بوزيان بغلول*
الملخص: سبق
للنقد التقليدي أن اعتنى بقضية الثنائية الجدلية لغة ــ فكر وعلاقتها بتحصيل
المعرفة على المستويين الأدبي والنقدي، يعني أيُهما أسبق وأولى من الآخر دون أن
يخرج بنتيجة حاسمة إزاءَهما، ونعتقد أنه ما كان للنقد التقليدي أن يهفت أمام بزوغ
نزعة النقد البنيوي ثم النقد ما بعد البنيوي لولا أنه فشل في قضية الحسم تلك، من
هذا المنطلق يحاول البحث مطارحةً وليس مقاربةً إعادة بعث القضية من جديد على مستوى
أدق وحدة أو عنصر حساس ضمن مدرستين نقديتين ليس مختلفين تماما لكنهما طفرة علمية
لأحداهما على أنقاض الأخرى وهما "الوظيفة الجمالية البنيوية" أو
(البنيوية الوظيفية) في الدرس النقدي والأدبي البنيوي و "الهجنة
الثقافية" في الدرس النقدي والأدبي ما بعد البنيوي، والذي نخال أن كليهما
يشكلان مرحلة أبستمولوجية في نظرية النقد ونظرية الأدب واطّراد التقدم العلمي
والمعرفي المقاوم للثبات والانعزال، أي كليهما جهد أبستمولوجي نحو البحث عن ماهية
الأدب والنقد الحقيقيين، إذ مطارحتنا ستكشف عن المفارقة أو النقص الجدلي لكلا
الأنموذجين إلى ما يُكمِّلهما، فهُما بحاجة إلى من يُكمّلهما على مستوى مبادئهما
ومرتكزاتهما الإجرائية والمنهجية؛ فلا لغة جفاف المخيلة والتجريد هي بالنقد والأدب
المكتمل الحلقات المعرفية ولا النزعة المضمونية الغير واقفة على جماليات بيان
اللغة التي من شأنها أن تكبح شراسة الذات وجُموحها المتطرف هي كذلك. إشكالية
التعمُّق في المعرفة تكمن في هذا الجدار المتين بين "مثالية الفكر" وتجربة
المحسوس بمعونة رسوخية الثقافية في كليهما والثقافة هنا تمتد معناها من قيم
التقاليد والعادات إلى تجاوز الفكر العلمي لها تاريخيا أو أبستمولوجيًا، لتغدوا
بهما المعرفة ضحلة مستغنية عن طرفها الجدلي الذي ليست لها أي قيمة بدونه، فمفاهيم
المناهج الألسنية والبنيوية ليست لها أي قيمة معرفية بمعزل عن ما تحمله من فكر
معرفي تجريبي ملموس حتى وإن وجدت لها علاقة دلالية. اكتساب معرفة جدلية تحصيل
حاصل، لمّا كنا بإزاء الخطاب حول هوية ثابتة تجريدا لا متحولة لغةً وخطاباً
ثقافيا، من خلال أنموذجنا المختار الدراسات الثقافية، وبالتحديد النيو كولونيالية،
وبالتحديد أكثر "الهجنة الثقافية" باعتبارها معرفة ما بعد بنيوية، لأن
وعاؤها الذي هو اللغة، التي تتجرد من قيمتها الذوقية البلاغية سردا ونقدا، بإعطاء
الأولوية لانتظامها البنيوي أو الشكلي الجاف المستقل عن التجربة المحسوسة (وهي
الشق الأول "الفخ" في طرفي الجدلية الثقافية) من جهة، ومحتواه (الوعاء)
بالضرورة هي المعرفة المشيّدة بنيانها مضامينًا ثقافية جدلية المتخندقة في كيان
الذات (وهو الشق الثاني "الفخ" في طرفي الجدلية الثقافية) من جهة أخرى.
مقدمة
لقد طرح مفهوم نقد/خطاب ما بعد
الاستعمار في حقل الدراسات الثقافية ـــ الحقل الذي يهتم بمضامين من معارف مختلفة
تدعى عند أهلها بـ "الدراسات الثقافية" ـــ وفتح
أفقا رحبة أمام المعرفة، غير أن
أكثريتها جدلية لا تُطرح إلا وهي مرتبطة بصورتها المثالية التجريدية L'idéalisme abstrait فقط،
العصية على التفكيك إلى عناصرها الأولية، أو إلى صورتها التجريبية المادية النفعية
فقط؛ فالإشكالية تكمن في قدَر التجاوز الجدلي بين وجه الموضوع وهو الهوية، في
وجهها المادي الملموس من جهة ووجهها الفكري المجرد من جهة أخرى، فوقع أول ما وقع
في فخ الجدليات الثقافية العدة من قبيل المركز والهامش، الأنا والآخر، الأصالة
والمعاصرة، الالتزام والتحرر، والتي سبق للفكر الإنساني الوقوع في مطباتها قبل
تبلور الفكر البنيوي، أتُرانا اليوم في ظل عصرنا الذي يوصف بأنه عصر الثقافة بمعزل
عن خطر التقوقع واللاجدوى والجمود الفكري التي تحدثه هذه الجدليات أم أننا نعيد
إنتاجها يوميا دون وعي، نتيجة لانعكاس التأثير المباشر لعزلة ثقافتنا أو احتياطها
من مواجهة أو منافسة ثقافة الآخر؟ فما مدى انعكاس فخ الجدليات الثقافية على الفضاء
المتعامل مع إنتاج العلم والفكر ألا وهو الجزء من فضاء أساتذة التعليم العالي
المتخصص في الحقل أعلاه مثلا على درجة يقينية معارفه وعُمقها؟ بل صواب طروحاتها من
عدمها؟ وهي النظر إلى الهوية نظرة تجريدية علائقية، فيما أن اللغة كيان وتجربة
بيانية وبلاغية، بل تغدوا جوهر التعمق المعرفي، أو النظر إليها ـــ الهويةــــ
نظرة ميتافيزيقية مجرّدة تصطبغ بمقولات "الأنا" وتتشبّع أنانية بمعزل عن
مكون "الآخر" الواقعي التجريبي بالرغم من علاقة النقد العربي بالنقد
الغربي، ومن هنا تظهر علاقة إشكالية الطبع والصنعة كإشكالية بنيوية مرتبطة
بإشكالية أخرى خارج بنيوية وهي إشكالية الالتزام والتحرر/الهجنة الثقافية ارتباطا
جدليا.
الإشكالية: وأصل هذا المفهوم الجدلي يعود إلى
مستوى الأفراد (المفروض أنهم طبيعيين) في تاريخ البشرية وقد انتقل إلى مستوى
الجماعات والدّول حيث أن ثقافة النظام الأبوي غطّى في القرن الـ 20 على محنة
الطاغية والفوهرر والديكتاتور؛ فلا سلطة لأي فرد على فرد آخر ليس من جيناته، وإنما
له فقط سلطة على ذاته، ولو كان له حقا سلطة على ذاته لما ترك الآخرين يتسلطون
عليه، إذن من يقولون الآخر الآخر هم في الأصل أناس مقموعين خاضعون قهرا وجبرا. من
يحرّر نفسه من التسلط المفروض عليه هو الذي يرى الأشياء بعين المنطق لا بعين وهم
الرسوخية الثقافية، فلو كان تربطه علاقة الحس المرهف والدقيق بالنقد والأدب لا
علاقة الصّنعة لَانشغل عما سواه من التدخل في شؤون الآخر أو بما ليس له فيه أصلا
لا ناقة ولا جمل. من منطلق هذا المنطق: أن في الوجود وهم وحقيقة، إدراكهما خليق
بالمنهج العلمي وحده، ما عدا ذلك ادّعاء إما وَهْم أو غموض لوقوعه في مطب
الجدليات، ونحن لم نقل بالوهم الذي بكشفِهِ ينجلي مقابله جدليا(الحقيقة) إلا
اعتمادا على المنهج العلمي العقلي المستقل عن الإكراهات الثقافية. إذ أساس طروحات
نظرية ما بعد الكولونيالية عند أقطابها: إدوارد سعيد، فرانتز فانون، هومي بابا، جياتري سبيفاك العمل السياسي اليساري الراديكالي وهي متعلقة بالمرحلة،
إذن فهو نقد تاريخي ينتفي بانتفاء سياسات الاستقطاب العالمي أو قل هو أبستمولوجيا
في النقد الثقافي المتبلور عن مدرسة فرانكفورت، فلا عجب أن نجد المتخصصين
المعاصرين أمثال نايجل سي. غبسون وهانز بيرتنز يصفانها
بالمخيلة لا بالنظرية. إذن نفترض أن مقولة مركز ـــ هامش هي مقولة اختلقها
الضُّعف والهوان واحتقار الذات وإن ارتدت رداء العلم، لأنه سيكون علما شكلا لا
مضمونا محمي بأيديولوجيا الثقافة، جاهز وموجَّه مسبقا، لينتج
أوتوماتيكيا تسطحا وركودا معرفيا، وهي
مقولة لم تختلقها قط، لا العقلانية ولا الحداثة ولا ما بعد الحداثة ويكفينا دليلا
واحدا، هو أن هذه الأيديولوجيا تواجه العقلانية التي تَمِيزُها عنصريا باسم
"الآخر" بعلومه وتحاربه بسلاحه!
ثم إن رسوخية
الثقافة، بالتفطير عليها، بمعزل عن التلاقح والاحتكاك بالآخر المتعدد المختلف
تضمُر عقلانيتها، يصبح وعي الأفراد أو الجماعات أو الدول وعيا لا تشاركيا، فإذا ما
تراكمت معارفهم التي تقوم على الجدل توطدّت ركائزه السلبية بالرسوخ الثقافي، جدل
ما هو في حقيقته إلا مزيدا من السلبيات ظنُّوها شيئا عاديا و وعيا صائبا بهويتهم،
بل عمل صالح، بينما هي وعي بللا وعي، وضلال بعينه أو الانحراف أو غموض العلم/
المعرفة لغياب الاحتكاك النفسي (الثقافي) بالآخر ؛ يعني يمكن أن يُتصور الانحراف
عن الطبيعة الجوهرية للشيء بالرسوخية الثقافية المُضللة هو منتهى العلم ومنتهى
التطابق بين النظريات العلمية الجديدة وطبيعته، غير أنه وعي باللاوعي نتيجة اللا
تشاركية، التعالي والاغترابية. أما منهج البحث فهو تحليل أبستمولوجي في مناهج
النقد الأدبي (نظرية النقد) ونظرية الأدب بالتدقيق على مستوى شعرية السرد البنيوي ووظيفته
أين نقابله بالطرح عمق الفكر والمعرفة مِن بيان اللغة، وعلى مستوى الهجنة الثقافية
نقابلها بالطرح القائل أن جماليات الأدب والنقد في عقلانيتهما لا في أيديولوجيتهما.
وإنما تأتّى لنا البحث على هذا الشكل هو محاولتنا الدائبة منذ سنوات تفسير العلاقة
بين الإبداع في الأدب والنقد وبين العلمية في النقد والأدب (في
المنهج النقدي والكتابة الأدبية) وبين الذكاء أو العقلانية، كل ذلك مسنود
بالتجربة، ليست تجربة المخابر ما أعني لكن تجربة قراءة فطاحل الإبداع والنقد
العربي بخاصة في المشرق العربي والمقارنة بينهم وبين نظرائهم المغاربة كما استمعتُ
إليهم في الواقع أمامي في المدرجات والندوات. ثم إن واحد منهم وهو عبد العزيز
حمودة في مقدمة كتابه "المرايا المحدبة" يتحدث عن البنيوية وما بعد
البنيوية (التفكيكية) قائلا أن فيهما مراوغة مقصودة وغموض متعمد وطلاسم أما
أصحابهما فيصفهم أن فيهم الأصليون والناقلون ونادي نخبة النخبة والمنبهرون. وواحدا
آخر هو ناجي رشوان في كتابه "الوعي الحضاري وأساطير التصور" أن
الوعي الحضاري المصري وعى ما تركته نظرة الفعل الحضاري للنظرية النقدية متمثلةً في
مفهوم البنية في بعدها الفني والثقافي من حالة انفصال عن حاجات الشارع والعالم
الحياتي العملي المصريين.
1. ضبط
مفاهيم المصطلحات: أبستمولوجيا،
الجدل،الوظيفة الجمالية البنيوية والهجنة الثقافية.
