التعمُّق المعرفي وفخ الجدليات الثقافية، "النيو كولونيالية" أنموذجا


بوزيان بغلول(*)

 

    لقد طرح مفهوم نقد/خطاب ما بعد الاستعمار في حقل الدراسات الثقافية ـــ الحقل الذي يهتم بمضامين من معارف مختلفة تدعى عند أهلها بـ "الدراسات الثقافية" ـــ وفتح أفقا رحبة أمام المعرفة، غير أن أكثريتها جدلية لا تُطرح إلا وهي مرتبطة بصورتها المثالية التجريدية L'idéalisme abstrait  فقط، العصية على التفكيك إلى عناصرها الأولية، أو صورتها التجريبية المادية النفعية فقط ؛ فالإشكالية تكمن في قدَر التجاوز الجدلي بين وجه الموضوع وهو الهوية، في وجهها المادي الملموس من جهة ووجهها الفكري المجرد من جهة أخرى، فوقع أول ما وقع في فخ الجدليات الثقافية العدة من قبيل المركز والهامش، الأنا والآخر، الأصالة والمعاصرة، الاستعمار والحرية، والتي سبق للفكر الإنساني الوقوع في مطباتها قبل تبلور الفكر البنيوي، أتُرانا اليوم في ظل عصرنا الذي يوصف بأنه عصر الثقافة بمعزل عن خطر التقوقع واللاجدوى والجمود الفكري التي تحدثه هذه الجدليات أم أننا نعيد إنتاجها يوميا دون وعي، نتيجة لانعكاس التأثير المباشر لعزلة ثقافتنا أو احتياطها من مواجهة أو منافسة ثقافة الآخر؟ فما مدى انعكاس فخ الجدليات الثقافية على الفضاء المتعامل مع إنتاج العلم والفكر ألا وهو الجزء من فضاء أساتذة التعليم العالي المتخصص في الحقل أعلاه مثلا على درجة يقينية معارفه وعُمقها؟ بل صواب طروحاتها من عدمها؟ وهي النظر إلى الهوية نظرة تجريدية علائقية، فيما أن اللغة كيان وتجربة بيانية وبلاغية، بل تغدوا جوهر التعمق المعرفي، أو النظر إليها ـــ الهويةــــ نظرة ميتافيزيقية مجردة تصطبغ بمقولات "الأنا" وتتشبّع أنانية بمعزل عن مكون "الآخر" الواقعي التجريبي.

الإشكالية: التبسيط والتسطح ليس ضدان جدليان للتعقد والتعمق لكنهما في حضور الخطاب حول الهوية الثابتة أو المتحولة لغةً وخطاباً ثقافيا يغدوان كذلك، ولم نختر الدراسات الثقافية وبالتحديد النيو كولونيالية وبالتحديد أكثر "الهجنة الثقافية" نموذجا إلا لأنها معرفة ما بعد بنيوية إذن مشيَّدة على لغة البنية أو الشكل الجافة (وهي الشق الأول "الفخ" في طرفي الجدليات الثقافية ) ومشيّدة مضامينها المعرفية على المضامين (المعارف) الثقافية (وهو الشق الثاني "الفخ" في طرفي الجدليات الثقافية) إذن إشكالية التعمُّق في المعرفة تكمن في هذا الجدار المتين بين "مثالية الفكر" وتجربة المحسوس Expérimentation بمعونة رسوخية الثقافية في كليهما، لتغدوا بهما المعرفة ضحلة مستغنية عن طرفها الجدلي الذي ليست لها أي قيمة بدونه، فالمفاهيم الألسنية، البنيوية والمادية الأخرى ليست لها أي قيمة معرفية بمعزل عن ما تحمله من فكر معرفي تجريدي حتى وإن وجدت لها علاقة دلالية، فهي تبقى من التسطح والهشاشة دون بلاغة اللغة التي لها أثرها السحري الملموس وليس فقط البياني ذو الإدراكات العميقة المؤَثِرة والتي يُؤْثرها الفكر البشري كونها من طبيعة سريرته في هندسته البيولوجية التي تنموا وتفكّر مع الطبيعة كما هو الحال في مدونة الشعر العربي الجاهلي مقارنة بسواه.

نفترض أن مقولة مركز ـــ هامش هي مقولة اختلقها الضُّعف والهوان واحتقار الذات وإن ارتدت رداء العلم، لأنه سيكون علما شكلا لا مضمونا محمي بأيديولوجيا الثقافة، جاهز وموجَّه مسبقا، لينتج أوتوماتيكيا تسطحا و ركودا معرفيا، وهي مقولة لم تختلقها قط، لا العقلانية ولا الحداثة ولا ما بعد الحداثة ويكفينا دليلا واحدا، هو أن هذه الأيديولوجيا تواجه العقلانية التي تَمِيزُها عنصريا باسم "الآخر" بعلومه وتحاربه بسلاحه!

وأصل هذا المفهوم الجدلي يعود إلى مستوى الأفراد (المفروض أنهم طبيعيين) في تاريخ البشرية وقد انتقل إلى مستوى الجماعات والدول؛ فلا سلطة لأي فرد على فرد آخر ليس من جيناته، وإنما له فقط سلطة على ذاته، ولو كان له حقا سلطة على ذاته لما ترك الآخرين يتسلطون عليه، إذن من يقولون الآخر الآخر هم في الأصل أناس مقموعين خاضعون قهرا وجبرا. حرّر نفسك من التسلط المفروض عليها ترى الأشياء بعين المنطق لا بعين وهم الرسوخية الثقافية، من منطلق هذا المنطق: أن في الوجود وهم وحقيقة إدراكهما خليق بالمنهج العلمي وحده، ما عدا ذلك ادّعاء يدخل في الوهم، ونحن لم نقل بالوهم الذي بكشفِهِ ينجلي مقابله جدليا(الحقيقة) إلا اعتمادا على المنهج العلمي العقلي المستقل عن الإكراهات الثقافية. إذ أساس طروحات نظرية ما بعد الكولونيالية عند أقطابها: إدوارد سعيد، فرانتز فانون، هومي بابا، جياتري سبيفاك العمل السياسي اليساري الراديكالي وهي متعلقة بالمرحلة، إذن فهو نقد تاريخي ينتفي بانتفاء سياسات الاستقطاب العالمي أو قل هو أبستمولوجيا في النقد الثقافي المتبلور عن مدرسة فرانكفورت، فلا عجب أن نجد المتخصصين المعاصرين أمثال نايجل سي. غبسون و هانز بيرتنز يصفونها بالمخيلة لا بالنظرية.

ثم إن رسوخية الثقافة، بالتفطير عليها، بمعزل عن التلاقح والاحتكاك بالآخر المتعدد المختلف تضمُر عقلانيتها، يصبح وعي الأفراد أو الجماعات أو الدول وعيا لا تشاركيا، فإذا ما تراكمت معارفهم التي تقوم على الجدل توطدّت ركائزه السلبية بالرسوخ الثقافي، جدل ما هو في حقيقته إلا مزيدا من السلبيات ظنُّوها شيئا عاديا و وعيا صائبا بهويتهم، بل عمل صالح، بينما هي وعي بللا وعي، وضلال بعينه أو الانحراف عن جادة الصواب لغياب الاحتكاك النفسي (الثقافي) بالآخر. والمثال المضروب (انظر الفقرة الموالية) عن قسم اللغة العربية وآدابها يُظهر كيف أن الانحراف عن الطبيعة الجوهرية للتخصص أصبح بالرسوخية الثقافية المُضللة هو منتهى العلم ومنتهى التطابق بين النظريات العلمية الجديدة وطبيعته، إنه وعي باللاوعي نتيجة اللا تشاركية، التعالي والاغترابية.

أجّل وأقنع مثال على مقولة المركز والهامش المرتكزة على جدل الثقافة تلك المصطنعة في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة الجزائر2 بين أساتذة يشكلون مركزا أيديولوجيا أمام هامش عاقل مستنير بجوهر التخصص. أما المركز المتسلط فهو لا عقلاني بتاتا لأن مقولة العلم عنده هي مقولة مُشَكَّلة أيديولوجيا وثقافيا، وهو متسلط نتيجة ثلاث جدليات ثقافية مترتبة عن غياب العقلانية والعلاقة المتينة بالتخصص ( 1ــ المنهج في هذا التخصص بدون مستوى لغوي عال لا يساوي شيئا غير أنهم تجاوزوه قائلين المنهج فقط، وفقط هنا تشير إلى مستوى يقارب التعليم الثانوي في اللغة أو هو أقل والباقي يكمله التفرنس بالفطرة؛ إذ هم يقرؤون ويفهمون "اللغة العربية وآدابها"* باللغة الفرنسية! يعني نحن أمام طغيان حقيقي يهمش كل الطاقات التي يصطدمون بها من داخل القطر والتي وعت جيدا أن لا منهج بدون مستوى لغوي عال. 2ـــ الحفاظ على هذا المكتسب بثقافة التملق والتزلف المفرط. 3ـــ آليات المنهج الجافة المفتقدة للمستوى العالي في اللغة زائد ثقافة التملق وبهكذا تموقع شكّلت خاصية عاصمية مفتقدة للجبلة على العربية ــــ إلا ما كان نادرا جلهم يتجهون إلى فرع علوم الشريعة ــــ وهي متموقعة عنصريًا ضد كل من يهدد كيانها من الذين يحملون إرثا بلاغيا وعقلانية مستنيرة (يعنى الجبلة زائد الذكاء) بالمصلحة، أي إمكانية الضم إلى المجموعة مقابل الاعتراف والمدح ـــ الانحراف من الهامش إلى المركز المتسلط ـــ ولا ضير أن يكون إنتاج المعرفة النقدية و الأدبية في هذا القسم في مؤخرة الترتيب وطنيا).

