بوزيان بمشاركة نتاث ي.
فتى المروج بين أضغاث أحلامه وأحلام يقظته
” السير في شوارع المدن الكبرى يذكّر الإنسان بالإنسان أما والسير في الوادي أو الغاب فيذكر السائر بالخالق العظيم “ أ. الريحاني
هو فتى من فتيان القرن العشرين، ولد في الريف لذلك جُبل على هدأته، سكونه وصفو باله، قبل أن يفتَتِن ويُخلب بطبيعته صنو أكثرية قاطني أكبر المدن المجاورة، والذين يكونون قد خَبلوا بجمال ألوانه وترياق هواء ربوعه العليلة لولا أنّ، فمن حواليه وعلى أطراف خِصب جنان تنموا الأنفس وتكبر عليلة، ومع الألوان والمباهج الطبيعية التي لا عين رأت ولا أذن سمعت تمادى كغصن أخضر إلى الشمس واهبا أكسير حياة، أما الربيع، فآه منه ذاك ربيع لمّا كان يلتقيه في كل حين، في غفلة من البشر؛ ذات يوم حين كان يعبر مرجًا تعوّد أن يعبُره مشيا على الأقدام متفقدا بقراته...
على تلك الربوع المطلة على مرج المروج تعوّد أن يتغرب قلبا وقالبا، وعلى تلك الرّبوة الخضراء تعوّد أن ينطلق مُحلقا في تجلياتها المزهوة المغدقة عليه ألوانا من الأقحوان والزهر والياسمين، فلا يحط وهو حيالها إلا على حديقة قريبة منها، عنفوانها وهج كأنه الوحي، وقد ارتسمت على ضفاف الوهاد تلك رياحين أُخر لم تعرِف لها أسماء، غير أنه ما فتئ أن عرفها بعليل شذاها لطول ما جال وصال حولها عندما كان يرعى ذات صبا فائت دون أن يولي لها اهتماما زائدا حينذاك، أما والآن وقد اشتغل الرأس به وفاض شبابا فقد صار يطلب المرج كثيرا للقطيع، والربوات والوهاد المنسية لنفسه، مقدما لها ألوانا من تسابيحا روحية ناهلة من التجرد لجمال أزلي، والذي بدأ يطبق عليه كلّما تقدّم به العمر والجًا به كاللغز حياة العزاب وهم يرون الطبيعة أنثى محلاة بالوساوس أحيانا وغير محلاة أحيانا أخرى، والجا ينابيعا ومجاري للمياه الصافية كالروح الشفافة لكنها مترقرقة لججا لججا. وفي الواد ظل يرقبها تمر فيطهر، وهو منساب عبر الرصف الإهليجية ثم ليلتفت.. منبعثة منها أصوات كأنها تُنظِرُه: انظر.. انظر إلى هناك.. هناك إلى أبعد من هناك.. إلى حيث نسيمات منبعثة من العدم لتصّاعد منه منبثقة من قلب البنفسج أو التوليب ذي السيقان الطويلة المنتصبة عند ضفاف الواد، اُنظر فمن شذاها وطهر أوكسير مياهها الرقراقة قد تولّد النسيم حتى زهت به الروح، تعبئه في الصدور بما اختلج من هم ملغز مُدّخر في الذاكرة لسنوات من الرعي في الوهاد والمنخفضات صيفا وفي السهول والمروج العالية شتاءً.
انظر إلى فتيان المراعي فليسوا رعاةً ولا مزارعين، ولا حطابين، ولا حتى هم من أهل القرى المحاذية للمروج والحقول التي تعج بقطعان الماشية، ولكنهم من أهل الجبال والبساتين المحاذية لجبالنا ممن حزّ في أنفسهم ربيع مرج المروج وأديمه الطاهر. نغم أسطوري متداع ونداء كالرنين المنطلق صداه معهم والرؤوس، فانطلقت به أحلامه متجاسرا مع المتجاسرين من الرعاة فيه غاديا آيبا وهو يجوس.. وتسّاقط عليه أفكار كحب البلوط في ريح تشرين الصرصر فغدا غاديا رائحا كأن به مس عندما أطلق العنان لقطيعه يرعى نفسه بنفسه وانعطف هو إلى عنان السّماء يسترجع عز نفسه، لا يسمو إليها إذا سما إلا عبر مرج المروج مرتوٍ في أوجّه من شم مكنوناتها ذات الجمال الرهيب.
بدأت تحدثني في غمرة من إحساس نبيل أشياء أو عوالم أجهلها كأنّها أهازيج مرح الطيور المحلّقة متواشجة مع حفيف وخرير السواقي وهديل الضواحي العالية الطافية الضافية روعتها، وتقول لي كذا وكذا ولك من وفي جميعها لحن ووحي و.. ربما وساوس..
