بوزيان بغلول(*)
4.2 الدين
بين الرسالة والأيديولوجيا (الإسلام وقطيعة العلم)
هل أمكننا
القول أن الإسلام كعقيدة وكتاب سماوي مثّل انعطافا حضاريا غير مسبوق في اعتماده وترسيمه
النهائي لمقولة "الآلهة الآلهة، لا حقيقة غير الآلهة" التاريخية منذ نوح
إلى الحقب الوثنية مرورا بعقيدتي اليهودية والمسيحية فيصبح دور الإنسان الدفاع عن
الله على الأرض ضد من؟ ضد إنسان آخر مثله، بلى، نخشى أن قد أمكننا إقرار ذلك. متى
أصبحت هذه المقولة مركز أيديولوجية الاعتداء على سنة الاختلاف حتى وأن اليهودية كأول
أيديولوجية دينية كونية لم تك ملزمة للآخر، فالتوراة تقول بأن التوراة للتّوراتيين
العبرانيين فقط، أما المسيحية فنعلم أنه قد أوقفها كأيديولوجيا عند حدودها التي
يقرّها العقل قطيعة الحقائق العلمية التي نضجت على أنها حقيقة (اعتُمدت) على
نار النهضة الهادئة ممتدة لقرون، اذن فبقي الإسلام لوحده يرسخ لمقولة الله الله
بمبادئ قديمة أضاف لها أخرى جديدة فكان أن شيّد أيديولوجية حداثية لا تتقادم.
أضعيف إذن هذا الإنسان الذي تبنّى سفك الدماء
وإحلال الفوضى، وقد وصلت فعلا مع فرق متطرفة إلى تمثيل صراع الآلهة على الأرض كما أخبرتنا
به النصوص الأسطورية والتّوراتية، بدفاعه المستميت عن الآلهة يتحول ربّا لمن لم
يعتقد بتلك الآلهة، كما مثّلها الإغريق على مسارحهم، والعينة بينة فاشلة أمامه أم
أنه كبرياء النزعة الغريزية في الإنسان التي يعميها أي شيء آخر أمام تحقيق ذاتها؟ (ولتشعبات
الموضوع من عليه الاطلاع والتوسع عليه بإشكاليات الفكر العربي المعاصر لأن هدف
بحثنا محدّد، وصراع أدونيس مع أرباب الآلهة المتجددين في كل عصر على سبيل المثال
لا الحصر) وهل سيكون لمن تبنى أيديولوجية العلم سلوك مماثل (عمى الطغيان وعمى
التكلّس)؟ في الحقيقة هذا السؤال لا ينفصل عن الأول لأنه نظيره الجدلي الذي لا
يُعرف الإنسان أنه إنسان إلا بهما معا العلم والأيديولوجيا (عقيدة الجماعة) والتي
اِستُبدل بها للإشارة إلى الدين في المسيحية واليهودية في نهاية القرن العشرين
بمصطلح "ثقافة". أما في الإسلام فبقي الدين يشير إلى مصطلح الأيديولوجيا
أكثر من "الثقافة" في الدراسات الثقافية العالمية إلا في التعاملات
المحلية (مع الهويات الأصلية التي أسلمها الإسلام) ولعلّ ذلك راجع أن كل
الأيديولوجيات القديمة تغيرت تحت معاول العلم إلّاه، وراجع أيضا إلى الحذر من
مجابهة الثقافات الأخرى خاصة العالمية كالمسيحية والهندوسية والإلحادية اللادينية بالتقوقع عن عولمة الثقافة، وهذا ما سنعرض له في
أوانه أسفلا.
كان من الأجدر
التطرق للرسالة الدينية المعروفة بالإسلام قبل تناول الحروب الصليبية لكننا
زحزحناها تاريخيا باعتبارها سبب مباشر أو غير مباشر في وجود الظلم واستمراره إلى
أيامنا، لأن الظلم المنطوي تحت عقيدة الدين المسيحي ضمر بعد معارك خاضها العلم
والإصلاح البروتستانتي ضد الكنيسة المضطلعة بكل شيء بربوبية مجسّدة، وما بقي منه
أضحى مع قرون التنوير التالية معدودا من بقايا ظلمات العصور الوسطى، فأفول وانحسار
عصور الظلامية لم يكن ليحدث لولا بزوغ نجم العلم وتواري وطواط النظام الكنسي، أما في
الإسلام فمستمرة فيه قوافل من الظلم يتبعها مظلُمُون ينأى الكون بمجرّاته عن
أوجاعهم ويبقى المسلم واقفا إزائهم كالصخر لا يتحرك متوهما أن لا شيء بمقدوره
تفتيت الصخر حتى العلم نفسه.
وهو أولًا مدخل لاكتشافنا التعتيم الحاصل
في حقائق الأشياء ففي داخل بواطن النفوس حيث الإسلام الديانة الثانية الكونية بعد
المسيحية بمليار ونصف؛ عدد لا يخص غير أصحابه فهو عدد مضخم لا يعكس العدد الحقيقي عكس
المسيحية الذي هو عدد حقيقي (مليارين) غير مضخّم لأن المسلم ليس له ضابط أخلاقي متعلق
بالضمير يردعه من النفاق والمكر وتملق الأيديولوجيا لا الرسالة، يعني القول
بإسلامه من أجل الظروف وليس بالاعتقاد والإيمان النابع من صدق الضمير بوعي فطري
مستقل عن الإكراهات التي نتيجتها سلب الحقوق والامتيازات بل الموت بتهمة الردة، وعدد
المسلمين من هم على هذا الحال ضخم جدا، أما المسيحيين اليوم بعد التنوير فيعتبرون أحرار في
إيمانهم ولا يُكرَهُون ولا يسلبون حقا ولا امتيازات عليه وحرية اتخاذ الدين يكفلها
الدستور، لهذا فعدد ملياري مسيحي هو عدد واقعي بينما عدد المسلمين هو عدد تخييلي
نظري. ويوجد في سورة البقرة الآية 285
ما يشير إلى ذلك غير أنه ليس
مؤولا تأويلا يفرضه العلم العقلي المدعو بالهير منطيقا بل مفسر تفسيرا على المقاس
أيديولوجيا المتكونة تاريخيا على تقديس النص:" آمن
الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون.. كل آمن بالله وملائكته وكتبه
ورسله.. لا نفرق بين أحد من رسله.."([1])
مع هذا نجد
عبد الوهاب المسيري يقيس على مقاس الميتافيزيقيا المتعصبة إلى النخاع متحالفة مع التمذهب
(المشار إليهما سابقا في الجزء 1): أيديولوجيا الماركسية وأيديولوجيا الميتافيزيقا
الإسلامية، فهو واحد من الراديكاليين العرب الذين يكيلون بمكيالين ويعمون بعمى بصيرة
انتهازية اتجاه لليبرالية والديمقراطية التي أتاحت له العلم والليبرالية الأمريكية
معا، لذلكم ظهر كأكثر الراديكاليين العرب (اليسار الإسلامي) لا علميةً نتيجة تعصبه
تعصبين أما تعصبه اتجاه اليهود بشدة معمية للبصيرة طيلة ربع قرن (يصفهم بالشواذ
مجازا وهم أقوى دولة في الشرق الأوسط) فذاك دليل كافٍ على ضلاله في الصفحة سبعة من
كتابه المجاز واللغة حين يقول بأن تحييد العلم للقيم الروحية والأخلاقية تحييد
معادي للإنسان:" ونحن
نذهب إلى أن مثل هذه الرؤية معادية للإنسان، بل معادية للعلم. فمهمة العلم ليست
توليد القيم ولا فرض القيود علينا، وإنما تفسير العالم لنا. وهذه الرؤية عاجزة
تماما عن تفسير الظواهر الإنسانية، فهي لا ترى فارقا بين الإنسان والطبيعة المادة،
بل تراه جزءا لا يتجزأ منها، خاضعا لقوانينها، مذعنا لحتمياتها.." بل
العلم فسر لنا الظواهر الأدبية تفسيرا علميا نسبيا من ذلك الحداثة في النقد الأدبي
وطمسه لهذه الحقيقة نتيجة لتعصبه النفسي وحمله لمجتمع العلم الحر (و. م .أ)
الضغائن.
ثانيا عدد ضحاياه يتجاوز عدد ضحايا الديانات الأخرى (عدا المسيحية) مجتمعة منهم من
وقع وواقع في حكم الكفر، ومنهم الواقع في حكم التعدي على حرماته لكن العدد الأكبر
طبعا هم الذين يموتون مضطهدين بحرماته إلى عهدنا بسبب استلاب الإرادة الحرة.
والديانات الأخرى تقول أن الإسلام انتشر بحد السيف بين الإسلام يقول أنه انتشر
سلميا وللحكم أي الراي أرجح عقليا ينظر إلى عدد ضحايا الانتشار كم كان ونخال أن
شعوب آسيا الوسطى وشمال إفريقيا قد أبيدت بعشرات الآلاف ومن سلم منه مات جراء سلب
الإرادة في الحياة الحرة إذن التاريخ قد ارجح قول الديانات الأخرى.
ثالثا الاستهتار بقيم العلم الذي صار أيقونة من أيقونات الغرب المسيحي ولحد الآن
وبعلومه المادية العقلية والتجريبية من قبل علوم اللاهوت التي ليس أرضية عقلية
ترتكز عليها، كل ما في الأمر أنها مجموعة تفاسير لاعتقادات، لكنهم وجدوا في
الاعتقاد علما، أي شيدوا على رمال متحركة طينية قصرا في غاية من تعقيد التصميم
وجماله جمال سحري بلاغي مجازي.
ولعلّ
الحقيقة الغير خافية والتي تأبى المراهنة والمحاصصة والاستلاب هو لماذا يستمر
الدكتاتور في دكتاتوريته لو لم يكن الدستور هو الذي منحه الحماية القانونية، ولِما
يستمر الرأسمالي المستغل للضعفاء لولا قوة قانون عمل شركته المكيّف مع نظام بلده
الرأسمالي وفي الإسلام [ الإسلام ديانة إبراهيمية وسماوية وتوحيدية، هناك إله واحد فقط في الإسلام وهو الله، ومحمد هو رسول الله. والإسلام هو ثاني أكبر
دين في العالم، ويشكل المسلمون غالبية السكان في 49 دولة. يُعلّم الإسلام أن الله هو رحيم، ولديه القدرة الكلية، وهو واحد، وقد أرشد البشرية من خلال
الأنبياء والرسل، والكتب المقدسة والآيات. النصوص الأساسية في
الإسلام هي القرآن ـــــ الذي ينظر إليه المسلمون على أنه كلمة الله الحرفية
والمعصومة عن الخطأ ـــــ والتعاليم والأمثلة المعيارية (السُّنة)، والتي تشمل الأحاديث النبوية الخاصة بمحمد. ويعتقد المسلمون أن الإسلام هو النسخة الكاملة
والشاملة للعقيدة التي تم الكشف عنها مرات عديدة عن طريق الأنبياء بما في ذلك آدم
وإبراهيم وموسى وعيسى. يعتبر المسلمون القرآن الكريم الوحي المطلق والنهائي من
الله. مثل الأديان الإبراهيمية الأخرى، في الإسلام أيضاً حكم نهائي يُمنح فيه
الصالحون الجنة وغير الصالحين الجحيم (جهنم) ([2])] فإن هناك الشريعة التي لها القاعدة الاجتماعية وهي تشكل سلطة أقوى من سلطة شريعة
المسيحيين (كون المقدس عندهم اختياري لكن ليس جبري) تعاليمهم الكنسية ليست لها
قاعدة نخبوية عريضة بيد انها مفتخرة واثقة منها لذا فستجد في هذا المجتمع: الرئيس
والملك والقاضي والمعلم لا بل المجتمع كله إذا دعا الواحد منهم دعوة فيها ظلم بشري
سرعان ما ألبسها "بالله" وردد الشاهد من القرآن والسنة المحفوظان في الصدور
مع تفاسيرهما أحيانا، ولعل الطامة الكبرى حينئذ في دستور الإسلام المحل والمحاط
بهكذا تقديس أن فيه ما هو ملتبس في آياته الشيء الكثير (الآيات المتشابهات) والتي يمكن
أن تصبح مثار من تسول لهم انفسهم التعدي على الآخرين، سواء كانوا غير مسلمين أو
مسلمين مثلهم، وما الدليل على ذلك إلا الدين السياسي في أيامنا سليل أصولية أهل
السنة التي جاء بها ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية في القرن الثالث عشر واستندت
عليهما الدولة الأصولية العربية الحديثة متمثلة في الوهابية، بدون الحديث عن حكمهم
بجواز القتل الذي لم يتم تشريعه عندهم إلا بعد النكسة العربية مفجرا مياه من
الدماء في السودان ولبنان وأفغانستان والجزائر والصومال والساحل الإفريقي ومازال
يجريها لحد كتابة هذه الأسطر في والدول التي وقعت ضحية للقاعدة وفروعها.
والأساس لهذا الظلم السمع والطاعة تعطيلا لحرية
التفكير، وإن لم ينفع فالقتل والتصفية الجسدية والشنيعة الحيوانية كذلك، على أن
هناك عدد من الآيات المشتبهات في القرآن تحمل تناقضا يحتمل تأويلا (هيرو منطيقا)
وأخرى تستدعي اشتغال التأمل وتفعيل العقل من جميع الجوان، ومن حق الإنسان أن يُعمل العقل في النص الديني
كما يقول الأستاذ مراد وهبة لأنه الذي آمن بالنص الديني سيطلب في مرحلة تالية فهمه؛
أؤمن ثم أتعقل، وهذا كان شعار ابن رشد* وتوما الأكويني فكيف سيفهمه إذا صودر المرء في عقله
لصالح السلطة الدينية كما تفعل الأصولية بدعوى لا تفكير ولا تأويل يعلو عن النقل؟ ــــــ
حتى أن الفاتيكانيين بداية القرن الحالي قدموا قراءات وتأويلات جديدة للقرآن تماشيا
مع العصر لا بل إحالات تدفع بالعقل قبل النقل أولا قصد قطع دابر العنف وثانيا من أجل
التقارب المسيحي الإسلامي وتعايش المسلمين في سلام ووئام مع جيرانهم شرقا جنوبا
وشمالا غير أن الرد كان صارما وإطلاقي كالعادة وهو أنه كلام الله الذي لا يحرف وليس
مثل التوراة والإنجيل! ــــــ أو حتى
بتفعيل الحواس المدركة للنص إدراكا وجدانيا والتي يكون قد ركّز عليها عبد الوهاب المسيري
في كتابه "اللغة والمجاز بين التوحيد ووحدة الوجود" داعيا إياها وحدة
الوجود كنظرة توفيقية بين المادية الماركسية (العقل قبل النقل) والنظرة الأصولية (النقل
فوق العقل) ولعلّنا نستشف معنى ما يهدف إليه المسيري في الآية: "وتفقد
الطير فقال مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين 20
لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين 21
فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين"([3])
ففي هذه الآيات دلائل التعذيب والذبح
بسلطان القوة كابر عن كابر حتى لما علم سليمان الملك ( ويبدو من خلال آية القرآن
هذه حقا أنه ملك وليس نبي تماما مثل تقول التوراة، فكيف للنبي أن لا يحيط بالأمور
تكثر من تابعيه وكيف به يعذب عذابا شديدا ويذبح من خوله ذلك؟ إلا أن يكون تحول إلى
فرعون عصره؟) أنّ بلقيس حزّت رأس من حاول سلبها ملك أبيها وهي امرأة، فقال اذهب
وأتيني بها ومن الاستراتيجيات المعروفة في الحرب إلى أيامنا أن الأقوياء يخافون من
الأقوياء مثلهم فيسعون للتحالف معهم قبل فوات الأوان.