ــ ضبط المفاهيم والمصطلحاتلعل النقد الأدبي كفرع معرفي يصب كجل العلوم المادية والإنسانية في نهر المعرفة الشاملة والتي تارة تتراكم مياهه وطورا تضمر، انفصالا واتصالا، ونحن نقصد هنا بالمعرفة طبعا المعرفة النقدية الأدبية بمناهجها العتيقة والحديثة والمعاصرة معا، وهذا الرافد باتصاله بنهر المعرفة الطويل والعريض يقع في نفس المستوى معه مما يسمح بمياه النهر أن تتراجع قليلا إلى الرافد بضع أمتار أو ربّما مئات الأمتار إن لم نكن مُغالين، فيتشرب ذلك الرافد إلا وهو النقد الأدبي من غزارة مياه النهر، أقصد من غزارة المعرفة الشاملة فلسفة كانت وهي الأقرب أهمية بالنسبة له وربما التاريخ وعلم النفس كذلك، وحتى المنطق الرياضي هو مفيد له ــــــ فالمعرفة هي التي تشير إلى الفهم النظري أو العملي لموضوع ما. قد تكون المعرفة ضمنية (مثل تلك التي تكتسب مع المهارات أو الخبرات العملية) أو أن تكون معرفة صريحة (مثل تلك التي تكتسب مع الفهم النظري لموضوع ما)؛ وقد تكون أقل أو أكثر اصطلاحية أو منهجية([1])ـــــ في هذا النطاق بالنسبة للنقد الأدبي كأداة و غاية في نفس الوقت، حينما تتكامل الوسيلة مع الغاية، نكون بصدد معرفة المعرفة والتي لها مجالها التي تسبح فيه، ألا وهو نقد النقد أو نقد النقد الأدبي بالتحديد.

أما مفهوم الجدل فهو الشك أو المِراء لأجل المغالبة و المقابلة قول بقول، أي أن الجدل لغةً من مقابلة الحجة بالحجة؛ والمجادلة: المناظرة والمخاصمة، والجدالُ: الخصومة؛ سمي بذلك لشدته والجدل في الاصطلاح مراء/ شك يتعلَّق بإظهار المذاهب وتقريرها .. وقال الجرجاني: ( المِراء : طعن في كلام الغير لإظهار خلل فيه، من غير أن يرتبط به غرض سوى تحقير الغير)([2])

    يرتبط إذن الجدل بالثقافة ارتباطا جدليا؛ كلما اتّسعت تلاءمت مع المعارف والعلوم فيخف الجدل إذن نحن هنا أمام انفتاح لا يُخشى منه الزوال والتراجع، والثقافة التي تتصف بهذه الصفات هي ثقافة الغرب الشبه مادية وهي أوسع من الثقافات الأخرى منها ثقافتنا العربية الإسلامية والتي اتسمت بمراحل تقهقر عديدة واكب في كل منها منطق التفكير ـــ بل العيش أيضا ــ الجدلي الذي لا يخرج عن متاهة البيضة من الدجاجة أم الدجاجة من البيضة! ولا يخرج مفهوم "ثقافة الجدل" عن تركيب بين معنى الثقافة ومعنى الجدل فنقع بإزاء هذا التركيب على الممارسة الجدلية التي ينبُغ فيها المرء أو يتفقّه حتى أصبحت الأمور الجدلية ثقافةً لا يستسيغ غيرها منطق تفكير.

والباحث الهندي هومي بهابها Homi K. Bhabha المدعو هومي بابا في كتابه "موقع الثقافة 1994" خالف إدوارد سعيد بتوليد مفهوم " الهجنة الثقافية Hybridation"* في سياق تطور نقد خطاب ما بعد الاستعمار، بخاصة عندما عجزت الدولة العربية الحديثة عن الخروج من مأزق التخلف دون مساعدة من الغرب ( المستعمِر السابق ) ؛ يرى هومي بابا باختصار أن الاشتباك بين المستعمِر و المستعمَر لم يخلُ من تلاقح ، أي أن المتسعمِر تأثر به كما تأثر به المستعمَر، بل إن الاستعمار بوصفه تجربة جوهرية و قلقة قد خلقت ذاتا جديدة للمستعمِر ، تعتمد في جانب كبير منها على خطابه اتجاه المستعمَر و علاقته به.

ومن هذا المنظور، منظور الجدل الثقافي لا الجدل المعروف كمنهج علميDialectique   Matérialisme من هذا المنظور يأتي الوصم بالتخلف أو الوصم بالتقدم، أجل فقد غدا جوهر التسطح المعرفي عندنا لا يخرج عن متاهتين جدليتين ثقافيتين (وقد حلت محل النزعة) عصية على الطرق وما بالك المناقشة قصد الحل، أولًا العمل على التفريق بين خطاب اللغة وخطاب السرد/نقد وتكريس فيه عبثًا ما أطلقوا عليه أدبية الأدب! وثانيا صناعة الآخر عن طريق "الأنا" المتعالية ثقافيا.  

 1ـ جدلية خطاب اللغة/ خطاب الأدب و خطاب السرد/النقد

   إنه ذلك الجدل المتخِذ له شكل الجدل المادي، وقد ترسخ ثقافة لاعقلانية تحل القاعدة أو المبدأ التقني الجاف محل روحانية جمال المعنى الجدلي المنبثق عن سحر البيان أو بلاغة اللغة. في حين أن معاني الأدب جمالها في ماهيتها/ التجربة المباشرة للذات المبدعة وكذلك تتبعها الذات الناقدة، تكون الماهية موضوع تجربة من خلال حدس معاش، وليس لرؤية الماهيات أية صفة ميتافيزيقية .. فالماهية ليس سوى ما يكشف لي به عن الشيء بالذات، في هبة أصلية([3])

أما الجدل المذهبي الذي عُنيت به الماركسية أو الفكر الاشتراكي فليس لنا به حاجة في هذه الإطلالة التي نحسب أنها مساهمة معرفية، كونه جدل يتأسس على مبادئ العلم أكثر من المبادئ الثقافية :" وأعني بالفكر الاجتماعي الفاعلية الجدلية بين الذات الإنسان/المجتمع) والموضوع، ذلك أن الإنسان لا يفكر إلا في مجتمع. وفكر المجتمع حصاد تاريخية الفعل أو النشاط الاجتماعي في إطار صراع الوجود .. أي إنتاج الوجود. وإنتاج الوجود ـــ أي الحضارة ـــ هو نشاط مادي ومعنوي (تقانة وفكر) وكلاهما وجهان للوجود الاجتماعي وأداة واحدة للتكيف الذي هو معرفة . فكر - وفعل استجابة التحديات البقاء والتكاثر، والحضارة عندي هي عملية تاريخية قوامها "إبداع الأدوات المادية والإطار الفكري / القيمي في تكامل معا استجابة لتحديات وجودية يفرضها الواقع المتجدد والطبيعة بتفاعلهما مع الإنسان / المجتمع. وهذا التعريف فيه دينامية ؛ إذ يدمج الإنسان كأحد مكونات البيئة الحضارية بسلوكه وفكره وقيمه، ويتسق مع التعددية والتطور في الزمان والتنوع في المكان"([4]) و في هذا المنهج يكون العلم ذاته والمنهج التاريخي قد اثبتا بطلان نظرياته، أحدثا فيه رجّة أو قل جدل داخلي إن صح التعبير أدى إلى تراجع منظومته الفكرية بزوال نظامه السياسي والاقتصادي الاشتراكي في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، إذن الاعتبارات الأيديولوجية وراء لا عقلانية هذا المنهج الحداثي، أما الجدل الثقافي في شقه الأول الذي نحن بصدده فهو افتقاد المجادل في تخصص النقد بمناهجه العلمية اللغوية الألسنية والأدبية البنيوية والشكلانية كفرع من التخصص العام اللغة العربية وآدابها ( الشعر ـــ النثر ــ  النقد: الألسني والأدبي) لجوهره الذي وجد من أجله وهو بلاغة اللغة العربية وبيانها، من المفروض أن هذا الافتقاد طبيعي حله هو مغادرة التخصص إلى الفلسفة وعلم الاجتماع أو محاولة الإقرار بالنقص في هذا الجانب ـــ الذي هو جوهري لا نكذب على انفسنا هو جوهري ـــ ثم محاولة اكتسابها، بيد أنه وللأسف مطب كل ضعف وتسطح معرفي وفكري في اختيار الطريق الأيديولوجي، وهو هنا التعصب الجدلي المادي الذي أشرنا إليه أعلاه لأجل تجاوز هذا الجوهر بالاستعانة بالقاعدة والمبادئ العلمية المؤسسة له يعني مقاسة على المقاس، كالقول بالشعريةpoétique  كمطلب جمالي نقدي بدل الإبداعية، والإبداعيةcréativité  هذا المصطلح الذي جاء به محمود أمين العالم كترجمة لمصطلح الشعريةpoétique ، فيه إشارة بشكل أو بآخر إلى بلاغة اللغة أو جماليتها التي هي عدم السقوط في ابتذال التعبير بها، السقوط الناتج عن الفقر المعجمي وصعوبة تركيب الجمل حتى لا نقول صعوبة الإنشاء، هذا المصطلح مرفوض عند هذه الزمرة التي اختارت هذا الطريق الجدلي المادي دون سواه منهجا، فغدا معها ليس الدرس النقدي الأدبي وحده في خطر الضعف بل المعرفة والفكر برمتهما غديا في خبر كان من التسطح، لأن الأدب (من كونه حاملا جدليا للفكر والمعرفة) سيضعف بضعفه ولعل أفضل مثال على هذا الانحراف سن القاعدة والمبدأ كي يغطي على التسطح هو "الشعرية" المقصود بها بنية السرد التي تأتي مسكوكة بتظافر عناصره بناءً فنيا جماليا، أما المقصود بالبناء الفني فهو تفضيل الكاتب والناقد عنصر بذاته (أو عناصر) بخصائصه وإدماجه مع المكونات السردية الأخرى بطريقة فنية، وهناك منهم يتجاوز تضليلا جدليا عندما يسميها عنوة خطاب أو بلاغة السرد ومنهم من يعي فداحة التّسمية ويتدارك بقول بدلَها بلاغة السرد الجديد (المقصود تظافر المكونات البنائية: مثلا شخصية أو بطل متميز بخصائص نفسية، اجتماعية، فكرية يُجليها نسقيا في سياق سردي : كأن يدخل في علاقة بطل راوٍ ويخلخل بنية السرد، يبدأ من نهاية الحدث أومن وسطه وهو ما يُعرف بكسر تسلسل الزمن أو يعتمد على المفارقات الزمنية الوصفية وغيرها، تلك هي بلاغة السرد) أما المقصود بالبناء الجمالي فهو ما يشعُر القارئ اتجاهه بلذة جراء تجانس وتناسق هذه الفنيات في كليتها بخاصة إذا كان الموضوع موضوعا عاطفيا أو إنسانيا فيه حب وجسد وقيّم.