وبالقرب من غدير الصنوبر الزّاهي من كل صوب وحواليه تستضيء من أشعة الشّمس المتطاولة كوهج بين جذوعه الطويلة كأسلاك الذهب، كان يحلوا له الوقوف مليا لاستراق نسيمه العليل، إنه استراق للحظات من الأمل حتى إذا طلع الفجر الفضي من حوله انفضّ عنه إلى مرج المروج علّه يجد فيه ما لم يجده في سواه... بعدما تاه في جبر مبعث روح الإشراقات الفضية تلك من على وجه الغدير المحاط بالصنوبر ومِن على محيا الفجر ذاته.
هكذا كان دأب الرجُل في تأمله لدوران الأفلاك بين الخمائل والمروج وأطراف الغاب وأحيانا على المرتفعات القصية المحاذية حتى قيلت عنه الأقاويل وفشت فيه الفاشية، أجل، حتى ظنّت فيه الأهالي الظنون، صارت الأمكنة التي يعتكف فيها جزءً منه وبيته المُقام بين غدير متعرج عند أسفل الوادي ومرج منبسط خصب على سفح التلال المحيطة غدا مشكوكا في إيواء جانًا جبارا بعدما فشت فيهم فاشيته، وبعدما رُئي يتمشى قربه مع رجل غريب غير معروف عند الأهالي، وقد رأوهما متآنسان في موضع وغير متآنسان في موضع آخر، أجل وقد خرجا ليتمشيا مع أولى خيوط الفجر من وقتها وكأنهم تيقنوا بأن الرجل قد خطفته جِن البرية، وقد عهدت إلى جانٍ منهم كي يتحكمون فيه عبره كما يحلوا لهم، أجل، تيقنوا أنه قد خالط الجِن لما طال به التوحد، التوحد الذي أفضى له بسره أخيرا وفي صورة إنسان أنزله منزلة خليل ثم ما فتئ الإنسان الجن أن أطبق عليه في جسده بروحه إطباقا فغدا كأنه ظل له لا يرفض له طلب أينما حلّ وارتحل، أما الجن فقد قالوا أنه جنٌ رحالة إنجليزي وقد بات منتقل من جسد إلى ثانٍ في تلك الأمكنة التي غدت برارٍ معزولة، بما أهرقت فيها من دماء كثيرة لبني جنسه في زمن غابر، وبشكل متواتر تلقفّته أخبار ضاربة في الزمن الغابر والآتي في نفس الوقت من رجل يكون قد أهرقت دماؤه في القرن السادس عشر في مرج المروج أي منذ خمسة قرونا خلت، لأنه حين صادفه أخبرَهُ بما أَخبَر به كابر القوم عن كابرهم فجاءه بعلوم وأخبار الأولين ومعارفهم الخارقة بما لاعين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر ببال بشر ثم مضى في الإطباق على صاحبه في جنح الليل حين غشيّه ما غشيّه من عوالم وأخبار بني جنسه، وما فعلت بهم أجناس أخرى، إلى أن نجح في جعله رهين الأملحين الغدائر والمروج؛ يسير خلفه ويرزح في يديه كما يرزح خاتم اليد، وهو غاديا به سائسا إياه بينهما مقبلا غاديا، ومع كل حينْ حينَ كان يسرح معه على مسارح الملكوت لم تغادره أفكار ورؤى كالوساوس أبدا، والتي لم يوثق أهو أمدّهُ بها أم وحي التأمل الملي حول الغدير هو من فعل؟ من ثمة لم يهتدي لا هو نفسه ولا حتى من ظنوا في جنونه أن من فتنه، أهو جنّي الزمن الغابر ذاك أم وسواس التوحد أم يكون وقع تأمل في سحر الملكوت المختلية بين الربوات والمروج الغاصة بأنواع الرطب كالأحجل الرمادية والمزركشة والفطر الرخو الصر البياض، وسنونو الغدير الأكحل، وهو متطاير مسقسقا متناثرا من التندرا، حتى تراه جاريا وراءه عوض أن ينظر في الأعشاش يحاول أن يطير معه مرفرفا بكلتا يديه عندما يفاجئه السرب الطالع منه على حين غرة.
لذا ربّما جاز أن يقول عنه من رآه جاريًا حينها أنه جارٍ وراء جانِه الذي قصد الغدير ليشرب جري فارس مغوار! فلم يغيّر نظره اتجاه ملكوته وئيدا في وهج الظهيرة وآلاء النهار حين الغدو والآصال، أو كمسيحه مهرولا بين المرتفعات والمنبسطات غير منقطع عن تلاوة التسابيح، لكنه بحق الغدير والمرج فمبطئ ومعتكف كأنهما بيت لحم والجليل أو الكعبة وعرفات يحج إليهما فيُطيل المكوث كالمتعبّد النبي، ولكنه لا يلبث أن يطرُق ملتفتا يمينا وشمالا ثم مهرولا باتجاه بقراته التي غفل عنها.