أما
النقطة الثانية المهمة جدا هي إخضاع العلم والعلماء بدون وجه علم (وجه حق) وهذا ما
يجعل الكثير من علماء المسلمين يهاجرون إلى المجتمعات التي فيها العلم
والديمقراطية والحرية إذن لا يوجد فيها استبداد وكثرة الظلم والتسلط، وهذه مجتمعةً
هي جراثيم حقيقية لدودة للعلم لكن يسعى أصحابها لإخفائها ويظهرون أسبابا أخرى
ثانوية بدلها كالقول بأن العالم في ديار الإسلام يهجر وطنه طلبا للشروط المالية ومتطلبات
البحث، بينما هذا غير صحيح فهناك علماء كثيرون وُفِّرت لهم هذه الشروط في بلدانهم
لكنهم مع ذلك فضلوا الهجرة، إذن يبقى عامل التخلف الذي نواته المحكمة الثبات على
التخلف مرتكزة على العقد الاجتماعي وعلى الأيديولوجية الدينية القطعية الإطلاقية، والتي
تُسير
وتوجّه من قبل ائتلاف أو تحالف الحاكم مع الفقيه مع التقني، فالمجتمع الذي ينقاد
ويسهل رعايته رعاية سياسية تعمل بعقد وثيق بين السياسي ورجل الدين( عبد العزيز آل
سعود + محمد بن عبد الوهاب و جعفر النميري+ حسن الترابي و الحسن الثاني + عبد
الكبير العلوي المدغري ..) خدمة لمصلحة الدين كأيديولوجيا (حزب خفي لكنه قوي) الأيديولوجيا
(القومية) وعمودها الفقري وسلطة القوة وهي سلطة ضعيفة مستقوية بهذا التحالف حتى
تستمر وكل ما عدا ذلك باطل، يتمسك القومي بفكرة أن الحدود السياسية
ينبغي أن تكون مع الحدود الثقافية بينما لا تطالب معظم الجماعات العرقية حتى عندما
يطالبون بالاعتراف والحقوق الثقافية بالسيطرة على الدولة([4])،
لهذا نفهم لماذا سن الرئيس تبون قانون خطاب الكراهية ولم يُسن مقابِلُه وهو قانون
التكفير أو خطاب الإكراه على الدين. وهاته الحال هي التي سعى الفاتيكانيين بحوار
الأديان لإنهائها بتصويب آيات القرآن. وأخشى أنهم فعلوا ذلك من منطلق عقلاني وليس
إنساني لأنها مساعدة تقف ضد مصلحتهم الاقتصادية والتجارية والعلمية لأن لا أحد
منهم يرضى بخروج المسلمين من تخلفهم فيفقد الغرب الكثير اقتصاديا وعلميا أيضا.
أجل لقد زالت صور التنكيل والذبح من ذاكرة واقع
العالم الحر وهو العالم الذي ورث أرشيفا موثقا لتلك الصور عن طريق الحروب
الصليبية؛ صور جمعت اليهود والمسيحيين والمسلمين والوثنيين في منطقة جد محدودة في
الشرق الأوسط ألا وهي مملكة يهوذا التي عاصمتها القدس أو مملكة فلسطين المذكورة في
الإنجيل على أنها مملكة الملك أبيمالك من نسل إبراهيم، فأما لماذا علقت في ذاكرة التاريخ
ولم تشأ مفارقة مخيلته الجمعية فلأنها جد بشعة وشنيعة وهي تلك التي ارتكبها
الفراعنة والبابليين والروم في حق مملكة اليهود الجنوبية خاصة تواليا عبر القرون، أما
تلك التي اقترفها الروم ضد مارقيهم كنتر الأيدي والأظافر نترا حتى الموت وباستعمال
الأحصنة
فهي لم تضاهي في عددها وشدة قرافتها الرجم عند أوائل المسلمين ثم عند الأنظمة التي
تحكم حكما شبه أُصولي قر وسطي باسم الدين في العالم الإسلامي اليوم وليس هناك قرون
مميزة عن أخرى، سبع قرون ونيف ــــ كعدد سنوات ثورة الجزائر ــــ وشريعة الرّجم
وقطع الأيدي والألسن والآذان سارية إلى أن جاء مع تجديد تلك السنة عصر ابن تيمية
وتلميذه الجوزية، لكن الحلف بين الحاكم والفقيه منع قيامها على شكل علني وواسع إلا
ما كان مع صنوف خطرة من المتمردين تبعا للآية:" أن يقتلوا أو يصلبوا أو
تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض.." أما في
القرن العشرين فقد عادت حليمة إلى عاداتها السابقة إلى أكثر ما كان متوقعا وهو استعمال
الإرهابيين في نفس تلك البقعة من الأرض للأبرياء من الأطفال خاصة كدروع بشرية
ورهائن سياسة وحرب بحيث تضرب الجهاد وحماس اليهود ضربا عشوائيا بالصواريخ لا يسلم
من خطره المدنيون العزل ثم يختبئون في المدارس وملاجئ لكي أو في يوم العيد حتى يوهموا
أن اليهود يستهدفون أساسا الأطفال والشيوخ والدين.
أما قوله:"
وبشّر المُخبِتين الذين إذا ذُكر الله وجِلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم
والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون" (سورة الحج، الآية 26-35)
فكلام عادة وسياق اجتماعي تاريخي فاقد للمصداقية العقلية المخضة أيوجد مخلوق لا
يهاب الله؟ فلا يصاب بالوجل والخوف منه؟ نخشى أنه لا يوجد إنسان من هذا النوع إلا
ما هو متصور لدى البشر عن بعضهم بعضا، تصورٌ فيه عدم إدراك ماهية الإنسان، عندما
يدرك الإنسان نفسه يستطيع أن يتعلم ليستفيد ويفيد أما إذا لم يدركها فلا يستطيع أن
يتعلم شيئا (خذ الاختصاصات الطبية في الجنس مثلا محدودة وضعيفة معرفيا ذلك للتوجس
الأخلاقي/الروحي الذي يمنع من معارف جد هامة ومؤثرة على صحة الإنسان النفسية هذا
خوف من السنة والعرف وليس من الله. ثم خذ أيضا الأسد في الغابة (كأكبر الباطشين
على الأرض) عندما يتحسس أنه موعد هلاكه قد اقترب لا يفعل شيئا غير الإذعان
بالانبساط وترك الروح تخرج؛ هذا حيوان باطش تحسسنا ما فيه من غريزة الوجل من الله
فكيف إذن بالإنسان؟) يصبح الروحي يعيق المادي والواقع يعيشه العالم المتخلف في
أيامنا وهو عالم قدّس الدين التاريخي وأفشل جميع محاولات وضعه في موضعه العقلي
الصحيح. إنها الماهية التي رسمتها ثم رسّختها كذلك في مخيلة العقد الاجتماعي
المترتب عن مبايع أولياء الأمور المواضعة علة الاعتقاد المبني على الخرافة
الأسطورة العوالم الخارقة وكلها مدركات تاريخية زمكانية، والتاريخية نزعة يرى
أصحابها نسبية القوانين الاجتماعية والحكم بوضعيتها وتعرف بأنها مذهب يقرر نسبية
القوانين الاجتماعية واتصافها بالزمكانية، وأن القوانين من نتاج العقل الجمعي،
وتسحب ذلك على الأديان أيضا([5])
أما الآية في
القرآن التي موضعا للحوار والمناقشة بين المسلمين فيما بينهم أحيانا ومع غيرهم من
الديانات والملاحدة أحيانا كثيرة لأن فيها ما ينافي الواقع بالحجة المؤكدة هي
قوله: ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ
وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ
الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ
الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ .. وَقَالَتِ
الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ
يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ
يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ﴾([6])
ليت شعري ما برحنا نعود كلما توغلنا أو تفرعنا نحو مشارب أرض هذه
الأسطر المتتالية الخصب كلّما تفرع وانتشرت وتبلورت اجتماعية الإنسان على الأرض ومنذ
أن خلقه أول خلق، والمشترك بيننا مازال هو هو لم يتغير هو القسمة العادلة التي
قسمها الله بين البشر إلا وهي العقل، وبالنسبة لنا وبالنسبة لرحلة الإنسان في
التاريخ، وهو بإزاء الله والكون ليجد له علاقة. أما العلاقة فاذا خرجت عن تلكم القسمة
فاعرف أنه الغي والضلال بعينه. إن من جاءه وحي فبها ونعمة يبلغ الناس به كما أمره
وحيه أو لا يبلغ به إلا أخص ناس (كما هو أول وحي مكتوب وحي التوراة) ثم ليترك
الرسالة تعمل بين الإنسان وربه؛ الرسالة موجودة بمبادئها وشرائعها من أخذ بها
فالله في السماء غير ظاهر في هذا الكون ومن تركها فهو كذلك، أما تذهب وتجعل
الرسالة أيديولوجية تظلم وتتجبّر وتضطهد تحت حجة الأخلاق وما إلى غيرها من ماديات
لا تخضع إلا لغير العقل فأنت تتخلف وتعيد نفس ما قام به مساكين الإنسانية الذين
كتبوا رسلا وأنبياءً وربما أخيارا وحكماء منذ غابر الأزمنة حتى فجر الحداثة ـــــ
بعد استرداد الأندلس وتفشي النهضة من إيطاليا في سائر أوروبا واكتشاف كولومبس
واختراع المطبعة..ـــــ لأنه لن يسكت عنك العقل بالتداعي الحر فقد انتهى عهد
الطغيان والاسترقاق منذ تلك اللحظة ما هو غيب غيب، وما هو علم علم، لن يسكت عنك مالم
تأتيه بشيء يعقل ببرهان ومنطق يأتي على مقاس ما خلق به الإنسان في أكمل صورة قلبا
وقالبا، فالسيارة ـــــ التي اخترعها للعامة المتدين باليهودية هنري فورد (1863ـــ 1947) ــــــ وقودها البنزين وليس الحليب أو المشروبات الغازية،
الإنسان كذلك وقوده المنطق الذي يكفي العقل الوقوع في الظلم والاضطهاد أي الإكراه
على الإيمان وإما المعاداة، فهكذا منطق ليس هو منطق عقلي أبدا لذا فإن ولي الإيمان
هو حرية الاختيار، عندما يكون الإنسان في أتم رشده وبقدر ما يكون حرا يكون مسؤولا،
فإذا أُكره على الإيمان عمله يكون كأنه غير نابع من إرادته فيكون عملا متواضعا
كثير ما يتخلله التلفيق والنفاق، والرد إلى قوى لا تؤخر ولا تقدم للوضع شيء،
ولذلكم صدق الشيخ الذي قال هناك دعوتان: دعوة إلى الله مغلفة بالدعوة إلى الذات
أساسها التنافس وإلغاء الآخر ودعوة إلى الله خالصة أساسها الاعتراف بالآخر.
وفي
تعقب سليمان الملك في عرف اليهود، النبي في عرف الإسلام ومحاورته لبلقيس ومراسلة
هذه الأخيرة له بما يشبه دبلوماسية جيوش العصور اللاحقة من الجاهلية إلى يومنا بالهدايا
وجس النبض من دون الكف عن استعراض
القوة، فهل يعقل من الملكة بلقيس حزت رأس الرجل الذي حاول سلب ملكها من أن تهادن
وترضى بما يمليه سليمان عليها؟ لا يعقل ذلك حسبما رأينا مع التوراة من جهة عدم
تكافؤ القوة بين مملكة يهوذا مع غزاتهم الأقوياء ومن جهة اتخاذ "الله" قرار
الامتناع عن التدخل المباشر لترجيح كفة ملك/نبي ضد آخر منذ طوفان نوح. ومع ذلك سيبلغ
الظلم والطغيان في مرحلة سيادة الإسلام أوجُّه لأن القوة ستكون بيد المذهب
والسلطان/الحاكم وليس بالضرورة أن يكونا على وفاق، وإذا حدّثنا تاريخ الإسلام أنهما
ضلا على وفاق لمرحلة هي الأطول وإلى الآن والضحايا الكثر فيه هم دائما من الرعية والدهماء
المغلوب على أمرهم عدا مرحلة أبو حنيفة النعمان (699 ــــ767)، الذي اعتصم بمذهبه
أهل السنة والجماعة وحده رافضا العمل لصالح الدولة الأموية والعباسية بدعوى أنهم
متسلطين وغير عادلين وحدهم، وهو ليس مثلهم ( في عدم ثقة)، ثم لما جاءت فرقة
المعتزلة (بتقديمها للعقل عن النقل) وضمت صوتها إلى صوت الخليفة المأمون والمعتصم
بالله كان ما كان من تدافع ونيل بالبطش المتبادل بين اتباع المأمون وأنصار السلفي
أبو حنيفة، جلد ونفي وحبس بأحكام مزاجية وتعذيب لا يمكن تصور بشاعته من لدن شرطة
الدولة وتحقير وإهانة من لدن انصار أبو حنيفة للهيئات الرسمية غير مفهوم بذريعة عدالة
أبو حنيفة التي كانت مفرطة إلّا أن يكون مرتكزها قوة إلهية حاضرة بينهم معشر الحنفية وحدهم! والحق الحق أن سطوة وجبروت الحكم المستمد من
الشريعة مع تطرف أهل السنة والجماعة كانا أحد أسباب زوال الخلافة العباسية، ولو أنهما
تركا المعتزلة والشعب لدَنُو رويدا رويدا إلى الدولة الرشيدة التي لا يسقطها لا
مغول ولا صائبة، والواقع
والأنموذج ماثل بين الأعين، في التيه والاغتراب الإنساني الذي مثلته الكنيسة
والمقدس ردحا وقاد إلى نفس النتائج المأساوية التي تتكرر بتوالي الأزمنة والدهور
لكن لا من يعتبر ويعقل ليعقّل المقدس، ويفك الجدل بينه وبين قرائه ومؤوليه، بأن
يجُعل بينهم وبينه وربهم وهو محمي بذلك من قبل "الله" فعلا كما يرد في
عقيدة المسلمين وليس من قبل القبيلة ولا الدولة ولا الأمة (الأيديولوجيا التي تعمل
عمل الوهم بالإنسان وتبعده جدليا عن العلم والعقلانية)
في القرآن دون العهد القديم والإنجيل منطق
يبدو سوء فهمه (طبعا تأويلا، وتأويلنا نتاج المقارنة بين معان ناتجة عن مواضعة
العقل الجمعي بأخرى معزولة عنه التي يدركها فقط العقل اللاجمعي/المحض) واضحا في
الآيتين التاليتين وهما على التوالي مقابلة الدنيا (الفسق) بالآخرة (الصلاح) معيارا
لا يصدأ بالمواضعة الأنثروبولوجيا صار معنى الإيمان مقابل لمعنى الفسق والفسق هو
أن يأتي المرء شهوةً لا تطابق شروطها المواضعة الاجتماعية وهذا أمر يُبغِضه "الله"
بل هذا الأمر يستحي منه الله "إن الله يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة
فما فوق" والمغايرة الثقافية (الجماعية) إذن الأخلاقية التي أصر الإسلام
عليها لمجاوزة سياق المسيحية واليهودية في شبه الجزيرة العربية برغم الحصيلة
الهائلة من الضحايا الأبرياء ليست ظلما شنيعا يأباه المنطق العقلي والغريزي التابع
له بينما الفردية المعزولة هي الظلم الشنيع أي الفسق "فبدل الذين ظلموا
قولا غير الذي لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسُقون"([7])
على أن الأيدولوجيا تمقُت مواضعةً الأسلوب الفردي بالتالي ستكون أي إرادة
فردية حرة متّهمة بل محتقرة من قبل أيديولوجيا الجماعة على أنها هادنت الفسق
والفواحش (أضلها الشيطان)، بيد أن تلك الإرادة في الحالة العامة ما اختارت طريقها
إلا بعد أن عرفت مسؤوليتها اتجاه نفسها واتجاه الله، أما اتجاه الله فلا يلزمها
استعماله أو استغلال "الله" أيديولوجيا، والقرآن فيه بقدر ما لا يعقل ما
يُعقل جدا (ليس عليك هداهم ـــــ لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من
الغي.. ) أما اتجاه نفسها فإن الذي يأمر به النقل بالانتقام من الإرادة الحرة
وتكفيرها غير قابل للفهم العقلاني بل غير عملي وليس مطابقا لواقع حياة الإنسان في
المجتمعات التي تفوق عددا الأسرة الكبيرة (أسرة الرسول أو الحكيم الذي يعتني
بأسرته على سبيل المثال) فأكثر.