هذا مفهوم الشعرية في تصورهم البنيوي السردي أما في التصور الشكلاني والألسني فهو نفس المفهوم لكن مع مكونات الجملة؛ من حروف وكلمات ومقاطع الكلمات الصرفية المسماة مورفيمات المشكِّلة فيما بينها نظاما أو نسقا، وهذا المفهوم للشعرية في النقد هو مفهوم جاف لأنه فضلا أنه لا يقيم الوزن لماهية الشعرية لكنه محاكاة لها فانه يحيد ن جوهرها التي هي بلاغة اللغة، كان ينبغي لمجتمع المعرفة داخل القسم المذكور أعلاه أن يأخذوا به خارج النص لا داخل النص ليتّقوا به شر مهازل اللا موضوعية و"المَعْرِيفة: المنافع الذاتية". ويتوقف (مفهوم الشعرية هذا) عن تفجير أي معنى جمالي ههنا عند حدود "فنية البنية السردية" أو "خطابها السردي" أو عند وظيفة النسق ولا يتعداهما إلى الجمال اللغوي الإبداعي المقصود به بيان اللغة (تنويع معجمي، تقديم وتأخير، استعارة، تشبيه، جنس وطباق..) وسواء في جزئية العمل أو في كليته، أدبا أو نقدا، الحامل بين طياته للفكر إذن للمعرفة؛ يسمو بسموها ويتواضع بتواضعها. صحيح أن المعاني كلها مطروحة مطروقة حتى بالإشارات وللهجات العامية، بيد أن ما يجعل الفكر في حركة ونشاط هو الخطاب اللغوي الجديد و يا حبذا لو يكون مجسدا للمجردات (مجاز) حينها يكون تحفيزه للذائقة متزامنا مع المعنى إذن هو هكذا خطاب باللغة لكن في اللغة، وعندما يكون هكذا معنًى رشيقا فيعني مدلولات/إشارات معرفية مكثفة في أقصر وقت ممكن ولعلّ قولنا : "ما أجدرنا أن نعطيه حقه" مثلا، تركيب غريب جديد، أولا يجعل الفكر في نشاط أكثر لفهم المعنى بالنظر إلى أن اسم "الجدارة" كان من المفروض أن يُلصق بضمير المخاطَب "ما أجدره بحقه" وهذا هو المألوف: خطاب سرد، والمعرفة التي يضيفها هذا التركيب هو أن الرجل من المكانة والعلو، وهو ما لم نلتمسه في التركيب المألوف.

والباحثين الفرنسيين عندما جاءوا بالمنهج البنيوي لم يأخذوا في الاعتبار ما تتميز به اللغات التي ستنتقل نظرياتهم إليهم وإنما أخذوا في الاعتبار فقط اللغة الفرنسية التي فقدت بلاغتها أو فخامتها الكلاسيكية، حيث كانت مثل لغتنا العربية غنية في معجمها، تجد للكلمة الواحدة عدة مرادفات، لكل مرادف سياقه التداولي الخاص، وكانت لغة شعرها شعر راقٍ في عصر Pierre de Ronsard و Joachim du Bellay ونصوصها السردية ذات مستوى رفيع بلاغيا، لكنه مع مجيء العصر الرومانسي ثم الواقعي فقدت اللغة الفرنسية معجمها وأصبح لغة أدبها كلغة التواصل اليومي، بحيث اعتمد الشعر على فنيات غير بلاغية كأسلوب الإيقاع والتكرار، لا أكثر ولا أقل، وهناك من وعى هذا التحول لمّا كان معاصرا له كمونتسكيو Montesquieu شارل لوي دي سيكوندا  (1689ـــ 1755) فقال أن "النقاد جنرالات فاشلون عجزوا عن الاستلاء على بلد فلوثوا مياهه" من ثمة لا مجال للمقارنة بين اللغة العربية الغنية بتنويعات الأسلوبية ذات الصلة بثراء اللغة ومازالت محتفظة بتراثها البلاغي سردا وشعرا، و بين اللغة الفرنسية التي فقدته وأصبح الأدب الروائي كما الشعري بسيط ومتاح  للجميع، ولهذا لمّا جاء النقد الجديد في شقه الفرنسي جاء على حسب ما تفرضه طبيعة الأدب الفرنسي، لا طبيعة الأدب العربي، فلا عجب أن يهتم النقاد البنيويون بالتنظير لمفهوم البنية السردية والشّعرية التي أفضنا فيها أعلاه، لا مُحتكِمين في نظرياتهم السردية البنائية أو الشعرية نحو الفن والجمال إلا ما ينبلج من العلاقات البنيوية في نسق انتظامها اطّرادا في إهمال تام للأسلوب والتعبير البلاغي، وعندما حذا المغاربة حذوهم في هذا الشأن بالتهليل للمناهج الشكلانية والبنيوية في سبعينيات القرن الماضي ربّما مستبقين حتى العرب المشارقة( وقد فعلوا غير مَلُومين لأن أصل هذه لغة إنما جاءت مع الفاتحين، وهل استطاع الفاتحون أن يورثوها للسكان الأصليين كما هي عندهم؟ فافتقاد المغاربة للغة العربية الأصل كما هي لدى المشارقة يرجع في أصله كونهم ليسوا أهلها، وهذا افتقاد هوية لا إمّحائها كما هو الشأن لفرنسا) فظهرت مع "انتهاز الفرصة" هذه أول ما ظهرت إشكاليات جدلية عدّة، من قبيل بساطة الأدب والنقد المغاربي وتواضع مستواه الجمالي والفني والمعرفي جدليا كذلك لأن لغته أصبحت متواضعة وأقل مستوى من لغة التواصل اليومي. ونؤكد على كلمة "انتهاز" ههنا لسد ثغرة "الافتقاد" لا الإمّحاء، لأن اللغة العربية عاشت وضعا طارئا في المغرب العربي عامة والجزائر خاصة فكان هذا التحوير وهذا التمثُّل للنقد الجديد بعواهنه مدروس حسب القاعدة التي تقول الغاية تبرر الوسيلة، بل أن بعضهم تحايل ومضى بعيدا في هذا التحوير والانحراف لمفاهيم الأدب والنقد تُخرجُهما عن طبيعتهما، تحويرا يلج معهم إلى دروب الفلسفة والعلوم الأخرى ودائما عن طريق سن القاعدة أو المبدأ (تماما كالدستور الآخر الجديد على مقاس نظام دكتاتوري استبدادي جديدة ) أوليس هذا تلفيق ومحاولة التملص من البنى الكونية الطبيعية سنة الرب في خلقه "لغة ــــ فكر"   "جمال لغة وسموها ــــــ دقة الفكر وسموه" إلى الجدل المادي العقيم؟ أوليس لأنه أيديولوجي أيديولوجية ثقافة المادة التي تخلوا من أي معنى جميل؟ بالتالي لا عقلانية للمنهج المادي هذا إلا في جدليته التي لا تغني ولا تسمن من جوع. فالاستعارة والتعبير المجازي عموما هما قسريان كالتعبير الحقيقي الذي يقول الصوت والمصوّت به بصوت مصوغ من عناصر بنية ذلك الصوت. فكما أن التعبير الحقيقي يقدم عينة من المعبّر عنه فإن التعبير المجازي يفعل نفس الفعل حين يلمّح أن هذه العينة وما تشير إليه هما في بنية أخرى غير بنية المسمى الأصلي. ما الذي يجعل الفكر واصلا بنية ببنية محددة لا بغيرها مع العلم أن كل بنية في هذا الكون لا تكون إلا بعلاقاتها بسائر البنى الكونية ؟ ولهذا السؤال وجه آخر: ما الذي يحرك الفكر بهذا الاتجاه أو ذاك؟ .. قوة تأثير الواقع وحاجات الشخص المتأثر بهما تحرك الفكر([5])