وهناك إلى جانبها رُئي صاحبنا وهو يُخفِض رأسه ويحدّق بعشب المرج كأنه لمح فيه مكروها ثم كمن انطلق يُحدث نفسه قائلا: ــــ" .. بُهت القوم الشهونيون من عقلانيتنا واعتناء الإله يهوه بنا، ألا فلعنة الله عليهم إلى يوم الدينونة مازالوا كالخِرأة يخرُّون سجدا ركعا لجن رسُلهم السافلين حتى أضحوا أضحوكة الأجناس... هذا كلام وسوس لي به جان يهودي منذ برهة كما ترى.."
ثم انطلق محدقا إلى وحل المرج النتن ثانية كأنه يقرأ من صفحاته كلاما منسوب لناموس المسلمين آية بعد أخرى وبدأها بقوله: "مثلُ الذين حُمِّلُوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا" ثم يقوم محاورا صاحبه الذي لا يُرى رادا عليه قوله وهو يشيل بيديه معترضا.. هناك تناقض هناك تناقض.. لا تنسى أنه يقول في موضع آخر: " وما كان الله ليعذبهم وأَنت فِيهِم " ثم " وما منعنا أَن نُرْسِلَ بالآيات إِلّا أن كذَّب بها الأَوَّلون" و"يكسو العظام وهي رميم" كيف يكون هذا كيف يكون هذا؟ ثم يجب أن تعرف أن هذا الكلام من هذا الناموس الكلي الذي يقول: " قال اهبطوا بعضكم لِبعض عدوٌّ ولكُم في الأرض مستقرٌّ ومتاعٌ إلى حينٍ " وليس اخرجوا منها كما جاء في سفر التكوين وكأنه حيال بعض خلقه مُحابٍ والبعض الآخر لا !
ــــ ثم لِما تستحضر حضرتك الآية التي تقول "أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة"؟
إما أنه كان يحفظها على ظهر قلب أو أوحي بها لتوه لأن نظره مصوب اتجاه تندرا المرج الرطبة الموحلة وليس إلى السماء ثم تابع يقول: " كادت أن تؤدي بي هاتيك الآيات كل ما استحضرتها، كادت أن تلقي بي إلى مسارح الجن والغيلان أو يكون جِن قد علق بي وأنا منعطفا يمينا وشمالا على وحل عاج بحمأة لا يؤمها غير أبالسة الجن وعفاريتهم؟
وكيف لا يخاطب الله عباده إلا بما تعودت عليه ثقافتهم اللغوية والاجتماعية، لكن الله يقدر أن يخلق من اللا شيء أشياء وأشياء، أو يُوجد أو يُولِد من الشيء ولدا ويتخذهُ دون حاجة لصاحبة. لماذا ربط الله خطاب العقل الصافي بخطاب العقل الاجتماعي الذي هو عقل باطن تتقولب فيه سياقات غير عقلية كالعادات التي من جنس رغبات النفس أم أن عقل الإنسان في الأخير محلُّه القلب؟ لكن بهذه الخاصية يميل الأفراد في قبيلتهم ومجتمعهم إلى ذواتهم ويسبقونها عن أية عقلانية فتغيب العدالة على الأرض، والإنسان خُلق قبائل وشعوبا ولم يُخلق قبيلة واحدة، ولأن كلً من قال ” قال الله “قد قال أيضا أنا خير وأولى من غيري يعني اصطفى نفسه بهذا الأسلوب في الاستقواء بالله وسمِيهِ ما شئت: تقوى، إيمان أو فطرة العبادة.. وعندما تقول له ــــ كونك آخر من خُلق شعوبا لتخالف سنة ربك في خلقه ــــ لا أنت واقع في الغلط يقول لك: قد يئس الشيطان أن يعبد لكن رضي أن يطاع. أوليس إذن بأن أوائل المسلمين ثم أواخرهم في قولهم: نُصَفي الكفرة ونقتلع الوثنية حتى يضل الله يُعبد على هذه الأرض. أوَببطشك وطُغيانك يُعبد الله؟ إن الله يُعبد تلقائيا ما بقيت فطرته التي أودعها خلقه، وعلى هذه الأرض مهما حاولت حصر عبادته في الدعوة إلى الله لن تحصرها فالله معبودٌ معبُود مهما زادت أو قلّت أيديولوجيا الاستعداء وطغيان الإنسان لأخيه الإنسان، معبود ومن النفس مباشرة، فالله سيبقى يُعبد حتما ولكن أنت تضيع عليك فرصة الاستثمار في هذه الدعوة إن فشلت. وخُذ لعلمك فإنه عندما طال تشاحن وتشاقق كل من المتدين مع رجل العلم ومنطق التفكير العلمي والفلسفي العقلاني، طفق الأول يتهم الثاني بالضلالة عارضا عليه التُوبة قبل فوات الأوان فيرد عليه نظيره قائلا: ـــــ" أنت عايش في وهم ولم تجد من يوقظك من تخلفك الذي هو سلطان العلم وحده". وقد وصلت بهما المشاحنات إلى الحد الذي جعلني أتدخل قائلا لكليهما:
ــــ وبات كلٌ يرى صاحبه على خطأ ويرى نفسه على صواب ــــ أما أنا فعندي الحل الجذري لخلافاتكما التي هي أعقد خلاف كوني بما أتيح لي من تجربة كمتدين ورجل علم في نفس الوقت، وبِما أنكّما تعتقدان بالله كليكما، أنت تسند إيمانك بقوة العاطفة وهو يسندها بقوة العقل فلِما تتركان الأمر لأحكم الحاكمين ليحكم بينكما إذن، مت أنت واتباعك على ما تعتقدون ويموت هو واتباعه على ما يعتقدون، ويوم المحكمة نرى من هو على حق ممّن هو على باطل وانتهى الأمر، فعندئذ لا ريب سيظهر المحق من المتعصب.
.. لكن ما أنا متيقن إثر كل ما قلته، وما أقوله، وما سأقوله حتى ولو أردفته ببرهان.. أوَيكون جنيا قد تعلق بي وأنا أمر بهذه الحمأة التي يحبها معشر الجن إذن فويحي تراني ملمومٌ به؟ لذا قالت العرب عني أني شخص ملمُوم، أم تراها كلها مجرّد وساوس؟ ثم إنه قد قيل أنّ النبي العربي أحب الله فأحبّه الله أما نبي النصارى فقد أحبّ الإنسانية فأحبه الله حبا عن حب، كما أن صورة النبي العربي في ذهن أي إنسي عبر أرجاء المعمورة تطرح مئات بل آلاف من الأسئلة غير أن صورة المسيح في أذهانهم تبعث روحا من الطمأنينة والسكينة في قلوبهم. فلربّما ذلك ما جعلني انتقل من مكان لآخر؟ لكني أنتقل لأتأمل أنا أفكر لأني موجود، موجود شاك ملتاع فأنا في حِل أن أُمس بجني، والآن الآن سأغدو إلى تلك الكرمة لآخذ قيلولتي وأراقب بقراتي منها إنها واسعة الأغصان وافرة الظلال تتيح لي أخذ غفوة تُبعد شياطين الحمأة وأبالستها عني ولو إلى حين.
وفيما صاحبنا فوق الكرمة مُمددا على أغصانها المتشابكة، متلفتا برأسه ذات اليمين والشمال أضحى لا يدري بما بقي فيه من شعور أتراه دخل في حلم أم تراه مازال في يقظته، أم أنه ولج الحمأة الضبابية التي لم يعرف لها مثيل وهي الجمع بين اليقظة والحلم، ... إنه القرآن ثانية.. يا الهي فعلا فقد جاء الذي ... فقد قال..
ـــ ومَن قال؟..
فالذي قال من جهة: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم" و"اصطنعتك لنفسي" قد قال من جهة أخرى: "مثل الذين حُمِّلُوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل حمارا يحمل أسفارا " وقال "وإن عدتم عدنا" وقال أيضا: "أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة" إنه هنا يعني به المسيح ولكن هل هذا معقول؟ كأنه يتشيّع لجهة على حساب أخرى، بل يُؤثرها لمزية في نفسه، حتّى أن بعض المسيحيين تسرّعوا في تنزيه هذا الكلام عن كل سماوية لأنه حتى الإنسان لمّا يعزم على تبني ولد يفعل بدون مشاكل وما إدراك أن يفعل ذلك الله تنزهت قدرته، فإنه يستطيع أن يتبنى ولدا ببليارات الطرق وليس بطريق الصاحبة فقط. نخشى إذن قد قال من جهة أخرى وهو بذلك قد أثار معشر الجن قبل أن يثير معشر عقلاء الأنس، ليت شعري بل فتن الجان الأحمر وفيلقه مع الجان الأسود وفيلقه كي يتحلقوا حول رأسي فلا تراني بإزائهم وقتئذ إلا في حكم الملمُوم. تالله إن بعض الآيات فيه والتي تصف الله كقوله "الرحمن على العرش استوى" والتي تستنقص من عمل الشيطان" إنّ عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفَىٰ بربك وكيل"، إنها لَتشُد العاقل شدا إليها ثم لا تلقي به إلا وهو شاك مرتاب على مشارف اللمة. كيف لا يكون للشيطان سلطان على الناس وهو له عليهم بالفعل سلطانا فبسببه سلمت الأرض التي تأويهم من فساد، فهو سبب انتظامها، ثم من مسك السماء أن تقع بخلق الجاذبية أليس هو من خلق الشيطان؟ والجاذبية تؤذي الإنسان كما يؤذيه الشيطان فكليهما عملاهما من صنف العمل الخارق في انتظام الكون وعدم فساده.