1.1 لعلّ
النقد الأدبي كفرع معرفي يصب كجل العلوم المادية والإنسانية في نهر المعرفة
الشاملة والتي تارة تتراكم مياهه وطورا تضمر، انفصالا واتصالا، ونحن نقصد هنا
بالمعرفة طبعا المعرفة النقدية الأدبية بمناهجها العتيقة والحديثة والمعاصرة معا،
وهذا الرافد باتصاله بنهر المعرفة الطويل والعريض يقع في نفس المستوى معه مما يسمح
بمياه النهر أن تتراجع قليلا إلى الرافد بضع أمتار أو ربّما مئات الأمتار إن لم
نكن مُغالين، فيتشرب ذلك الرافد ألا وهو النقد الأدبي من غزارة مياه النهر، أقصد
من غزارة المعرفة الشاملة فلسفة كانت وهي الأقرب أهمية بالنسبة له وربما التاريخ
وعلم النفس كذلك، وحتى المنطق الرياضي هو مفيد له ــــــ فالمعرفة هي
التي تشير إلى الفهم النظري أو العملي لموضوع ما. قد تكون المعرفة ضمنية (مثل
تلك التي تكتسب مع المهارات أو الخبرات العملية) أو أن تكون معرفة صريحة (مثل تلك
التي تكتسب مع الفهم النظري لموضوع ما)؛ وقد تكون أقل أو أكثر اصطلاحية أو منهجية[1]ـــــ العمق والإيغال الفكري
أتى بمعنى موازٍ لبلاغة الخطاب في القرآن الكريم :"واحلل عقدةً من لساني
يفقهوا قولي"[2]،
والأدب مرتبط بالنقد الذي يفسره وبالإنتاج العقلي، إذ يقول طه حسين:" فكلمة
littérature عند الفرنسيين والإنكليز والألمان يفهم منها الجيد من مأثور
الكلام المنظوم والمنثور، وما يتصل به ويفسره من الشرح والنقد والتاريخ، كما يفهم
منها في بعض الاستعمالات كل ما ينتجه العقل الإنساني من الآثار التي يصورها
الكلام، سواء أكانت أدا أو علما أم فلسفة"[3] والأدب
الروائي كذلك هو معرفة مع ميخائيل باختين لكن من زاوية ما تحملها اللغة الحوارية
من تعدد أيديولوجيات، في توفيق جلي عند هذا الاتجاه البنيوي التكويني بين شعرية
السرد و بين عكس الواقعة الاجتماعية. أما مع المدرسة النقدية الما بعد بنيوية
الراهنة فإن "القراءة النقدية مشابهة للخطاب الإبداعي في كونها أيضا خطابا
يتكون أيضا من أربعة أبعاد (..) كما هو النص المتشكل من أبعاده الأربعة، يعود بنا
إلى المبدع والمرجعية والمتلقي لنكتشف بالتالي أننا أمام عجلة أدبية ثقافية تتشابك
تشابكا معقدا لإنتاج ثقافة لغوية رؤيويه جمالية للكون والإنسان والحياة"[4]
2.1 في هذا
النطاق يمكن للنقد الأدبي أن يتطلع أن يكون كأداة وغاية في نفس الوقت، حينما
تتكامل الوسيلة مع الغاية نكون بصدد تجاوز المعرفة إلى معرفة المعرفة والتي لها
مجالها وهو نقد النقد أو نقد النقد الأدبي بالتحديد. والمنهج النقدي العلمي يخضع بدوره كعلم
إلى فلسفة العلم أو الدراسة الأبستمولوجية، فعلم الأبستمولوجيا Epistemology العلم الذي يُعنى بالدراسة
النقدية النقاشية الشارحة للمعرفة العلمية بما فيها وسائل إنتاج تلك المعرفة (مثل شرح ومناقشة
رولان بارث لأعمال فلاديمير بروب ودي سوسير وليفي شتراوس. وكل من جوزيف كورتيس
وبول ريكور لأعمال جريماس) وبما أن المنهج علم فالأبستمولوجيا تنقده من زاوية
العلمية، أسماه الفيلسوف الفرنسي أندري لا لاند فلسفة
العلوم وهي تختلف بهذا عن علم
مناهج العلوم (ميثودولوجيا) لأن الأبستمولوجيا تدرس بشكل نقدي
مبادئ كافة أنواع العلوم وفروضها ونتائجها لتحديد أصلها المنطقي وبيان قيمتها.
3.1 أما مفهوم الجدل فهو الشك أو المِراء لأجل المغالبة
والمقابلة قول بقول، أي أن الجدل لغةً من مقابلة
الحجة بالحجة؛ والمجادلة: المناظرة والمخاصمة، والجدالُ: الخصومة؛ سمي بذلك لشدته
والجدل في الاصطلاح مراء/ شك يتعلَّق بإظهار المذاهب وتقريرها ..
وقال الجرجاني: (المِراء: طعن في كلام الغير لإظهار خلل فيه، من غير أن يرتبط به
غرض سوى تحقير الغير)[5]
يرتبط إذن الجدل بالثقافة ارتباطا
جدليا؛ كلما اتّسعت تلاءمت مع المعارف والعلوم فيخف الجدل إذن نحن هنا أمام انفتاح
لا يُخشى منه الزوال والتراجع، والثقافة التي تتصف بهذه الصفات هي ثقافة الغرب
الشبه مادية وهي أوسع من ثقافات الأخرى منها ثقافتنا العربية الإسلامية والتي
اتسمت بمراحل تقهقر عديدة واكب في كل منها منطق التفكير ـــ بل العيش أيضا ـــ
الجدلي الذي لا يخرج عن متاهة البيضة من الدجاجة أم الدجاجة من البيضة! ولا يخرج مفهوم "ثقافة
الجدل" عن تركيب بين معنى الثقافة ومعنى الجدل فنقع بإزاء هذا التركيب
على الممارسة الجدلية التي ينبُغ فيها المرء أو يتفقّه حتى أصبحت الأمور
الجدلية ثقافةً لا يستسيغ غيرها منطق تفكير.
4.1 لا نرغب أن نتوغل في مفهوم الوظيفة الجمالية التي تطورت
عن الشكليين الروس بالتحديد مع اللغوي تشيكي جان
موكاروفسكيJan Mukarovsky (1896 ــ 1975) بعد أن تشبع بها حقل الألسنية وصولا إلى العلامة
السيميولوجيا، تحليل اللغة تحليلا بنيويا شكليا أفضى على عدم التخلي عن مصطلح
الوظيفة الجمالية الشكلانية الأصل في "البنيوية الوظيفية" إلى جانب
المصطلحات الأخرى ، فهي حسبه انتهاك عقلاني لطبيعة اللغة
التواصلية حين تتزايد وظيفة اللغة جماليةً (شعريةً) مع تضاؤل بعض العناصر
البنيوية: "انتهاك قانون اللغة المعيارية ـــ الانتهاك المنتظم ـــ هو
الذي يجعل الاستخدام الشعري للغة ممكنا، وبدون هذا الإمكان لن يوجد الشعر. وكلما
كان قانون اللغة المعيارية أكثر ثباتا في لغة ما، كان انتهاكه أكثر تنوعا. ومن ثم،
كثرت إمكانات الشعر في تلك اللغة، ومن ناحية أخرى كلما قل الوعي بهذا القانون، قلت
إمكانات الانتهاك. ومن ثم، تقِل إمكانات الشعر"[6]
1.5 والباحث الهندي هومي بهابها Homi
K. Bhabha (1949) المدعو
هومي بابا في كتابه " موقع الثقافة 1994" خالف
إدوارد سعيد بتوليد مفهوم "الهجنة الثقافية Hybridation" في سياق تطور نقد
خطاب ما بعد الاستعمار بخاصة
عندما عجزت الدولة العربية الحديثة عن الخروج من مأزق التخلف دون مساعدة من الغرب
(المستعمِر السابق)؛ يرى هومي بابا باختصار أن
الاشتباك بين المستعمِر والمستعمَر لم يخلُ من تلاقح، أي أن المتسعمِر تأثر به كما
تأثر به المستعمَر، بل إن الاستعمار بوصفه تجربة جوهرية وقلقة قد خلقت ذاتا جديدة
للمستعمِر، تعتمد في جانب كبير منها على خطابه اتجاه المستعمَر وعلاقته به.
والهجنة الثقافية مصطلح "يشير عادةً
إلى خلق أشكال تثاقفية جديدة داخل نطاق الاحتكاك الذي يخلقه الاستعمار"[7] يقصد بها صياغة هوية مشتركة بين المستعمِر
والمستعمَر سميت بالفضاء الثالث لا وجود فيه لهوية نقية وثابتة، و"الهوية كمؤشر، أو كسمة مشتركة بين
الجماعات، بل كممارسة يتغير معناها وأثرها باستمرار مع تغير سياقها"[8]، ومن ثمة فإن نظرية أو مصطلح الهجنة الثقافية اشتد وبرز أكثر
في المرحلة التي نحن بصددها وهي نيو كولونيالية أو الإمبريالية الجديدة الناتجة عن
احتدام ردة فعل الشعوب الثقافية اتجاه العولمة الثقافية بالسلب أو بالإيجاب.
ومن هذا المنظور، منظور الجدل الثقافي لا الجدل المعروف كمنهج علميDialectique Matérialisme من
هذا المنظور يأتي الوصم بالتخلف أو الوصم بالتقدم، التبسيط والتسطح ليس ضدان
جدليان للتعقد والتعمق لكنهما في حضور الخطاب حول الهوية الثابتة أو المتحولة لغةً
وخطاباً ثقافيا يغدوان كذلك، ولم نختر الدراسات الثقافية وبالتحديد النيو
كولونيالية وبالتحديد أكثر "الهجنة الثقافية" نموذجا إلا لأنها معرفة ما
بعد بنيوية، إذن وعاؤها هو لغة البنية أو الشكل الجافة (وهي الشق الأول
"الفخ" في طرفي الجدلية الثقافية) من جهة، وقالبه المعرفة المشيّدةُ
بنيانها فيها مضامينًا (المعارف الثقافية) (وهو الشق الثاني "الفخ" في
طرفي الجدلية الثقافية) من جهة أخرى. إذن فقد غدا جوهر التسطح المعرفي عندنا لا
يخرج عن متاهتين جدليتين ثقافيتين (وقد حلت محل النزعة) عصية على الطرق وما بالك
المناقشة قصد الحل، أولًا العمل على التفريق بين خطاب اللغة وخطاب السرد/نقد
وتكريس فيه عبثًا ما أطلق عليه "أدبية الأدب" بالرغم من تاريخانيتها
النظرية والمرحلية! وثانيا
صناعة الآخر عن طريق "الأنا" المتعالية ثقافيا.
2ـ
جدلية مفهومي خطاب اللغة/ خطاب الأدب والخطاب السردي/النقدي:
إنه
ذلك الجدل المتخِذ له شكل الجدل المادي الإجرائي، وقد ترسخ ثقافة لاعقلانية تحل
القاعدة أو المبدأ التقني الجاف محل سمو وجاذبية جمال المعنى الجدلي المنبثق عن
سحر البيان أو بلاغة اللغة العربية ـــــ والتي تختلف عن اللغات السامية الأخرى وهناك
ما يشير في القرآن الكريم إلى نظرية الوضع بتقدير من العزيز الحكيم من خلال وقف
لغة آدم في قول:" وعلّم آدم الأسماء كلها" لتأتي السليقة كتوفيق
تلقائي بين الموضوع وهو ذلك الجهاز الذهني السابق في الفكر والتفكير والذاكرة وبين
المكتسب الذي هو اللسانيات المعروفة في أيامنا[9]
ـــــ في حين أن معاني الأدب جمالها في ماهيتها/ التجربة المباشرة للذات
المبدعة وكذلك تتبعُها
الذات الناقدة، " تكون الماهية موضوع تجربة من خلال حدس معاش، وليس لرؤية
الماهيات أية صفة ميتافيزيقية (..) فالماهية ليس سوى ما يكشف لي به عن الشيء
بالذات، في هبة أصلية"[10]، المقصود بخطاب اللغة ليس
خطاب اللسانيات(الجملة) ولا خطاب السياقات السردية القصدية الداخل نصية التي تحتمل
تفاعلا بين المتكلم/الكاتب والسامع/القارئ ــــ وهذا الخطاب السردي أقصى ما يمكن
أن يتجاوزه هو المباشرة التي لا تحتمل التأويل إلى اللا مباشرة في الخطاب أو
التضمين أي ربط المعاني بالصيغ الاجتماعية (التداولية) ــــ خطاب اللغة الذي نعنيه
هو خطاب المعاني التي تفرزها الصور البلاغية المتمخضة عن تجربة الكاتب اللغوية
البلاغية التي ليس بإمكان القارئ فهمها/تذوقها إلا بمشقة تستوجب الطاقة العقلية
والشعورية التجريبية معا.
