إليهما من بقايا الأرنبين السمينين، ولقد حيّر كثيرا منظر المجنون و هو واقف يقلب نظره بين الأرنبين المعلّقين والجروين وأفق الجبل البعيد أين يقع بيته فتقدم منه وهو يقول :

ــ ها مالك يا السي عثمان؟ لماذا عدت ثانية أنسيت شيئا؟

ـــ ... لحظات أخرى من صمت الرجل أقلقت كثيرا الدا موح، وكأنّ ما حل به هو هبوط وحي الشعر التي تسبق لحظات البوح وقد انتابته على حين غرة أو لكأنّما الرجل فقد لسانه ثم أخيرا بعد طول صمت نطق فلم ينطق إلا وهو متلعثما.

ــ لم أجججددد بيتي .. لمم أججده!

ــ ماذا تقول؟ .. !

 ثم سادت لحظات من الصمت أخرى، لا شيء غير الصمت، وكان الشيخ موح أدرك فيها أن ذلك حال المجنون فهو لا يعي على كل حال ما يقول فاتجه إلى السي رافح لمناقشة أمره معه لكنه لم يجده لأنه اتجه لمساعدة شقيقه الراعي فتوجه إلى بيت عمران فلم يجده أيضا، فعزم على أن يُهيِئ البغل ليأخذ بنفسه إلى بلدته الأصلية ولو استغرقه منه ذلك أياما. بيد أنه تريّث قليلا منتظرا عودة عمران ورافح لمشورتهما، كونهما يعرفان أكثر منه شؤون البلدة وساكنتها في تلك الربوع الريفية، وفي أثناء ذلك لم يكن من بد غير أنْ طلب الدا موح من المجنون بالاستراحة قرب منزله ريثما يجتمعوا معا للعشاء و لكن ما أن اتّجه به صوب الحصيرة التي أعدتها زوجته حتى جفل قائلاً :

ــــ أتدري من هدم بيتي؟

ــ لا أدري، .. ردّ الدا موح .. لكن لا يهم لا يهم .. مُخمنا أن صاحبه استبدّ به الطمع أو القرم لما رأى الأرنبين السمينين لا أكثر ولا أقل وهو غير مصدق تماما حكاية البيت المهدّم من أساسها ثم شدّ على أزره وهو يقول : ــــ بيتي بيتك استرح و لا يهمك، لا يهمك ..

ـــ كيف لا يهم؟ وأين سأعيش؟ لا شك أنهما الرجلان المُلثمين اللذين جاءا يسألاني عن المِخرأة، أنا متأكد أنهما من فعلا، وكي لا أرمي الخِرأة في الطريق قاما بضربي

ـــ " لكن نحن لم نتأكد بعد، سندرس مع السي رافح الأمر، وكأنهما إرهابيين" قال الدا موح وهو يرجف لكن علينا الاحتراس..

ـــ سأنكح امرأتهما أو أجعلهما ينكحان أكثر من رجل ..

ــ اسكت ماذا تقول اسكت سيذبحونك أن تفوهت بكلام سافه أمامهم

ـــ سأقتلهما ونهض المجنون مسرعا

ـــ انتظر أين أنت ذاهب سنردّك إلى أهلك في المدينة انتظر ..

لكن المجنون راح متوعدا مهددا تارة يجري وتارة يهرول بعد أن ترك فردة من حذائه قرب الحصير حتى اختفى عن نظره.