حقا إنّ هذه الآيات لمفعولها ساحر للفؤاد، وتجعل من قدرة العقل الإنساني العادي والموحى إليه على السواء رهن إشارتها محيطة بصفات الله أكثر من إجلائها لقدرته على مخاطبة العقل البشري على حق قدره وسعة إدراكه وفهمه، لذا لم يخرج عن السياق اللغوي لأهل الجزيرة العربية بل لِأهل المدينة عن أهل مكة في الناموس المبعوث إليهم بالشكوك غير مجانين طوعا أو كرها، ونفيا إلى الطائف ونجد وغيرهما إذن. ناهيك عن تلك الأحداث البشرية في سيرة الأنبياء مُوجِبةً الانتقام ورد الشرف، في سيرة النبي محمد قتله صلبا للرجل الذي وضع على ظهره الجذور غير آبه لبراءة أبنائه..
ثم يتقلب صاحبنا في منامه على غصون التينة برأسه على صدغه الأيمن غير أنه لم يفعل إلا بعدما التمس شيئا يقترب منه كأنه حِرباءةُ التين الخضراء السامة.. وإذا بمهوى عميق قد ظهر له بمجرد أن التفت برأسه ذات الشمال وأحذ يستمتع بجمال منظر الكون الأخضر من فوق.. وفي خلدي بعضٌ من ارتفاع صوت غير بعيد أحسبُه بعضا من أحلام الأمس السعيد بين أغصان التينة رأيتني غافيا كما يرى النائم نفسه في منامه تماما.. يغفو وتحلوا له أشواق العمر وترنوا.. وإذا فجأة بمهوى وادٍ عميق به رجل غريب، شيخ لأول مرة أراه تحت سمانا وهو يأن باكيا ثم اقتربت منه وسألته: ــــ ما يبكيك يا شيخ؟
ـــ قد أضعت لتوي أثمن شيء في حياتي وأنا في طريقي إلى هذا المكان الملعون
ـــ حقا؟ وما تُراه؟
ـــ ضيّعت حياتي كلها في طلبه وفجأة ضاع مني!
ــ لعل الله سيُعوّضك ما هو خير منه.
ـــ هل هي راحلتك، هل هو مالُك؟ أم ماذا؟
ـــ عندها التفت الشيخ وبريق أحمر يشع من عينيه: أضعت عقلي هناك! (ثم طفقت كمن سمع وكأني أنا من أطلق صرخة أضغاث أحلام)
ـــ ما أرى إلا عقلك معك يا شيخ، ما أضنُّك إلا تعبًا محتاجا إلى الراحة
ــــ وما يضيّع معشر الجن أن هم غادرو عوالمهم أوليس عقولهم؟ أقصد جنونهم.
عندها صرخت بأعلى صوت فعرفت أني وقعت في حلم مخيف حقا وما كنت قد غفوت غير بضع من عشر دقائق أو تكاد، ثم لعنت الشيطان واستغفرت لرب موسى يوم دك قربه الجبل ثم اضطجعتُ على جانبي الآخر غير أن الشيخ الجني نفسه ما فتئ عن عاودني كأنه لا يريد مبارحتي والمرج فتقدّمت نحوه وكان في الطرف الآخر من المرج، غير أني أثناء عبوري للمرج سرعان ما طفقت أفكار وأفكار تساقط على مخيلتي كأنها الوحي، ثم التفت يمينا ويسارا فلم أرى غير جمال وخضرة قلّ نظيرها وهواء منعش وتربة حمراء وسمراء من أجنة المنبت الأزرق شذاه يفور بخارا كأنه الضباب وما هو بضباب..
ـــ لقد بكيت وكلِمت أنفسنا يا شيخ فما خطبك؟
ـــ القيامة يا هذا القيامة، القيامة أبكتني حتى بلغت مني المبلغ فليس في الأمر شروق ولا غروب، ولا دابة، ولا مأجوج ويأجوج، ولا دك لجبالٍ، ولا شق لبروج إنما كل ما في الأمر انعدام مفاجئ للجاذبية إلى درجة أقل من الصفر.