بالرغم أنه صار يُنظر إلى اللّغة كونها أفعالا
ذات أبعاد ووظائف اجتماعية ومؤسساتية عندما تحول مفهوم الوظيفة من اللسانيات
والانتظام اللغوي إلى الخطاب، بالتالي صار هناك لزاما الحديث عن مستوى إضماري
مستقل عن المستوى البنيوي يتم إدراكه بامتزاج عناصر اللّغة بعنصر السياق المتعدد
الأبعاد، لنكون بإزاء معاني جديدة أو خطاب اللغة. لا ريب أن يكون "تصور
البلاغيين العرب للخطاب ومقوماته باعتباره أساسا متينا قام عليه التفكير البلاغي
ونسيجا نظريا تنتظم وفقه القضايا البلاغية على تفرقها وتفرعها. وقد أنبنى على هذا
التصور للخطاب عندهم كتحديد لآليات اشتغال التفكير البلاغي .. "[11] أي حددوا أركان البلاغة
بدلالة اللفظ والتراكيب والنحو والمقام، من حيث إفادة المعنى مقتربين من أن خلال
مطابقة الكلام لمقتضى الحال أن وراء البلاغة قصدية أو ما يسمى في عصرنا بسياق التلفظ
(عناصر اللغة داخل النص وتتابعها صياغةً وتراكيبًا) وسياق المقام (السياقات
الخارجية من نفسية وثقافية التي تحكم المرسل بالمتلقي). إذن البلاغة (البديع،
البيان والمعاني) في اللغة جوهر، " لتأديتها لوظيفتها الحقيقية بكل فنية
وفي أرقى الجمال الأسلوبي، توفيقها بين مقولاتها النحوية والحالات النفسية التي
تعتري صاحبها، لذلك يؤكد (دماسو ألونسو) «على أن كل خاصية لغوية في
الأسلوب تطابق خاصية نفسية». وكانت عند رولان بارت «العاطفة أساس كل أدب» وهو
ما عبر عنه محمد عبد المطلب حين اعتبر أن اللغة « لیست مجموعة من القوانين
المطلقة، خاصة عند تحولها من الإيصالية الخالصة إلى الأدبية الخالصة، وإنما هي
مجموعة من الاختيارات الحرة، يتحرك من خلالها وبها المبدع، بحيث يكون اختياره
موافقا لتجربته، ومساعدة في الكشف عنها بالنظر في بعديها: البعد الأول يتمثل في
توجه الذهن إلى الواقع، والآخر يتمثل في رد الواقع إلى الذهن». بذلك يرتبط
تحقيق الأدبية في أي خطاب بمدی امتصاصه ــــ في خفاء ــــ عاطفة صاحبه، ليكون
التوافق بين الملفوظ الأدبي وبين الداخل الانفعالي لدى المبدع، فتغدو مؤثرة في
متلقيه"[12]
أما
الجدل المذهبي الذي عُنيت به الماركسية أو الفكر الاشتراكي فليس لنا به حاجة في
هذه الإطلالة التي نحسب أنها مساهمة معرفية، كونه جدل قانونه التطور والتغير لا
الثبات ناهيك أنه بمعزل عن القيم الثقافية:" وأعني
بالفكر الاجتماعي الفاعلية الجدلية بين الذات (الإنسان/المجتمع) والموضوع، ذلك أن
الإنسان لا يفكر إلا في مجتمع. وفكر المجتمع حصاد تاريخية الفعل أو النشاط
الاجتماعي في إطار صراع الوجود .. أي إنتاج الوجود. وإنتاج الوجود ــــ أي الحضارة
ـــــ هو نشاط مادي ومعنوي (تقانة وفكر) وكلاهما وجهان للوجود الاجتماعي وأداة
واحدة للتكيف الذي هو معرفة. فكر ـــ وفعل استجابة التحديات البقاء والتكاثر،
والحضارة عندي هي عملية تاريخية قوامها "إبداع
الأدوات المادية والإطار الفكري/القيمي في تكامل معا استجابة لتحديات وجودية
يفرضها الواقع المتجدد والطبيعة بتفاعلهما مع الإنسان/ المجتمع. وهذا التعريف فيه
دينامية؛ إذ يدمج الإنسان كأحد مكونات البيئة الحضارية بسلوكه وفكره وقيمه، ويتسق
مع التعددية والتطور في الزمان والتنوع في المكان"[13] وفي
هذا المنهج يكون العلم ذاته والمنهج التاريخي قد اثبتا بطلان نظرياته بأيديولوجيا
التحول بمعزل عن أي قيم روحية، أحدثا فيه رجّة أو قل جدل داخلي إن صح التعبير
أدى إلى تراجع منظومته الفكرية بزوال نظامه السياسي والاقتصادي الاشتراكي في نهاية
ثمانينيات القرن الماضي، إذن الاعتبارات الأيديولوجية وراء لا عقلانية هذا المنهج
الحداثي.
أما
الجدل الثقافي في شقه الأول الذي نحن بصدده فهو افتقاد المجادل في تخصص النقد الأدبي بمناهجه العلمية اللغوية،
الألسنية، والأدبية البنيوية والشكلانية كفرع من التخصص العام اللغة العربية
وآدابها ( اللغة ـــ وأدب شعرا و نثرا ــــ النقد اللغوي، الألسني
والأدبي) لجوهره الذي وجد من أجله وهو بلاغة اللغة العربية وبيانها، من المفروض أن
هذا الافتقاد طبيعي حله هو مغادرة التخصص إلى الفلسفة وعلم الاجتماع أو محاولة
الإقرار بالنقص في هذا الجانب ــــ الذي هو جوهري، نفترض ذلك قبل أن نثبته علميا
أسفله ــــ أو محاولة اكتسابها، بيد أنه وللأسف مطب كل ضعف وتسطح معرفي وفكري في
اختيار الطريق الأيديولوجي، وهو هنا التعصب الجدلي المادي الذي أشرنا إليه أعلاه
لأجل تجاوز هذا الجوهر بالاستعانة بالقاعدة والمبادئ العلمية المؤسسة له في هيئة
غموض أو عدم تنظير أبستمولوجي موجوب، يعني مقاسة على المقاس، كالقول بالشعريةpoétique كمطلب
جمالي نقدي يشير إلى جمالية الوظيفة البنية السردية بدل الإبداعية، والإبداعية créativité هذا المصطلح الذي جاء به محمود أمين العالم
كترجمة لمصطلح الشعريةpoétique أيضا، فيه إشارة بشكل أو بآخر إلى الوظيفة النحوية البلاغية و
جمالية اللغة التي هي عدم السقوط في ابتذال التعبير بها، السقوط الناتج عن الفقر
المعجمي وصعوبة تركيب الجمل حتى لا نقول صعوبة الإنشاء، فإلغاء دور التجربة الشخصية للمبدع والواقعة الاجتماعية
في العمل الأدبي عند الشكليون والبنيويون، وهما نفسيهما كمدرستين نقديتين لم تكونا
سوى مرحلة أبستمولوجية في تطور دراسات علم اللغة وعلم الأدب، حيث "العمل
الأدبي يتجاوز نفسية مبدعه، ويكتسب خلال المواضعة الفنية وجوده الخاص المستقل، إذ
أن التجربة النفسية التي تعد أصلا له سرعان ما تتقهقر إلى الخلف (..)
ونفس العوامل التي تجعل من القصيدة وثيقة نفسية مشكوك في صحتها وقيمتها تجعل العمل
الأدبي لا يصلح كي يُعتبر قطعة بديهية معبّرة عن المجتمع من الوجهة العلمية
الأنتروبولوجية "[14]، سرعان ما نقدا بل دحضا
كلا من ميكائيل باختينMikael Bakhtin وجيرار جينت Gerard Genet هاتين
المدرستين من ناحية تدخل شخصية المبدع في العمل الأدبي. فيمكن حسبهما للكاتب أن
يطابق صوت سردي ما بفضل تعدد الأصوات السردية أو الحوارية، وفيما يخص عكس الشخصية
للواقعة الاجتماعية والتاريخية في العمل الأدبي فأثبت لوسيان
جولدمان Lucien
Goldman أنها جزء من رؤية العالم أو البنية الدالة،
وبالتالي محاولة علمنة اللغة والأدب تدخل في اطار مسار ومجهود أبستمولوجي ومجرد
وجهة نظر الشكليين فحسب.
أما مفهوم الوحدة الوظيفية وجمالياتها التي
يُحدس منها إقرارا ما بأن العمل الأدبي معنًى جميل في أصله، لكن محاولة إخفاء هذه
الحقيقة العصية على البحث آنئذ ومازالت (تحديد المعنى وحصره علميا كما يحصر الشكل)
جعل العلم يقاربها بمصطلح الوظيفة الجمالية البنائية ـــ ولكنها مقاربة تقارب
الغموض والجدل لزاما لمّا تحاول إدراك حقيقة اللغة في الأدب والسياق وعلاقتهما
العقل والفكر الإنساني، الذي هو عقل وفكر ملموس ومجرّد
في آن حتى
ظهور نظرية القواعد التوليدية التحويلية* ــــ الصوت والكلمة في النظام اللغوي يقوم
بوظيفة إعادة التوازن كلما احتلت موقعها البنيوي تعود إلى موقعها مرة أخرى وهذا من
غير الممكن دون: أولًا حملها للمعنى وثانيًا اختلاف ذلك المعنى من حيث درجة
جماليته، "يؤدي النظر في الوظيفة إلى فكرة أن دراسة حالة
اللغة، بصرف النظر عن أي اعتبار تاريخي، يمكن أن يكون لها قيمة تفسيرية، وليس فقط
وصفية"[15].
لا
شك في أن الباحث الشكلاني الروسي والباحث البنيوي الفرنسي وصلا إلى ما وصلا إليه
في بدايات هذا الفكر المادي التجريدي، الذي وضع لنفسه مبادئ منهجية مقابلة للواقع،
فهو بدايةً لم يكن ليتبلور لولا الواقع والتاريخ! مبادئ غير قابلة للتعديل ومجالها علم إنساني! هذا يعني أنها تأثرية، حيث منطق التفكير
السائد في بداية القرن العشرين كان منطق التفكير التحليلي (الوضعية التحليلية)
والتجريبي (المنهج العلمي التجريبي) " ثمة وجهة نظر واسعة الانتشار تقول
إن المعرفة هي انعكاس موضوعي للواقع القائم في المعرفة الفلسفية والعلمية، فقوانين
الطبيعة على سبيل المثال، هي ذاتها لم تتغير بين الأمس واليوم. وهذا ما تؤكده المدرسة
الفلسفية المدرسية، غير أن الأمر عملية ليس على هذا الشكل. فقد أظهرت الأبحاث
المعاصرة، أن المعرفة ليست مماثلة لذاتها، فهي تتغير مبدئيا في كل ثقافة، كما يمكن
أن تتباين، ضمن الثقافة الواحدة، حسب أنواعها فالمعرفة العلمية ــــ الطبيعية شيء
والمعرفة الإنسانية شيء آخر، والمعرفة الفلسفية تختلف عن المعرفة العلمية، وكلاهما
يختلفان عن المعرفة الأدبية والإيزوتيرية. ويزداد الأمر تعقيدا وصعوبة في مراحل
الأزمة وتبدل الثقافات، وفي المراحل الانتقالية؛ فالمعرفة هنا، كما تؤكد الباحثة
(س. س تیريتينا) تغدو "غنوصية" و "تأثرية[16]".
فمن جهة القدرة التعبيرية والانفعالية للغة
الأدب لا يمكن بأي حال من الأحوال تبقى رهينة وظيفة الانتظام البنيوي، ذلك أن
النظام مغلّب للبنية الدلالية الشاملة للعمل الأدبي، والجماليات جماليات جزئية ما
يعني أن البنيويون آثروا تغليب عنصر أو وحدات وظيفية جمالية بعينها عن ما عداها من
العناصر أو الوحدات الجمالية الوظيفية الأخرى وهذا مدخل لتغليب الشعور
والأيديولوجيا. وقد " لقيت نظرية "الجشطالت" في التكامل
النفسي اهتماما كبيرا وانعكس صداها في الدراسات الأدبية كذلك على أساس أن نظام
الأعمال لا يعني تعایش عناصرها المختلفة على قدم المساواة وإنما يقتضي سيطرة
مجموعة منها وتحويرها لما عداها، وهذه العناصر المسيطرة هي التي تضمن وحدة العمل
الأدبي وتماسكه وقوامه البنيوي الخاص. ومعنى هذا أن مفکری براغ قد كسروا جدار
الانعزال الجمالي ووسعوا مجال أنشطتهم بحيث تشمل الأعمال الأدبية في مظاهرها
الشاملة الكلية، وترتب على ذلك أن أصبح المضمون الأيديولوجي أو العاطفي مجالا
مشروعا للتحليل النقدي أيضا، على شرط أن يتم تناوله كعنصر في البنية الجمالية،
وبهذا تم استبعاد بعض المبادئ الشكلية المتطرفة؛ مثل خلو الأعمال الأدبية من
الأفكار والمشاعر أو استحالة الوصول إلى نتائج محددة عنها من التحليل النقدي،
وأخذت تتضح مقابل ذلك خصائص الأدب البنائية بإبراز الغموض الذي لا مفر منه في
المقالة الشعرية"[17]، ومن جهة ثانية
الاستدراك الذي قدمه جاكبسون ومن جاء بعده من منظرين بنيويين طرحوا من خلاله مقولة
"استقلالية الوظيفة الجمالية" وهذا يعني أن الأدب بنية جمالية مركبة
لتبقى خاصية أدبية الأدب أو "الشعرية" ليست كل شيء فيه لكنّها تجُب
استراتيجيا كل الخاصيات الأخرى، والباحثون الفرنسيون عندما جاءوا بالمنهج البنيوي
لم يأخذوا في الاعتبار ما تتميّز به اللغات التي ستنتقل نظرياتهم إليهم وإنما
أخذوا في الاعتبار فقط اللغة الفرنسية التي فقدت بلاغتها أو فخامتها الكلاسيكية،
حيث كانت مثل لغتنا العربية غنية في معجمها، تجد للكلمة الواحدة عدة مرادفات، لكل
مرادف سياقه التداولي الخاص، وكانت لغة شعرها شعر راقٍ في عصر الشاعران Pierre
de Ronsard و Joachim du Bellay ونصوصها السردية ذات مستوى رفيع بلاغيا، لكنه مع مجيء العصر
الرومانسي ثم الواقعي فقدت اللغة الفرنسية معجمها وأصبح لغة أدبها كلغة التواصل
اليومي، ومعلوم أن الفقر الاشتقاقي للمفردات ينجر عنه نقص المقدرة على
التعبير والفصاحة، بحيث اعتمد الشعر على فنيات غير بلاغية كأسلوب الإيقاع والتكرار، ولم تعي العائلة اللغوية المتفرعة عن اللاتينية حداثتها
اللغوية تلك التي تنأى عن ميتافزيقية الروحانيات و سحر
البلاغة المرتبط بها، ومازال شذى منه يأتيهم من لدن الشعوب الإسلامية ليشكل
بالنسبة إليها هاجسا لم تعد تطيقه حتى ثارت نهائيا على تلك اللغة بعد مرور نحو قرنين من الزمن حين استبدل
اللسانيون البلاغة بالنص ودلالة النص، وكان مونتسكيو Montesquieu شارل لوي دي سيكوندا (1689ـــ
1755) فقال أن "النقاد جنرالات فاشلون عجزوا عن الاستلاء على بلد فلوثوا
مياهه"، وفي سبعينيات القرن الماضي أصبحت تعرف بالتداوليات النصية، كان
المصير الذي اتجهت اليه البلغة مختلفا. "فمن المعلوم أن ممثلين مرموقين
لفلسفة الأنوار قد اتجهوا بطبيعة خاطر إلى وضع المعادلة الكبرى =
اللاتينية =
اليسوعيين. وكان اهتمام المنظرين الإيديولوجيات والنحاة-الفلاسفة الذين لهم الفضل
في تدشين المؤسسات الجامعية الأولى للجمهورية والإمبراطورية يصب في تقليص البلاغة
وجعلها كملحق للنحو؛ وأتى بعد ذلك فكتور كوزاه Victor Cousin لحذفها من المقررات « الحرب على البلاغة والسلم اتجاه التركيب » قولة
هوجو هاته تلخص جيدا الرأي السائد في زمانه"[18]
من ثمة لا مجال للمقارنة بين اللغة العربية
الغنية بالتنويعات الأسلوبية ذات الصلة بثراء اللغة ومازالت محتفظة بتراثها
البلاغي سردا وشعرا، و بين اللغة الفرنسية التي فقدته وأصبح الأدب الروائي كما الشعري
بسيط ومتاح للجميع، ولعلّ الناقد جابر عصفور يشير بشكل غير مباشر إلى هذه
الإشكالية الجدلية بقوله:" لدينا نوع متميز من الأدب، في الأعوام المائة
الماضية، نطلق عليه «الأدب الحديث» وتميزه عن «الأدب المعاصر» و «المعاصر»، مصطلح
يشير إلى مجرد الزمن أما «الحديث» فيشير إلى الأسلوب والحساسية، و«المعاصرة×،
مصطلح محايد الإشارة، أما «الحداثة» فمصطلح ينطوي على وضع نقدي وحكم معا، ويبدو
الأدب الحديث كما لو كان يقترب الآن، من نهايته، ولكننا لسنا على يقين من ذلك، لأن
هناك نقادا يؤكدون أن الحقبة الحديثة لا يمكن أن تصل إلى نهايتها، بطبيعة مجتمعنا
نفسه"[19]
إن اللغة الفرنسية بتراجع ارثها البلاغي
تناول نقادها الفرنسيون الأدب الفرنسي بساطة جماليات الوحدات الوظيفية بمعزل عن
البلاغة (الحرب على البلاغة والسلم اتجاه التركيب)، أما اللغات والآداب الأخرى
التي لم تفقد هذه الخاصية، فإنه تبقى "ممكنة" من ممكنات التحقق البنيوي
بدمجها وحدة وظيفية جمالية في بنية الشاملة للعمل، بيد أن المغاربة عكس المشارقة
لم يكلّفوا أنفسهم هذا العناء لأنه لم يتمثّلوا* النظرية البنائية كما تمثلها الأدب المصري لكنهم حاكوها أو
استعاروها استعارةً، والخلفية خلفية انبهاريه بالفرنسيين مسنودة بافتقاد الزخم
التراثي الأدب والنقدي يضاهي نظيره المشرقي.