على أن الأيديولوجيا يشرعِنُها
المنطق الأنثروبولوجي بقوة المواضعة الاجتماعية القهرية على الأفراد فيصبح ما هو
ظلم صلاح وما هو صلاح ظلم، والعقل المحض يقول أن هذه أخلاقي أنا وتلك أخلاقه
هو نسبة إلى المكان هي متغيرة ونسبة إلى الزمان هي جد متغيرة، وهناك أقوام في
الأمازون لا يرتدون ما يستر
عوراتهم أصلا، هل عندما انزل "الله" الآية
المذكورة أخذ في الاعتبار هؤلاء الأقوام أم لا؟ إذن هذا المعنى المذكور في الآية
معنى سياقي بشري يبغض فريقا منهم ولا يبغض فريقا آخر، وأصل الشر حسب الكتاب المقدس،
لا يبدأ من نزوع كامن في أساسه، لأنه لو كان الأمر كذلك، لما كانت بداية الشر
لتنبثق من الحرية، بل من الخطيئة،
(وهو ما ينبغي أن نفهم منه التعدي على القانون الخلقي بوصفه أمرا إلهيا)؛ لكن حالة
الإنسان قبل كل نزوع إلى الشر إنما يسمى حالة البراءة. إن القانون الخلقي يقدم
نفسه، كما ينبغي أن يكون عليه الأمر أيضا لدى إنسان
هو ليس كائنا محضا بل هو واقع تحت غواية الميولات بوصفه وصية أو أمرا (1،
موسی، II، 16، 17)([8])
إذن
هذه مقابلة غير صالحة لأن حضارة العلم التي استوفت مع التنوير بعد
سلسلة من التيارات الفلسفية المتلاطمة وآخرها كانتا الفلسفة المثالية مع الفلسفة
المادية لم تكن من أساسها لولا تجاوز هذه المقابلة العقيمة، فلو سألت غربيا أو
الحاذين حذوهم من شعوب العالم الثالث لماذا تأتي "الفسق"؟ أي لماذا تقبّل
الأجنبيات ولماذا تزني وتدع أختك تفعل مثلك؟ ولماذا تتعاطف مع الشواذ؟ يقول لك أن
ذلك ليس فسقا بل هو توهم للفسق الذي مصدره هاجس ثقافي وقد عمّر في جينات سلالاتهم
طويلا فغدا مكونا نفسيا وهاجسا مثل المكونات النفسية الخوف والرغبة وغيرها، غير أن
المجتمعات الشرقية والإسكندنافية والتي تقع في نطاق مدار الحرارة والبرودة
القياسيين العالميين يعانون منها أكثر من غيرهما* فحسب
هذه النظرية التي يؤيدها كثير من علماء الأنثروبولوجيا الاجتماعية تنزع إلى اعتبار
أن الفرد المحروم من إتيان فعل ما (كتعبير عن الإرادة الحرة في الإنسان) بخاصة
الذي عنده رغبة في إتيانها بل أتاها فعلا ثم تاب عنها نتيجة للقهر الآخَرِي وليس
كوازع ذاتي في تركها، فهو يعلم أن غيره يستطيع إتيان "هواجسه" لذا ينزع
بكل السبل إلى النيل من هذا الأخير ولو بتلفيق الأكاذيب والأقاويل لذا ينسب إلى
الشرقي المقولة "تعلّمْ شفاء نفسك بقهر عدوك"، وهذا
لعمري ما هو إلا تصور "جدلي"
للجنس/الفسق نتيجة الكبت
répresion في
اللاﱠشعور نتيجة مواضعة اجتماعية فتعدد الزوجات وتعاطي الخمر والصدقة على الفقراء
والتوشح بوشاح كانت كلها جزئيات خاصة بالنسبة للوثنيين وحتى صعاليك الجزيرة
العربية ولما جاء الإسلام مشددا فيها قبلها الناس/المسلمون كونها من صنع وعي جمعي
وهي حتميات أخلاقية شعورية التي لا بديل لها، بالعادة تصبح لاشعورية، يعني لا يستطيع
الإنسان الفكاك منها بين ليلة وضحاها، فالكبت والفسق حتميات أخلاقية من الوعي
الجمعي قننتها الشريعة الإسلامية فقط.
فالفسق إذن هو فقط أن لا يتحمل الشخص مسؤوليته
اتجاه احتمال الأبوة من الزنا وهذا أمر نادر في المجتمعات الغربية المعاصرة، والفسق
كل الفسق هو ما يقهر به المجتمع أفراده بتزويجهم أطفالا وعدم ترك حرية الاختيار
لهم، والنظر إلى الحريات الشخصية نظر ريبة وشكوك بل وانتقاص يصل حد الإبادة السرية
لحرفة العهر وثقافة الشواذ كما حدث فعلا في سنوات الثمانينيات في كثير من الدول
العربية وأن هؤلاء القاهرون والمجرمون هم مثل هتلر يبغي إرادة حرية شعبه على حساب حرية
العالم يعني أننا في مثل حالة هذه المجتمعات مازالت محارق اليهود والقرون الوسطى
تشتغل، فأي ظلم وجبروت هذا الذي يتعذّر بالفسق الظالم وهو في فسقه وظلمه متعد لكل
حدود الظلم المنطقية والعقلية!؟ فما الفسق المذكور في الأساطير القديمة
والنصوص الدينية إلا تجني من لا يميل إلى تذوق الشهوات الجنسية على من يتذوقها
بنفس تجني الشخص المفرط التّطهُر من النجاسة من الشخص الطبيعي التطهر، وواضح أن
الهاجس النفسي متعدٍ بالحساسية Allergy عند هذا المفرط إنما يوقظه
تصور نفسي ــــ ذهني مُعاش أو محمول في جيناته وهو اضطراب نفسي، فلا يستطيع أذية
العاهرات (بغضا وحقدا ما بعده حقد) إلا من كان في نفسه بعض عهر (في عائلته) وأراد
الالتفاف ليثبت غير ذلك ونفس الأمر بالنسبة للشواذ. والنبي يحي John المذكور في
الإنجيل والقرآن قيل فيهما عنه ما مفاده أن قد قتلته مجرّد امرأة بغي،
ونلاحظ كلمة مجرّد هنا تدلل على الرفعة والاحتقار النفسي من الفعل وليس من صاحبه
لأن هذه المرأة كانت خادمة الملك (رتبة مستشار في عصرنا) أي أرفع طبقيا من يحي،
وهذا التصور عايشه يحي ومن هو على شاكلته مع سائر البسطاء والدهماء ونقلوا تلك
الصورة وأسقطوها كذلك على الوجهاء، ومن يتصور هذا التصور لا يكف عن الاعتقاد أن
الله سينتقم له في مقتله غنها الأنانية التي تصور أن الأنبياء يعانون أكثر ويتحمّلون
أكثر من غيرهم، وبإرسال الملك البابلي نبوخذ نصر ليُجري دماء سبعين ألف من عشيرتها
انتقاما لدم يحي، والحقيقة هو أنه ظلم القوي للضعيف ــــــ مملكة بابل ضد مملكة
يهوذا نحو 625 ق.م أنظر حُمّى الانتقام بقلع الأعين بين نبوخذ نصر وملك القدس
يهوياقيم 2 مل 24: 12ـــ 16 و 2 مل 25: 7 و2 أخبار 36: 5-21 وار ص 39 و52 ـــــــ أو هو
قانون السببية المجاري لسنة/قانون الكون: من يمنع غيره ينتقم منه ويمنعه أيضا، ومن
يحقد على غيره يحقِد المحقُود عليه أيضا، ومن يقتل يثير عصبية الانتقام كذلك في ظل
غياب قانون وضعي صارم كاف مانع مثلما هو في عصرنا كما في قوله:" ما
قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي
الفاسقين"([9])
أما منطق التسامح من موقع
قوة هو عفو في الإسلام كونه متكئ على القوة الإلهية بالتوحيد، والتوحيد الذي دعت
اليه الديانات الثلاثة آملة أن توقف سلسلة من الظلم والطغيان في تاريخ الإنسانية مستمرة،
والذي نستشف آثاره في الآية: " ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم
الآخر وما هم بمؤمنين 9 يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم
وما يشعرون 10 في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا
يكذبون" بيد أنه حلّ
وبالا وخرابا بالإنسانية أكثر ممّا كان ومن مصدرين:
الطقوس والعادات والتقاليد ومن النص المكتوب في تأويله والتي وحدها تحتاج إلى
دراسة في مجلدات، فحسب عبد المجيد الشرفي ظلّ يؤول ويوظف ويوج حسبما تقتضيه
الظروف التاريخية ومصالح الفئات التي تتنازع التأويل وما تسمح به الآفاق الذهنية
والأطر الثقافية والمعرفية في تلك الظروف([10])
بل وحسب المفكر أدونيس كان التوحيد بداية لتدهور البشرية أولا من جراء ما
لحق بالإنسانية التي كانت على وثنية حيث سحقت الوحدانية البشرية وجعلتها تكرس
العبودية وانسحاقا للإنسانية دهورا ودهورا لم تملّ من الحروب والكوارث بعد ما كانت
في حل من ذلك إلى حد ما، وثانيا يفترض من التوحيد والتزكية والعمران الذي
أنيط بالأديان الثلاثة أن يرتفع بالإنسان لكن التطبيقات غير النظريات، وواقع الفرقانية
والمذهبية وصلت حد التناقض في رؤيتها وأصبح باسم الألوهة وباسم الدين يقتل البشر
(القدس) ويبادون فأين التزكية والعمران؟ وبالنسبة للإسلام سبب ما يحدث اليوم عدم
الفصل بين النص والتأويل.
أمّا التّسامح الذي يأتي من موقع قوة ليس في
معناه تسامحا بل هو استثمارا بالاستعطاف والاستمالة لمن يشهد ذلك "العفو عند
المقدرة" وبهذه الطريقة تأثّر المجتمع فتأسلم عن بكرة أبيه وامتد، فالتسامح الحق
الواقع حال تكافؤ الفرص بين المتسامحين ليس غير والتسامح موقف عقلي كلٌ يطرح من
حقوقه حتى لا يبقى حقٌ عند أحدهما يطلب، وأخشى لو أن المسيح دخل بيت لحم منتصرا
بعدما أخرجه أهلها منها لأقام الحجة في المحاكم هو فيها متّهِم ومتَّهَم: لماذا
أخرجتموني؟ فقالوا أخرجناك لكذا وكذا، هذا يطرح من حقه وذاك من حقه حتى يتسامح
الفريقان.
ولعلّ لفظ "حِطّة" في الآية:"
وإذا قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجّدا حِطةًّ
نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين" هي المقصودة في قول عبد المجيد الشرفي
وهي تحمل معنيين
فلا يظهر المعنى الظاهر (طلب المغفرة) إلا وتلاه المعنى الباطن (تنزيل قيمة الشيء)
لكن لم نعثر في تفاسير القرآن العدة على المعنى الباطن، فلعبادة لله يتطلب الأمر
تنزيل في قيمة الفرد وهو مطأطئ الرأس فمع الله كذلك هناك عباد يحسن أن يحط الشخص من
قيمته أمامهم والا لن يحصلوا منه على طعام القرية ويصبحون في حكم الظالمين
والفاسقين! هذه مقايضة مألوفة ولم تكن في تاريخ الإنسانية بخافية حتى أيامنا
يطلب الإقطاعيون والرأسماليين من عمالهم الخضوع الذي فيه مذلتهم حتى يرسّمُوهم
عمال أمانة، فبالدعوة إلى الله في الإسلام عديد الآيات نجد فيها من دخلوا كطرف أو
شرط لتحقق الدعوة الإلهية والعبادة حتى ولكأنهم هم مفتاح الله وليس العلاقة
المباشرة بين العبد وربه ففي هذه الحالة المفروض أنهم هم الظالمين نتيجة هذا
الوقوف غير المبرر تبيرا عقليا وفي المسيحية ثار البروتستانت عليهم والغوا صك
الغفران الذي يقوم به الرهبان لأنه انحراف عن الأصول بيد أن في القرآن ما زال
اللبس ــــ ما لم تعمل الهيرومنطيقا عملها ــــ يكتنف علاقة العبد بربه وهي واقعة
في حالة علاقة أيديولوجية، وما بلك لو أنها وضعت موضع علاقة مستقلة من النفس إلى
الرب دون تدخل من أحد كما هي في المسيحية، ومطب هذا هو الرضا بالتفاسير القديمة
للقرآن والصدود على التفاسير العلمية، برغم أن المشتغلين على فلسفة التفسير أو الهيرومنطيقا مشغولين مازالوا
بالإشكالات النظرية والمنهجية المرتبطة بتأسيس هذا النظام المعرفي إلا أن هذا لم
يمنع من إجماعهم على رفض النزعات الطبيعية والوضعية الساذجة في المعرفة والوجود[11]*، وتبنيهم في كل الأحوال (باستثناء هانز ألبرت تلميذ
بوبر وصديقه ونزعته العقلية والطبيعية في المعرفة) للنزعة الإنسانية
(الأنثروبولوجية) والفردية في فهم الكيان التاريخي والذاتي الذي نسميه النص من
داخله بوصفه كيانا إنسانيا متفردا يختلف عن كل ما هو طبيعي وموضوعي، ويقتضي في
تجربته وتفهمه وتفسيره مناهج مختلفة من مناهج التحليل والتعليل في العلوم
الطبيعية، وذلك على نحو ما أكدّ دلتاي أحد رواد فلسفة الحياة التي تقوم عنده على
التفهّم الكلي لما هو متفرّد في الإنسان والتاريخ وعصور الحضارة ونماذج الأدب
والفن([12]) والذي قلناه على آية سورة البقرة مساواةً للظلم بالفسق نقوله
على آيات سورة المائدة المتتابعة التالية :"ومن لم يحكم بما أنزل الله
فأولئك هم الكافرون،.. الظالمون،.. الفاسقون"([13])
5. فترة
العصور الحديثة والتنوير
)من1453 م إلى 1800)
أنه ليشرفني اليوم أن أقول أني قد بحث عن علم
الأدب العربي ونقده عند مختلف العينات التي تشكّل مجتمعات سوسيو ـــ سياسية صغيرة
أو قل نخبة الأثنيات حتى أو نخبة النخبة، أجل قد بحثت عنه مليا في مضارب الشيوعيين
والملاحدة والأصوليون والمنافقين في أكبر تجمعات بشرية لهم في القطر الجزائري فلم
أجد منه (العلم) غير تكريس لثقافة التملق وأيديولوجية المنافع الخاصة، وهذا إنما
هو أقوى دليل على ضعف تاريخي في هذا الذي سميه علما إنسانيا أو تخصصا أو ما شئت،
إذ بمعزل عن هذه الطريقة لا يستطيعون الضرب فيه قطميرا، ثم ذهبت أخيرا للبحث عنه
في مداشر الطرقية وأهل الصوفية في مختليات الزهد والرهبنة فلم أتلقف منهم غير وجع
الضمير وانكساره، فلما وليت وجهي اتجاه جامعات الداخل وجدته أخيرا لكن لم أجده لما
وجدته إلا وهو مُسيّج محاطا بعناية أساتذة المركز فقلت لما ذاك؟ قالوا نحن أساتذة
لهؤلاء، وقد درسنا عندهم هناك، فقلت ولكنكم خير منهم. فأجابوني إجابة واحدة يكاد
الألم ونكده يتقطران معها: لا تنس أننا هامش وهم مركز والحق لم يعد في هذا الزمن
المر بيد المُحق كما قال رسول الإسلام ورسول عقيدة التثليث ولكن أصبح بيد القوي.