حين وقف نظير أعماله ينظر إليها في مرآة نفسه خِلت كأنني كنت أقلّد ذلك المجنون الذي رأيته في ساحة من ساحات البلدية يُكلّم نفسه، يدور ذات اليمين وذات الشمال وهو يجادل اثنين من الجن واحد على يساره والآخر على يمينه، محاورة فيها من الجدال وشكيمة العقل ما فيها لو أن في خلقه لشؤون لقلت أنه لو هُيِئ لهذا المجنون وظيفة مثل أمين عام الأمم المتحدة لبرع فيها وأجاد، أجل فقد سمعته كما سمعه الناس يقول لجانه اللا يرى: ـــــ" ومن أمرك أن تعود؟ كان حريٌ بك أن تبقى هناك من يقوم على طعامك وشرابك الآن؟ فتلقفت الآذان المارة ما تلقفت من حديثنا وانشغلت بما كان يقوله لي، كان وإذا ما أتمّ كلامه مع الأول التفت إلى الثاني وهكذا كان دأبه إلى أن أشتد الصراع وتحول الجدال إلى تراشق بعبارات مُخلية، ثم لتوه قال له: ماذا تقول؟.. اتفُوه عليك يا وَحْد الخبيث لعنك الله يا فرخ، ثم رجع وقال للآخر (الذي يبدو أنه فرّ منه) انتظر انتظر لو أنك جبان أيها النذل.. انتظر حتى أتبول عليك! نعم هكذا رجعت بي ذكرياتي مع المجانين لما طفقت شاكا أني انتسبتُ إلى هذا الملمُوم العاقل حينما كنت أمر من خلل المرج الأخضر ملتفتا ذات الشمال وذات اليمين، فقد كان وحيا ما يناديني، لعلّه وحي الشذى وعليل النسيم المتطاير من على التندرا وحشائش المرج الخضراء، وربما أيضا شذى التربة السوداء المختمرة في الأماكن غير المعشوشبة، ومن يعتقد بذلك؟ وصورة شيخ الواد الذي ما انفك يعود إلى المرج من مكانه البعيد ذاك بيّنة أمام أم عيني، وساوس، طلاسم، تعاويذ من عوالم شريرة، تُجُمِل الأمر المُريب وزين لنا في مرج المروج أمجرد وساوس شيطان الفكر أم وساوس فتنة الجمال هي؟ خبرنا يا شيخ ويحك؟ فإنما عهدتهم يقولون من الجمال لسحرا وإن من السحر لفكرا كثيرا أليس كذلك؟
ــــ بلا يا فتي المروج فإني أُنبئت وأنا أجول هذه الوديان والشّعاب ليلا من لدن حكيم عليم أن هناك شيء اسمه "الجاذبية" فأنه لعلمك لم أدخل مدرسة في حياتي؛ ولو قلت ما الجاذبية؟ قلت لك قرينة من قرائن الآزفة يوم لا تشق فيه سماء، ولا تزلزل فيه الأرض زلزالها، ولا هم يحزنون، وإنما يصعّد كل ما عليها من إنس وجان إلى الفضاء الخارجي كي يلقوا حتفهم شنقا فلا ينفع ربطهم لأنفسهم.
ــــ وهل الحيوانات كذلك تصعد إلى الفضاء الخارجي؟
ـــ كذلك هي.
ــــ فلو رأيت حالهم حينئذ لخريت مغشيا عليك، أجساد لا عين رات ولا أذن سمعت، منفوخة كالعهن المنفوش تطاير في السماوات العُلى سارحة فيها حتى تمتلئ بهم كل الفضاءات المخلوقة حينئذ.. يُمسك بهم خالقهم مسكة واحدة ويرجعهم رجعة واحدة..
ـــ وما مصير الأرض إذاك؟
ـــ تعود إلى حالتها الأولى هي أيضا.
ـــ أقول لك بكل صراحة يا شيخ أن تلك التجليات كثيرا ما فاضت بها مخيلتي وأنا أجوب هذه البرية الواعدة لما زرع بهائها في خوالج نفسي من فتنة، فكلفت بها وفتنت بها إلى درجة التباشير والهُيامات السبوحية.. فقد حسبتها للوهلة الأولى بعض من وساوس إبليس لكن ها أنت يا شيخ تحدثني بها وكأنها حقيقة ما غيرها من حقيقة.
ـــ لكن من أين لك بعلم الجن؟ لو لم يذكرهم الأنبياء والرسل في كتبهم.