   ولعلّ خير مثال حي على هذا التحايل هو تحوير مفهوم الأدب أو جعله غامضا عمدا ) مع نظام LMD ولم أسمع به في النظام القديم لأن تعريف الأدب حسب رينيه ويليك : " كل شيء قيد الطّبع " هو تنظير مرحلي أي أبستمولوجيا تاريخية لعلم الأدب تخص ستينيات القرن الماضي وليس تعريف نهائي مطلق) لأن النظرية "نظرية الأدب" لما تقصّت لنا تعريفا للأدب لقيت من مشقة التنظير ما لقيت جهدا ومكابدة حتى وصلت إلى تعريف لاقى استحسانا وبالضرورة نسخ جميع التعاريف السابقة) فالتعريف الذي مفاده :" الأدب في العصر الحديث أصبح يدل على معنيين، الأول معنی شامل وعام ويدرج جميع ما يكتب في اللغة من العلوم والآداب تحت مفهوم الأدب، والثاني معنی خاص ويقصد به أنه لا بد أن يكون الكلام ذا معنى ويتصف بالجمال والتأثير ليكون أدبا" [ ينظر مقررات نظرية الأدب في أقسام اللغة العربية بالجزائر] غير مقبول تماما، بل لا بد أن نقف عند آخر تعريف توقفت عنده نظرية الأدب وهو: " الأدب هو كل كتابة تنتمي إلى الشعر والرواية والخطبة والمسرحية والقصة القصيرة والتراجيديا والحكمة. أما الكتابات الأخرى كالتاريخ والفلسفة وغيرها من العلوم فهي خارج إطار الأدب" ونحسب أن هذا التآمر على الأدب المحسوب بدقة بالغة على مفهوم الأدب ههنا بالذات في عصر الملتميديا واللغات الأجنبية وعصر التشظي والتشيؤ المادي لا يخرج عن مقولة المركز والهامش، مركز يبحث له عن موارد و"استثمارات" جديدة بعد أن تشبعت بلاده ولم تعد تكفيه، مستثمرا في أدوات العصر على حساب الفن و قيم الجمال الأصيل، من ثمة الخلوص إلى التخلي نهائيا عن جوهره أو جوهر "اللغة العربية وآدابها" ألا وهو الإتيان بالبلاغة والبيان، كي يناسب مقاس من يطلب المادة والشكل بالحفظ لا القيمة والفن والتذوق بالإحساس و بالمجاهدة، وهذا ليتملّص ويسود ــــ بخداع نفسه والانحراف به إلى الدروب السابقة الذكر استرزاقا منه ــــ فالبلاغة والبيان لا يأتيان إلا في سياق معين أو بالدربة والمشقة، فالمتذوق منشئ لا تعوزه اللغة، بمقدوره وحده الإحاطة بكل كبيرة وصغيرة تخص النص الإبداعي بينما العكس مع مُتقن الآليات والإجراءات فقط كتابة ونقدا (النقد الجديد)، إذ ليس بمقدوره إنتاج إبداعي سواء أدبا كان أو نقدا، فهو يعوزه التحرير والإنشاء السلس لافتقاده "كتاب المعجم" كما يعوز المصلي كتاب السورة فيلجأ إلى السرقات وهي تكثر كثيرا عند العينة في القسم المذكور أعلاه أساتذة وطلبة معا، لأن الأستاذ مازال يطلب التملق والتزلف أي العاطفة العدو الجدلي للموضوعية، وكان الأحرى به طلبها داخل النص ويجعل ما هو خارج النص من علاقات اجتماعية (بينية داخل الجامعة وخارجها) يجعلها علاقات بنيوية مجردة من العواطف؛ نحوية وظيفية أو أدائية إجرائية، أي أن تؤدي مهمتك: توصل تلك المعارف المادية المستقلة عنك كما أوصلوها لك وتلك هي المهنية والنزاهة نظير ما تُوصل تؤجر راتبا محترما، والعلم ــــ بخاصة علوم الإنسانيات التي تفترض التجربة الفردية الخاصة ــــ من المفروض هو المشترك الذي يتقاطع عنده الجميع، يجيئون إليه ويذهبون عنه وهو هو لا يتغير، فهو المركز ينمو بهم لكنه مستغني بهم عنهم، وإذا جاز لنا أن نشبّه من يريد أن يجعلون من أنفسهم مركزا في النقد الأدبي الأكاديمي، جزء منهم من زمرة الوصوليون الجدد لا ريب في ذلك، والوصولي ليس عقلانيا بالمرة، أما الوصوليون التقليديون فهم إما الذين باعوا أنفسهم لخليفة بغداد في القرن الثاني الهجري واستثمروا في الانتقام من أسرة واصل بن عطاء العقلية. أو الذين تلبّستهُم الحداثة الإلحادية المُبغضة لحرية المعتقد في صورة شيوعية النصف الثاني من القرن العشرين المستهزئة بالعالمين المتدين والليبرالي على السواء. فما أحوج الأدب العربي الجزائري المعاصر ونقده إلى مقولة الدرجة الصفر في الكتابة على المستوى التاريخي والاجتماعي الذي ينشطان فيه الناقد والأديب قبل المستوى النصي، كون أن اللحظة المغلقة التي نسميها اللا تاريخي (التزامني) من صنع المفتوح التاريخي فيكيف نصنع درجة صفر في الكتابة في المصنوع وهي مفتقدة في الصانع؟

ولا نقاش بين لا مركزية أستاذ الماديات ومركزية أستاذ/ معلم علوم الروحانيات والوجدانيات الصوفية، ذلك أن هذا الأخير به ميزات لا توجد في غيره لذا يسعى الطلاب والمريدين إلى تبجيله بكل الطرق، أما إذا رفضت وتشبّهت بالمتصوفة فهناك القانون الذي من شأنه كسر هذه العادة الثقافية المشينة التي انتشرت في جامعاتناـ وعدد الدكاترة في أيامنا يسمح بأنْ كل من لا يؤدي وظيفته الإجرائية تلك يُفصل. فوسط هذه الأيديولوجيا ــــ مضافٌ لها أيديولوجيات لا تعد ولا تحصى، لعلّ أكبرها وأقواها التي تجبهم جميعا هي أيديولوجيا التدين الضاربة بأجنحتها السوسيو ثقافية عليهم جميعا ـــ هل يستطيع العلم أن يقوم واقفا على قدميه؟ وخلاصة القول أن الأدب ونقده هما طلب المشقة والعناء في الإبداعية والذوقية وبهما وإلا فجدل وتسطُّح بل وخروج عن الموضوع وحالهما بخاصة مغاربيا (في المشرق العربي واعين في حدود ما بالإشكالية) غدا انحرافا حقا، لعل مَثلَهُما ـــ الأدب والنقد ـــ كالزوج الذي يلد من زوجته بالإخصاب الاصطناعي حتى لَأنهما لا يشعران بلذة إطلاقا، فهما يتناولان أدوية خاصة (الإجراءات) فيسيلان آليا ويُمدّان الجسم المنوي والبويضة للممرض الذي يقوم بالباقي، والجيل الجديد جيل في هجنته اللغوية إذن المعرفية كالدجاج الاصطناعي تماما، تتركه في مكان تجده فيه لا يفارقه، ولا يتمثل الدجاج الأصيل لطلب معيشته أبدا. هذا دون الحديث عن نتائج تلك المتعة الفورية على الصفاء الذهني وطاقة الخلق التي تُبعث في الجسد بعد معايشتها والعكس عند مجرد تخيُلها.

والحل المقارب للإشكالية في نظرنا هو في دمج الشعرية بمفهوم بنية السرد مع الشعرية حسب مفهوم أدب المعرفة ونقد المعرفة، بإدخال على عِلمية الأدب والنقد هذه، تذوق الأدب والنقد الذي جمالهما وفنيتهما لا تكتمل إلا بالبلاغة والبيان وحدهما نسبة إلى نسبة (تحدد من قبل المختصين) على الرغم من حرص النقاد الكبار على علمية النقد، ومن رطانة لغته، وولعه بالمصطلحات التي يلابسها الغموض، وقد يشعر المرء أحيانا بهبوط العزيمة من هذه الرطانة العجيبة التي حاقت بالنقد الأدبي ربما أكثر مما حاقت بأي نشاط إنساني مماثل آخر، فمن الصعب أحيانا أن نفهم مصطلحات كثير من النقد الأجنبي وفرضياته([6])  هذا ما من شأنه أن يحُد من السرقة والتطفل ويحُد من الاجتزاء والاختزال بما يناسب المقاس في التطبيق.

 بذلك عندما يعمد كاتب القصة أو الرواية إلى شعرية السرد بالمفهوم الأول يدرك أنه بدون مستوى مقارب للراقي من اللغة لا يمكنه المواصلة، بهذا يخلِّص نفسه والأدب من التسطح المعرفي أو التطفل على الأدب ونقده. ولكننا لا نقصد بالبيان الصياغة المسكوكة المحبوكة أشد الحبك على طريقة الأقدمين، بل نتخذ من معلما جديدا مُوجَهًا، نقطة مركزه هي العشرية التي شهدت ظهور البنيوية وبدايات حركة ما بعد البنيوية (1955 ــ 1966) وهي العشرية بالذات التي واكبها نبوغ نجم الأدب العربي قصة وشعرا ونقدا مع طه حسين والعقاد وغيرهما كثير، وتلامذتهم مازالوا على قيد الحياة وأخشى أن جلهم على خلاف عميق مع المدرسة المغاربية في هذا الشأن.

   أما تميُّز باحثينا على مستوى المغرب العربي بتبني منهج بنيوي والتعمق المعرفي والفكري فيه بكياسة منهجية واضحة المعالم دون غموض ولف ودوران ويكون ذلك مدعاة لشهرة مستحقة فيكاد ينحصر باستئثار التونسي عبد السلام المسدي بالأسلوبية البنيوية وسعيد بنكراد المغربي بالسيميائية وأحمد يوسف ورشيد بن مالك الجزائريين إلى حدد ما بها كذلك، وذلك لا ينفي الغموض المنجر عن ضعف الترجمة وتكلف التعبير الغير السلس والغير الواضح عن أفكارهم في مشاريعهم البحثية التي تجاوزت الآن رصيدا تاريخيا يضاهي رصيد الرواد بارت وغريماس ودريدا أنفسهم. أما القول بتخصص نور الدين السد عندنا بالأسلوبية وكل من بوزيدة وعبد الحميد بورايو بالسيميائية وعبد الملك مرتاض بالتفكيكية فمغالطة ومحاولة لتلميع صورة النقد الجزائري تلميعا ذاتيا عاطفيا يملأ الفراغ لأن هؤلاء جمعوا أشتات بحوث سابقيهم من دون أن تكون لهم بصماتهم ورؤيتهم وجهدهم الخاص، بل أن جلهم يتكلفون التخصص تكلفا أهوائيا (تعلقا بالرغبة وليس تعلقا بالذوق) وخلطه بتخصصات أخرى (نظرية الأدب، علم الملاحم، الأدب الشعبي..) لتصبح مدونتهم البحثية النقدية النظرية والتطبيقية مضاعفة الغموض مشابة بالطلاسم لا تهدي لاستكناه وتثبيت القدم على أرض المنهج العلمي بقدر ما تقود إلى الزيغان والضلالة البينة المقنّعة عنه، كما هو ظاهر جليا في أسلوبية نور الدين السد على سبيل المثال لا الحصر. إنّ تكوين الرصيد المعرفي بهذه الطريقة يُعد تقعيدا للغموض لتبنيه الحداثة على مقاس غير مدروس النتائج على المدى البعيد، ذلك أن المدرسة المعرفية الفرنسية قائمة على فلسفة أيديولوجيا العقل التجريدي، وهي ناقصة بحكم أن التنوير غربي المنشأ بالتراكم وليس فرنسي المنشأ بالأسبقية في هذا الجانب، بل تغدوا غامضة عندما لا تستكمل النقص من المدرسة الإنجليزية التجريبية والإنسانية والألمانية المزاوجة بينهما والأمريكية الحرة، صحيح أنها مدرسة حقوق الإنسان والمواطن لكن لا ضامن لتلك الحقوق غير الماجنا كارتا. إذن لهذا الغموض خلفية أيديولوجية متمثلة في الصراع حول التمركز على منابع حداثة بعينها لعدم قدرتها مجاوزتها عامل اللغة، وإذ بكل دولة ونخبة عربية ــــ مغاربية بخاصةــــ تلتف حول ذاتها لأنها تعتبرها حداثة من جلدتها الأيديولوجية فهي مرتاحة إزاء غموض المفاهيم مُنتعشة بالتباسها وانزياحها الدلالي، لذا لا عجب أن يحرص الجدل الثقافي العربي الراهن إلى إبقاء المفهوم في التباسه، فقلما نرى محاولات جادة تنتبه إلى وجوب ضبطه وإيضاح مدلوله، أم أن المفهوم نفسه غير قابل للضبط والإيضاح على المستوى الأكاديمي الأولى بكل ضبط وإيضاح؟ أوليس حري بالنقد الأكاديمي نهج منهج الإيضاح بدل الهروب إلى الأمام في الغموض الذي يُكرَّس دوما به التخلف؟ فمتى كان منطق ديكارت العقلاني منهجا تجريبيا؟ هذا ما التمسناه في محاضرة التعريف بالمنهج العلمي المقدمة لطلبة الليسانس عندنا بجامعة سكيكدة/الجزائر، حين تلحق المحاضِرة المنهج التجريبي بالمدرسة الفرنسية وهو ابتكار إنجليزي محض بقولها: أما تعريفه اصطلاحا (المنهج العلمي) فارتبط بأحد التيارين:

أولا: ارتباطه بالمنطق وهذا الارتباط جعله يدل على الوسائل والإجراءات العقلية..

الثاني: ارتباطه في عصر النهضة بحركة التيار العلمي. وقد أخذ المنهج العقلاني المنطقي بعد عنصر النهضة يسلك نهجا مغايرا يتسم بنوع من الخصوصية خاصة مع "ديكارت" في كتابه

" مقال المنهج" لذلك اقترن المنهج في هذه الفترة بالتيار العلمي. وهذا التيار لا يحتكم إلى العقل فحسب وإنما كذلك إلى الواقع ومعطياته وقوانينه. فالمنهج إذا اقترن بنمو المنهج العلمي التجريبي ووقع التزاوج بين طرائق العلماء والمنهجيين وولد ما يسمى بالمنهج التجريبي..* والحقيقة أن المنهج التجريبي من اكتشاف الفلسفة التجريبية الحسية الإنجليزية مع دافيد هيوم وجون لوك  John Locke ( 1632 ـــ 1704) ولكنها لم تشر إلى ذلك إطلاقا بل موّهت به وغطّت على غموض وتجريد أيديولوجيا العقل الفرنسية بكلمة "الواقع" إنها الأيديولوجيا التي جاز لنا أن نسميها بأيديولوجيا الاستغباء عندما يتعلق بالحالة الجزائرية التي تعرف إشكالية تاريخية مع اللغة العربية، لأنها تستغبي الإبداع الأدبي والنقدي الملحق به وسيان بين الإسلام الذي لا حياة مادية له بدون حياة روحية وبين الأدب العربي ونقده الذي لا حياة مادية له دون الحياة باللغة بكل وهجها الإدراكي والشعوري/التخيلي الذي هو ادراك نحوي وبلاغي.

2. جدلية الأنا والآخر، المركز والهامش

   أما الجدل الثقافي الثاني فنقتبسُه من مناهج ما بعد الحداثة التي تنحو منحى مضموني لا شكلي مادي، جدل مازال متصور ومسيطر على بعض الذهنيات بالتالي مازال مستمر، ديدنه الدفاع عن الهوية المحلية الذات أو "الأنا" بمقارعة "الآخر" وعولمته الثقافية. أي أننا هنا بصدد الخروج عن المعرفة العقلانية أو الحياد عنها إلى التسطح من زاوية أيديولوجية الطرح الثقافي الديني، وهي (الجدليات) قد انتفت مع المسيحية في الغرب أو بالكاد تكاد تنتفي إلا قليل ــــ كما نجده في المدارس والمذاهب الفكرية المثالية الألمانية الحديثة ــــ أجل، بمعونة الثقافة الدينية نلج جدل لا يسلك منه إلا هالك تقود إلى مراوحة المكان، وهو مكان التخلف وهو ما نستشفه ضمن خطابات ما بعد الاستعمار منذ ستينيات القرن الماضي ، والتي أضحت متحولة إلى النيو كولونيالية مع دخول العولمة الثقافية أو الاستعمار الثقافي " الإمبريالية الجديدة Nouvel impérialisme " وهي إذن لا تخرج عن جدليات سابقتها المادية و أكثر ما يدار حوله الجدل في الإسلام محمود في تصوره وليس مذموما طبقا للقاعدة الميتافيزيقية الدينية (وحي يقيني : كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ) طبقا لقوله :

ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة  وجادلهم بالتي هي أحسن"([7]).

  و"النيو كولونيالية" تشير إلى الفترة وهي حقبة رد الاعتبار للثقافة كمكون له الأهمية الجوهرية القصوى ـــــ وجميع هذه المصطلحات تؤسس لفكر جدلي أساسه الاختلاف الثقافي (يعني الديني) بين الشعوب وهو الذي عرقل بعضها عن النهوض فأضحت عالة أو تابعة أو مغلوبة كما يقول ابن خلدون والمغلوب يتبع الغالب أو يموت، هومي بابا فكّك نظرية ما بعد الاستعمار لإدوارد سعيد من منظور عقلاني متّسم بالسماحة الهندية المعروفة في هذا الجانب، لا أيديولوجي راديكالي أو رجعي مقاوم للحداثة الذي تعزز أكثر مع بروز العولمة فامتدت بؤر الهويات المحلية معيدة النظر في خارطة السلطوية مقاومةً أو تمويها ـــ باستثناء الطرح الاقتصادي الشريف في فترة ما بعد الاستعمار أو في فترة العولمة الاقتصادية، كون أن التجارة شطارة وهو الذي من شأنه شئنا أم أبينا أن يرسم تراتبية سياسية مشكلة من مركز وهامش بالضرورة (أو حتى طبقية على المستوى الاجتماعي) وأخشى أن هذا الطرح هو الذي من خلاله ضلّ أدونيس ومعظم الحداثيين حتى بوجدرة إلى حد ما ينقدون به المستعمِر لا شيء آخر ـــ  أن تقرأ هومی بابا يعني أن تتورط في ذلك المنظور ما بعد الكولونيالي، أو الأقلّوي، أو المهاجر الذي تعاد منه كتابة تاريخ الحداثة. فما يراه هومي بابا هو أن تواريخ الكولونيالية، والاستعباد، والاستغلال، والتمييز الجنسي، والاضطهاد، والتراتب الطبقي(..) لا تتكلم عن شعوب أو طبقات أو مناطق بعينها مرتبطة بهذه التواریخ، بل تتكلم عن التباينات الاجتماعية المشكلة للحداثة، تتكلم عن يومي الحداثة. وما يساعدنا عليه المنظور ما بعد الكولونيالي، أو الأقلوی، هو التفكير في تلك الطرائق التي يفصح من خلالها عن التراتبيات الاجتماعية وتفاوضاتها ضمن الحداثة. بل إن بابا يساجل بمعنی ما ضد القول بأن الخطاب ما بعد الكولونيالي هو شكل من أشكال ما بعد الحداثة، ذلك أن اهتمامه منصب أكثر على إعادة التفكير بجينالوجيا الحداثة، ضد التيار. فسؤال بابا هو: ما الحداثة بالنسبة لأولئك الذين هم جزء من أداتها وحكمها، لكنهم لأسباب تتعلق بالعرق، أو الجنس، أو الموقع الاقتصادي الاجتماعي تم إقصاؤهم عن معايير عقلانيتها أو وصفتها الخاصة بالتقدم فراحوا يعيشون بخلاف الحداثة إنما ليس خارجها؟ وسؤال بابا هو: ما أشكال الهوية والفاعلية التي تبزغ من أكدار الحداثة ومنغصاتها وضروب قلقها؟([8])