فتركتهم وطويت أبحث عن ذلك العلم في بلاده الأصلية فوصلت إلى قاهرة المعز لأدرسه
بكل عزيمة وثبات غير أنه ما لبث أن خاب ظني وأنا في بداية العهد به هناك لأنهم
كانوا كثيرو الإطراء لتاريخهم والتحقير لتاريخ المغاربة فيه، أما التمثيل المحقّر فدائما
كانوا يختارون الجزائري دون غيره فيقولون الجزائري هجين بالغريزة! وكذا وكذا.. ويقولون الجزائري لا يلفظ ولا يفعل ولا.. فحزّ في قلبي وأنا بينهم الجزائري وهم يعرفون
ذلك أن أشمت في جنسيتي برغم أني أدرك أن ما يقولونه هو الحقيقة بعينها، فآثرت
الانصراف طوعا إلى مجال العلم الذي ليس مثله مجال أرحب وأعمق ألا وهو أخذ النقد
والأدب بمجهود الفطرة والجهد الخاصين من أصوله أمهات مصنفات اللغة والأدب التي تعج
بها مواقع الإعلام الإلكتروني، ولما بلغت ما بلغت في تحصيل ذلك العلم بتلكم
الطريقة جاءتني فرصة ضائعة انتظرتها طويلا وهي أن ارتحل إلى العالم الجديد وان
انتسب إلى جامعة أصيلة ديمقراطية تعلم الأدب بكل اللغات، فهالني ما وجدت هناك من
مستوى رفيع، وقد أصبت بنوبة من الإحباط لتضيعي كل هذا العمر الطويل بين الملاحدة
والشيوعيين والمتشددين والمرتزقة عن ما لا يبحث عنه لديهم.
وقد
يقول قائل ما مناسبة هذا الكلام؟ مناسبته هو أن الطغيان والتظلم كما علمَنَا إياه
التاريخ يتحرك على مستويين مستوى شعبي أو تلك الكتلة الهائلة من الجماهير التي لا
تعي حالها إلا ما يؤّمن لها حجاتها المتمثلة في القوت والأمن، ومستوى النخبة (يمثلون
عبر التاريخ البشري كله علماء اللاهوت والفقه ويحْضَون باحترام من الأعيان وهم
بمثابة أنصار الملك أو أنصارا للتمذهب والطبقية أو أنصار النبي وهم مشرّعين ومفتين
نتيجة مكانتهم العالية هذه) هذه النخبة تعيه جيدا (أساس العدل أساس صعب الميراث
والتحقق العملي) لكنها تتحايل على التاريخ وعلى المستوى الثاني فتقاسِمه فائدة
بفائدة ليستمر الوضع فلو اتجهنا إلى الثالوث الأدب والعلم والدين، في جدلية علاقة
أضلاعه مع بعضها البعض، نجده مكرس لصالح هذه النخبة التي أدلجته أي جعلته
أيديولوجيا الأدب وأيديولوجيا العلم، فالأدب ونقده الذي لا يلتبس موضوعه اذن
طبيعته الإنسانية وخدع بتجريده من محتواه حيث منذ أن جاء الإسلام نزع الإسلام
الفكر من الشعر وأعطاه لنفسه والى أيامنا مازال الأدب تفعل فيه الأفاعيل لأن
المستويين المذكورين جعلوا منه "حالة" لمصلحة الأيديولوجيا؛ وجامعات
الجزائر بخاصة في أقسام الأدب العربي تعج بمستوى يصنع لنفسه المستوى الطبقي أو
الطبقية لكن بالتملق والنفاق والالتفاف على قيم العلم دون غيرها فاضحت مستودعات
لكل شيء عدا لعلم الأدب ونقده، وحاشا أن تكون الصحراء الغربية مستعمرة وسكانها
الذين في العيون والداخلة وبوجدور ساكتون راضون بمصالحهم مع نظام المخزن، فهذه ما
بمستعمرة، المستعمرة تنهض وتتحرك هي أولا وحين يأتي التدخل الأجنبي لمساندتها يكون
مبررا بالجرية وتقرير المصير، أما أن يسود الهدوء وراحة البال على المستويين
الشعبي والنخبوي فهذا شيء لا يفهم إلا أنه قبول بالاستعمار وليس الشعوب كمثلها في بغض
الاستعمار، وعندما يجد المثقف على المستوى النخبوي أن يعترض فإنه حتما على مستوى
الاجتماعي اللاواعي بفعل الرسوخية يغدوا صعبا بل مستحيلا، فاذا كان الأدب ونقده
هذا حاله فكيف يكون الحال مع العلم المادي الذي جلب الخير للإنسانية بعد أن
افتقدته الإنسانية في عصور اللاهوت والميتافيزيقية المختلفة؟ هل تحرر من قبل سطوة
الروحي مع الإسلام وتحكمه فيه وجعله أيديولوجيا هو الآخر تجاري أحكام الغيب؟ الواقع
يقول أنه لم يتحرر بعد بل حظي بتشويه ممنهج. وصحيح عندما يقول عالما من أهلها عن
التنوير في مقال منشور في "عالم الفكر" المعروفة باتجاهها الإخواني أن العقل
جعل الإنسان سيدا على الطبيعة، فأدرك بذلك ذاته وسخّر كل ما في الطبيعة لإشباع
حاجاته ورغباته. هذا صحيح ولا يخالفه فيه عاقل أما عندما يمضي قائلا: مكّن
هذا العقل أيضا من ممارسة سلطة على مختلف العلاقات القائمة بين البشر
فقننها وجعلها في خدمة السلطة لا بل جعل من علاقة الإنسان بذاته آلية تُحكم بهذه
الذات عينها، وبهذا كان الإنسان أسير السلطة وعبدا لها قبل أن يتحول إلى أداة
بيدها والى موضوع فعلها في أطر حديدية"([14])
فهذا خضوع بتشويه ممنهج أيديولوجي؛ عندما يضع العلم مقابلا سياسيا للدين ونظام
الجدلية المادية مقابلا تاريخيا للأنظمة لليبيرالية والرأسمالية الديمقراطية، وقد
اطّلع به اتجاه أول هو اليسار الإسلامي بقيادة عبد الوهاب المسيري وحسن حنفي
وغيرهما لمصلحة المنفعة عن الطريق السهل دون مجاهدة أو نضالات الضعف ضد القوة أسوة
بالأنموذج الأوروبي واتجاه ثان ماركسي الحادي لاديني يرى أن ظلم البورجوازية
الغربية تجعل للبؤساء يستعمرون من قبل الأفكار اللاهوتية: تقلد
هذه المهمة فرسان أقلامها الذين عروا حقيقة الوهم الديني بكشفهم عن جذوره الأرضية " قهر
الحكومة هو الذي يجعل الدين ضروريا. لأن الإنسان عندما يعيش حياة بائسة يفكر
تفكيرا بائسة. تحرير الإنسان من الدين مشروط بتحريره من الظلم" وكتب دیدرو: "سيظل
النوع الإنساني بائسا طالما ظل على الأرض ملوك، قوانین ملكية خاصة Le mien et Le tien وكلمات الفضيلة والرذيلة " وحارب فقهاؤها،
باسم التشريع الروماني، حملة الكنيسية على الربا، ظاهريا باسم شريعة المسيح وفي
الواقع بأسم مصلحة النبلاء، بعنف لم يفقه، فيما بعد إلا عنف البورجوازية والكنيسة
معا في محاربة مطالب العاملة الفتية([15])، وكلا الاتجاهين مثلا مصلحة من مصالح التخلف نفسه أي
بطانة للسلطوية، وغالبا ما يبدون في أيام الرخاء يساريهم وفي أيام الشدة إسلاميتهم
كما حصل مع صدام والقذافي، وإنما الصحيح هو في أن تستبدل الكلمة المسطرة العقل
في كلامه بكلمة الدين لتنجلي الحقيقة وينكسف الباطل طبقا للشاهد الأكبر وهو
التاريخ من العصور المظلمة إلى التنوير إلى صراعات العولمة مع المحلية.
فلو أنه تحرر
لما صرنا نستحضر عصر النهضة الأوروبية لزلنا؛ فريق لا يعترف بتجزيئية الحداثة، أي
أنه لن نكون حداثيين أبدا بالانتقائية في الاقتصاد والتقنية دون ثقافة وعقلانية
التحرر من الجمود وأولئك هم الحداثيون والعلمانيون فالحرية والديمقراطية هي قفا
الاقتصاد والعلوم عندما يكون هذين الأخيرين وجهاه، وهو يريد الحذو حذوهم في
التنوير والدخول بالعالم عصر الثورة الصناعية الكبرى التي يعيش العالم كله اليوم
على نتائجها العلمية المبهرة لكن وجدوا من يعارضهم بحجة العقيدة "لن ترضى
عنك اليهود والنصارى حتى تتبع ملتهم" وأولئك هم التراثيين أو التقليديين
الذين يقولون بعلوم الغرب دون ثقافته وديمقراطيته فالفنون والآداب التي مهدت للنهضة
الأوروبية الشاملة والعودة إلى فلسفة الإغريقي الملحدة وكلها مهدت للتنوير
والحداثة عندهم هي فسق وأخلاق أهل الكفر والبدع، وقد قبع هذا التصور في وعيهم
الجمعي منذ حادثة قذارة حبر المطبعة التي أحضرها نابليون في غزوه لمصر العام 1798
حتى ترسّب في شكل حنين لا يزول للتوقف عند ماض مقدس والتقزز من الاستشراق وباللجوء
إلى العنف حتى (كما سيتبلور في سبعينيات القرن العشرين). أما وتعصب المستويين
السابقين المذكورين أعلاه للفريق الأول فتحصيل حاصل لأن السلطة السياسية (غير
الديمقراطية) هي التي تتحكم في النخب والمثقفين والدهماء معا عكس المنطق رأسا على
عقب فبنية هذا المجتمع لا تتحرك طبيعيا بحركة واعية عقلانية بل بتوجيه اغتصابا
للعقل الواعي:" إن التعذيب المستخدم
ورغم أنه يشتمل على العديد من الإصابات الجسدية الوحشية، مثل التعذيب في العصور
الوسطى، كالصلب، وغرس المسامير في الأعضاء، وقلع الأظافر، وغير ذلك.
ولا
شك في أنهم كانوا يستخدمون أساليب أكثر فظاعة، ولكنهم كانوا يعتزمون لأن يكونوا
أكثر فظاعة في تأثيرهم، حيث اعتمدوا على وسائل تفكيك وهن الضحية بدهاء، ولتشويه
إحساس الضحية بالقيم، إلى درجة أنه لن يبكي ببساطة، ليقول معترفا: نعم لقد فعلت
ذلك! "ولكن سوف يصبح شريكا، ومستعدا على ما يبدو للتفكك الكامل، وموالاة من
يقوم بغسل دماغه. إنه إنتاج خيال متقن."([16]) وكل
محاولة للتصحيح تجابه بأنها تمرّد وكفر نتيجة لقوة اللا وعي الجمعي بالعادة
والتقليد السوسيو ثقافي/الأنثروبولوجي بدل الوعي بالعقل المحض، والحالة هذه نفسها
ظلم للعقل بمجرد التفكير النظري به وما بالك بالعمل به داخل هذه المجتمعات المغلقة
عندئذ سيكثر الظلم وتتفشى الحقرة واللا عدالة ويكون الفقر والتخلف منتهى السلسلة، وتحت
ذرائع خبيثة محاكة ملفقة جيدا وبتمرّس، ففي المستوى النخبوي العالم والصحفي الذي
ينشر الحقيقة يوقّف والسبب عدم دفع حقوق النشر وهكذا دواليك مع سائر القطاعات. فالتعطش
إلى الحرية وإلى مقدس أعظم لجعله غاية الغايات هما متلازمان وغير منفصلان تلازم
وجه الورقة لقفاها، عندما يُفتقد أحدهما لزاما يُفتقد الآخر لذا صدق كانط مع غيره
من علماء وفلاسفة التنوير يوهان غوته ومونتسكيو وميكيافيلي وفولتير وديكارت ودافيد
هيوم وبيكون وجون لوك وروسو وسبينوزا حينما قال:" فالحاجة إلى الدين
لا تأتي إلى الأخلاق من خارج بل هي فكرة تنبع من الأخلاق، وليس أساسا لها. لا يصبح
الإنسان متخلقا لأنه متدين، بل الأمر بعين الضد: إنه لا يصبح متدينا إلا لأنه
متخلق، أي قادر على إعطاء قيمة أو غاية نهائية لحريته"
مضيفا " لا يمكن لأي
شيء مقدس أن يكون أهلا لأن يعبد إلا من حيث إنّ الاحترام الذي
يتعلق به ينبغي أن يكون حرا. العبادة الصحيحة ضرب من الاحترام الحر لقداسة نابعة
من حاجة خلقية في طبيعتنا وليس من خوف كسول من المجهول"([17])
ولم تخرج الحروب الصليبية عن شريعة الاغتصاب والعدوان بالحرائق المقدسة في
القرون الوسطى ظلما للناس متدينين أو غير متدينين، وجفاءً للعلم ما بعد جفاء، وكان
منطقها يسري في اتجاه المقولة "كنتم شر أمة أخرجت للناس تسلبون الإنسان
إرادته الحرة وتضربون قيدا على التفكير العلمي" وهي المقلوبة بنقيضها ضد بضد
لأن الواقع يشي وينام على ظلم مستشري باسم التوحيد والألوهية! ولأن الباباوات في نهاية تلك الحرب كما في بدايتها قد شرّعوا منطق
الانتقام للمسيحيين لاسترداد الأندلس حتى وصل الأمر أواخر القرن الثالث عشر بالملك
فيرناندو والملكة إيزابيلا إلى حز رؤوس المسلمين انتقاما لحز المسلمين لرؤوس
المسيحيين، تماما كما يفعل أجدادهم في الكنيسة الأنغليكانية في كامل أوروبا
الغربية الذين سبق لهم أن مثلوا ولعنوا وأقاموا حرائقا أسموها الحرائق المقدسة لكل
من يناقض تعليماتهم المسيحية وحتى اليهودية كما فعلوا مع كوبرنيكوس وهيبتا وغيرهما،
لم يكن التحول من جاهلية العصور الوسطى
إلى العصر الحديث سهلا، بل كان صراعا طاحنا ومعارك وانقسامات واتهامات بالكفر
والزندقة وأحكاما بالقتل والتعذيب والحرمان. وبدأ التحول تدريجيا بين صعود وهبوط،
ولكنه استمر واتصل. وحاولت قوى جاهلية العصور الوسطى أن توقف التاريخ عندها مثلما
يحلو لكثيرين الظن أن التاريخ قد توقف عندهم وانتهى بعد أن قالوا كلمتهم...([18]) طبعا تحوّلت مظاهر الظلم الواقف ضد إرادة الحياة الحرة بتغير
أحوال المجتمعات الاقتصادية إلى أشبه ما تكون بأيديولوجيات عدة ما أن تموت الواحدة
حتى تعقبها الأخرى، بيد أنه مع التنوير استقل العلم بتسيير شؤون الحياة السياسية
ففُك قيد العلم ليأتي بالثورة الصناعية والعلمية الكبرى التي يعيش الكون اليوم على
نتائجا أو مخلفاتها المطّرِدَة التقدم. غير أن الإسلام في أحكامه الإطلاقة لم يقدر
على تطليق المقولة/الآية السابقة إلى ضدها لا بمحاكاة التنوير الغربي المسيحي ولا
بغيره، وهي مازالت ذريعة أخلاقية لتبرير التخلف بالتثبيط والتواكل من جهة على ما
هو غير علمي وجاهز مطلق وقد تعضدها آيات كثيرة تحث على عدم القلق على المستقبل
الغير منذر بالخير كالتي تكتفي بالتضرع عوض التحرك بعد الاضطرام من نار الغيرة الإيجابية
:" ولا تتمنوا ما فضل
الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما
اكتسبن واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليما "([19]).