ـــ أبدا يا فتى. بل من الأساطير القديمة التي تقول أن هناك مخلوقات غير مرئية مُعمّرة إحداها بيضاء صر خيّرة بطبعها والأخرى لونها أحمر قن شريرة لا يُعاشر بعضها بعضا، من ثمة هي بالمرصاد لبني الإنسان حتى ينتهي من على وجه البسيطة وبالأخص في أقاصي الظلمة، فكلما كان هناك شر في تاريخ الإنسان نزحت إليه من جحورها المزروعة بين الوهاد والشقوق والأخاديد الصخرية أو البعيدة القصية عن مناطق العيش المألوفة للإنسان، وكما تعرف أن في عهد النبي العربي كان الشر قد بلغ مبلغا عظيما بخاصة المناطق الوعرة الجبلية التي لا تصلها الشمس، لذلك فلا ريب أن يتصل جان مُعمّر بإنسي ليوحي إليه (محتمل أن يكون جندي تائه من جنود سليمان التي ظلت تحوم بين مأرب وأورشيلم غير قريب) وهو يعرف كل شيء عن حياة الإنسان في المنطقة، وعلى أبعد أمد مُمكن فهو يبحث أولا عن جسد غير مُسن يسكنه حتى يخفف من وزر شيخوخته وثانيا لزومه لإنسه حتى يخرجه للناس بتلكم الصورة التي أرادها له سنّة الأولين، غير أن المَلَك الذي ينزل من السماء العليا بمجرد أن يرى تربص جان من الجن للعباد سنة الله في خلقه يحاول اغتصابه حقّه بطرده إلى أزمنته الغابرة لأن الضد بالضد يُكتمل، طبيعة الحياة هكذا كلما جاء مَلَك أو جان يستثير إنسي تدخَّل ضدُّه الذي من الزمن الحاضر فإما أن يفشل واحد فقط أو يفشلا معا، وإذا فشل في أن يمنعه فلم يعد إلى مكانه مدحورا فقط بل فاقد لأحد أعضائه، نتيجة المبارزة التي تتم بينهم، هكذا تقول الأسطورة فلا تعجب ولا تلمني يا فتى المروج. فإبليس كما تقول الأسطورة هو من جعل الله يغادر ملكوته، حين أمره الله بالوقوف للنفس بالمرصاد حتى لا تفسد بمن عليها، لكنه لم يُطعه وانفعل مثل ما ينفعل الإنسان فأضحت تصيبه نوبات من التوبة فيُقلع عن الشر فأضحى عمله مفسدة للأرض.
ـــ الآن فهمت لماذا يصر الإنسان المتمدّن في عصرنا على النقل المعقول أو تعقيل ما يوحي به إلهام الإنسان، حقا إنه لفي أسطورتك هذه لحكمة وعبرة بالغة لبني البشر، فكم يفلح الإنسان عندما يتعادل كل من الملَك والجن بإزائه، باعتبار أن الملَك يمثل العقل والجان يمثل النقل.
ـــ ليس هذا فقط يا فتى المروج وإنما أزيدك عنها، وقد نسيت أن أقول لك أني سمعت وأنا أمر من هنا جني مُعمِّر من جن سليمان الهائمة بين البحر الميت وأغوار نجد الصخرية يخبر عن الرب وأنه ظل ينادي قائلا: يا يونس، ويا اليسع، ويا لوط وهود، ويا نوح، ويا إبراهيم، ويا زكريا، ويا محمّد وخصوصا أنت يا محمد مع عيسى وموسى فإن لم تكفوا عن التزلف والتملق بي لأضربكن ضربة رجل واحد حتى تخرون خارئين خرأة نتنة تجعل أقوامكن يهجرونكم بضع عشرات الأميال اتقاءٍ لشر نتنها.
ـــ أستغفر الله العظيم ماذا تقول يا رجل؟ ثاكلتك أمك.
ـــ اسمعني إلى النهاية ولا تقاطعني؛ فالجن المُعمِّر هو الذي قال ولست أنا من قال.