   لعلّ التقسيمات بين محلية الهوية الثقافية والهويات الأخرى أو المُعَوْلمة الهوية الثقافية، لتحدد إطارا منظوماتيا مبرزا أنساقه الثقافية في انسجامه مع منطقية الفكر الإنساني في كليته، المرتكز على بنية وظائفية مشر عِنة ومؤسِسة لسُنّة التعدد والاختلاف. تتشاكل الثقافة بمفهومها الجديد بتعرُّض الأصالة لمواجهة جدلية مع ثقافة الآخر؛ كثقافة مركز إمبريالي لها من يتمثّلها محليا، حيث البطل المُنتمي إلى دول متخلفة لا يكف على محاكاة ثقافة الآخر للوقوف في وجه الأصولي وكل أيديولوجيا إقصائية؟ وهو لا يختلف في نظرته للاستعمار نظرة سياسية لا ثقافية، أين تعترض المقاربة ما بعد الاستعمارية على المركزية الأوربية أو الغربية، إلا أنها هي ذاتها متمركزة حول أوروبا والغرب، وإن من موقع اللوم والتأثيم. وهو ما كان مناسباً على الدوام لنخب قومية ودينية و«أصلانية*» متنوعة، تجد في عزل مجتمعاتها عن العالم الشرط الأمثل للتحكم بها([9]). ثم أن مفهوم المركز القوي الذي يستقوي على الهامشي الضعيف، إن على جميع المستويات، مفهوم جدلي نسبي هو من منظور حداثي** عقلاني كنسبية مفهوم "الدال" أو الصورة السمعية للكلمة التي لا تنطوي على أية إشارة أو إحالة إلى مضمون "المدلول" بالنسبة للذي لم يعاشر المجموعة أما من عاشر المجموعة فتحيله مباشرة إلى مضمون من جهة، و مفهوم نسبي من نتاج فلسفة ما بعد الحداثة في تجزيئ العقلانية من جهة ثانية، التي تنظر إلى الأشياء نظرة ذاتية تمتزج مع العنصرية والأنانية؛ ففي الأسرة الواحدة نلمس عدة مركزيات وعدة هوامش و في الحي الواحد ، وفي المغرب العربي تدّعي المغرب أن الجزائر تخضعها للتهميش كمركز قوة إقليمية ونفس الشيء تدعيه الجزائر ضد مصر على المستوى القومي العربي، فمقولة فرانس فانون " معذبو الأرض" الموجهة للاستعمار أضحت المقولة المفضلة لجميع المعارضات والأقليات المواجهة لأنظمتها الغير الديمقراطية بل حتى الأفراد المظلومين، ولعل أوضح تجل لانعكاس خطاب ما بعد الاستعمار نتيجة ميتافيزيقية أصحابه ولا عقلنيتهم الأنموذج الفلسطيني في صراعه المرير مع إسرائيل ومن وراءها المجتمع الدولي حيث الثائر اليساري العلماني يُسحق، والثائر الإسلامي يُسحق أيضاً، والوطني الفلسطيني الذي يعمل من أجل فلسطين بالسياسة يسحق مثل ذلك الذي يناضل من أجلها بالسلاح([10])، فالمدار كله مدار هجنة ثقافية حسب هومي بابا، مترتب عن الاقتراب الأنطولوجي للإنسان الذي امتلك ناصية العلم في عالم شعر فيه بالحاجة للتكتل من أجل إيجاد مخارج للمشاكل التي تتهدده لعل من تلك المخارج عولمة الثقافة وليس مدار أيديولوجيات دينية ثقافية يسعى الآخر المتقدم لفرضها على الأنا المتخلف، فيسعى الأنا لمواجهتها برفع شعار "صفاء الهوية الثقافية" تبعُ ضد عنصرية الإمبريالية ذلك أن العنصرية والأخلاقيات مفهومان جدليان ( لماذا نقول عن الغرب أنه منحل متفسخ أخلاقيا مدام ذلك الانحلال بين قوسين له دور لا يستهل به في تفوقه الحضاري، فالانحلال هنا ما هو إلا فهم أو تصور جدلي إذ هو بمثابة قفا الوجه الذي يظهر قوة الغرب، أي أنه من قوته وليس من ضعفه) والعنصرية كذلك، إنتاج العنصرية يعمل أولاً على المستوى الاجتماعي الصغير من التفاعلات اليومية والخطاب والإدراك الاجتماعي أعضاء المجموعة الفردية، ثانيا هذا "الوقائع" الجزئية للعنصرية "تنفذ" الهياكل والعمليات الشاملة للهيمنة وعدم المساواة على المستويين المتوسط والكلي للمجموعات ، والتكوينات الاجتماعية، والأحياء، المؤسسات والمنظمات وحتى الدول و العالم بأسره. في الوقت نفسه، دراسة الترابط بين البنية الكلية للعنصرية تتطلب تحليل العلاقات بين الإدراك والفعل، أي على المستوى الجزئي، بين عقلية نماذج أعضاء المجموعة وممارساتهم ، وعلى المستوى الكلي، بين مواقف وإيديولوجيات المجموعة الاجتماعية من ناحية، والمجتمعية من ناحية أخرى([11]).

  ولعلّه أحسن مثال نذكره كحجة دامغة على تحول هذا المفهوم إلى مفهوم إمبريالي جديد ( ثقافي مؤسساتي)* هو ذلك الذي نجده في مؤسساتنا الجامعية كقسم اللغة العربية وآدابها بجامعة الجزائر 2 حين يعمل أساتذته الغير مجبولين على اللغة العربية (مجبولين بدلها على الفرنسية) على اضطهاد الباحثين القادمين من الجنوب والذين يحملون زادا لغويا عالي الفصاحة والبلاغة أكثر منهم، عن طريق ادعاء أن القسم يحتاج إلى لغة البحث العلمي وهي لغة الدقة العلمية والمصطلحية وليس إلى الفصاحة! متجاوزين المسلمة الأدبية القائلة أن عمق التفكير من بلاغة صاحبه وتسطحه من ركاكته، بالنتيجة الانحراف عن المعايير والقواعد التي تحكم علم الأدب، ولو قلبنا الآية، أي ذهاب أساتذة اللغة الفرنسية العاصميين للجنوب للتدريس نجدهم مرفوعين فوق الرؤوس، إذن الأمر يتعلق بذهنية الاستقواء المترسّبة في المجتمع نتيجة غياب النقد والديمقراطية. هناك أيضا سلوك جدلي آخر كثيرا على التسطح المعرفي في القسم المذكور أعلاه هو الاحترام المفرط المتعوّد عليه منذ عقود حتى أضحى ثقافة احترام لا يأتي إلا في شكل تملق وتزلف لا بد منه من قبل الطالب لأستاذه حتى ولو كان أصغر منه سنا طبعا نتائجه الوخيمة غير مبررة تبريرا عقلانيا لأنه يفضي إلى الجدل فبهكذا إطراء يغيب النقد الموضوعي في معقل هو معقل النقد، لأنه يستدعي العواطف ويرجحها على منطق لا إفراط ولا تفريط فإبداء التحية تكفي، أما قوله "قيّمني" بالعامية التي معناها "تملقني" فمن المفروض أن الإجابة المثلى تكون "تريد أن أقيّمك اعملي عملا أقيمك به"، أما نضال الحركة النسوية في دول العالم الثالث من أجل عزتها وكرامتها أكثر من نضالها في العالم المتقدم فدليل أنها ممارسة جدلية خالية من النتائج الإيجابية، لأن عزة المرأة وكرامتها من كرامة الإنسان ككل، عندما يكون الإنسان لدى هذه الشعوب غير مكرّم ولا معزّز فلِما وجع الراس ليل نهار؟ وعلى هذا فإن نظرية ما بعد الاستعمار لا تعنى بعلاقات الاضطهاد بين شمال وجنوب أو بين مستعمَر سابق و مستعمِر سابق وإنما تعنى بالعلاقات بصفة عامة حسب دوغلاس روبنسون: " وتشير صفة ما بعد نيو كولونيالية إلى نظرتنا في أواخر القرن العشرين إلى القوة السياسية والثقافية التي كانت تطبع العلاقات، أما الفترة التاريخية التي تغطيها فهي التاريخ كله"([12])


   وجوهر تلك العلاقات يكمن في جدلية منطق التفكير البشري حيث العقلانية ترفض الميتافيزيقيا التي في صورة علاقات أيديولوجية دينية ـــ ثقافة ـــ ( ولا ترفضها إذا كانت خاصة فردية بين العبد وربه وهو غير مميّز بينه وبين غيره بتلك العلاقة إلاّ يوم القيامة*) لأنه حينئذ ستكون أصل خطاب ما بعد الاستعمار كله؛ علاقات تدخل في إطار جدل فكري بين المادة/العلم وبين الروح/ الميتافيزيقيا، فالعنصرية النسبية التي يرى المسلمين أنها سُلِّطت عليهم من قبل المركزية الأوروبية لا وجود لها إلا في مخيلتهم بل هي محاولة للتخلص من عنصرية الميتافيزيقيا التي حملها الإسلام للشعوب "الكافرة" بتحريرهم أو على الأقل تثقيفهم بأنّ العقلانية هي الحضارة والثقافة الكونية الأعلى المحيطة بكل ثقافة أو ميتافيزيقيا (أيديولوجيا ضيقة)، ولعل الاستعلاء عليهم في عدم الزواج منهم وعدم التولية منهم مثلاً إذا قرأناه من زاوية حداثية فهو عنصرية وأيديولوجيا تحمل في بذورها فناءها الحتمي ( ليس بالانكفاء عن التنافس الشريف لكن بالإصرار على العصبية والإقصاء والتهميش والتقوقع بالذات عن الآخر باعتباره دنسا، بالاستجابة للحوار معه لكن بمنطق حوار الطرشان، التعالي بإطلاقيه ميتافيزيقية علوية تامة)، وإذا قرأناه من زاوية ما بعد حداثية فهي العقلانية الأهش عقلانيةً من جميع عقلانيات ما بعد الحداثة؛ كيف يظل العرب يقاطعون إسرائيل في صورة الجزائر مثلا التي لا يزيد عمرها في شمال إفريقيا عن 500 عام  (تاريخ نشوئها كدولة لا دويلات وأعراق متناحرة) تُقَاطِع وتزدري تاريخ شعب عمره أكثر من 3600 عام! ثم ماذا لو طالب السكان الأصليون في شمال إفريقيا من سرت إلى الرباط من إنهاء احتلال العرب المسلمين لشمال أفريقيا الأمازيغية؟ إن هذه الإشكالية هي أحد وجوه أزمتنا الذاتية، التي لا حل لها سوى تجاوز النظرة الضيقة التي ترى الحداثة الغربية من خلال ثنائية الأنا والآخر المعتدي، فعلينا أن نمارس هويتنا واختلافنا بشكل، نعيد فيه ترتيب العلاقة مع ذواتنا ومع الآخر، أي أن نغير موقفنا منهما معا([13]).

   ولعلّ الصورة الماثلة للفكر التي توضح التضارب الجدلي المثبط لأي تقدم معرفي سديد هو رشيد بوجدرة الشخصية الأكثر جدلا في الرواية الجزائرية الراهنة، بخاصة مع أنداده الكلاسيكيين الطاهر وطار، تجعله في منعة عن الاضطهاد العرقي أن صح التعبير بمسؤولية وجودية؛ الوجودية لا تدعوا إلى الحرية المطلقة الشبيهة بالفوضى، بل ترتب عليها ضرورة تحمل المسؤولية والالتزام، ولعل روايته تيميمون من حيث هي رواية خطاب ما بعد الاستعمار تُلمح نوع من الالتزام الذي يتخذ له هدفا أساسيا كموقف أخلاقي واجتماعي محدد. من ذلك تمثله* خطاب الآخر/ الهم عن "الأنا"/ نحن من منظور خطاب عن نحن / الأنا لا منتمي، أو يأخذ من كل ثقافة ما يفده ليتجاوز عقبات ثقافية عدة أهمها التعاطي مع الخطاب السلفي والجنس في الرواية بحرية. صحيح أن بوجدرة بدأ الكتابة يساريا لكن مع التغيرات الحاصلة عالميا وإقليميا ومحليا أصبح يساريا تقدميا ليبراليا وهذا بالبساس مضامينه الروائية شكلها المناسب وهو ما يقول به الناقد محمد بوشحيط ([14])، إذّاك أمكن قراءة خطاب روايته تيميمون مثلا قراءة نيو كولونيالية، وتشير صفة "نيو كولونيالية" عندئذ إلى نظرتنا مع بداية القرن الواحد والعشرين إلى القوة السياسية والثقافية التي كانت تطبع العلاقات، أما الفترة التاريخية التي تغطيها فهي التاريخ كله([15]).