وقد سمعت بغير
بعيد عالما جزائري يتحدث للإذاعة كأنه معقبا على زملائه الأمريكيين أنكم لم
تقنعوني بقولكم نحن في حاجة إلى paradigme يحدث
ثورة في la physique fondamentale وهو
جزيئة نوترينو NOTRINO وهو النوترينو الرابع من
سلسة NOTRINOS الذري المتواجدة بشكل
أساسي في الكتلة السوداء الغير مرئية والتي تشكل 23 % من الكون لكن إخراجه يتطلب طاقة ضخمة تعادل طاقة المجرة وهو الجزيئة
الوحيدة المكتسبة لخصائص المادة الغير المرئية المختفية عن عالمنا كعالم الجن، لأنه
غير مشحون وله كتلة لذا أمكنه الاختراق non atomique matière invisible بمقدوره
اختراق الأشياء لاكتشاف العوالم المختفية عن هذا العالم، فهذا العالم الجزائري قد اطمأن
استنادا إلى القرآن في قوله: رجال من الإنس ورجال من الجن والتي يشير إلى أن عالم
الجن غير مرئي وليس من الغيبentité invisible
وبذلك وصل إلى قناعة تامة باستحالة البحث في الموضوع أي جمع
اليدين وانتظار علم الغربيين.
إذن يتضح من
خلال هذه الصورة الحيّة أن علم اللاهوت وضع نفسه في مواجه العلم العقلي الغربي
المتنور بأنوار النهضة الإيطالية ثم الإصلاح الديني ثم النهضة الإنسانية فالحداثة التي
أتبعها التنوير* بأيديولوجيا العقيدة المتعصبة كما وضعها التمذهب
واليسار الماركسي (الشرقي) المعروف بنظرية الجدلية المادية وفشل فشلا ذريعا ضمن
الفضاء العربي، أما علم اللاهوت فمازال متعصبا في مجابهته المبنية على المعتقدات
الغيبية الغير مُنبنية على أسس علمية واقعية تجريبية يستقى منها القانون الوضعي
العادل بين العقول البشرية المودّعة أجسادها قسمة عادلة من لدن أعدل العادلين، وهو
ما تجلى معنًى من خلال المثال المذكور أعلاه، فكأنه يستهتر بهم حين يذكر لهم أمور
الجان المذكورة في القرآن ذكرا غيبيا دون سند عقلي بيّن وثابت ومطلق، وهذا لا يعني
أن الغرب نائم عن علوم لاهوت بل لديه علوم لاهوت لكنها علوم اعتقادات؛ علم عقيدة
غيبية لها مجالها وليس لها بعلوم المادة والقانون العلمي دخل. ولأنه كذلك أعطى
المشرّع له حرية الاعتقاد فيما شاء دون إكراه ولا انتقام يجدُر به المُضي دون
انتكاس أو طغيان. وقد عبّر التنوير عن الوعي بأسباب النهضة وهو إحلال اللاهوت أو
علم العقائد إحلالا عقليا بعزله عن العلوم العقلية ويبقى مواكبا حرصا على هذا
الإحلال.
ومن
جهة أخرى الاستماتة في الدفاع عن قيم القبيلة في قمة لا معقوليتها ولا جدواها
العلمي وهي تلك المتعلقة بالجوانب الاقتصادية والسياسية والعلمية النظرية ففي
الجامعة كما في مؤسسات الدول الحكومية الأخرى يتم تدريس نظريات لا تنسجم ولا
تستجيب للمعايير العملية والأخلاقية لكنها تنسجم مع الخطاب الديماغوجي فيخضع
الطلاب ــــ خاصة في الدراسات العليا ــــ إن ناقشوا أساتذتهم بالحجج العلمية إلى
الابتزاز والاضطهاد أكثر ممّا يبتز ويضطهد الرأسمالي عماله. ممّا شجاني حقا وكسر خاطري أن يضلّ دعاة المسلمين في مناقضة
العقل بقولهم "الأخذ بأسباب العلم" وتحت راية دين كل قيمه غيبية بل
مشكوك في غيبيتها من لدن معاصري الديانات السماوية الأخرى وملحديهم سواء بسواء
أنها من أفعال البشر انتحالا. ولعلّ إشكالية العلم تكمن في أنه نوعان نوع مادي مجسد
وآخر مُجرّد ولما كان الدين علم مجرد للبحث في الوحي وتفسيره وتهيئة شريعته لكي
تكون كالقانون الذي يسنه البشر بل أفضل لأنه صادر من إله وليس من بشر.
وعلم المجردات كالفلسفة والفن والأدب سبق
للإسلام أن كفر بها لدى الإغريق ولزاما عند من حاكاهم أثناء التنوير وبعده لجعلها علوما
قاعدة ارتكازية للمستحدث من العلوم والاختراعات العقلية بيد أنه ما انفكّ التناقض
يقضّ مضاجع العلم المتصور دربه هكذا في هذه الديار التي ما زال التخلف عن الركب
الحضاري دليلا قاطعا على ضلالها الروحي والعلمي معا حيث التوجّس في بداية تعرفهم
عليها سيضعف إيمانهم بالإسلام فيتركونها، والفلسفة كما هو معروف تقوي الإيمان
بالعلم لكن بعد أخذ الكثير وليس بعد أخذ القليل كما يقول ابن خلدون، بيد أنه مازال
عالما من علمائها الفقيهين بشؤون المجردات أي الفقه وعلم اللغة والعلم المادي
المتمثل في الطب معا وهو راتب النابلسي يقول أن مشكلة المسلمين الأولى عدم الأخذ
برعاية أسباب العلم المادي/قوانينه المادية، والأخذ بمبدأ السببية الإلهي هو لازمة
عبادية وهو جزء من الدين، وعدم الأخذ به معصية كبيرة لا بل ويعزى تخلف المسلمين
وفعل غيرهم فعل الغالب بالمغلوب فيهم دليل على أن أعدائهم أخذو بالأسباب وهم غفلوا
عنها فليت شعري أليس هذا كلام أحاجي شعبية سورية، لا بل نكتة مملحة للنفس التي يركبها
عقل ولا يستوي بهما الإنسان إلا في انتظامهما الجدلي! فكيف للنفس أن ترضى أن تبخس
عقلها وهما صنوان وجهان لعملة واحدة. أكاد أجزم أنك يا شيخ كدت تهوي إلى مدارك التناقض اللا منتهية لو أنك جئت
بحكاية اللهو والإلهاء عن الجد بالفنون والآداب، الفنون والآداب التي كانت الأرضية
التي جاء بعدها الإصلاح البروتستانتي ثم النهضة العلمية فالتنوير، فالثورة
الصناعية عبر مسيرة سبع قرون تقريبا، ثم ما حال الشعر؟ كيف أخصب ويخصب التفكير
عندهم بينما يكون سببا في المآسي والمآتم اللا تنتهي عندنا حرقًا وقطعا للرؤوس ورميا
في المهاوي والمنافي على غرار ابن حزم والحلاج وغيرهما ممّن كُتم أمر التنكيل
بهم بتلفيق تهمة (بدعة) موازية إذا كانت الرئيسية ضعيفة، مع العلم أنه كانت علامة
التلفيق وابتداع الحيّل في دراسات الأنثروبولوجيين البنيويين بخاصة مشتركة، وهي
علامة ما فتئت تتعاظم مستفيدة من تراكم خبرات التاريخ لأن الأساطير والملاحم
والتوراة القديمة تهدي فيها الآلهة بالحيلة! والحيلة الطريق السهل لتجميد الظلم
والجبروت بدل الذي لا يحدث قطع دابره وهو سلوك/تراث أنثروبولوجي ثقافي إنساني
توارثته الإنسانية جيلا عن جيل، والخضر ذلك الرجل المقدس الحكيم اتبع الأسلوب نفسه
(الحيلة) كما اتبعتها آلهة الأساطير واتبعها منافقو بنو إسرائيل (العهد القديم،
سفر المكابين الأول، الإصحاح الأول من 1 إلى 16) ولم يكلّف نفسه الخِضر محاربة
الملك وقرصانه الظالم وهو لها وأكثر كونه حكيما لكنه اتّجه إلى الضعفاء يُخرّب
سفينتهم مع استثناءات قليلة كوقوف مارتن لوثر وسانت أوغستين ضد فساد الكنيسة
الباباوية وحكماء الأرثوذكس ضد القياصرة الروس، ولقد حَسُن بك أن تزيد أن الشعر
صار هامشا لمركز الفكر الأوحد إلا وهو كلام الله فتركوه ليهتموا بالعلوم التي فيها
جد ومنفعة بينما اهتمينا نحن بالقشور اهتموا هم باللب فتقدموا وتأخرنا لينطلي
السحر على الساحر وتكتمل صورة الأحجية من جميع جوانبها.
كان يعتبر الزواج دون مواثيق اجتماعية وإدارية
زنا وفحش لرفضه دينيا في المسيحية وتعامل أصحابه معاملة جزائية ملائمة بيد أنه بعد
سقوط الكنيسة وتبوُء العلمانية الحكم في المجتمعات الغربية بدأ ذلك الأمر باب من
أبواب الحريات الفردية بل حقا إنسانيا إذا ما اقتضت العادة ردحا على أن الفعل
المخل بالحياء كالتعري مرفوض تبعا للسائد في عرف أخلاق الجنس بالتعود الأخلاقي المعنوي Morale Ethique والأخلاق متغيرة
بيد أنه في الإسلام القطيعة الأبستمولوجيا في
العلم بهذه العلوم ومناقشتها جعل كل شيء يبقى طي الثابت والمسكوت عنه اللا مفكر
فيه:" فأتت به قومها تحمله
قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا يا أخت هارون ما كان
أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا"([20])
بل هناك في أفغانستان طالبان والصومال وهم أقلية من يعاقب رجما هذا الحق أو هذا
الباطل لا ندري ما نسميه لاختلاط المر علينا ففي فرنسا وإنجلترا والو. م. أ هناك
أقلية قد تُجازي أصحاب هذا الفعل مرتكبيه ويقيمون لهم حفلة على شجاعتهم ولكن لحسن
الحظ الأكثرية لا تبالي وتعتبره سنة كونية فقط تحتاج إلى تنظيم مثل الأكل له أوقات
محددة مناسبة لنشاط الجهاز الهضمي.
6ـ فترة التاريخ المعاصر وبداية
الاستشراق (من1798م إلى1950 )
في العام 1926 خرج كتاب طه حسين المعروف إلى النور فأقام الدنيا ولم يقعدها لأنه كان أول محاولة جريئة لإنصاف الاستشراق وفك عقدة أسر التخلف والارتباط القهريب بالماضي الذي لا يستجيب لتطلعات المستقبل، ولمّا لم يقدر على مواجهة ثقافة الظلم القوية المتحكمة حتى في دواليب سياسة البحث الأكاديمي بالجامعة المصرية آنذاك المستقلة
نوعا ما مقارنة بوضع الجامعة الجزائرية حاليا، دخل مرغما في مقايضة المصالح خارجا إليها من معطف اللغة الشعر، كما قرر أن يلتفت إلى الشّعر والأدب ونقدهما داخلا إليهما من سياق شبه الجزيرة العربية قبل ما يربو عن 14
قرنا ويزيد وبحوزته حزم من الأفكار المسوسة المقيمة والراسخة اجتماعيا وثقافيا مقررا إشعالها للتدفئة في ظل ذلك السياق القارس، أجل فجَمُل على منهجه النقدي أن يبقى حبيس التخصص ولا يخرج إلى البادية أبدا، فعوض أن يوجّه لومه للنص الديني وجّه لومه في سنوات الثلاثينيات والأربعينيات للنص الأدبي بل كمن له علاقة به تحديدا، قائلا في إحدى الرسائل التي يرد فيها على صديقه أحمد أمين:".. نعم لو أني أرسلت نفسي على سجيتها لاكتفيت ما كان بيني وبينك من حديث أول أمس ولكني مدفوع هذه المرة إلى أن أتجاوز السجية وأخرج عن العادة المألوفة وأرد بعض الأمر إلى نصابه لأنك تجاوزت فيه ما ينبغي من الإنصاف، وأنا أبرأ إليك من الغرور وأربأ بك عن الجور وما أشك في أن أمثالي من الكتّاب الذين عرضت لهم أو عرضت بهم من فصلك القيّم يبرؤون إليك مثلي من الغرور ويربؤون بك مثلي عن الجور، ويرون مثلي أنك عرضت لقضية النقد وقضيتهم أيضا في النقد عرضا سريعا حظ اللباقة فيه أعظم من حظ التثبت والتدبر والأناة أظنك قد عرفت الآن القضية التي أريد أن أجادلك فيها والمذهب الذي أود أن أصرفك عنه، فأنت ترى أن جماعة النقاد الذين كانت إليهم قيادة الرأي الأدبي أو قيادة الحياة العقلية منذ حين قد اصطنعوا الشجاعة أول أمرهم وآثروا الصراحة أو كانت الصراحة لهم حلقا فكتبوا مثل ما كانوا يرون وأخذوا كل حظوظهم الطبيعية من الحرية. لم يخافوا من الجمهور ولم يخافوا الرأي العام ولم يحسبوا المقاومة المحافظين حسابا، ونشأ عن شجاعتهم تلك وعن صراحتهم هذه أن بعثوا في الحياة العقلية نشاطا لم تألفه مصر.. " هكذا كان واقع العمل الفكري الذي يوازي دون
أدنى شك عمل البنية التحتية ولم نقل ينعكس عنه في عصر هو عصر ذهبي بالنسبة للعرب
ولم يسلم مع ذلك من إعمال الشكوك في الإهمال والتقاعس وتبادل المنافع الذاتية على
حسابه، إذن التجني والظلم الذي يكون أول ضحاياه هم الأوفياء المخلصين بالنية في
أعمالهم والذين مال إليهم أحمد أمين. وما بالك بواقع عصور عُرفت بأنها عصور
الأيديولوجيا والتدافع الهمجي الفاشي المافيوي بين الشرق والغرب وبين الخير والشر.
1.6 مرحلة الاستشراق واستمرار
تلفيق التهم
تأثّر المستشرقون في دراستهم للإسلام بمنهج
النقد التاريخي في دراساتهم للعهد القديم والجديد كونهما نصان تاريخيان بالأساس،
فطبقوا هذا المنهج في القرن التاسع عشر على الدراسات الإسلامية وخلصوا إلى نفس النتائج
تقريبا التي خلصوا إليها في دراستهم للعهد القديم والجديد وهي "مساهمة
أجيال عديدة في تطوير وتكوين فكر وشريعة وطقوس الديانة الإسلامية، وعبر تاريخ هذه
الديانة الطويل تأثرت بمعتقدات وطقوس أمم مختلفة "([21])
فقد كانت بداية الدراسات الاستشراقية الديانات
الشرقية وكانت تشبه إلى حد ما محاولة صبر أغوار الشر في مصادره بجس نبضها أولا بالتحاور
العلمي العملي وثانيا غنما لفائدة تعود على الطرفين، لكن هاجس الآخر المُضمِر للشر
اتجاه ما هو ظاهر أنه مضمر للخير لم يكن من السهل التعرف عليه قصد تذليل ما يمكن
تذليله وصولا في الأخير للتعايش في كنف أكبر وئام إنساني ممكن، فلمحاصرة الشر لا
بد من معرفته أولا ثم دراسته ثم صياغة قانون يمنع من حدوثه في شكل مظالم. وصراع
الشر مع الخير في المرحلة التي نحن بصددها. في الحقيقة كان صراعا من جهة بين
الأصولية الدينية متمثلة في جماعة أهل السنة والجماعة وما قاربها وهي مجموعة
أصولية لا تحبّذ ممارسة السياسة لكن أهوالها أشد من التي تحبذ ممارسة السياسة، وهي
جماعة الإخوان المسلمين وبين حركة العرب في استيعاب التنوير بل خلق تنوير عربي
حديث مستفيد إلى حد اقصى من حركة الاستشراق، ومن أنظمته الديمقراطية المحاصرة للشر
في عقر دياره ومن خلال هذه القوة التنويرية المسندة بقوة رباط الخيل لم يكن في وسع
هذه الحركات غير مقولة "التكفير" والعبث بالعالم. ورصيد العرب في
مقابلتهم للعالم المتقدم من منظور عالم ثالث لا تكتمل صراعاته إلا بالتلون بألوان
الماركسية والعالم في بداية الأمر كان كله محط إنظار الأممية الاشتراكية ثم اعتدلت
في صراعها لتواجه الأنظمة الليبرالية فقط مواجهة مرتبكة لوجود ارتباك في مبادئ هذا
المذهب.