ولعله لمّا كان مصطلح (الشعرية) قد انطلى بالفعل على قدر من جماليات الوظيفة البلاغة والبيان العربي مع محمد أمين العالم وشكري محمد عياد المرفوض عند أوائل البنيويين الذين مهدوا لعلمنة الأدب والنقد ما سينجر عنه عديد الإشكاليات والجدليات أهمها سلطة المادة والانتظام النسقي في البنيوية، المنغلق بالتعالي والقُدسية، فلم يغدو عندئذ مع البنيوية الدرس النقدي الأدبي وحده في موضع الجدل بل المعرفة والفكر برمتهما غدَايَا في خبر كان من التسطح، لأن الأدب (من كونه حاملا جدليا للفكر والمعرفة) سيضعف بضعفه، ولعلّ أفضل مثال على هذا الانحراف سن القاعدة والمبدأ كي يغطي على التسطح هو مفهوم مصطلح "الشعرية" المقصود بها بنية السرد التي تأتي مسكوكة بتظافر عناصره بناءً فنيا جماليا، أما المقصود بالبناء الفني فهو تفضيل الكاتب والناقد عنصر بذاته (أو عناصر) بخصائصه وإدماجه مع المكونات السردية الأخرى بطريقة فنية، وهناك منهم يتجاوز تضليلا جدليا عندما يسميها عنوة خطاب أو بلاغة السرد ومنهم من يعي فداحة التّسمية ويتدارك بقول بدلَها بلاغة السرد الجديد* (المقصود تظافر المكونات البنائية: مثلا شخصية أو بطل متميز بخصائص نفسية، اجتماعية، فكرية يُجليها نسقيا في سياق سردي : كأن يدخل في علاقة بطل راوٍ ويخلخل بنية السرد، يبدأ من نهاية الحدث أومن وسطه وهو ما يُعرف بكسر تسلسل الزمن أو يعتمد على المفارقات الزمنية الوصفية وغيرها، تلك هي بلاغة السرد أو شعرية الخطاب التي إضافةً إلى إبرازها للعلاقات المؤدية لوظيفته تحرص أن تحقق الانسجام والاتساق بفضل الروابط والحقول اللغوية) أما المقصود بالبناء الجمالي فهو ما يشعُر القارئ اتجاهه بلذة جراء تجانس وتناسق هذه الفنيات في كليتها بخاصة إذا كان الموضوع موضوعا عاطفيا أو إنسانيا فيه حب وجسد وقيّم.
هذا، مفهوم الشعرية في التصوُّر
البنيوي السردي، أما في التصور الشكلاني والألسني فهو نفس المفهوم لكن مع مكونات
الجملة؛ من حروف وكلمات ومقاطع الكلمات الصرفية المسماة مورفيمات المشكِّلة فيما
بينها نظاما أو نسقا، وهذا المفهوم للشعرية على مستوى النقد هو مفهوم جاف لأنه
فضلا أنه يهتم بإجراءات الشعرية التجريدية لا ماهية الشعرية بالتالي محاكاتها
تجريديا لا عيشها تجربة من ثمة الحياد عن جوهرها التي هي بلاغة اللغة سواء على
المستوى النقدي أو المستوى الأدبي عندما يصر النقد الشكلي والبنيوي أن البلاغة من
جاهزيات الكتابة السردية. فالسيميوطيقا السردية مثلا تخلص للموضوع العلمي للسيميوطيقا
وهو البحث في المعنى وخاصة شكل المعنى[20]،
ويتوقف (مفهوم الشعرية هذا) عن تفجير أي معنى جمالي ههنا خارج حدود "فنية
البنية السردية" أو "خطابها السردي" أو عند وظيفة النسق ولا
يتعداهما إلى الجمال اللغوي الإبداعي المقصود به بيان اللغة (تنويع معجمي، تقديم
وتأخير، استعارة، تشبيه، جنس وطباق..) وسواء في جزئية العمل أو في كليته، أدبا أو
نقدا، لأنه يبحث في المعنى لا عن المعنى الحامل بين طياته للفكر إذن للمعرفة؛ يسمو
بسموها ويتواضع بتواضعها، ذلك لأن للبلاغة أسبابها العقلية[21].
فجمال المعنى والفكر من جمال اللغة في الأدب؛ فيها وبها، وليس استغناءً عنها لصالح عناصر السرد، والأدب بهذا المفهوم ليس أبدا إفادة معرفية في غير من ثوب من المتعة وإلا تحوّل إلى مدونة تاريخية، والعلاقة الجدلية تكمن في أنه كلما زادت جماليات اللغة بيانا/جمال المعاني زادت الإفادة المعرفية وكان وقعُها في النفس أقوى (كنتيجة نفسية للانشراح الذي تحدثه) وأضحت هذه العلاقة تشكل أدبا وكلما قلّت تلكم الجمالية قلت الفائدة وخرجت العلاقة بين الطرفين اللغة والمعنى رويدا رويدا من فضاء الأدب. صحيح أن المعاني كلها مطروحة مطروقة* حتى بالإشارات وللهجات العامية، بيد أن ما يجعل الفكر في حركة ونشاط هو الخطاب اللغوي الجديد ويا حبذا لو يكون مجسدا للمجردات (مجاز) حينها يكون تحفيزه للذائقة متزامنا مع المعنى، إذن هو هكذا خطاب باللغة لكن في اللغة، وعندما يكون هكذا معنًى رشيقا فيعني مدلولات /إشارات معرفية مكثفة في أقصر وقت ممكن ولعلّ قولنا : "ما أجدرنا أن نعطيه حقه" مثلا، تركيب غريب جديد، أولا يجعل الفكر في نشاط أكثر لفهم المعنى بالنظر إلى أن اسم "الجدارة" كان من المفروض أن يُلصق بضمير المخاطَب "ما أجدره بحقه" وهذا هو المألوف: خطاب سرد، والمعرفة التي يضيفها هذا التركيب هو أن الرجل من المكانة والعلو، وهو ما لم نلتمسه في التركيب المألوف. ولما كان بحر البلاغة في العربية بحر عميق يمتح من بحر التراث الديني والنحوي والسردي معا، لا نعني إجمالا بمفردة بلاغة هذا التبحر، نتيجة لسياق تاريخ ازدهار اللغة العربية مشرقا ومغربا حيث أصل ذلك التراث أعظمه مشرقي وليس مغاربي، بل نعني بها بعض التطبّع (ضمن هذه السياقات الجزائرية الغير ملائمة على التطبّع) المدعوم بالملكة وحب للغة العربية، يدعمه الشعور والتجربة في تأمل القضايا الإنسانية؛ ملكة كهذه تخوّل لصاحبها امتلاك المعجمية العربية، والمعجمية مع السياق اللساني (من كثرة المطالعة والاستماع إلى البلغاء والخطباء العرب) يقدر من خلالهما امتلاك بعضا من البلاغة حين يُحسن اختيار الكلمة المناسبة للمعنى المناسب في بنية الجملة والخطاب المناسبين فهو حينما يقول:" لماذا تصطاد في المياه العكرة؟" فإنه يود القول: لماذا أنت انتهازي؟ وأخشى أن هذا ليس ببلاغة ولا حتى بتطبُّع بقدر ما هو ملكة ومطالعة أما قوله: " المنهج الخليق بطبيعة الأدب" عِوَض "المنهج الملائم لطبيعة الأدب" فهو انتقاء ولو نمّ أولا عن ملكة فإنه ينم أيضا عند اقتران الشعور بالتجربة بالملكة عن بلاغة.
ولهذا لمّا جاء النقد الجديد في شقه الفرنسي
جاء على حسب ما تفرضه طبيعة الأدب الفرنسي، لا طبيعة الأدب العربي، فلا عجب أن
يهتم النقاد البنيويون بالتنظير لمفهوم البنية السردية والشّعرية التي أفضنا فيها
أعلاه، لا مُحتكِمين في نظرياتهم السردية البنائية أو الشعرية نحو الفن والجمال
إلا ما ينبلج من العلاقات البنيوية في نسق انتظامها اطّرادا، في إهمال تام للأسلوب
والتعبير البلاغي، وعندما حذا المغاربة حذوهم في هذا الشأن بالتهليل للمناهج
الشكلانية والبنيوية في سبعينيات القرن الماضي ربّما مستبقين حتى العرب المشارقة (
وقد فعلوا غير مَلُومين لأن أصل هذه لغة إنما جاءت مع الفاتحين، وهل استطاع
الفاتحون أن يورثوها للسكان الأصليين كما هي عندهم؟ فافتقاد المغاربة للغة العربية
الأصل كما هي لدى المشارقة يرجع في أصله كونهم ليسوا أهلها، وهذا افتقاد هوية لا
إمّحائها كما هو الشأن لفرنسا) فظهرت مع "انتهاز الفرصة" هذه أول ما
ظهرت إشكاليات جدلية عدّة، من قبيل بساطة الأدب والنقد المغاربي وتواضع مستواه
الجمالي والفني والمعرفي جدليا كذلك لأن لغته أصبحت متواضعة وأقل مستوى من لغة
التواصل اليومي، لنؤكد على كلمة "انتهاز" ههنا لسد ثغرة
"الافتقاد" لا الإمِّحاء، وقد عايشت هذا "الافتقاد" طويلا
شخصيا تجرُبةً في جامعة الجزائر 2 و 3 أي في قسم اللغة العربية وقسم الإعلام وكان
في جعبتي تجربة سياق منطقة السهوب اللغوي النفسي الاجتماعي قارنت من خلاله سياق
مجتمع قسم اللغة العربية وآدابها بالعاصمة، فوجدت فروقا جوهرية تعود إلى افتقاد
التطبع على العربية في ظل وجود تعدد الألسنة واللهجات، ناهيك أن اللغة العربية
عاشت وضعا تاريخيا طارئا في المغرب العربي عامة و الجزائر خاصة، فكان هذا التحوير
وهذا التمثُّل للنقد الجديد بعواهنه مدروس حسب القاعدة التي تقول الغاية تبرر
الوسيلة، بل أن بعضهم تحايل ومضى بعيدا في هذا التحوير والانحراف لمفاهيم الأدب
والنقد تُخرجُهما عن طبيعتهما، تحويرا يلج معهم إلى دروب الفلسفة والعلوم الأخرى
ودائما عن طريق سن القاعدة أو المبدأ التجريدي وبالاستماتة على تجاوز التجرُبة،
سواء كتجربة لغوية اجتماعية أو تجربة لغوية أدبية، أوليس هناك من محاولة الهروب
إلى الأمام بعيدا عن البنى الكونية الطبيعية سنّة الرب في خلقه التي تضع لزاما
اللغة بإزاء الفكر تقابليا ( لغة ــــ فكر) وجمال معانيها بإزاء سمو ذلك الفكر
(جمال لغة
وسموها ــــ دقة الفكر وسموه)؟، حيث الجدل المادي العقيم. أوليس هناك إِثر هذا
التجاوز جفاف أدب ومنهجه النقدي على السواء، وهو تجاوز أيديولوجي أيديولوجية ثقافة
المادة التي تخلوا من أي معنًى جميل؟ بالتالي لا عقلانية للمنهج المادي هذا إلا في
جدليته التي ترهن التعمق المعرفي. " فالاستعارة والتعبير المجازي عموما
هما قسريان كالتعبير الحقيقي الذي يقول الصوت والمصوّت به بصوت مصوغ من عناصر بنية
ذلك الصوت. فكما أن التعبير الحقيقي يقدم عينة من المعبّر عنه فإن التعبير المجازي
يفعل نفس الفعل حين يلمّح أن هذه العينة وما تشير إليه هما في بنية أخرى غير بنية
المسمى الأصلي. ما الذي يجعل الفكر واصلا بنية ببنية محددة لا بغيرها مع العلم أن
كل بنية في هذا الكون لا تكون إلا بعلاقاتها بسائر البنى الكونية؟ ولهذا السؤال
وجه آخر: ما الذي يحرك الفكر بهذا الاتجاه أو ذاك؟ .. قوة تأثير الواقع وحاجات
الشخص المتأثر بهما تحرك الفكر"[22] قوة الواقع المحسوس لها
علاقة بالأبداع الأدبي والنقدي لأن كلاهما إيهام بذلك الواقع إيهاما عفويا لا
متكلفا، فكما أن التقعر والتكلف هو العدو اللدود للأدب هو كذلك العدو اللدود
للنقد، ما يجعل النقد العلمي هو المستهدف بهذا الحكم أي بالتحديد المناهج
الشكلانية والبنيوية، حيث يقول البنيويون والشكليون أن أي نص أدبي مهما كان قابل
للنقد البنيوي والشكلاني، أي أنهما نقدان لا إبداعيان يقبلان بالتكلُّف والابتداع لا
بالإبداع والعفوية، والعفوية التي نعني أن يقرأ الناقد النص ثم يختار له المنهج
المناسب لا أن يفرض من البداية المنهج على النص فرضا، فكأنها الجاهزية المهيأة (التي
كانت تلصق بالنقد الانطباعي) قد عادت لامتداح هذا النص وقدح ذاك، بعيدا عن ما يأتي
عفويا من إحساس باللذة والمتعة اتجاه العمل الأدبي، فالرصيد اللغوي البلاغي النظري المعتبر قد لا يغني شيئا حين يكون
مدعاة لتكرار المضامين الفكرية في ظل وجود فقر التجربة النفسية المعاشة مع
وللإبداع.