  خاتمة 

    بعد هذه الإطلالة المختزلة لا ضير في أن يكون التخلف المعرفي الاجتماعي ــ الفكري عنوان من قضى من عمره مسيرة نصف قرن أو أكثر هو يجادل آخره ويحاوره محاورة الطرشان؛ نحن لنا تقاليدنا وأنتم لكم تقاليدكم، نحن لنا هويتنا وتاريخنا اللغوي المغاربي المميز الذي لا يشبه تاريخ اللغة العربية المشرقي/ تعالي عنصري، ولنا المناهج الشكلانية والبنيوية التي استقيناها من مَعِين يعرفنا ونعرفه. وهل كنتم فرنسيون أو أمازيغ منذ القرون الوسطى فتحولتم إلى عرب فجأة في أواخر القرن العشرين؟! وهل العلم لم يتحول في حياضكم المعرفي وفي حاضناتكم المعرفية أيضا إلى أيديولوجيا طيعة. إن رسوخية العلم في ثباته العقلاني لا في مطواعيته للثقافة والأيديولوجية، إنها تبريرات تنم عن السقوط في فخ الجدليات الثقافية المثبطة للفكر المضللة له، فمنطق الآخر العِلمي أنبنى على العقل لذا كانت معارفه بمنأى الجدل أما منطق الأنا (الذي صنعناه بأنفسنا) فنبنى على أيديولوجيا حوّرت العلم عن أهدافه إلى الجدل الذي لا طائل منه، لمّا لم يكن مسنودا بالعقلانية.

   أدب المعرفة/ نقد المعرفة هو في علاقة جدلية بعلمنة الأدب/ علمنة النقد عندنا لأنه لا يُكتسب أيديولوجيا( أعطيني ــ أعطيك) وهذه خاصيته التي تميّزه عن باقي العلوم ، بل يُكتسب في وفاق ووفاء تام للذات اللغوية مع نفسها، إذن وفقط إذن مع الآخر، إذْ الآخر هو عالمها المعرفي الذي تتحرّك إليه لمّا كانت تشتغل باللغة وفي اللغة كانت بالضرورة تنتظم وفق سيرورة المبدأ أو القانون الكوني "كن في انسجام مع الطبيعة". هذه ليست فلسفة هايدجر الوجودية لكنها تجربة الذات اللغوية مع الآخر التجريدي الذي هو القسم المذكور أعلاه.  ثم لماذا مازال في جعبة هؤلاء الثمانينيون والسبعينيون فيه كُتيبان أو ثلاثة فقط عبر مسيرة تمتد لنصف قرن؟ بينما في جعبة ذلك الأربعيني في المشرق العربي دزينات من أروع المؤلفات لولا أن هناك وفاق تام مع اللغة التي تنثال بفكر غزير على هذا وتستعصي على هؤلاء.

   في الأخير لا غرابة أنْ كُنا نودُ مناقشة الجدل الذي تركه تطبيق المناهج البنيوية على الأدب العربي فوصلنا إلى النتيجتين التاليتين اللتين لا تقلان أهمية عن ما كُنَا نود الوصول إليه (لأن القاعدة الأساس في المناهج البنيوية أنها فصلت وجرّدت الداخل النصي عن الخارج النصي)، النتيجتين اللتين في غيابهما كان رسوخ الإشكالية المذكورة أعلاه بالعادة الثقافية وهما: ــــ بعض المعرفة لا تُكتسب بالاضطهاد أبدا؛ إنها تلك المعرفة التي تدعى بالأدب ومناهج نقد الأدب(معرفة المعرفة) ليس لأنها الطريق إلى البعض الآخر الشامل من المعرفة فقط بل لأن طبيعتها تتطلب التسلح بالذات والحاسة الإدراكية المتوّهجة المنطلقة المتحفزة لا التابعة المُكبّلة المقموعة.

ــــ ما أحوج واقع الوظيف العمومي عندنا في الجزائر من ضمنه مجتمع التعليم العالي والبحث العلمي إلى الانتظام على شاكلة المنهج البنيوي، بأداء كل أستاذ وطالب وظيفته في النظام أو النسق الوظيفي العقلي دون ميتافيزيقيات وعواطف المجاملات والمنافع، ونعتقد أنه إذا كان من غير الممكن استبعاد شذى الذوق في النص الأدبي المجرد، فإنه في عالم الواقع المحسوس المتعامل مع العلم يمكن ذلك؛ يمكن إقصاء ميولات ونزوات الذات، بإقصاء التعامل من خلال العواطف (عدا إسداء التّحيات طبعا) فتحُل النزاهة والعقلانية العلمية جدليا، فتنمو المعرفة ويزكوا الأدب والنقد؛ فالمنهج البنيوي السيمياء أو السيميولوجيا كما تسمّى في الطب وعلوم المادة من المستحيل أن تعزل دلالات ومعاني الوحدات الوظيفية نقيةً غير مُمتزجة بخلجات نفس صاحبها في الأدب بينما في الواقع المحسوس يمكن بكل سهولة استنتاج أن علامة الالتهاب وجود البكتيريا، وأن علامة الأستاذ الذي لم تغادره علامات النوم من انتفاخ العينين وتعب يرافق الكلام وهو على مقعده أمام الطلبة بأنه قد سهر حتما سهرا فيه سمر وترويح عن النفس (لذة)، وقلنا عن أستاذ التعليم العالي أنه موظّف عمومي، مجاله المعرفي رسمي علمي حتى نميّز بينه وبين أستاذ الوجدانيات والروحانيات الميتافيزيقية في مسالكه الصوفية ومعارجه الما ورائية (مدارس الشرق الأدنى) وكل واحد فيهم يختلف عن غيره، فالأول لا بد أن يمثل وحدة بنيوية لا همّ لها غير أداء وظيفتها العقلية المجردة من العواطف، والثاني لا بأس أن يُوقر ويحتذى أيديولوجيا وسلوكا، لأن بالطبيعة عِلمُه هو الوجدانيات التي يتحد فيها معه الطالب/المريد اتحادا وجدانيا.

 

 


(*). باحث في النقد الثقافي، الجزائر

* . "اللغة العربية وآدابها" مجال معرفي خصب ومنتج للفكر والمعرفة صنو علوم الفلسفة لذا ترى غالبية المفكرين في العالم ينحدرون من هذين التخصصين، لأن عموده الفقري الجوهري الذي تدور جميع عناصر هويته الأخرى المتحركة حوله هو الإبداعية Créativité وهو بالذات البلاغة والبيان وهو ينقسم إلى: دراسات اللغة، النقد لغويا كان أو أدبيا والأدب بنوعيه النثري والشعري، أصبح كثير ممن يلجونه، يلجونه تبعا لعناصر هويته المتحركة كالنقد الجديد، لا للعلاقة الجوهرية التي ينبغي أن تكون بين إبداعيته و فسحة النقد الممتدة فيه (اللغوية والألسنية، الأدبية والثقافية ..) والنقد يتبع الشعر والأدب في درجة الإبداعية، لذا هؤلاء الكثير الكثير المنتسبين إليه ليس فيهم إلا القليل القليل من ينتجون فيه به معرفة وفكرا حقيقيان،

مُحصنين من فخ الجدل السهل المطب.

([1]) .  د.م، موقع معرفة (25/3/2013)، العنوان : https://www.marefa.org/معرفة

([2]) . د.م،  موقع الدرر السنية (2020)، العنوان: https://dorar.net/akhlaq/1949/ معنى-الجدل-والمراء-لغة-واصطلاحا 

* . الهجنة الثقافية: مصطلح "يشير عادةً إلى خلق أشكال تثاقفية جديدة داخل نطاق الاحتكاك الذي يخلقه الاستعمار" يقصد بها صياغة هوية مشتركة بين المستعمِر والمستعمَر سميت بالفضاء الثالث لا وجود فيه لهوية نقية وثابتة ، و"الهوية كمؤشر، أو كسمة مشتركة بين الجماعات، بل كممارسة يتغير معناها وأثرها باستمرار مع تغير سياقها" ينظر بيل، أشكروفت وآخرون، دراسات ما بعد الكولونيالية المفاهيم الرئيسية، ترجمة أحمد الروبي وآخرون ، ط  1، المركز القومي للترجمة : القاهرة، 2010، ص199.   ومن ثمة فإن نظرية أو مصطلح الهجنة الثقافية اشتد وبرز أكثر في المرحلة التي نحن بصددها وهي نيو كولونيالية أو الإمبريالية الجديدة الناتجة عن العولمة.

([3]) . علي الحبيب، الفريوي، مارتن هايدغر الفن والحقيقة أو الإنهاء الفينومينولوجي للميتافيزيقا، ص41.

([4]) . لورنس، هاريزون، صامويل، هنتنجتون، الثقافات وقيّم التقدم، ترجمة شوقي جلال ، ص9.

([5]) . نعيم، علوية، بحوث لسانية بين نحو اللسان ونحو الفكر، ص266ـ267.

([6]) . رينيه، ويليك، مفاهيم نقدية، ترجمة محمد عصفور، ص451.

* . زهرة خفيف، محاضرات في مناهج البحث، جامعة سكيكدة قسم اللغة والأدب العربي، 2017ــ2018.

([7]) .  سورة النحل، الآية 125.

([8]) . هومي، بابا، موقع الثقافة، ترجمة ثائر ديب، ص10.