ونخشى أن ما شاب المناهج البنيوية من غموض وما تولد عنه من أزمة لا ينفصل
عن غموض وأزمة الفكر الماركسي المذهبي نفسه وأزمة هذا الأخير لا تنفصل أيضا ـــ
بنظري ـــ عن فكرة صراع الشر ضد الخير. وسيفهم معنا القارئ لماذا شغلت البنيوية
مؤسسات ونخب الأنظمة الماركسية أكثر من غيرها بل راحت تدافع عنها بكل قوتها، إنه
المذهب الذي قام أول ما قام على وعي شرقي بفكرة الأنا والآخر وهو وعي نفسي لوجود
الآخر الغربي المتقدم عليه (أو الغني) أي تقديم فكرة الذات والآخر لوجود خلفية
نفسية لم تهضم معايشة تقدم الآخر وتراجع الأنا تاريخيا، وفي محاولة المذهب
الاشتراكي اقتصاديا والفكري عقيدةً ماركسية وكأنه لابد لإثبات ذاته من إقصاء الآخر
إقصاءً كليا (وهي البذرة التي ستكون سببا في زواله) ففكرة الجدلية المادية جاءت
لتقدم لنفسها ـــ بالطبيعة البشريةـــ موازاة مع تفحيم المقولة العقلانية
الرأسمالية الحرة لإلغائها كما ألغى الفكر الديني الإسلامي الآخر بإطلاقية تامة،
وكلمة حر/ ليبرالي هذه لم تفهم فهما جيدا لدى رواد هذا المذهب الماركسي في نظري،
وجوهرها هو نفس جوهر الماركسية، وهي المقولة التي تقول بقدر ما تعمل (تنتج) تأخذ،
اهتدت إليها بما يقابلها عقلانيا أيضا وهي فكرة صراع الطبقات أو الجدلية المادية
وما أتت به من مبادئ عقلانية هي نفس ما جاءت به الرأسمالية الليبرالية وهي بقدر ما
تعمل (تنتج) تأخذ.
إذن الإضافة العقلانية التي جاءت به
الماركسية عن الرأسمالية لم تكون إلا الجاهزية في الطرح المعارض، فتحت خلفية الأنا
المتعالي تُولَد أيديولوجية المذهب وتُسبَّق أصحابها وتعلي من شأنهم؛ أي جاءت
باصطفائية جديدة تقوم على الحرص على أيديولوجيا الذات: بقدر ما تعطي تأخذ لكن
بتقديس المذهب وبممالأة الذات وتملقها؛ يعني المفروض مقولة بقدر ما تعطي تأخذ لا
يُكمِّلها إذا ما نَقُصت غير الطرد والعزل كونه إجراء منطقي وعقلاني وديمقراطي
وعادل في نفس الوقت حرصت عليه الرأسمالية ( وهي نفس العدالة التي يتغنّى وما زال
يتغنّى بها هذا المذهب كثيرا لكن منكّهة ببهارات الذات دوما) لكن في حالة
الماركسية إذا ما نَقُصت المقولة كأن لم يعطي الأستاذ الجامعي عملاً ولا إنتاجا
يستحق عنه راتبا ضخما يتقاضاه شهريا فيلجأ إلى التغطية عن النقص في العطاء/العمل
بالتملق والممالأة رتبة لرتبة أعلى منها: الطالب الذي من المفروض أن يحتج ويطلب
بمفتشين يجد ما هو أسهل وهو أن يُمالئ أستاذه ليأخذ، وقد كان أستاذه نفسه غضّ
الطرف عن رئيس القسم الذي لم يرى قسمه لمدة طويلة، وهذا الأخير كان مالَأَ الوزير
المُقصّر، والوزير المقصّر الرئيس، وهكذا.. تقف ذاتية هذا المذهب الذي وجد أصلا
كرد فعل تشنجي عصبي غير مدروس دراسة عقلانية وافية، فكان أن مثل فضيحة للعقلانية
وانتكاسة تكسبية مُعلية لأيديولوجيا الذات محقرة للآخر (وبالمناسبة فان أي عقل/
إنسان بمجرد أن يقوم مخاطبا عقل/ إنسان آخر أنا أفضل منك فهو قد غَبَّر مثل ما
يقول المثل الجزائري أو راح في ستين داهية مثل ما يقول المثل المصري) ولمّا كانت
تلك الفضيحة بنيوية يعني ملتبسة بمقولة العقلانية المشار إليها أو قولة الباطل
التي أريد بها قولة حق فإنها دامت متخفية غامضة ملتبسة هذا المدة كلها (بمعونة
نخبة مثقفة وأكاديمية ماركسية) ما يقارب الأربعين سنة تطبيقاتها العملية الفاسدة
المناقضة لنظرياتها البراقة الشعاراتية عندنا في الجزائر وحتى مصر وسوريا والعراق
بدرجة أقل.
وبالرغم من أن حركة
الاستشراق لا تنتمي معرفيا إلى دراسات الأنثروبولوجيا لكنها تنتمي إلى الدراسات
الثقافية والنقد الثقافي بيد أن بعض الأنثروبولوجيين العرب ـــ منهم حسين فهيم ـــ
فقد حاكوا الأنثروبولوجيين الفرنسيين في دراساتهم عن تطور الملكية والأسرة
والإنتاج من وجهة ماركسية في العالم الثالث والأمريكيين عن تطور المجتمعات الريفية
والتقليدية في الشرق الأوسط وشرق آسيا، ولكن لم يعلموا أن الفرنسيين والأمريكيين
انطلقوا في تلك الدراسات دون عُقد مسبقة كالتي انطلق منها الأنثروبولوجيين العرب
وهي العقد نفسها موضوع دراساتهم أي الطوباوية وأيديولوجيا التفوق العنصري، والتي
جعلتهم يدرجون الاستشراق موضوعا أثيرا من موضوعات علم الأنثروبولوجيا (لأن
الاستعمار لا يرى أنه صراع مجتمعات متكافئة على مركز اجتماعي أو ثقافي ولكنه
محاولة لتطوير اجتماعي وثقافي عن طريق مقابل اقتصادي يحصل عليه البلد المستعمر)
ويستشهد حسين فهيم بدراسة محمد وقيدي التحليلية التي تسير في اتجاه تكريس عقدة
الشرق الأيديولوجيا والطوباوية باعتباره الاستشراق وسيلة إمبريالية ورأسمالية
والتي تلخصها العبارة التالية: "إن التحليل المنصف لحركة الاستشراق
بصفة عامة يوضح لنا أنه بالرغم من هيمنة الرؤية الأيديولوجية للبرجوازية الأوروبية
الاحتكارية على الحركة الاستشراقية بصفة عامة، فإن هذا لم يمنع من ظهور اتجاه
استشراقي غربي بدا في نظرته لواقع وتاريخ الثقافة غير الغربية أكثر إنصافا. لقد
برز لدى هذا الاتجاه الاستشراقي ميل إلى فهم أكثر موضوعية الظواهر الثقافية للعالم
غير الغربي، كما اختفى لديه من جهة أخرى كثير من عناصر البنية الأيديولوجية التي
كان يدور في فلكها الاستشراق عند بدايته. إلا أن ظهور بعض المستشرقين الذين يمثلون
هذه النزعة الإنسانية، لا ينبغي أن يقودنا إلى المبالغة في تقدير مظاهر التقدم
التي تحققت بفضل قيام هذه النزعة. وذلك لأن هؤلاء المستشرقين لم يستطيعوا أن
يتجاوزوا بصفة كاملة الرؤية الأيديولوجية للبرجوازية الأوروبية، وظل فكرهم في كثير
من عناصره يدور في فلك نزعة المركزية الأوروبية، هذا فضلا عن بعض العناصر
الأيديولوجية الجديدة التي ظهرت لديهم، وبفعل وجودهم في مرحلة تاريخية أخرى غير
التي عرفها الاستشراق في بدايته"([22])
وعندما يقرر المستشرق حط رحاله ببيئة الشرق
لدراسة أحواله وظروفه التي لاحظ من الطقوس والعادات الأنثروبولوجية فهو لا يأتي وهو
متسلحا بأجدد النظريات العلم الحديث فقط بل جاء متسلحا بمعرفة ثقافة الغرب
المسيحية المبنية على الثقافة اليهودية القديمة فهو يدرك عندما يقرأ الآية :"11 وجعلنا الليل والنهار آيتينِ فمحونا أية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلا "([23])
أنها تشبه بدايات سفر التكوين غير أنها لا تمارس إغراء مضمونيا ــــ كما في
الإنجيل ــــ إلا في تركيب بلاغي وأسلوبي جديد هو أسلوب خاص باللغة العربية ضمن
سياق ثقافي خاص، وهو المدعو عند أهله بالإعجاز الأسلوبي حين يكون أسلوبا محكما
(كافا مانعا) كما في لغات الشرق الأدنى القديمة وهذه الصفة اللغوية توافق صفة سمو
روحي لا يبلغه إلا أحكم الحكماء (الأنبياء في عرف المسلمين)، ففي الآية سابقة تلخص
اكثر من آية/مزمور في سفر التكوين أي من قوله:" لتَكُنْ
أَنْوَارٌ فِي جَلَدِ السَّمَاءِ لِتَفْصِلَ بَيْنَ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ.. وَكَانَ مَسَاءٌ وَكَانَ صَبَاحٌ يَوْمًا رَابِعًا" إلى قوله:" َأُكْمِلَتِ
السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَكُلُّ جُنْدِهَا.. وَبَارَكَ اللهُ الْيَوْمَ
السَّابعَ وَقَدَّسَهُ، لأَنَّهُ فِيهِ اسْتَرَاحَ مِنْ جَمِيعِ عَمَلِهِ الَّذِي
عَمِلَ اللهُ خَالِقًا"([24])
وكل ذلك إنما يعني أن الأسفار الخمسة/العهد القديم والجديد/ الإنجيل يبغيان إجلاء
مضمون رباني والمرتكز مرتكز أن الإنسان كائن عقلي بالدرجة الأولى (مميز عن
المخلوقات به) وليس غريزي بالدرجة الأولى أما القرآن فلا يأتي بمضمون رباني (عقلي
كلام الله) إلا بسياق عاطفي وغريزي وهو كلام العرب البليغ والشاعري في ذلك الوقت
كما في قوله:" يسألونك عن الساعة أيان مرساها 42 فيم أنت من ذكراها 43
إلى ربّك منتهاها 44
إنما أنت منذر من يخشاها 45
كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلّا عشية أو ضحاها"
الذي يمكن إيجاز مضمونه في جملة فقط وبدون قواف في لغة الإنجيل العقلية.
وقد فهم المسلمين
علمائهم ومتعلّميهم ودهمائهم أن تفسيرات المستشرقين ههنا إنما هي تحيز وعنصرية
تنسب دينهم لله وللسماء والقرآن للسياق الأرضي، وهذا هو حكم عاطفي غريزي هو الآخر
بحيث أن مناهج المستشرقين اعتمدت المقارنات والاستقراءات المنطقية الفلسفية
المستبعدة جدا لأحكام القيمة. واستمرار هذا الفهم ناتج عن استمرار العمل بالنص
القديم:" 5 إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون 6 ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم 13
وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون 14 الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون 15 أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين"([25])
لتقف حائلا دون الحرية اذن القول بمقولة الآخر المترسبة بين الإسلام والغرب منذ
الحروب الصليبية الآخر الدنس الذي لا يجوز معاملته معاملة رحيمة، فالحاصل أن النص لا يشير إلى البر والإقساط مع المستشرق ولتوضيح المعنى نضرب
مثل دخول مرجليوث حانوتا لشراء لبنا مثلا لكن يمده صاحب الدكان بحليب فاسد وعندما
يحتج مطالبا باستبداله يرفض التاجر من عامة الناس، ونفس المعاملة يجدها من النخبة في
مركز البحث الذي هو مدرسة أو مجمع علمي حين لا يُزوّد من هو حداثي أو أجنبي بما
يحتاجه من مراجع ومخطوطات وأدوات بحث جاء ليطلبها من بعيد مقارنة بنظرائه الباحثين
العرب، ويقع ضمن هذه النخبة واحد من اهم الذين نظروا لحركة الاستشراق المعاصر
وأحله محل التبجيل للأسف عديد الباحثين الجزائريين والمغاربة وهم أبعد ما يكونون
عن الشرق الأقصى ومتاعبها السياسية ـــــ واذا طرح ذلك تساؤلا فانه يطرح
أيديولوجية البحث العلمي في هذين القطرين ـــــ وهو إدوارد سعيد الفلسطيني الذي
قرأه من وجهة نظر ثقافية فلسطينية أيديولوجية وغير محايدة حيث جعل جميع المستشرقين
لا إيجابيين بل سراق علم وثقافة الشرق مخطوطاته وتراثه النفيس ومُحصّلين لأرزاقهم
عندما ينفذوا مخططات حكوماتهم لنهب موارد الشرق وجعله تابعا للغرب لا متبوعا، خاصا
الاستعمار الحديث بحصة الأسد في تجنيه على المستشرقين غضا حقيقة أن هذه الحركة لم
تبدا في القرن التاسع عشر مع استعمار الجزائر ولا مع غزو نابليون لمصر* ولكن بدأت مع حركة التنوير في القرن 16 م وقبله
بكثير، وقد حدد مكسيم رودنسون مولد الاستشراق في الغرب بتاريخ 1779 حيث ظهرت هذه
الكلمة لأول مرة بإنجلترا، فهي اذن ساعد أيمن للنهضة الأوروبية والمختصة في
المساعدة على دراسة الإنسانيات بخاصة التاريخ الإنساني الشامل والتراث الديني
المسيحي الذي يعتبر التراث الإسلامي مكملا له أو جزء لا يتجزأ منه لأنه جاره
التاريخي الملاصق والملازم له بل الناسخ لتراثه المسيحي في نصه المقدس (القرآن)، وقد
تناول الباحث نصر حامد أبو زيد قضية تناص أغلب القصص في القرآن مع ما جاء في الكتب
السماوية الأخرى ومن ثم مع الثقافة السائدة بين قسم من أبناء المجتمع العربي
وقتذاك قائلا: "وفيما
يتعلق بالنصوص القصصية الشفاهية يمكن القول أن التناص معها اعتمد على آلية
الاستيعاب وإعادة التوظيف من خلال سياق يعيد تأويلها تأويلا ناطقا بأيديولوجية
النص. أما الموقف من النصوص الدينية فقد اعتمد آلية الانتقائية التي تقبل الأجزاء
وتعيد توظيفها وتأويلها، أما الأجزاء المرفوضة فتم تصنيفها في خانة الانحراف، أو
التحريف الناتج عن الضلال. ومن السهل على النص أن يقوم بالتأويل والتصنيف اعتمادا
على أنه نص نابع من المصدر نفسه، وأن إحدى مهامه من ثم تصويب الانحرافات التي أحدثها
البشر في أصوله السابقة"([26]) والنتيجة هي تشويه الحقائق وانتكاسة البحث العلمي
وبقاء دار حليمة على حالها بظلم للناشئة ما بعده ظلم تستمر الحلقة ويتجدد التخلف
جيل بعد جيل.