ولعلّ خير مثال
حي على هذا التحايل هو تحوير مفهوم الأدب أو جعله غامضا، لأن الذين لهم علاقة به
أضحوا يفهمونه فهما جدليا خالٍ من الجانب التذوقي المعرفي ) مع نظام LMD ولم أسمع به في النظام القديم لأن
تعريف الأدب حسب رينيه ويليك : " كل شيء قيد الطّبع " هو تنظير
مرحلي أي أبستمولوجيا تاريخية لعلم الأدب تخص ستينيات القرن الماضي وليس تعريف
نهائي مطلق) لأن النظرية "نظرية الأدب" لما تقصّت لنا تعريفا للأدب لقيت
من مشقة التنظير ما لقيت جهدا ومكابدة حتى وصلت إلى تعريف لاقى استحسانا،
وبالضرورة نسخ جميع التعاريف السابقة) فالتعريف الذي مفاده: "الأدب في العصر الحديث أصبح يدل
على معنيين، الأول معنى شامل وعام ويدرج جميع ما يكتب في اللغة من العلوم والآداب
تحت مفهوم الأدب، والثاني معنی خاص ويقصد به أنه لا بد أن يكون الكلام ذا معنى
ويتصف بالجمال والتأثير ليكون أدبا" [ ينظر
مقررات نظرية الأدب في أقسام اللغة العربية بالجزائر] غير مقبول تماما، بل لا بد
أن نقف عند آخر تعريف توقفت عنده نظرية الأدب وهو: " الأدب هو كل كتابة
تنتمي إلى الشعر والرواية والخطبة والمسرحية والقصة القصيرة والتراجيديا والحكمة.
أما الكتابات الأخرى كالتاريخ والفلسفة وغيرها من العلوم فهي خارج إطار الأدب" [ ينظر مقررات نظرية الأدب في أقسام
اللغة العربية بالجزائر].
ونحسب أن هذا التجاوز والتحوير (لمفهوم الأدب
بالذات) محسوب بدقة بالغة في عصر الملتميديا واللغات الأجنبية وعصر التشظي والتشيؤ
المادي لا يخرج عن مقولة المركز والهامش، مركز يبحث له عن موارد و"استثمارات"
جديدة بعد أن تشبعت بلاده ولم تعد تكفيه، مستثمرا في أدوات العصر على حساب الفن و
قيم الجمال الأصيل، من ثمة الخلوص إلى التخلي نهائيا عن جوهره أو جوهر "اللغة
العربية وآدابها"* ألا وهو الإتيان بالبلاغة والبيان، كي يناسب مقاس من يطلب المادة
والشكل بالحفظ لا القيمة والفن والتذوق بالإحساس و بالمجاهدة، وهذا ليتملّص ويسود
ــــ بخداع نفسه والانحراف به إلى الدروب السابقة الذكر المريحة ــــ فالبلاغة
والبيان لا يأتيان إلا في سياق معين أو بالدربة والمشقة، فالمتذوق منشئ لا تعوزه
اللغة، بمقدوره وحده الإحاطة بكل كبيرة وصغيرة تخص النص الإبداعي بينما العكس مع
مُتقن الآليات والإجراءات فقط كتابة ونقدا (النقد الجديد)، إذ ليس بمقدوره إنتاج
إبداعي سواء أدبا كان أو نقدا، فهو يعوزه التحرير والإنشاء السلس لافتقاده
"كتاب المعجم" كما يعوز المصلي كتاب السورة فيلجأ إلى السرقات وهي تكثر
كثيرا عند طلبتنا في القسم المذكور أعلاه في الدراسات العليا والليسانس معا،
ويُعوض عن ذلك بطلب التملق والتزلف أي العاطفة العدو الجدلي للموضوعية، إذن فغموض
مفهوم الوظيفة الجمالية البنيوية غموض مفتعل لحاجة في نفس يعقوب وهو لا يخرج عن
مطبات وإشكاليات استقبال وتطبيق الحداثة وما بعد الحداثة المتعددة ائتلافا واختلافا مع أرضية
غير أرضيتهما، ولعلّ أبرزها ما نحن بصددها من التّعارض الجدلي بين جماليات خطاب
اللغة البلاغي و جماليات خطاب شعرية السرد المرتكز على مفهوم الوحدة الوظيفية وما
ينجر عنهما من نهل للمعرفة كما يقول الطيب بوعزة: ".. كما لا ينبغي أن
نندهش أن هذا التصارع الأيديولوجي على الحداثة معها وضدها يتم دونما تحديد دلالي
للمفهوم، فهل تفسير ذلك أننا ورثنا منذ القديم السفسطة في معركتها ضد السقراطية،
وهي مرتاحة إزاء غموض المفاهيم مُنتعشة بالتباسها وانزياحها الدلالي، لذا لا عجب
أن يحرص الجدل الثقافي العربي الراهن إلى إبقاء المفهوم في التباسه، فقلما نرى
محاولات جادة تنتبه إلى وجوب ضبطه وإيضاح مدلوله أم أن المفهوم نفسه غير قابل
للضبط والإيضاح "[23] ومدار هذا الغموض كله هو
في عدم قدرة العقل البشري على ضبط معنى اللغة كما ضبط شكل اللغة عِلميا وقد جهدت
الدراسات اللسانية الحديثة منذ أن فشل النقد التقليدي وتبعتها الدراسات المعاصرة،
وكلما زادت نسبة محاولات الضبط العلمي زادت معها نسبة الارتياب والغموض (أذكر هنا على المستوى اللساني مفهوم الوظيفة الإحالية
التي أدخلها جاكُبسون على الوظيفة الشعرية ثم اطرادا جاء تشومسكي بمفهوم القواعد
التحويلية التوليدية ثم أوستن بعده بالتداولية، أما على مستوى تحليل الخطاب مازال
المغاربة في حيص بيص من جدل مُشتت للجهد والوقت ــــ لكنه لا مناص منه ــــ بخصوص
سيميائيات أمبرتو إيكو التأويلية بعد أن لم تجدي نفعا سيميائات الدلالة
الجريماسية)، غموض يُفسّر على أنه عدم القدرة على تطويع اللغة
العربية وليس تحديثا (حسب الأستاذ حسن حنفي) عند تلقي هذه المصطلحات والألفاظ
المستحدثة في "الشعرية" بخاصة والحداثة الغربية غير المتداولة عندنا
بصفة عامة، كقول عديد المؤسسات والمنظمات ذات العلاقة بخاصة في المغرب العربي:
الأنسنة والمفهومية والصفات عن طريق الياء والواو كإسلاموي والترقوي وغيرهما، وهي
ألفاظ غير عربية بالمرة، فما زاد الطين بلة حقا هو التمثُّل الذي لم يعي
خصوصية اللغة العربية، " اللغة العربية هي أقدم اللغات التي مازالت تتمتع
بخصائصها من ألفاظ وتراكيب وصرف ونحو وأدب وخيال مع الاستطاعة في التعبير عن مدارك
العلم المختلفة، وهي أبرز خاصية تميزها عن سائر لغات الأرض، ولئن كانت اليونانية
والعبرية لا تزالان حية، وهما أقدم من العربية، فانهما فقدتا كثير من ألفاظهما
وقواعد الصرف والنحو فيهما.."[24]
بينما هو حري بعلاقات خارج النص
الشخصية المتجاوَزة إلى المدح المفرط أن تراجع نفسها وتضحَى كالعلاقات النحوية
الوظيفية البنيوية داخل النص، وهذا ما من شأنه أن يُقوي المهنية والنزاهة العلمية
لأن الأستاذ والطالب يدركان أن علاقتهما لابد أن تجاري النظام البنيوي مستقلة
تماما عن الوقائع الخارجية: الأستاذ بخاصة في نظام الـ LMD يُوصل تلك المعارف المستقلة عن شعوره كما
أوصلوها له، بحيث يجعل ذاته وحدة وظيفية نحوية لا مركزا لعلاقات اجتماعية عاطفية. وهو
انتظام بنيوي علمي ليس إلا لأن للنسق مفهوم البناء الثقافي والاجتماعي كما تقول
أديث كروزويل :" تنوعت التعريفات التي ناقشت مفهوم النسق، فعرفه تالكوت
پارسونز بأنه نظام ينطوي على أفراد مفتعلين تتحدد علاقتهم بعواطفهم وأدوارهم التي
تنبع من الركوز المشتركة والمقررة ثقافيا في إطار هذا النسق وعلى نحو يغدو معه
مفهوم النسق أوسع من مفهوم البناء الاجتماعي"[25]، وخلاصة القول أن الأدب
ونقده هما طلب المشقة والعناء لذا وجب أن تدمج الإبداعية والذوقية مع شعرية السرد
دمجا معقولا لا يؤثر على علميتهما لمحاصرة الجدل والتسطُّح المعرفي (ففي المشرق
العربي واعين في حدود ما بالإشكالية)، ويمكن تشبيه إبعاد الأديب والناقد مغاربيا
للجوانب البلاغية الشعورية في مدونة نقده الجديد المعروف بالمناهج الشكلانية
والبنيوية: بنيوية السرد، السيميائية، والأسلوبية كالزوج الذي يلد من زوجته
بالإخصاب الاصطناعي حتى لَأنهما لا يشعران بلذة إطلاقا، فهما يتناولان أدوية خاصة
(الإجراءات) فيسيلان آليا ويُمدّان الجسم المنوي والبويضة للممرض الذي يقوم
بالباقي، والجيل الجديد جيل في هجنته اللغوية إذن المعرفية، كالدجاج الاصطناعي
تماما، تتركه في مكان تجده فيه لا يفارقه، ولا يتمثل الدجاج الأصيل لطلب معيشته
أبدا. هذا دون الحديث عن نتائج تلك المتعة الفورية على الصفاء الذهني وطاقة الخلق
التي تُبعث في الجسد بعد معايشتها والعكس عند مجرد تخيُلها.