ـــ أنا سامع، ولكن ربّما تكون تلك مجرد وساوس إبليس
ـــ ثم لما سمع محمدا وعيسى وموسى ما سمعوه من ربهم صعقوا في أماكنهم خارصين جاثمين، فقد قال لهم:" أنني أنا الرب العادل لا يَعرف هذا وينكر ذاك ولا يُفرّق بين إنسان وإنسان ولا بين حيوان وحيوان؛ من عبدني فلنفسه ومن لم يعبدني فلنفسه، لا اصطنع أحدا لنفسي بل اصطنعتهم لأنفسهم، حتى أنكم تجرأتم ونسبتم إليَ قولي بنزع الأحذية! هل في نزع الحذاء من مُثل عليا ترتجى؟ أم أنها مجرّد عادة وهل للناس جميعا أن يتمثلوا نزع العرب لأحذيتهم وهم في مكان مقدّس، طُوى كان أو جامع أو غير جامع؟ بالنسبة لهم من شأن نسب عملية النزع إلى الله أن تجعلها عملا مبارك لدى جميع الأمم وهو في الواقع ليس كذلك، فلا يخلع أحدكم نعليه إلا عندما يستجم أو ينام حتى لو كان بالوادي المقدس طوى، كلٌ خلقنا سواء، أودعنا الفؤاد والعقل والضمير بها يعرفونني أو بها لا يعرفونني، أنتم في الحياة سواسية كأسنان المشط، لا أفضل أحدكم عن الآخر، إنما أمركم ساري بين مفردكم وإياي، ولا علاقة للأمر بجماعة، مثلكم في عبادتي مثل انتخاب ديمقراطي يجري في السر ولا تعرف نتيجة المنتخبين إلا بعد نهاية الحياة، ورفع الله الحجاب عنه، حينها يدعو الناس للقيامة فتفرز الأصوات وتعرف القوائم الناجحة بأشكالها وأنواعها وبأفرادها، وجنس أفرادها حتى......."
......... فجأة يرتفع صوت مخترقا الآفاق كأنه القادم من أمد، بيد أنه يبدو كصوت مؤذن قادما من أقرب قرية إلى المرج، فتعجب الشيخ وجثم وجلا وأمرني أن ألتفت وحتى إذا ما التفتت اختفى من أمامي ولم يترك من أثر، احتفى كما يختفي الساحر عن جمهوره، وبعد فترة وجيزة عاد من كان يقعد القرفصاء على ضفة الواد الخصيب متجها صوب القرية التي قدم منها الصوت المرعب كأنه الشيخ نفسه، فألتفتُ لأطلبه وأنا أصيح به دون أن يرد أو يلتفت إلي حتى إذا ما لحقته مسكته من كتفه فالتَفَت صوبي.. فاستيقظت من غفوتي الثانية استيقاظ المذعور الخارج من أضغاث أحلام متتالية " إن حقا هذه الدروب المخضلّة المدهامة بِمَا نامت عليه من جمال خلاّب فتّان لمسكونة بألوان من العفاريت سكون المرج الأخضر على حمأته الضّحلة. ولا شك أنه كان عفريت حكيم وإلا ما كان يذعره صوت المؤذن ويؤذيه فينسحب إلى وهاده المظلمة ويظهر على حقيقته.
ومع كل تلك التهاويم التي تبدّت كأنها أضغاث أحلام على غفوتين متتاليتين مازال فتانا يرى رؤى من وحي الخيال كلما عاد من بيته ليجوب تلك الدروب المُخضلة ثانية، وثالثة، ورابعة، لا يملّها أبدا حتى إذا توسوس بوساوسها ثانية وظنّ الظنّون مرة أخرى بنفسه عاد واسترجع ذاكرة الشيخ الجان. كلما رأى طين المرج الأسود المختمر ولى القهقرة إلى قصة آدم والجن والخطيئة الكبرى أتراها حقيقة مقالات شيخ؟
أعرف الآن وكمن يعرف أنني الآن وفقط الآن إزاء سهبللا وأنا أعرُج بمخيلتي وذاكرتي عبر الأزمنة والدهور. إن السّمو إلى جمال عاري من النقص هو وحي مُبشِّر بجنة، كالذي تمثلني أفكارا منسابة مع كل تسريحة نظر في ملكوته إلا وأصابت فِتنتُها مضغة الصدر فاختلجت، وهاجت وماجت. فطالما كنتَ طي جمالٍ فتّان عفِن طالما وفّى العلقم بنذره سنة الخالق في خلقه، وشفاءً من أسقام أنفس بعض البشر كان، فصدّق أنّ رونق الساقية في انسياب لحن شافٍ موقظ لهمة الوحي حرُ وأنكر عبد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أما بعد:
﴿ فكر الإنسان/فلسفته دائما تحددها نظرته إلى نفسه والى الله والحياة والعلاقة القائمة بينهما إذ لابد من استخراج المعيار ذلك النظام الشامل الذي يحقق به الأهداف، فالأهداف لا تنزل إلينا من السماء وإنما تحددها حاجات الأفراد والمجتمعات، وهذه الحاجات تحددها معايير للقياس ومبادئ معينة للعمل، والمعايير والمبادئ تحددها الفلسفات، والفلسفات هذه تحدد مسار الإنسان في حياته.﴾ من تمهيد كتاب: عصر النهضة العربية بين الحقيقة والوهم.