إنما هذا هي حقيقة الدين في مواجهته للعلم تعسفا
وظلما باسم الألوهية ومرة أخرى. وهو ما يجعل من العقلانية الغربية تضطر إلى اللجوء
إلى القوة بعدما لم تجدي البراهين العقلية و العلم غير المتأدلج (نسبة إلى
الأيديولوجيا) نفعا (حوار الطرشان) مع هكذا آخر ـــــ صنف نفسه أنه آخر عندما
استعدا العقلانية واعتقد باللاهوت ــــــ لتظهر صورته أوتوماتيكيا معكوسة له في
مرآة الأنا المتعالي معتقدا أن الاستعمار الحديث المتعالي هو من صنعها له ـــــ استعمار
أجزم أن غاياته الأسمى هي محاولة التحرير لكن لما جوبه هذا التحرير بالقوة استثمر
الغرب اقتصاديا ليعوّض ما لحقه من خسائر لا أكثر ولا أقل،
وتغييب النقد والتوهم بأن مرجعية المقدس تضمن له التعاطي مع الحقائق العلمية من
منطقه/قانونه الذي يسمح بالقهر والتحريم وإلغاء والإقصاء؛ من مفارقات تاريخنا الحديث،
وهي تستعصي على العد، أن هذا الشرق الذي ولد فيه الدين لم يلد فيه، في تاريخه
الحديث، نقد الدين. لأن الطبقات الصاعدة التي تجرأت على نقد الدين في تاريخ أوروبا
الحديث لم يعرفها تاريخنا الحديث إلا كطبقات مجهضة تخشى النقد والثورة أكثر مما
يخشاهما رجال الدين ورجال الدولة أنفسهم([27])
ـــــ وظهر
أيضا في تعاطيه مع الصحوة السلفية الجهادية حديثا وحصارها بالحوار أو لا محال
بالقوة أيضا، لأن القوة كل القوة والإيمان كل الإيمان هو بيد من يتسيّدون العالم
اليوم لكن وقع غريزة الانتصار للذات والأيديولوجيا في الإنسان هو الأقوى على مرّ
العصور فمهما حاولت استأنس الأسد منذ صغره يأتي اليوم الذي يخدعك ويودي بك بغريزته
المدفونة/المتنحية ومع الإنسان كذلك الأمر عندما تحدثه نفسه عن نفسه.
بفضل هذه الآية مازال الكثير من المتطرفون المحسوبين عل الرسالات السماوية والرسالات السماوية منهم براء ينالون بها من إنسانية وكرامة الكثير من خلق الله بخاصة العلماء منهم نساءً وشيوخا وأساتذة وطلاب علم مهما كانت حالتهم الاجتماعية بحجة واهمة أن العلمانية دين الفجور والانحراف التمرد والنفور من رحمة الله! بينما العلمانية ببساطة
الوقوف على مسافة واحدة من كل المعتقدات الدينية للمواطنين في الدولة الواحدة،
ولعل أبسط من عرفها كان أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأميركية وهو توماس
جيفرسون "الرئيس الثالث للولايات المتحدة"، حين قال "إن الإكراه
في مسائل الدين أو السلوك الاجتماعي هو خطيئة واستبداد، وإن الحقيقة تسود إذا ما
سمح للناس بالاحتفاظ بآرائهم وحرية تصرفاتهم"
فإذا كان هذا شأن العلماء ما بلكم بأصناف الفنانين والشعراء إذن وهم عندما يتلى عليهم القرآن في مختلف الظروف يكادون البكاء من شدة التأثر هذا إذا ما لم يكونوا بكوا فعلا مثل ما يبكي الوعاظ في مساجدهم أما تأمل عظمة الطبيعة من حولهم تراهم من شدة تمثل عظمة الخالق من خلالها كالمصعوقين يُجرُون دموعهم سواقيا أمام مرأى الداني والقاصي أفلا يدل ذلك على رسوخ مرعب لبذرة الإيمان المزروعة فيهم فطريا؟
لعلنا خاتمة المطاف نخصّصها لبعض أخبار جبروت
الأيديولوجيا ضد قيم الحرية والعلم في القرن العشرين والتي تعدت عاداتها الثقافية
إلى القرن الـ 21. لا بأس إذن من التذكير بحادثة واقعية جرت لأحد المثقفين
الجزائريين أصله من بجاية لكن الحي الذي وقعت فيه الحادثة غير مذكور، والحاصل أن
هذا المسكين كانت شقته في سنوات الثمانينات الاشتراكية مجاورة لشقة رئيس الدائرة
فقام هذا الأخير عندما كان صاحبنا المسكين في رحلة طويلة إلى الخارج بضمها إلى شقته
وترك له مفتاح شقة في منطقة أخرى دون حتى مقابلته وترك مبرر قانوني لعمله المافيوي.
ليت شعري أيوجد طغيان اشتراكي فاق هذا الطغيان حتى في رومانيا تشاو سيسكو نفسها؟
كما لا
يفوتنا أن نشير من تجارب تاريخية بخاصة ما يقع في عالمنا الإسلامي أن أكبر أنموذج
للظلم في حياتهم وحياة الجزائريين الحديث ليس هو ظلم وتجبر نمرود بن كنعان ولا
شداد بن عاد كما هو متوهم زورا لكنه دائما هو ذلك الظلم الذي يأتي ضد الضعفاء
والغلبانين؛ ظلمٌ في خبثه لا عين رات ولا اذن سمعت، مغطى عليه بكياسة ومكر ممّن
يقومون على شؤون تلك الدولة أفرادا ومؤسسات (ضحايا اشتراكية الدولة في الجزائر وما
أكثرهم إلى أيامنا، ابن الفلاح الغلبان الذي بعث به العمدة لحرب أكتوبر على أنه
ابنه بينما ابنه الحقيقي نائم حتى الظهر، الظلم الحقيقي هو ليس "حق القذافي"
وصدام في الدفاع عن المظلومين، حقا، بل هو ما سلبه هذين الطاغيين من حقوق لشعبيهما
وأمتيهما بإفراط ينم عن مأساة السقوط في أنانية استغلال الشيوعية والدكتاتورية
والسلطوية للقومية والدين وهي منه براء، فلماذا لم تقتنع يا قذافي أن أسرى الحرب
صدام الذي تدافع عنه في الأمم المتحدة ليس مجرم حرب فقط بل مجرم الشعب كله، ولماذا
تركت الحديث عن شعبك المضطهد المذلول تحت سيطرتك الشيوعية اللاواعية بسياقها واقعة
تحت لاوعي الأنانية والتجبر الشيوعي المخدر وتشاد الدولة التي عانت منك الأمرين
وذهبت تعدد ما شبّه لك أو توهمت أنه ظلم من قبل العالم الحر مسلّط على شعوب العالم
الثالث بيد أنه في حقيقة دفاع عن قيم الحرية والإنسانية دون إفراط أو تفريط لأن
هذه القيم ومؤسساتها لم تبنى ضد إرادة الإنسان الغربي بل جاءت منسجمة معه فهم
(الغربيون) إذن في حل من أي ظلم (إلا ما جاء دون نية) بينما جمهورية صدام
وجماهيرية القذافي وما شابههما كثير بنت مؤسساتها وقيّمها ضد إرادة شعوبها بالتستر
والتزوير وخدمات الفساد المعروفة من رأس الدولة إلى قدمها)
لننتهي إلى
أحدث قضايا الظلم المتابعة في راهننا الجزائري والتي لها انعكاسات وظلال تلقيها
على واقع التخلف سياسيا وسوسيو ـــ ثقافيا في بلدنا وقد أدلى السياسي نور الدين آيت
حمودة مؤخرا أن الأمير ومعاونيه باعوا الجزائر للفرنسيين بمقابل يتقاضونه إلى يومنا،
ولكن هل يعقل أن يغيب عنك يا أيها المناضل حمودة أن تلك الثورة التي تسرع في
إشعالها مجموعة من الشباب تاركين شعبا بأكمله يحترق عليلا، بل يتألم من آثارها
لعقود من الزمن وهذا ظلم وشر ما بعده ظلم سيحاسبهم من أوجد هذا العالم الناقص بشره
فلم يتجسد فيه ولاشك أول بأول وبالحيثيات، ثم أنهم لو تريثوا قليلا لحصلت الجزائر
على استقلالها في نهاية الستينيات كباقي الشعوب المشابهة لهم (الإمارات، البحرين،
الكويت...) كما يقول المؤرخون بدون صحراء ولأستردت صحرائها بعد ذاك بأقل من عشرية
من الزمن بتكلفة أقل بكثير مما أصبح يضرب به المثل لست أدري أبالتضحية للوطن حقا أم
بالتهور واللا مبالاة التي وراءها الأنانية واستعداء غير معقول للآخر كعهدهم؟
ونقول كعهدهم لأن الأمير عبد القادر اعتقد مغترا من بلاطه بالآية "كم من فئة
قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله" وكان عليه أن يبادر إلى حماية مُلكه قبلا
كما فعل الملك المغربي فلا هو أباد شعبه ولا هو خلع عن ملكه لكنه المفعول السحري
اللا معقول لمعتقدات راسخة اتجاه الآخر المفارق وهي وجوب الجهاد، لأن الجهاد
سيستحيل بحضور إرهاصات حقوق الإنسان ـــــ والفرنسيين لم يتوقفوا آنذاك في
محاولاتهم لإقناع العالم أن ما يقومون به هو لصالحهم، لأن الجزائر قد تحولت إلى
وكر كبير لقراصنة أعالي البحر وعتاتهم وصدق قول الشاعر للحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق ـــــ وهذا هو خطأه
الذي لا يغتفر أما استسلامه ليس خطا بقدر ما هو نهاية حتمية فحتى لو تشتت جنده بين
الجبال مقاومة بطيئة للمستعمر لا يكون بمقدورهم فعل أي شيء حاسم على المدى القريب
والمتوسط لقلة السلاح، والسكان الريفيون الذين من المفترض أن يزوّدونهم بالمعونة
في ذلك الوقت، وفي فترة المقاومات الشعبية الطويلة كانت الجامعات والمدارس تشيد في
الشام ومصر حتى اذا جاءت فترة بين الحربين كان هناك طبقة من النخب الواعية ساهمت
في نيل مطالبها السياسية والثقافية بطرق حضارية بينما حدث العكس الجهل والجوع، كانت
أداته الوحيدة رد الفعل غير المحسوب النتائج..
إذن يمكن
اعتبار محاربة الاستعمار ومقاومته الطويلة كما عرفته بوادي وصحاري الجزائر عمل
يضاهي التهور لآنه غير محسوب العواقب بخاصة أن غزو الجزائر لم تبرأ منه سياسة
الجزائريين/العثمانيين الغير حكيمة آنذاك في غرب البحر الأبيض المتوسط، ونعتقد أنه
من لم يعترف بسمة ثقافية يلعب فيها فهم الدين وتأويله تأويلا مختلفا بين الفرق
والمذاهب الناشطة فيها (الشاذلية ضد التيجانية مثلا) بفضلها تكونت لدى المغاربة العصبية التي تسلمهم
إلى التهور في كل مرة، فإنه جاحد لأنه لو رجعنا للتاريخ وفتشنا عن سلوك الانتقام
البدائي والغريزي الجلف لوجدناه سمة غالبة حتى مع أرقى الدويلات التي عرفها المغرب
العربي إلى أن جاء تهور عشرية الخمسينات حين رمى مجموعة من الشباب ثورة في وسط شعب
أعزل فكانت قائمة ضحايا هذا التهور الأكبر في العصر الحديث وتبعه تهور فترة
التسعينات بالاحتفاظ بأسلوب ذبح العدو المتوارث جيل بعد جيل وهو أسلوب ترهيبي نظري
وعملي فقط مع الخائنين وإضافة له التفجير بالحزام الناسف، والذي اختصّ به إرهابيو
القاعدة وإخوانهم نظام الملالي في طالبان
الإرهابية، ثم جاء بعده تهور القذافي ملحقا بشعبه صراعا دمويا هو في غنى عنه. أما
استثناءات التريث إزاء ثقافة العنف والظلم غير الواقف على مساءلة الذات والتاريخ
والثقافة والتي احتفظت بها شعوب المغرب العربي طويلا بوعي أنثروبولوجي أو بالأحرى
باللاوعي التاريخي فهم أمازيغ القبائل المسالمين، وهم عكس أمازيغ غرداية أو الريف
المغربي العنيفين..
وزبدة القول هو
أن للحرية الحمراء باب تسري منه عبر الأجيال لا تخرج منه إلا وهي مضرجة بل مألّهة:
وهو الظلم بالحقد وتحقير الآخر الذي هو إنسان مثل الأنا يملك عقل وفؤاد فما بالك
لو نصب نفسه إله إنها عادة القدماء التي ذكرتها النصوص الدينية ولم تذكرها في
الحقيقة إلا كونها عادة أنثروبولوجية ثقافية خليقة بالإنسان تغدو تتكرر حقبة بعد
أخرى كما ذكرنا أعلاه من عهد فرعون مع موساه إلى بطل ملحمة جلجامش وآخيل وصولا إلى
تاليه ملوك بني إسرائيل جراء الظلم الكبير الذي لحقهم وصول إلى مظالم غلاة المسيحية
في القرون الوسطى إلى حروب المسلمين مع الأثنيات الأخرى منها ما ورث العصبية
نفسها، عصبية القوة الإلهية ومازال من حقرته الدولة الشمولية على خطى العادة نفسها
لا سلطة لعبد/ جماعة على أخرى ولو بالتقوى.