إذن الحل المقارب للإشكالية في نظرنا هو في
دمج الشعرية بمفهوم بنية السرد مع الشعرية حسب مفهوم أدب
المعرفة ونقد المعرفة، بإدخال على عِلمية
الأدب والنقد هذه، تذوق الأدب والنقد، الذي جمالهما
وفنيتهما لا تكتمل إلا بالبلاغة والبيان وحدهما نسبة إلى نسبة (تحدد من
قبل المختصين) "على الرغم من حرص النقاد الكبار على علمية النقد، ومن
رطانة لغته، وولعه بالمصطلحات التي يلابسها الغموض، وقد يشعر المرء أحيانا بهبوط
العزيمة من هذه الرطانة العجيبة التي حاقت بالنقد الأدبي ربما أكثر مما حاقت بأي
نشاط إنساني مماثل آخر، فمن الصعب أحيانا أن نفهم مصطلحات كثير من النقد الأجنبي
وفرضياته"[26]، هذا ما من شأنه أن
يحُد من السرقة والتطفل ويحُد من الاجتزاء والاختزال بما يناسب المقاس في التطبيق،
لكن الذوق لابد أن يكون محدود مقصور على جوانب بعينها أي فقط عندما يُختبر الإجراء
المنهجي فيتعذر عليه أن يأتينا بنتائج، هنا يتدخل الذوق تماما مثل حدوث فجوة تاريخية
في الدراسات التاريخية العلمية، لا مفر لنا غير ملأها باحتمالات راجحة، " ذلك
لأن الذوق وإن يكن من أعمق ملكاتنا البشرية في ادراك مواضع الجمال والقبح إلا أنه
لا يمكن أن يصبح وسيلة مشروعة للمعرفة التي تصح لدى الغير إلا اذا عُلل بأسباب
عقلية وفنية ونفسية تستطيع أن توحي بمثل ما نحس"[27]
بذلك عندما يعمد كاتب القصة أو الرواية إلى شعرية السرد بالمفهوم
الأول يدرك أنه بدون مستوى مقارب للراقي من اللغة لا يمكنه المواصلة، بهذا يخلِّص
نفسه والأدب من التسطح المعرفي أو التطفل على الأدب ونقده. ولكننا لا نقصد بالبيان
الصياغة المسكوكة المحبوكة أشد الحبك على طريقة الأقدمين، بل نتخذ من معلما جديدا
مُوجَهًا، نقطة مركزه هي العشرية التي شهدت ظهور البنيوية وأولى إرهاصات حركة ما
بعد البنيوية (1955 ــ 1966) وهي العشرية بالذات التي واكبها نبوغ نجم الأدب
العربي قصة وشعرا ونقدا مع طه حسين والعقاد وغيرهما كثير، وتلامذتهم مازالوا على
قيد الحياة وأخشى أن جلهم على خلاف عميق مع المدرسة المغاربية في هذا الشأن.
3. جدلية مفهومي
الأنا والآخر، المركز
والهامش
أما الجدل الثقافي الثاني فنقتبسُه من مناهج
ما بعد الحداثة التي تنحو منحى مضموني لا شكلي، كون أولا أن المضمون النظري غير
المضمون العملي، وثانيا الجدل في استمراه (متصور حقيقة) بالتالي رسوخيته الثقافية
المسيطرة على الذهنيات، ديدنه الدفاع عن الهوية المحلية الذات أو "الأنا" بمقارعة "الآخر"
وعولمته الثقافية. أي أننا هنا بصدد الخروج عن المعرفة العقلانية أو الحياد عنها
إلى التسطح من زاوية أيديولوجية الطرح الثقافي الديني، وهي (الجدليات) قد انتفت مع
المسيحية في الغرب أو بالكاد تكاد تنتفي إلا قليل ــــ كما نجده في المدارس
والمذاهب الفكرية المثالية الألمانية الحديثة ــــ أجل، بمعونة الثقافة الدينية
نلج جدل لا يسلك منه إلا هالك تقود إلى مراوحة المكان، وهو مكان التخلف وهو ما
نستشفه ضمن خطابات ما بعد الاستعمار منذ ستينيات القرن الماضي، والتي أضحت متحولة
إلى النيو كولونيالية مع دخول العولمة الثقافية أو الاستعمار الثقافي "
الإمبريالية الجديدة Nouvel
impérialisme "
وهي إذن لا تخرج عن جدليات سابقتها الشكلية، وأكثر ما
يدار حوله الجدل في الإسلام محمود في تصوره وليس مذموما طبقا للقاعدة
الميتافيزيقية الدينية (وحي يقيني : كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه
ولا من خلفه ) طبقا لقوله :
" ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي
أحسن"[28].
و"النيو
كولونيالية" تشير إلى الفترة وهي حقبة رد الاعتبار للثقافة كمكون له
الأهمية الجوهرية القصوى ـــــ وجميع هذه المصطلحات تؤسس لفكر
جدلي أساسه الاختلاف الثقافي (يعني الديني) بين الشعوب وهو الذي عرقل بعضها
عن النهوض فأضحت عالة أو تابعة أو مغلوبة كما يقول ابن خلدون والمغلوب يتبع الغالب
أو يموت، هومي بابا فكّك نظرية ما بعد الاستعمار لإدوارد سعيد من منظور عقلاني
متّسم بالسماحة الهندية المعروفة في هذا الجانب، لا أيديولوجي راديكالي أو رجعي
مقاوم للحداثة الذي تعزز أكثر مع بروز العولمة فامتدت بؤر الهويات المحلية معيدة النظر
في خارطة السلطوية مقاومةً أو تمويها ـــ باستثناء الطرح الاقتصادي الشريف في فترة
ما بعد الاستعمار أو في فترة العولمة الاقتصادية، كون أن التجارة شطارة وهو الذي
من شأنه شئنا أم أبينا أن يرسم تراتبية سياسية مشكلة من مركز وهامش بالضرورة (أو
حتى طبقية على المستوى الاجتماعي) وأخشى أن هذا الطرح هو الذي من خلاله ضلّ أدونيس
ومعظم الحداثيين حتى بوجدرة إلى حد ما ينقدون به المستعمِر لا شيء آخر، " أن
تقرأ هومی بابا يعني أن تتورط في ذلك المنظور ما بعد الكولونيالي، أو الأقلّوي، أو
المهاجر الذي تعاد منه كتابة تاريخ الحداثة. فما يراه هومي بابا هو أن تواريخ
الكولونيالية، والاستعباد، والاستغلال، والتمييز الجنسي، والاضطهاد، والتراتب
الطبقي(..) لا تتكلم عن شعوب أو طبقات أو مناطق بعينها مرتبطة بهذه التواریخ، بل
تتكلم عن التباينات الاجتماعية المشكلة للحداثة، تتكلم عن يومي الحداثة. وما
يساعدنا عليه المنظور ما بعد الكولونيالي، أو الأقلوی، هو التفكير في تلك الطرائق
التي يفصح من خلالها عن التراتبيات الاجتماعية وتفاوضاتها ضمن الحداثة. بل إن بابا
يساجل بمعنی ما ضد القول بأن الخطاب ما بعد الكولونيالي هو شكل من أشكال ما بعد
الحداثة، ذلك أن اهتمامه منصب أكثر على إعادة التفكير بجينالوجيا الحداثة، ضد
التيار. فسؤال بابا هو: ما الحداثة بالنسبة لأولئك الذين هم جزء من أداتها وحكمها،
لكنهم لأسباب تتعلق بالعرق، أو الجنس، أو الموقع الاقتصادي الاجتماعي تم إقصاؤهم
عن معايير عقلانيتها أو وصفتها الخاصة بالتقدم فراحوا يعيشون بخلاف الحداثة إنما
ليس خارجها؟ وسؤال بابا هو: ما أشكال الهوية والفاعلية التي تبزغ من أكدار الحداثة
ومنغصاتها وضروب قلقها؟"[29]
إن فهمنا
للانتظام البنيوي للنص الأدبي فهما تجريديا لا شعوريا سيحيلنا لا محال إلى التمييز
بين تنظيم/بنية الأفكار والأخيلة النصية المجردة وتنظيم/بنية الواقع المحسوس الذي
هو انتظام أساسه قيم اجتماعية ذاتية فعلى سبيل المثال الأستاذ يميل (ثقافيا) إلى
من يمدحه فيزيغ عن المهنية العلمية وهذا تناقض أو عدمية ونسبية في منطق اشتغال
البنيوية في ظل هذه الإحالة إلى الثقافة كمكون إنساني مشترك داخل النص أو خارجه،
ذلك أن "البنيوية رأت بأن الثقافة الإنسانية يمكن فهمها عن طريق الوسائل
البنيوية على غرار اللغة (بنيوية اللغة) والتي يمكن أن تميز بين تنظيم الواقع وتنظيم
الأفكار والخيال"[30]! ولعلّ التقسيمات بين
محلية الهوية الثقافية والهويات الأخرى أو المُعَوْلمة الهوية الثقافية، لِتُحدد
إطارا منظوماتيا مبرزا أنساقه الثقافية في انسجامه مع منطقية الفكر الإنساني في
كليته، المرتكز على بنية وظائفية مشر عِنة ومؤسِسة لسُنّة التعدد والاختلاف هي
تقسيمات أو تمييزات بنيوية تثير هذا الإشكال أو هذا التناقض عن قصد أو عن غير قصد،
حين تتشاكل الثقافة بمفهومها الجديد بتعرُّض الأصالة لمواجهة جدلية مع ثقافة
الآخر؛ كثقافة مركز إمبريالي لها من يتمثّلها محليا، حيث البطل المُنتمي إلى دول
متخلفة لا يكف على محاكاة ثقافة الآخر للوقوف في وجه الأصولي وكل أيديولوجيا
إقصائية؟ وهو لا يختلف في نظرته للاستعمار نظرة سياسية لا ثقافية، أين "
تعترض المقاربة ما بعد الاستعمارية على المركزية الأوربية أو
الغربية، إلا أنها هي ذاتها متمركزة حول أوروبا والغرب، وإن من موقع اللوم
والتأثيم. وهو ما كان مناسباً على الدوام لنخب قومية ودينية و«أصلانية*» متنوعة،
تجد في عزل مجتمعاتها عن العالم الشرط الأمثل للتحكم بها"[31]. ثم أن الإنتلجينسيا لما وجدت نفسها مهمشة ماديا من
قبل السلطة أي غير مشاركة في إنتاج المادة هامت في مثاليتها الفكرية تعويضا مع
الطبقة المهمشة فوجدت نفسها تلعب دور وسيط بيروقراطي ثم محاولة التكلم بدل
الجماهير في الفكر الغربي بذلك وقعت في وضعية غامضة ففي الحالة الأول واقعة كطبقة
مستفيدة مضطهَدة ضمن معسكر المضطهِدين ولما وقعت جدليا في تهميش الجماهير/الآخر
الذي لا بد يتكلم عن نفسه بنفسه، فإن الإنتلجينسيا من هذا الجانب بينهم طبعا
أساتذة التعليم العالي ملكوا سلطة أيديولوجية الدولة لمّا كانوا مسيّرين لمؤسستها
أو جهازها ويسميهم عبد العزيز حمودة نخبة النخبة، "فالمثقفون
الذين يقال عنهم أنهم أقدر الناس على رفض وعلى تعرية الأوهام، هم أيضا أكثر قابلية
لتصديقها وتوليدها وأكثر قابلية للدغمائية المذهبية وللاستهام الأيديولوجي، بل إن للمجال
الثقافي أوهامه الخاصة حيث يميل المثقفون، ربما أكثر من أية فئة اجتماعية أخرى
يحكمها الميكانيزم نفسه ـــــ إلى إضفاء جميع صفات القدسية والكاريزمية والفعالية
على وظيفتهم وعلى دورهم الاجتماعي(..) وتتضاعف المأساة حين يتعلق الأمر بمجتمع
متخلف وتابع، مجتمع تتضاءل فيه أهمية المثقف وينحط وضعه، فترى المثقفين يتنابزون
بالألقاب ويقفزون بهلوانيا على المنابر، ويتصارعون على الوصفات الفكرية والثقافية،
ويتفننون في إبداع الغريب من الأشكال والرموز"[32]
ثم أن مفهوم المركز القوي الذي يستقوي على الهامشي
الضعيف، إن على جميع المستويات، مفهوم جدلي نسبي هو من منظور
حداثي عقلاني كنسبية مفهوم "الدال" أو الصورة السمعية للكلمة
التي لا تنطوي على أية إشارة أو إحالة إلى مضمون "المدلول" بالنسبة للذي
لم يعاشر المجموعة أما من عاشر المجموعة فتحيله مباشرة إلى مضمون من جهة، و مفهوم
نسبي من نتاج فلسفة ما بعد الحداثة* في تجزيئ العقلانية من جهة ثانية، التي
تنظر إلى الأشياء نظرة ذاتية تمتزج مع العنصرية والأنانية؛ ففي الأسرة الواحدة
نلمس عدة مركزيات وعدة هوامش و في الحي الواحد ، وفي المغرب العربي تدّعي المغرب
أن الجزائر تخضعها للتهميش كمركز قوة إقليمية ونفس الشيء تدعيه الجزائر ضد مصر على
المستوى القومي العربي، فمقولة فرانس فانون " معذبو الأرض" الموجهة
للاستعمار أضحت المقولة المفضلة لجميع المعارضات والأقليات المواجهة لأنظمتها
الغير الديمقراطية بل حتى الأفراد المظلومين، ولعل أوضح تجل لانعكاس خطاب ما بعد
الاستعمار نتيجة ميتافيزيقية أصحابه ولا عقلنيتهم الأنموذج الفلسطيني في صراعه