لقد شفّه حاله كما لم يشفه من قبل حتى كاد يبكي لأجله

 ثم ما برح مجنون قرية الديس منذ ذلك الحين شاعرا بما لم يشعر به عقلاؤها، وفي حالة مثارة من الجنون الدائم أو من الغضب الهيستيري الكامن الذي لا يستطيع له وسيلة إلاّ بوعيد الانتقام من الإرهابيين المتواجدين بالغابات المحاذية للقرية، وقد ظل غضبه كامنا لأنه كان يرتحل إلى بلدة والديه الأصلية على بعد عشرات الكيلومترات ليقي نفسه شر المبيت في برد الربيع القارس لكن ما إن يتحسس تحسن أحوال الطقس حتى يأوي إلى ركام بيته ليجلس قبالته وهو ينشد الأشعار، ومن رآه على ذلك الحال ظنّ أنه ناسك موحّد وقف إلى ضريح سيده بالذكر والاستبصار وهو مطيلٌ في خلواته أجل، وقد بدا منذ ذلك الحين كثير التنقل يمشي على أطراف الأودية حتى يلامس الغابات ثم يعود الهوينة إلى المراعي ثم ما أن تنبحه كلابها حتى يعود القهقرة وهكذا دواليك، وبينما هو على تلك الحال عثر على وجار ذئب و قربه جراءً متلاعبة فتذكر فورا جروا الدا موح وهما يأكلا كرشة الأرنب. لقد عاودت صاحبنا صور أرانب الدا موح السمينة وهي تقفز بين البيوت دون أن تجفل منه بعيدا فجاءته فكرة العودة إلى هناك مرة أخرى لاصطيادها ملتمسا عذر فردة الحذاء التي نسيها عندهم

 وعندما وصل صاحبنا إلى قرية الدّيس لم يرى أرانبا لكن رأى قطيعا كاملا من الأرانب وهي سارحة قافزة بين البيوت ، وجدها أرانب أليفة ما أن يقفز أرنب مبتعدا حتى يقفز آخر مقتربا، فانتهز الفرصة وقبض على أرنبين من أذنيهما وانسل كما ينسل السارق المحترف، حتى إذا وصل إلى الوكر قام بذبحهما وأعطى قليلا للأجرية والباقي رماه في مناطق متباعدة على أطراف الغاب ظنا منه أن هناك ذئاب أخرى في حاجة للطعام، غير أنه حدث ما لم يكن في حسبان المجنون، فقد أثارت رائحة الأرانب الزكية خنازير و ذئاب كثيرة فراحت تخرج من أوجارها نهارا جهارا الأمر الذي حرّك حاسة شم كلاب الرعي وهي عائدة من مراعيها، فتلاقا الجمعان وترامست كلاب الرعي بما فيها كلاب الدا موح وعمران والسي رافح وكل كلاب القرية مع الذئاب فأصيبت بداء الكلب عن آخرها.

بين عشية وضحاها أصبحت جميع كلاب القرية مسعورة تنطلق إلى الغابة عِوَض القرية فشعر كل من الدا موح والسي رافح بضرورة ملحّة لإبادتها قبل أن تحدث الكارثة ولكنه استشعر قلة المعونة، فلا بنادق كافية ولا رصاص كاف عندهم، أما المجنون فبات ينشد شعرا لما ارتفع النُباح وسمع صوت الرصاص مدويا في كل مكان يطاردها وهو يقول مكررا بمكر غريب وأمّا كلابٌ فمثلُ الكِلا ب لا يُحسِنُ الكلبُ إلاَّ هريرَا  تارة بصوت عال وتارة بصوت خفيض كعهده في تلاوة أبيات الشعر التي يحفظها عن ظهر قلب كأنه يسخر أو يتطلع أن يربح موكلاه جولة الكلاب المسعورة تلك.

  أجل، في تلك الربوع المفعمة بحركة غير مسبوقة وقوف رجل واحد ضد الكلاب المسعورة شوهد صاحبنا المجنون متنقلا بين القرية وكوخه في انتظار خبر سار يجعله ينشد شعر الانتصار وحِميته؛ في أن يُشفي غليله في أقرب وقت كما فعل الشاعر المتنبي حينما أنشد قصيدته الحدث الحمراء، وهل يشفي غليله إلا من تصفية الحساب مع مرتزقة هاجموهُ حرا في بيته لتأديبه بضرب الفلقة! ثم هدم بيته دون وجه حق! كقُطاع طرق كانوا حاملين لراية سوداء تشبه راية مرتزقة أعالي البحار، كداعيشيون دخلوا إلى تلك الربوع الطاهرة القصية كما يدخل إليها قطيع من الكلاب المسعورة أو سربا من الجوارح الجوعى أو جراد الشر الذي لا يترك أمامه لا أخضرا ولا يابس. وأين لك مِن أن تفر بدينك أو أن تخلوا إلى زبورك أيها الشاعر والناسك المتعبّد آنًا والمجنون المتأمل طورا، أين لك؟ أمن ضعف الناس وظلمهم أم من جور الجنون الذي قد يصدقك القول قوله؟