إذن يبقى
الخطأ الفادح في تاريخ الجزائر الحديثة هو اختيار العمل المسلح الظالم بحق الشعب
(وظلمٌ للنفس في الحقيقة) والى الآن مازالت آثاره مرتسمة على الجنسية الجزائرية في
شكل عصبية أيديولوجية اتجاه أولوا الكتاب من جهة، واتجاه حضارة العلم والديمقراطية
والتي مازالوا يجحدونها برغم أكلهم عيشهم يوميا منها من جهة أخرى تحت نفس النظرة
السابقة لأميرهم عبد القادر وهي أنهم مجتمع الكفر وأخلاق الشيطان.. وبمقارنة بسيطة
بين الحركة الصهيونية بين الحربين العالميتين وبعها إلى إنشاء دولة إسرائيل وحركة
الوطنية الجزائرية نلحظ سلمية وعقلانية الحركة الصهيونية برغم العداء الذي يكنه
لها المسلمين بيد أن الحركة الوطنية لم تضع في بالها قوافل من ضحايا المقاومات
الشعبية وراحت تكدس للعنف تلو العنف بمظاهر الحقد حتى سقط نحو 18 ألف ضحية في
مظاهرات 8 ماي 1945 ثم بعدها قوافل أخرى منهم الكثيرين، من لم يتمكن أهلهم من
معرفة السبب الحقيقي لوفاتهم حتى ربّما يقبضوا عنهم تعويضات لأنهم من المواطنين
البسطاء الفقراء الذين يسهل رمي القنابل في وسطهم، ويسهل أيضا الاندساس وسطهم
كدروع بشرية، ليت شعري كيف أن الحركة الصهيونية عرفت كيف تقايض الحركة الوطنية
المصرية منفعة بمنفعة حتى تمكنت في الأخير من إعلان الدولة دون قطرة دم واحدة،
وكان الوفد المصري وطنيا مثل حركة الانتصار الحريات عندنا غير أن الفرق يكمن في أن
مقولة أشداء على الكفار رحماء بينهم ومقولة العطف على الصغير واحترام الكبير لم
تعد مقولتان بينيتان، ولكن امتد العمل بهما مع الآخر بغير هدى ونضج سياسيين لأن جل
مناضلينا كانوا شبانا صغارا لا يفقهون من الثقافة إلا إلقاء الثورة وسط الضعفاء
والاختباء حتى أنهم لما طلبوا المشورة من خبرة حية كمصالي الحاج الذي قال لهم
بالحرف: يهديكمش ربي تروحوا تكملوا قرايتكم؟ أما حزب الوفد المصري فأبدى
وعيا ثقافيا " حزب الوفد باعتباره قيادة الحركة المصرية الوطنية قد سمح
للعناصر الصهيونية بأن تنشط وتستفيد من مناخ التسامح الديني والسياسي السائد. وقد
كان ذلك يرجع لعدة أسباب أبرزها غياب البعد العربي عن الرؤية الأيديولوجية
والسياسية للوفد.."([28])
ونصل في النهاية إلى ما يوجز أفكار البحث في فكرة عامة مقاربة وهي أن غريزة
التسلط والاستقواء ليست من الله في شيء بل ما يقابلها (غريزة النأي عن ما ليس
للمخلوق دور فيه)هو القوة الحقة وهكذا هي طبيعة الظلم بين صراع المضادات ينجلي
ويختفي، واعظم تلك
الغريزة التي سجلها التاريخ ومازال يسجلها جاءت أو حدثت أو انتُسِبت إلى الله، وبتعبير
آخر أنه لا دين ولا سيدي ربي كما يقول التوانسة مع الأيديولوجيا ولا علم مع
الأيديولوجيا أيضا وأن العقل المحض ــــ الذي يكون هو من هدى صاحبنا لأن يصل إلى
ما وصل إليه من علم باعتباره جزء لا يتجزأ منا نحن المعتزلون للناس إذن للمواضعة
اللسانية/الفكرية إلا من خلال طلة لابد منها كطلتنا هذه ــــ وعرفت أنه عقل مستنير
ذاك العقل المحض لا يضاهيه في دنوه من الحقيقية أم الحقائق جميعا لا العقل الجمعي
بسياقاته الثقافية والأنثروبولوجية التليدة والجديدة فكيف لك أن تسأل وتطلب علما
ممّن عقولهم خاضعون لزمن تائه في الزمن برحمة ربك، ومعذرة على هذه الكلمة التي لا
تخرج كونها من نتاج ذاك العقل الجمعي. فالأيديولوجيا والعلم والفن (الأدب شعرا
ونثرا) في الحالة العامة كلاهم متعارضون، فالعلم يعارض الأيديولوجيا([29]) كما
يعارضها فن الأدب وجدليا ( الإيتيك Éthique لا يستقيم
والإستيتيك Esthétique أبدا) أما ما
بين العلم والأدب فعدم احتمال التعايش نزقا وتأكيد هوية وليس تعارضا مطلقا. لأن
العلم وهو يحاول أن يعارض الأدب معارضة مطلقة (بتعصب) هو ينزع للتقنين والتكميم آليا
ليغدو كمقابل له وقد تحول إلى أيدولوجية التقنين، والأدب الذي يعرض هذه المنافرة
غير مستحٍ ولا آبه بنتائجها لأنه هكذا طبيعته وجدانية نفسية فمهما دخل عليه العلم
ليقيسه بقياساته لابد أن يراعي طبيعته لذا قيل "علم الأدب" بالجمع
بالطرفين النقيضين، الجمع الذي يشير إلى النسبية وجوبا.
خاتمة ونتائج
وقد جرّتنا
مقادير موضوع أنثروبولوجيا الظلم لزاما في هذا الجزء ــــ كما كنا نتوقع ــــ إلى
إشكاليات الفكر الفلسفي والعربي الحديثين والمتجددين عبر صراع الحداثة والعلم مع
ما يقف ضدهما، ولهذا السبب يبدو للقارئ أننا تجاوزنا الوقوف على مسافة واحدة من
جميع الأديان ومِلنا إلى الأديان الرسالات (المسيحية واليهودية) التي تجاوزت
أيديولوجيتها لمّا عقلنَتها قيم الحداثة أو تعايشت مع قيم العقل والعلم وعكفنا عن
الإسلام، وصدق فيورباخ حين قال عن جوهر الدين في بداية كتابه "أصل
الدين": « لقد كان شغلي دائما وقبل كل شيء أن أنير المناطق المظلمة للدين
بمصابيح الدين حتى يمكن للإنسان أن لا يقع ضحية للقوى المعادية التي تستفيد من
غموض الدين لتقهر الجنس البشري»
ولعلنا ونحن
نلتمس هذا الحكم حكما نهائيا نستشهد بضدية العلم والدين ما بقيت حياة عليها
المتماثلة مع ضدية الخير والشرم/الظلم (إلا أن يكون الدين تدينا خاصا) والمتماثلة
أيضا مع ضدية التطور للتخلف الضدية التي تقرأ يوميا عند أهل القرآن في قرآنهم على
سبيل المثال دونما إعمال للفكر وأخذ العبرة للمتخلص من سياق العادة الأنثروبولوجية
الغير سوية ثقافية كانت أو اجتماعية كما فعل أقرانهم المتدينين السلفين متخلصين من
ظلمات وأدران التخلف إلى أنوار التطور فذلك أن الآيتين: "كل ما خلا الله
باطل" و"لا يأتيه الباطل
من بين يديه ولا من خلفه" من منظور العلم والخير كلام باطل لأنه
أولا غير قابل للإثبات والبرهنة العلمية العقلية وثانيا اعتمادا على هذه المسلَّمة
المنطقية لابد للإيمان أو الاعتقاد أن يبقى خصيصة ذاتية فردية (لا إلى أيديولوجيا)
لأنه شعور وحدس بعيد كل البعد عن التحقق المنطقي العقلي. ونحسب إثر ذلك في خاتمة
المطاف أن التاريخ علّم الإنسانية أن أرقى معيار لتصنيف ثم عزل الظلم والشر في هذا
الوجود يتمثل في معيار مذهب العقل التجريبي الذي اطلعت به المدرسة الأنجلو سكسونية
وليس هو العقل الطبيعي ولا الماركسي ولا العقل المادي الفرنسي ذلك أنه يضع
بالحسبان أو لا يضيّع الإدراك الباطني الذي هو الجمال من منهجه وهو ما كنا قد
تطرقنا له عند تعريجنا على خصوصية الأدب ونقده.
فإذا كان جون
جاك روسو قد أدرك عن طريق أبحاثه في الاجتماع والتأمل الفلسفي أن الرجال قد
استنبطوا عقائد عبثية لا معنى لها وافترض مسبقا عدم وجود لغة ممكنة بين
"الله" والإنسان (أي عدم وجود وحي ولاهوت) وان التاريخ مكان إفساد لا
يمكن أن يكون مسرحا لعلاقتهما كونه يعج بشر الفساد والظلم وما بالك بان يُوجِد من
يُجسِّده فيه، فهو (الله) يستطيع أن يقول شيء آخر غير الوحي، وأن يرفع عائق
"الوسطاء" بينه وبين خلقه لكي تنكشف الحقيقة أخيرا. وعندئذ تنكشف أن
الديانة الحقيقية الوحيدة التي أثبتناها طيلة بحثنا ـــــ فبذكرنا لسلسلة تاريخية
غير منتهية من العادات الأنثروبولوجية المتحكمة في عقل وطبائع الإنسان سائرة به
قدما نحو الأمام وهي فقط في هذه الحال متجلية له كوهم متميز عن باقي الأوهام
المحيطة به يغدو فيها الشر والظلم صنوان مُلاعبان للخير ــــ تنكشف لنا اللا سلسلة
بذلك التقابل المتمثلة في اللا أيديولوجيا حيث تغدو الديانة الطبيعية والعبادة
الحقيقية الوحيدة هي عبادة القلب، وان الإيمان الحقيقي الوحيد هو حسن النية
التي يتحلّى بها ضمير مخلص.
إذ لا مناص من
أن التدين ينكشف أمامنا أنه تدين حقيقي كما يقول أدونيس إلا عندما يقابله اللا
تدين فيقبل به، فإنما الأشياء بضدها تستقيم وتكتمل وظيفيا فما كانت الأيديولوجيا
أحقابا إلا ليكون العلم، كما كان الشر إثرها إلا ليكون الخير، وهكذا دواليك سنة
الخالق في خلقه. وجميع شعوب الشرق الأوسط وحوض البحر المتوسط كانت شعوب دين منذ
أقدم العصور وقد نمت وتطورت إلى العصور الوسطى وشر الظلم بجانبها يسير ولا يفارقها
أبدا، حتى تمكنّت من وأده أخير وإلى غير رجعة عن طريق علمنة الدين وجعله
أيديولوجيا النفس لا أيديولوجيا الإنسانية، عندها وفقط عندها وكأنها تحرّرت من
عقال الربوض في مكان واحد كالدابة بل أشد غير شعب واحد هو أعظم ما أطبق من مآسي
على الإنسانية، ومازال يربض فيه راضيا مطمئنا (وهو يعرف مصيره ويتعصّب) وينتظر
كالدابة بأن ينزل عليه من السماء ما يحرره..!
(*). باحث
في الدراسات الثقافية، الجزائر
([2]) . ينظر موقع ويكيبيديا، 20/05/2021، https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85
* . ابن
رشد القرطبي (1126 ــ 1198) هو العالم الفيلسوف والطبيب الذي اقتبس منه الغرب
علومه وأصبح أحد ركائز التنوير، كفره الأصوليين بل قتلوه تاركينه من صنف العلماء
غير ذوي جدوى نتيجة وصوله إلى أنه من وجد في المتشابهات تصادما بين المعنى الظاهر
والعقل يجوز إعمال العقل بالتأويل، للبحث عن المعنى الباطن يجوز إخراج اللفظ من
معناه الظاهري إلى معناه الباطني ولا يجوز تكفير المؤول.
([4]) . توماس هايلاند إريكسن (أكتوبر 2012)، العرقية والقومية وجهات نظر
أنثروبولوجية، عالم المعرفة، العدد 393، ص19.
([5]) . مرزوق العمري(2012)، إشكالية تاريخية النص الديني في الخطاب العربي
الحديث المعاصر، بيروت: منشورات ضفاف، ص1.
([8]) إيمانويل كانط (2012)، الدين في حدود مجرد العقل، ترجمة فتحي المسكيني،
بيروت: جداول للنشر والتوزيع، ط2.
*. ينظر مونتسكيو
(1953)، روح الشرائع، ترجمة: عادل زعيتر، الجزء 2، مصر: اللجنة الدولية لترجمة
الروائع الإنسانية (الأونيسكو)، دار المعارف، من ص 177 فما فوق.
([10]) . عبد المجيد الشرفي(1990)، وآخرون، في قراءة النص الديني، ط2، تونس: الدار
التونسية للنشر، ص12.
* . حتى لا نغور فنتوه في متاهات تحيد بنا عن موضوعنا (وصف
لمظاهر وسلوكيات أنثروبولوجية ثقافية بعينها) إلى إشكاليات الفكر العربي المعاصر
المنجرّة كلها عن ثبات معاني القرآن بالإطلاقية والتصلب أمام مناهج التأويل
الحديثة، ونكون بذلك درجنا إلى النظري التفسيري النخبوي وتركنا العملي التطبيقي الجمعي
فالشواهد النصية القديمة لابد وأن يجس نبضها بالوقائع المعاشة وليس بالاتجاهات
الفكرية المفسرة لهامثل هذا الشاهد حين يقول القرآن أن الله
"لا يُسأـل عمّ يفعل وهم يسألون"، وقد جاء في كتاب المنتخب الصادر عن
الأزهر التفسير الآتي لهذه الآية: "لا يحاسب سبحانه ولا يسأل عمّ يفعل
لأنه الواحد المتفرد بالعزة والسلطان الحكيم العليم فلا يخطئ في فعل أي شيء وهم
يُحاسبون ويسألون عم يفعلون لأنهم يخطئون لضعفهم وجهلهم وغلبة الشهوة عليهم"،
وجاء في تفسير الكشاف للزمخشري: "إذا كانت عادة الملوك والجبابرة أن لا يسألهم
من في المملكة عن أفعالهم وعم يُوردون ويُصدرون من تدبير ملكهم تهيبا وإجلالا مع
جواز الخطأ والزلل وأنواع الفساد عليهم، كان ملك الملوك ورب الأرباب خالقهم
ورازقهم أولى بأن لا يُسأل عن أفعاله مع ما عُلم واستقر في العقول من أن كل ما
عمله مفعول لدواعي الحكمة، ولا يجوز عليه الخطأ ولا فعل القبائح" ينظر سامي الذيب، الأخطاء اللغوية في القرآن الكريم،
سويسرا: مركز القانون العربي والإسلامي، 2017، ص7. وعبارة وهم يسألون تعني أنّهم مملكون مستعبدون، خطاؤون، فما خلقهم إلا قال
لهم لما فعلتم في كل شيء فعلوه.
([12]) . عبد الغفار
مكاوي (ديسمبر 1994)، جذور الاستبداد قراءة في أدب قديم، عالم المعرفة، العدد 192،
ص13.
([14]) . غانم هنا (شتاء 2001)، النزعة العقلية وأثرها في حركة التنوير، عالم
الفكر، المجلد 29، العدد 3، ص8.
([16]).
جوست ابراهام ماوريتزر ميرلو(2018)، اغتصاب العقل، سيكولوجيا التحكم في الفكر
وتشويه العقل وغسل الدماغ، ترجمة أدهم وهيب مطر، دمشق: تموز ديموزي، ط1، ص24.
* .
المرتكزات التي قامت عليها الحضارة العلمية الحديثة تعود إلى حركة التنوير التي هي
حركة العقلانية ضد العاطفة، والعلم ضد الخرافات بدأت مع ديكارت وبيكون وغاليليوا
ونيوتن نهاية القرن السابع عشر في جعل العقل وسيلة للبحث الخالص عما يجلب للإنسان
من خير وسعادة ووصلت إلى اكتشاف محرك البخار نهاية القرن التاسع عشر، ولم تترسخ
هذه الحركة إلا بعد استيفاء جملة من المقومات أولها كما يذكر الأستاذ عبد المجيد الشرفي
إفادة النمط الحضاري الأوروبي الجديد حينها من الحضارات السابقة التي كانت آخرها
هي الحضارة الإسلامية والبناء عليها في مختلف المعارف والعلوم سواء التي تحمل قيما
مادية أو التي تحمل قيما معنوية كالحرية ضد العبودية والمساواة ضد التراتبية hiérarchie والإيمان بقدرة العقل على حل المشاكل والتي لم
تكن غائبة في القديم ولكنها كانت هامشية جدا. والعوامل التي ساهمت في خلق هذا
النمط الحضاري الجديد بداية هو اختراع المطبعة والإصلاح البروتستانتي واكتشاف
أمريكا وازدهار الفنون والآداب.
([21]) - محمد بن سعيد السرحاني(د.ت)، موقف المستشرقين من العبادات في الإسلام من
خلال دائرة المعارف (الإسلامية) دراسة تحليلية نقدية
رسالة مقدمة لنيل درجة الدكتوراه، جامعة محمد ابن السعود الإسلامية،
ص4.
*. صحيح أنها بدأت مع حركة محمد علي في دولة مصر
الممثلة للعرب عامة حينما بدأ يفكر في
تكوين الدولة الوطنية على طراز الغرب، وأرسل العديد من البعثات الأزهرية إلى
فرنسا، وكانت تجربة "محمد علي" بمثابة نوع من رد فعل واستجابة
لحملة نابليون الاستشراقية ولكن لا علاقة للاستعمار والغزو بها بل كانت حركة
إنسانية شاملة نابعة من زخم التراثي المترابط بدءا بالمقارنة بين اللغات وللغات
الهندو أوروبية الشرقية إلى المقارنة بين الكتب السماوية الأربع وانتهاء بمقارنة
الجذور الفلسفة الإغريقية بمحيطها الأقرب
وهو الشرق الأوسط.