المرير مع إسرائيل ومن وراءها المجتمع الدولي حيث " الثائر
اليساري العلماني يُسحق، والثائر الإسلامي يُسحق أيضاً، والوطني الفلسطيني الذي
يعمل من أجل فلسطين بالسياسة يسحق مثل ذلك الذي يناضل من أجلها بالسلاح"
[33]، فالمدار كله مدار هجنة ثقافية حسب هومي بابا، مترتب عن
الاقتراب الأنطولوجي للإنسان الذي امتلك ناصية العلم في عالم شعر فيه بالحاجة
للتكتل من أجل إيجاد مخارج للمشاكل التي تتهدّدُه، لعلّ من تلك المخارج عولمة
الثقافة وليس مدار أيديولوجيات دينية ثقافية يسعى الآخر المتقدم لفرضها على "الأنا"
المتخلف، فيسعى "الأنا" لمواجهتها برفع شعار "صفاء الهوية
الثقافية" ضد عنصرية الإمبريالية، ذلك أن العنصرية والأخلاقيات مفهومان
جدليان ( لماذا نقول عن الغرب أنه منحل متفسخ أخلاقيا مدام ذلك الانحلال بين قوسين
له دور لا يستهل به في تفوقه الحضاري، فالانحلال هنا ما هو إلا فهم أو تصور جدلي
إذ هو بمثابة قفا الوجه الذي يظهر قوة الغرب، أي أنه من قوته وليس من ضعفه)
والعنصرية كذلك، " إنتاج العنصرية يعمل أولاً على المستوى
الاجتماعي الصغير من التفاعلات اليومية والخطاب والإدراك الاجتماعي أعضاء المجموعة
الفردية، ثانيا هذا "الوقائع" الجزئية للعنصرية "تنفذ"
الهياكل والعمليات الشاملة للهيمنة وعدم المساواة على المستويين المتوسط والكلي
للمجموعات، والتكوينات الاجتماعية، والأحياء، المؤسسات والمنظمات وحتى الدول
والعالم بأسره. في الوقت نفسه، دراسة الترابط بين البنية الكلية للعنصرية تتطلب تحليل العلاقات بين
الإدراك والفعل، أي على المستوى الجزئي، بين عقلية نماذج أعضاء المجموعة
وممارساتهم، وعلى المستوى الكلي، بين مواقف وإيديولوجيات المجموعة الاجتماعية من
ناحية، والمجتمعية من ناحية أخرى"[34]
ولعلّه
هناك بعض الحجج الدامغة على تحول هذا المفهوم إلى مفهوم إمبريالي جديد ( ثقافي
مؤسساتي)* وهو ملتبس بنسبيته، كما الشخص الثابت
في سيارته يرى الذي على الطريق متحركا، والعكس الذي على الطريق يرى نفسه متحركا
بينما الذي في السيارة متحركا، "والمسلمة الأساسية التي
تنهض عليها هذه النظرية تجعل لمبدأ النسبية اليد العليا، لأنه تبعا لهذه المسلمة
فإن أي ملاحظ للظواهر إنما يوجد في نطاق معين من نطاقات الزمان والمكان ؛ ومن ثم
فإن إدراكات هذا الملاحظ لا يتعين أن تكون صحيحة ، بشكل محكمي مطلق"[35]، ولعلّ نضال الحركة النسوية في دول العالم الثالث من
أجل عزتها وكرامتها أكثر من نضالها في العالم المتقدم فدليل أنها ممارسة جدلية
خالية من النتائج الإيجابية، لأن عزة المرأة وكرامتها من كرامة الإنسان ككل، عندما
يكون الإنسان لدى هذه الشعوب غير مكرّم ولا معزّز فلِما وجع الراس ليل نهار؟ وعلى
هذا فإن نظرية ما بعد الاستعمار لا تعنى بعلاقات الاضطهاد بين شمال وجنوب أو بين
مستعمَر سابق و مستعمِر سابق وإنما تعنى بالعلاقات بصفة عامة حسب دوغلاس روبنسون: " وتشير صفة ما بعد الكولونيالية
إلى نظرتنا في أواخر القرن العشرين إلى القوة السياسية و الثقافية التي كانت تطبع
العلاقات، أما الفترة التاريخية التي تغطيها فهي التاريخ كله"[36]
وجوهر تلك العلاقات يكمن في جدلية منطق
التفكير البشري حيث العقلانية ترفض الميتافيزيقيا التي في صورة علاقات أيديولوجية
دينية ـــ ثقافة ـــ ( ولا ترفضها إذا كانت خاصة فردية بين العبد وربه وهو غير
مميّز بينه وبين غيره بتلك العلاقة إلاّ يوم القيامة[37]) لأنه حينئذ ستكون أصل خطاب ما بعد الاستعمار
كله؛ علاقات تدخل في إطار جدل فكري بين المادة/العلم و بين الروح/ الميتافيزيقيا والنموذج
هو الشعر الجاهلي عندما قال كل شيء عن الطبيعة بحرية مطلقة صنع فكرا عميقا عن ما
وراء الطبيعة جدليا، فالعنصرية النسبية التي يرى المسلمين أنها سُلِّطت عليهم من
قبل المركزية الأوروبية لا وجود لها إلا في مخيلتهم بل هي اصطناع
"الآخر" من خلال تجاوز "الذات" لحدودها؛ فما كان من هو مُتصور
أنه آخر إلا الرّد في شكل مُحاولة للتخلص من عنصرية الميتافيزيقيا التي حملها
الإسلام لهم وللشعوب "الكافرة"، بتحريرهم مما هم فيه من رسوخية ثقافية
أو على الأقل تثقيفهم بحوار عقلاني مفضي إلى الندية والتجريب لانزعة التقوقع، ذلك
أنّ العقلانية هي الحضارة والمنهج الثقافي الأعلى المحيط بكل ثقافة أو ميتافيزيقيا
(أيديولوجيا ضيقة)، وفي حوارها مع الآخر دون خوف تبلور لخصوصيتها الثقافية الكونية
كما يقول حسين المناصرة:" يمكن تعميق الخصوصية من خلال العالمية كثقافة
معاصرة تعني التواصل وضرورة المثاقفة الندية أولا وأخيرا.. وعموما فإن المغامرة
فعل تجريبي.. والأخطاء وسيلة ضرورية للتعلم.. والآخر شريك في إعادة إنتاج اللغة
إبداعية كانت أم نقدية.."[38]
ولعل
الاستعلاء عليهم (على غير المسلمين) في عدم الزواج منهم وعدم التولية منهم تاريخيا
مثلاً إذا قرأناه من زاوية حداثية فهو عنصرية وأيديولوجيا تحمل في بذورها فناءها
الحتمي ( ليس بالانكفاء عن التنافس الشريف، لكن بالإصرار على العصبية والإقصاء
والتهميش والتقوقع بالذات عن الآخر باعتباره دنسا، بالاستجابة للحوار معه لكن
بمنطق حوار الطرشان، التعالي بإطلاقيه ميتافيزيقية علوية تامة)، وإذا قرأناه من
زاوية ما بعد حداثية فهي العقلانية الأهش عقلانيةً من جميع عقلانيات ما بعد
الحداثة؛ فالغرب قد اصطدم تاريخيا بالحضارة الإسلامية طوال مسار حركة تقدمه كونها
كانت اقرب جغرافيا مُدركا أن التنوير والحداثة لا تفيد معها في شيء بل أنها تقوي
تبعيتها إليه، بينما يمكن لمبادئ ما بعد الحداثة أن تعود عليها بالفائدة ، خصائص
ما بعد الحداثة أنها حركة فكرية تعطي الأولوية لانشطار الهويات لإعادة نقد وبناء
نفسها بنفسها فأساس مفهوم الهوية تحول إلى الحركة لا الثبات، الاستعمار الفرنسي
للجزائر استقبل وتبنّى مؤخرا مفاهيم التحرر التي تناوئ الإمبريالية جدليا وصار
يعترف بتعذيب الجزائريين في الحقبة الاستعمارية ويعترف بأن ممارسته كانت ممارسة
اضطهاديه عنصرية، وهذا بفضل العولمة الثقافية التي تتيح التلاقح والتشارك وبناء
العلاقة مع الآخر :" إن هذه الإشكالية هي أحد وجوه
أزمتنا الذاتية، التي لا حل لها سوى تجاوز النظرة الضيقة التي ترى الحداثة الغربية
من خلال ثنائية الأنا والآخر المعتدي، فعلينا أن نمارس هويتنا واختلافنا بشكل،
نعيد فيه ترتيب العلاقة مع ذواتنا ومع الآخر، أي أن نغير موقفنا منهما معا"[39]
، كما تعطي الأولوية لتجزِئة العقل إلى
عدة عقول وفق مبدأ الانشطار والتفكك لتكون لكل حضارة عقلها الخاص، من ثمة إعادة
البناء الذاتي لها، وإلّا ما كان الغرب ليترك
العرب وبكل ديمقراطية يتعلمون في جامعاتهم و مؤسساتهم الثقافية، ليأسسوا لمنهج
يهاجمونه فيه و يصفونه على ما دار أكثر من نصف قرن بأوصاف ليست موجودة
فيه أصلا؟ و لو كنا نحن "الشرق" في محل "الغرب" أكنا نقبل
بذلك؟
ولعلّ الصورة الماثلة للفكر التي توضح التضارب الجدلي
المثبط لأي تقدم معرفي في خطاب ما بعد الاستعمار هو نقد هذا الخطاب ثقافيا، ضمن
منظومة تنطلي على اتجاهين مؤيد ومناهض للإمبريالية الجديدة، وهي الإمبريالية
الثقافية، ولعل رشيد بوجدرة يقف موقفا منتقيا في مناهضته للإمبريالية الثقافية،
فهو الشخصية الأكثر جدلا في الرواية الجزائرية الراهنة، بخاصة مع أنداده
الكلاسيكيين الطاهر وطار، تجعله في منعة عن الاضطهاد العرقي أن صح التعبير
بمسؤولية وجودية؛ الوجودية لا تدعوا إلى الحرية
المطلقة الشبيهة بالفوضى، بل ترتب عليها ضرورة تحمل المسؤولية والالتزام، ولعل
روايته تيميمون من حيث هي رواية خطاب ما بعد الاستعمار تُلمح نوع من الالتزام الذي
يتخذ له هدفا أساسيا كموقف أخلاقي واجتماعي محدد. من ذلك تمثُّله خطاب الآخر/ الهم عن
"الأنا"/ نحن من منظور خطاب عن نحن / الأنا لا منتمي، أو يأخذ من كل
ثقافة ما يفده ليتجاوز عقبات ثقافية عدة أهمها التعاطي مع الخطاب السلفي والجنس في
الرواية بحرية. صحيح أن بوجدرة بدأ الكتابة يساريا لكن مع التغيرات الحاصلة عالميا
وإقليميا ومحليا أصبح يساريا تقدميا ليبراليا وهذا بإلباس مضامينه الروائية شكلها
المناسب، وهو ما يقول به الناقد محمد بوشحيط[40]، إذّاك أمكن
قراءة خطاب روايته تيميمون مثلا قراءة نيو كولونيالية، وتكييف تعريف دوغلاس
روبنسون لخطاب ما بعد الاستعمار وفق التغيرات التي طرأت على مفهوم الهوية والذات
والآخر في ظل العولمة الثقافية،
"لتشير صفة "نيو كولونياية" عندئذ إلى نظرتنا مع بداية القرن
الواحد والعشرين إلى القوة السياسية والثقافية التي كانت تطبع العلاقات،
أما الفترة التاريخية التي تغطيها فهي التاريخ كله"[41].
خاتمة
بعد هذه الإطلالة المختزلة لا ضير في أن
يكون التخلف المعرفي الاجتماعي ــ الفكري عنوان من قضى من عمره مسيرة نصف قرن أو
أكثر هو يجادل آخره ويحاوره محاورة الطرشان؛ نحن لنا تقاليدنا وأنتم لكم تقاليدكم،
نحن لنا هويتنا وتاريخنا اللغوي المغاربي المميز الذي لا يشبه تاريخ اللغة العربية
المشرقي/ تعالي عنصري، ولنا المناهج الشكلانية والبنيوية التي استقيناها من مَعِين
يعرفنا ونعرفه. وهل كنتم فرنسيون أو أمازيغ منذ القرون الوسطى فتحولتم إلى عرب
فجأة في أواخر القرن العشرين؟! وهل العلم لم يتحول في حياضكم المعرفي
وفي حاضناتكم المعرفية أيضا إلى أيديولوجيا طيعة. إن رسوخية العلم في ثباته
العقلاني لا في مطواعيته للثقافة والأيديولوجية، إنها تبريرات تنم عن السقوط في فخ
الجدليات الثقافية المثبطة للفكر المضللة له، فمنطق الآخر العِلمي أنبنى على العقل
لذا كانت معارفه بمنأى الجدل أما منطق الأنا (الذي صنعناه بأنفسنا) فأنبنى على
أيديولوجيا حوّرت العلم عن أهدافه إلى الجدل الذي لا طائل منه، لمّا لم يكن مسنودا
بالعقلانية.
أدب المعرفة/ نقد المعرفة هو في علاقة جدلية بعلمنة الأدب/ علمنة النقد
عندنا لأنه لا يُكتسب أيديولوجيا ( أعطيني ــ أعطيك) وهذه خاصيته التي تميّزه عن
باقي العلوم، بل يُكتسب في وفاق ووفاء تام للذات اللغوية مع نفسها، إذن
وفقط إذن مع الآخر، إذْ الآخر هو عالمها المعرفي الذي تتحرّك إليه لمّا
كانت تشتغل باللغة وفي اللغة كانت بالضرورة تنتظم وفق سيرورة المبدأ أو القانون
الكوني "كن في انسجام مع الطبيعة". هذه ليست فلسفة هايدجر الوجودية
لكنها تجربة الذات اللغوية مع الآخر التجريدي الذي هو القسم المذكور
أعلاه.