... أجل قد كان ما كان وفي قرية البربر المسالمة الهادئة كان، وصدقَ حدس الدا موح والسي رافح والمحارب القوي عمران؛ الشجاع الذي تناقلت كل البلاد شمالها بجنوبها، شرقها وغربها، عبر قنواتها وصحافتها و وكالات أخبارها الإخبارية، خبر بطولته في قرية الديس الباسلة، عمران الذي كان يحمل رصاصا كافيا ويمشي في حذر وتؤدة لمّا خرجا الإرهابيون الأربعة على صاحبيه الغير محترسين رادينهما قتيلين، وقف إزاءهم كالبطل ومن خلْف شجرة البلوط قام بإفراغ سيل بندقيته عليهم رابحًا معركة الحدث الحمراء لا معركة العزة والكرامة ثم كانت قصيدة مدح كالرثاء تصّعد بها نفس شاعر :

عَلى قَدْرِ أهْلِ العَزْم تأتي العَزائِمُ        وَتأتي علَى قَدْرِ الكِرامِ المَكارمُ

وَتَعْظُمُ في عَينِ الصّغيرِ صغارُها       وَتَصْغُرُ في عَين العَظيمِ العَظائِمُ

يُكَلّفُ سيفُ الدّوْلَةِ الجيشَ هَمّهُ         وَقد عَجِزَتْ عنهُ الجيوشُ الخضارمُ

وَيَطلُبُ عندَ النّاسِ ما عندَ نفسِه           وَذلكَ ما لا تَدّعيهِ الضّرَاغِمُ
هَلِ الحَدَثُ الحَمراءُ تَعرِفُ لوْنَها            وَتَعْلَمُ أيُّ السّاقِيَيْنِ الغَمَائِمُ
سَقَتْها الغَمَامُ الغُرُّ قَبْلَ نُزُولِهِ               فَلَمّا دَنَا مِنها سَقَتها الجَماجِمُ
بَنَاهَا فأعْلى وَالقَنَا يَقْرَعُ القَنَا            وَمَوْجُ المَنَايَا حَوْلَها مُتَلاطِمُ
وَكانَ بهَا مثْلُ الجُنُونِ فأصْبَحَتْ            وَمِنْ جُثَثِ القَتْلى عَلَيْها تَمائِمُ

 

فبئس القدر الذي أوجد موكِلك الآخر، الذي صنو نفسك ومتنبي عصرك، الذي أفشى فيهم سرك أيها المجنون، متنقلا ينعم في كوخك وأرجاء قرية الديس وتشقى أنت في بيتك فلم يكفيه ويكفيك مدح ولا إنشاد، بقيت مجنونا إلى يوم يبعثون ولو طلعت فيهم متنبيًا وما شك يومئذ لطالع.  

 بوزيان bouziane
بواسطة : بوزيان bouziane
موقع تنويري فكري وشبه أكاديمي، يتغيا تقديم إضافات نقدية تخص تحليل الخطابات الثقافية ونظرية النقد والأدب متوسلا بجماليات التلقي والنقد الثقافي، كما يعنى بنشر إبداع قصصي جديد ليس له ما يماثله على الساحة الجزائرية، والمقال المتناول للشؤون السياسية والإعلامية والاجتماعية المقاربة للظاهرة الأدبية والمحاكية المكملة لها.
تعليقات