* . لقد ظلّ دعاة الأصالة من السلفيين يركّزون كل همهم على السعي إلى تحقيق المثل الأعلى الذي يرومونه، لكن هذا المثل الأعلى غير موجود الآن في

الواقع، ولا يتمثل بأي من الأنظمة التي تسمي نفسها إسلامية. كما أنه، من جهة أخرى، غير قابل للتحقيق. وإذا كان ما هو مطلوب فهم مسألة الأصالة فهما عصريا مستوعبا ومتجاوزاً للإشكاليات التي واجهت الفكر السياسي العربي على امتداد القرن الماضي، فلا بد من وجهة نظرنا أن يستبدل بمفهوم آخر هو

مفهوم الخصوصية التي تشكل الثقافة عماد لحمتها الحيّة المتجدّدة على الدوام بالنسبة إلى أي شعب وأمة.  ينظر حبيب، حداد، محنة الصراع والمعاصرة

في المجتمعات العربية، ص4.

([9]) . الحاج صالح، ياسين، ما بعد الاستعمار؟ ما بعد الاستبداد؟ أم ما بعد الديموقراطية؟ ، د.ص.

** . نحسب أن اسم هذا المفهوم هو النيو كوليانية : العلاقات البشرية التي مازال ينظر إليها أنها من مخلّفات الإرث الاستعماري في ظل مرحلة العولمة الثقافية.

([10]).  المرجع نفسه.

([11])Teun A, van Dijk, Discourse and Denial of Racism, p88.

* .  والتي تعود أصولها بالأساس إلى مرحلة الصراع الأيديولوجي لكن كانت مضمرة آنذاك حينما جُعلت الثقافة الدينية من قبل المسلمين معيارا للتعامل مع البشر المفارقين "كفارا" فأوجدوا مفهوم الآخر دون وعي منهم وهذا التعامل بدا للآخر أنه ازدراء وعنصرية في كثير من الأحيان، وحينما أرادوا مثلا أن يكون لهم حقوق الأغلبية في ميانمار وهم مجرّد أقلية من منطق أن المسلمين أفضل من الوثنيين، وهذا ما لم يتجرعه أهل البلد الأصليين التي تمثل الأغلبية فردوا عليهم نظرة احتقار بالمثل.

([12]) دوغلاس، روبنسون، الترجمة والإمبراطورية : الدراسات ما بعد الكولونيالية دراسات الترجمة، ص46.

* .  يورغن، هابرماس، جوزف، راتسنغر، جدلية العلمنة العقل والدين، ص23. ينظر أيضا هيجل، فرديريك، الأعمال الكاملة محاضرات فلسفة الدين، الحلقة الرابعة ديانة الطبيعة وديانة الحرية، ترجمة مجاهد مجاهد، ص13 :" أن تأتي الأشكال الرئيسية (لوحدة الوجود) عندما ظهرت وحدة الوجود هذه فيما بعد بالفعل كديانة لايزال داخل مجال المبدأ نفسه هذا ألا هو مبدأ (القوة) الجوهرية (الواحدة)، حتى أن كل ما نراه من حولنا، بل وحتى حرية الإنسان ذاتها ليس له وليس لها إلا مجرد طابع عرضي سلبي . لقد رأينا (القوة الجوهرية ـــ في أول أشكال لها ـــ تتأتّی کی تعرف على أنها تمثل تكثر التحديدات الماهوية، والمجال الكلى لهذه التجديدات، وليس في روحيتها الذاتية الخاصة. والآن، فإن تساؤلا ينشأ في التو: كيف تتحدد هذه القوة ذاتها، وما هو محتواها؟ إن الوعي الذاتي في الدين لا يمكن أن يقتصر على فكرة أن القوة لا تعرف إلا على أنها تجمع التحدیدات التي توجد) فحسب؛ شأنها في هذا شأن الفهم التفكيري المجرد. وبهذه الطريقة فإن (القوة) لم تعرف بعد على أنها حقيقية، على أنها وحدة قائمة مستقلة؛ وليس كمبدأ بعد. والآن فإن الشكل المقابل لهذه التحديد هو أن نتناول ثانية التحدّدية المتكشفة للوجود في وحده التحدّد الذاتي الباطني. وهذا التركيز للتحدّد الذاتي يحتوي على بداية (الروحية)."

([13]) .  ماجدة، حمود، إشكالية الأنا والآخر نماذج روائية مختارة، ص17.

* .  التمثُّل لا يعني التقليد والنقل الحرفي لِإعادة إنتاج ما هو موجود عند الغير بل أخذه كمثال متمم لما هو أصلي وأصيل لدى الإنسان/ الباحث، ويستطيع أن يبني عليه لإنتاج شيء جديد خاص به هو لا خاص بالمتمثّل به.

([14]) .  حمودي، محمد، الشكل والمضمون في ضوء الاتجاه الإنساني، ص276.

([15]) . تعريف صغناه بتمثُّل الشاهد رقم 12 لدوغلاس روبنسون.

 

https://www.4shared.com/web/preview/pdf/c8Ifn7Shea? للتحميل انقر على الرابط: 

 

المـلحق (المعادل الأدبي لخاتمة البحث):

        كم كان من اليسير علينا تحليل نظرية ما بعد الاستعمار إلى عناصرها الأولية لأننا لما ترعرعنا ترعرعنا وسط تطبيقاتها المباشرة محليا، يعني كنا من ضحايا مقولة مركز ــ هامش على المستوى المحلّي: في الحي، و في البلدية، و في الدائرة ثم في الولاية و الإقليم، وأخيرا وليس آخرا على مستوى الوطن، عندما تنقلنا للدراسة أو العمل في مختلف جهاته، هذه الفضاءات أنمت بؤر للسلطوية فردية أو جماعية متمركزة حول الذات بالقوة تُقصي وتُرتّب! وهي خير من علمنا نظرية ما بعد الاستعمار ومن خلالها استطعنا ولوج النقد الثقافي بحسّين: حس نقدي وحس ثقافي من وحي التجارب، ولم تُعلِمها لنا أبدا العلاقات شرق غرب، وإنما كان الفكر الفلسفي الذي تمخضت عنه بمثابة أو مجرد دليل لتبصيرنا لا أكثر ولا أقل. وهذا السياق التجريبي للنظرية هو الذي أفهمنا أن النظرية النفسية هي الخلفية الأساس لنظرية ما بعد الاستعمار ومقولة مركز ــ هامش، طبعا اليوم في الدراسات الأكاديمية من يأخذ بها ومن مازال يطمسها ويُضْمِرها: فالقهر والحرمان ولا توافق النفس مع نفسها يكون مصدر الهواجس إزاء الآخر، إذن يلجأ الفرد إلى تفضيل نفسه عن جميع من يقابله، زد إلى ذلك ترسبات الثقافة في اتجاهين رسّخاها أكثر وأكثر، ألا وهما الاشتراكية السياسية والسلفية أو الدين السياسي. فهذان الأقنومان اللذان يمثلان هذين الاتجاهين عندنا هما مركز وجميع من خالفهما هامش، إلاّ فيما ندر، وهم البؤر القصيّة التي تضم تجمعات بربر أو عرب فقراء حول ضريح "ولي صالح" كما جرت العادة، متمسّكين بسماحته الصوفية إلى الدرجة التي تجعلهم أسيادا في الحقيقة، لا تابعين للاتجاهين المذكورين أعلاه، وهم لا يُقِرُّون بأنهم تابعين لغيرهم كـ "هامش" لأنهم لم يشعروا أنهم هامش فلم يحسوا بالنقص لأنهم أصحّاء نفسيا؛ وذهنياتهم النفسية تعوّدت على ذهنياتهم العقلية إن صح التعبير، فلم تضيق بهم السبل إلى أيديولوجية الضيق. إذن على هذا المستوى من التجريب الواقعي الذي يقع على طرف نقيض من مستوى تجريد الدراسات الأكاديمية تميّزت مواضيع ما يعرف بخطابات ما بعد الاستعمار ونظرياتها لِتُصنّف في خانة حلقة الجدل الثقافي المعرفي.



:Appendix )the literary equivalent of the conclusion of the research)

 

       The post-colonial theory was easy for us to analyze into its primary elements because when we were brought up in the midst of its direct applications locally, we were victims of the saying of a center - a margin at the local level: in the neighborhood, in the municipality, and In the circle, then in the state and region, and last but not least at the national level, when we moved to study or work in its various directions, these spaces have grown into foci of individual or collective authoritarianism centered around the self by force that is excluded and arranged! It is better than teaching us the post-colonial theory, and through it we were able to access cultural criticism with two senses: a critical sense and a cultural sense based on experiences, and it was never taught to us by relations east-west, but rather the philosophical thought that emerged from it was as or just a guide to enlighten us, nothing more or less. It is this empirical context of the theory that made us understand that psychological theory is the basic background for post-colonial theory and the saying of a center - a periphery. Of course today in academic studies who takes it and who continues to obscure it and conceal it: oppression, deprivation, and self-conformity is the source of obsessions about the other, so resort The individual is to prefer himself over everyone who encounters him, adding to that the sedimentation of culture in two directions that have entrenched it more and more, namely political socialism and Salafism or political religion. These two hypostases, which represent these two trends in our country, are a center, and all those who disagree are marginalized, except in rare cases, and they are the distant outposts that include the gatherings of Berbers or poor Arabs around the shrine of "Wali Saleh", as usual, clinging to his mystical eminence to the point that makes them masters in reality. They follow the two trends mentioned above, and they do not acknowledge that they are subordinate to others as a "margin" because they did not feel that they were a margin, and they did not feel inferior because they are mentally healthy. And their psychological minds accustomed to their mental minds, if you will, so it did not lead them to the ideology of distress. Therefore, it is at this level of realistic experimentation that lies at the opposite end of the level of abstraction of academic studies. The topics of what are known as post-colonial discourses and their theories were distinguished to be classified in the category of the epistemic cultural Controversy.      

 بوزيان bouziane
بواسطة : بوزيان bouziane
موقع تنويري فكري وشبه أكاديمي، يتغيا تقديم إضافات نقدية تخص تحليل الخطابات الثقافية ونظرية النقد والأدب متوسلا بجماليات التلقي والنقد الثقافي، كما يعنى بنشر إبداع قصصي جديد ليس له ما يماثله على الساحة الجزائرية، والمقال المتناول للشؤون السياسية والإعلامية والاجتماعية المقاربة للظاهرة الأدبية والمحاكية المكملة لها.
تعليقات