بعد هذه
الرحلة الأبستمولوجية في حركة تطور المناهج النقدية البنيوية ولوجا إلى حلقة
البنية المغلقة ثم محاولات الخروج من مأزقها، لا يسع الفكر إلا ملاحظة مدى
مقاربتها كمناهج شكلية مادية لمتاهات الجدل الثقافي (وإليك البنيوية السردية كيف
انتهت مع بارت إلى الرموز والطقوس الثقافية، والسيمياء بدأت بنسقية العلامة بين
الدال والمدلول ثم تطورت إلى سيمياء الدلالة لتنتهي إلى سياقية العلامة أو سيمياء
الثقافة)، ذلك أن مدار اللغة الحامل للأدب والمعرفة من طبيعة ثقافية. لا تستوي
اللغة إلا بالتحام ما هو نفسي مع ما هو فيزيقي مادي؛ ذات طبيعة إدراكية وجدانية
تلعب فيها العادة دورا في إضفاء المعاني وصياغة الأفكار والمعتقدات. ومع ذلك ما
زال من يقول عندنا وبشيمة عصبية بالأيديولوجيا في الأدب ونقده (العصبية التي تثير
عصبية مقابلة لولا رحمة العقل) وعندما تقول الفئة المقابلة لها لا، ترد عليها إذن
الأدب ونقده هذا علامة اللهو و هوى النفس! فالجدل
المحتدم في اللغة والأدب يرجع بنا إلى طبيعتهما الوجدانية العقلية معا وهي
من طبيعة الإنسان، فما خلقه الله بعقل إلا كي يعرف ما هو من طبيعته (إذن طبيعة
الخالق) وما هو من طبيعة البشر (الأيديولوجيا).
*. باحث في النقد الثقافي، الجزائر.
[1] . دون اسم مؤلف) 25/3/2013 (، المعرفة، العنوان : https://www.marefa.org/معرفة .
[2] . سورة طه، الآية 27.
[4] .
حسين، مناصرة، ثقافة المنهج الخطاب الروائي نموذجا، ط1، حلب:
دار المقدسية، 1999، ص12.
[5] . دون اسم مؤلف(2020) ، معنى
الجدل والمراء لغةً واصطلاحًا، العنوان : https://dorar.net/akhlaq/1949/ معنى-الجدل-والمراء-لغة-واصطلاحا .
[6] . جان، موكاروفسكي،
اللغة المعيارية واللغة الشعرية، فصول، المجلد الخامس، العدد الأول، 1984 ، ص38ــــ39.
[7] . بيل أشكروفت وآخرون، دراسات ما بعد الكولونيالية المفاهيم الرئيسية، ط1، القاهرة: المشروع القومي للترجمة ، 2010، ص199.
[8] . المرجع نفسه، ص199.
[9] . رياض، عثمان، العربية بين السليقة والتقعيد
دراسة لسانية، بيروت: دار الكتب العلمية، دت، ص86.
[10] . علي الحبيب، الفريوي، مارتن هايدغر الفن والحقيقة،
أو الإنهاء الفينومينولوجي للميتافيزيقا، ط1، بيروت: دار الفارابي 2008، ص41.
[11] . بسمة، بلحاج، وآخرون، مقالات في تحليل الخطاب تقديم حمادي صمود،
جامعة منوبة: 2008، ص4.
[12] . زروقي، عبد القادر، شعرية الخطاب بين احتمالية الانفعال وحقيقة
التشكيل، علامات، مجلد 18، العدد 71، نوفمبر 2010، ص327.
[13] .لورنس،هاريزون، صامويل،هنتنجتون، الثقافات وقيّم التقدم، ط2، القاهرة: المركز القومي
للترجمة، 2009، ص9.
[14] . صلاح، فضل، نظرية البنائية في النقد الأدبي، ط1، القاهرة : دار
الشروق، 1998، ص43ـــ44.
* . " بأن أية قواعد
تعطي لكل جملة في اللغة تركيبة باطنية وتركيبة ظاهرية وتربط بين التركيبين بنظام
خاص يمكن أن تكون قواعد تحويلية ولو لم تصف نفسها بهذا الوصف " ينظر محمد، علي الخولي، قواعد تحويلية للغة العربية، الأردن: دار الفلاح للنشر والتوزيع،
1999، ص6.
[15] . Oswal Ducrot, T.Todorov,Dictionnaire Encyclopédique des
Sciences de la Langue, Paris: Edition de Seuil,1972, p42.
[16] . فاديم، روزين،
التفكير والإبداع، دمشق: الهيئة العامة السورية للكتاب، 2011، ص5.
[17] . صلاح، فضل، النظرية البنائية في النقد الأدبي، ص84.
[18] . فرانسوا، راستيي، فنون النص وعلومه، تر: إدريس الخطاب، ط1،
الدار البيضاء: دار توبقال، 2010، ص170.
[19] . جابر، عصفور، الخيال الأسلوب الحداثة، ط2، القاهرة: المركز
القومي للترجمة، 2009، ص219ــــ220.
* . التمثُّل لا يعني التقليد والنقل الحرفي لِإعادة إنتاج ما هو
موجود عند الغير بل أخذه كمثال متمم لما هو أصلي وأصيل لدى الإنسان/ الباحث،
ويستطيع أن يبني عليه لإنتاج شيء جديد خاص به هو لا خاص بالمتمثّل به.
* . ويجعلها الناقد البنيوي محمد العمري في كتابه "البلاغة
الجديدة بين التخييل والتداول" هي السخرية الأدبية والسيرة الذاتية وإقناع
المركز للهامش أو العكس والتحويل الحكائي للاستعارة لتصبح أسطورة.
[20] .
عبد المجيد، نوسي، التحليل السيميائي للخطاب الروائي، الدار البيضاء: المدارس، د.ت،
ص7.
[21] . حلمي، علي مرزوق، في فلسفة البلاغة العربية (علم المعاني)، مكتبة
الإسكندرية: 1999، ص12.
* . المعاني مبذولة يعرفها العربي والعجمي وأمّا المعوّل عليه في
البلاغة فاللفظ. ينظر محمد زغلول سلام،
مغاني المعاني، الإسكندرية: منشأة المعارف بالإسكندرية، د ت، ص13.
[22] . نعيم، علوية، بحوث لسانية بين نحو اللسان ونحو الفكر، ط2، بيروت:
المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع 1986، ص266ــــ267.
* . "اللغة العربية وآدابها" مجال معرفي خصب ومنتج للفكر
والمعرفة صنو علوم الفلسفة لذا ترى غالبية المفكرين في العالم ينحدرون من هذين
التخصصين. لأن عموده الفقري الجوهري الذي تدور جميع عناصر هويته الأخرى المتحركة
حوله هو الإبداعية Créativité وهو بالذات
البلاغة والبيان والبديع وهو ينقسم إلى: دراسات اللغة، النقد لغويا كان أو أدبيا
والأدب بنوعيه النثري والشعري، أصبح كثير ممن يلجونه، يلجونه تبعا لعناصر هويته
المتحركة كالنقد الجديد، لا للعلاقة الجوهرية التي ينبغي أن تكون بين إبداعيته و
فسحة النقد الممتدة فيه (اللغوية والألسنية، الأدبية والثقافية ..) والنقد يتبع
الشعر والأدب في درجة الإبداعية، وعندما انفصل عن الأدب في القرن الرابع الهجري
سمي بعلم البلاغة مرة، وبعلم البيان مرة أخرى، وعلم البديع مرة ثالثة ( ينظر طه
حسين وآخرون، التوجيه الأدبي، ص10.) ولذا هؤلاء الكثير المنتسبين إليه ليس فيهم
إلا القليل من ينتجون فيه به معرفة وفكرا لا جدليان.
[23] . الطيب، بوعزة (20/06/2020)، الحداثة نحو مقاربة دلالية سوسيو ــ تاريخية،
العنوان: https://www.facebook.com/watch/?v=327671198263744
[24] .
رياض، عثمان، العربية بين السليقة والتقعيد دراسة لسانية، ص86.
[25] . أدي، كروزويل، عصر البنيوية، ط1، الكويت:
دار سعاد الصباح،1993 ، ص411.
[26] . رينيه، ويليك، مفاهيم نقدية، عالم المعرفة، العدد
110، فبراير 1987، ص451.
[27] . مجاهد، عبد المنعم مجاهد، جدل النقد وعلم الجمال، القاهرة: دار
الثقافة للنشر والتوزيع 1997، ص13.
[28] . سورة النحل، الآية 125.
[29] . هومي ك. بابا، موقع
الثقافة، ط1، القاهرة: المشروع القومي للترجمة، 2004، ص10.
[30] .
دون اسم مؤلف (29/12/2020)، ما بعد البنيوية، ويكيبيديا، https://ar.wikipedia.org/wiki/
* . لقد ظلّ دعاة الأصالة من السلفيين يركّزون كل همهم على السعي إلى تحقيق المثل الأعلى
الذي يرومونه، لكن هذا المثل الأعلى غير موجود
الآن في الواقع، ولا يتمثل بأي من الأنظمة التي
تسمّي نفسها إسلامية. كما أنه من جهة أخرى، غير قابل للتحقيق.
وإذا كان ما هو مطلوب فهم مسألة الأصالة فهما عصريا مستوعبا
ومتجاوزا للإشكاليات التي واجهت الفكر السياسي العربي على امتداد القرن الماضي،
فلا بد من وجهة نظرنا أن تستبدل بمفهوم آخر هو مفهوم
الخصوصية، التي تشكل الثقافة عماد لحمتها الحية المتجددة على الدوام بالنسبة إلى أي شعب
وأمة. ينظر حبيب حداد، محنة الصراع بين الأصالة والمعاصرة
في المجتمعات العربية، المستقبل العربي، المجلد 38، العدد 438 ، أغسطس2015
، ص119.
[31] . ياسين، الحاج صالح ( 29/11/2016)، جمهورية نت،
ما بعد الاستعمار؟ ما بعد الاستبداد؟ أم ما بعد الديموقراطية؟، https://www.aljumhuriya.net/ar/36246 .
[32] . محمد، سبيلا، مدارات الحداثة، ط1، بيروت: الشبكة العربية للأبحاث
والنشر، 2009، ص87.
* . نحسب أن اسم هذا
المفهوم هو النيو كوليانية: العلاقات البشرية التي مازال ينظر إليها أنها من
مخلّفات الإرث الاستعماري في ظل مرحلة العولمة الثقافية.
[33]. المرجع نفسه.
* . والتي
تعود أصولها بالأساس إلى مرحلة الصراع الأيديولوجي لكن كانت مضمرة آنذاك حينما
جُعلت الثقافة الدينية من قبل المسلمين معيارا للتعامل مع البشر المفارقين
"كفارا" فأوجدوا مفهوم الآخر دون وعي منهم وهذا التعامل بدا للآخر أنه
ازدراء وعنصرية في كثير من الأحيان، وحينما أرادوا مثلا أن يكون لهم حقوق الأغلبية
في ميانمار وهم مجرّد أقلية من منطق أن المسلمين أفضل من الوثنيين، وهذا ما لم
يتجرعه أهل البلد الأصليين التي تمثل الأغلبية فردوا عليهم نظرة احتقار بالمثل.
[35]. جوتي م. جونسون، النظرية النسبية في الأدب الحديث، فصول، المجلد
6، العدد 3، ربيع 1976، ص77.
[36]. دوغلاس، روبنسون، الترجمة والإمبراطورية: الدراسات ما بعد الكولونيالية دراسات الترجمة،
نزوى، العدد45، يناير 2006، ص46.
[37].
يورغن، هابرماس، جوزف راتسنغر، جدلية العلمنة العقل
والدين، ط1، بيروت: جداول للنشر والتوزيع 2013، ص23. ينظر أيضا فريديريك، هيجل،
الأعمال الكاملة محاضرات فلسفة الدين، الحلقة الرابعة ديانة الطبيعة وديانة
الحرية، القاهرة: دار الكلمة، 2003، ص13 :" أن
تأتي الأشكال الرئيسية (لوحدة الوجود) عندما ظهرت وحدة الوجود هذه فيما بعد بالفعل
كديانة لايزال داخل مجال المبدأ نفسه هذا ألا هو مبدأ (القوة) الجوهرية (الواحدة)، حتى
أن كل ما نراه من حولنا، بل وحتى حرية الإنسان ذاتها ليس له وليس لها إلا مجرد
طابع عرضي سلبي . لقد رأينا (القوة الجوهرية ـ في أول أشكال لها ـ تتأتّی کی تعرف
على أنها تمثل تكثر التحديدات الماهوية، والمجال الكلى لهذه التجديدات، وليس في
روحيتها الذاتية الخاصة. والآن، فإن تساؤلا ينشأ في التو: كيف تتحدد هذه القوة
ذاتها، وما هو محتواها؟ إن الوعي الذاتي في الدين لا يمكن أن يقتصر على فكرة أن
القوة لا تعرف إلا على أنها تجمع التحدیدات التي توجد) فحسب؛ شأنها في هذا شأن
الفهم التفكيري المجرد. وبهذه الطريقة فإن (القوة) لم تعرف بعد على أنها حقيقية،
على أنها وحدة قائمة مستقلة؛ وليس كمبدأ بعد. والآن فإن الشكل المقابل لهذه
التحديد هو أن نتناول ثانية التحدّدية المتكشفة للوجود في وحده التحدّد الذاتي
الباطني. وهذا التركيز للتحدّد الذاتي يحتوي على بداية (الروحية)."
[38] . حسين، مناصرة، ثقافة
المنهج الخطاب الروائي نموذجا، ص8.
[39] . ماجدة، حمود، إشكالية الأنا والآخر نماذج روائية عربية، عالم
المعرفة، العدد 398، مارس 2013، ص17.
[40] . حمودي، محمد، الشكل والمضمون في ضوء الاتجاه الإنساني، مجلة
تاريخ العلوم، المجلد3، العدد 5، سبتمبر 2016، ص276.
[41] . دوغلاس، روبنسون، الترجمة والإمبراطورية: الدراسات ما بعد الكولونيالية دراسات الترجمة،
ص46.