حكاية المطر


بوزيان bouziane

حكاية المطر

    الصّحراء الكبرى شمسٌ تلفح بالهجيرة من عِلٍ ورمالٍ ترسل بقيظها صهدا حامٍ من كُمٍ*، وهكذا منذ الأزل شحّت السماء وطلع الاملاق مختالا بين الصلب والترائب غير مكترث بأحد، أطلّ واستحكم لبعض قرون، وتبادلت الفيافي والسماوات بكل ما أوتيت من قوة جهدها المدخر لتمزّقها أشلاءً الغيوم، وتطردُه المطرُ حتى لم يبقى للخضرة بعده من أثر، إذ قفرت الدنيا وتصحّرت، وأمتقع لونها البيداء، وطويت ثم خويت على أهلها بمارحبت إلا من الواحات والسّبخات حتى جاء اليوم الذي قُدّر فيه أمرا كان مفعولا.. بعد بضع قرون أُخَر حين حنّت الأرض لماضيها واشتاقت، وفي لحظات من الصّمت الرهيب كالدهور كانت... فجأةً ما فتئ بعض الدبيب ينطلق إلى الحواس، حواس الصحاري والبراري..

   من كل الأرجاء وعلى حين غرة كان وقعُه القادم مطفطفا (طف طف طف..) كأنه ترجل الفارس الداخل على الحي دبيبا، وفي دبيب خطوه وقع همس المطر..  أين المفر إلا من هرولة: دف جف دف جف دف جف..  مطرٌ مطر كالصّيحة الكبرى كان المطر، فهو مطرٌ مطرٌ.. كالشلال، كالنعيم تتجرّعه أفواه الصدوع هنيا مريا، ومطر من وحي السما فكيف يكون ما إختلا به غير المطر؟ يعمُ فهو المطر، مطرٌ تحت رحمة مطر ثم الذي يليه مطر، فلم نألف منه سوى مطرٌ كالمطر..  مطرٌ، مطر وأينما همّ وعمّ المطر ثمة حكاية كحكاية المطر.

   مطر مطر وكُنّا إذا ائتلف الصباح نركض حتى المساء كصبية يفتقدون أفقا غامضا سيحل وحكاية مع الانقشاع ستُرى، أجل، في أفق الخريف والربيع كنّا إذا انقشعت سماء فإنها الشمس وكنا إذا تلبدت سماء فإنه المطر.. ما من حقل أو هضبة فوقه تُسرِّح بالدموع على البصر لم نهوى سوى حكاية المطر أو نسمع عنه تباشير كخرافات الجدات تتلوه عجبا عبر أثير السرمد رعود الغرب المكتلح كالمازوت وحباّت السماد الفوسفاتي.. وفجأة نُطرد من ساحاته، ذلك نجم الوغى، وينثر عبابه المطر فنجري خلفه إلى السماء أو تكاد تتلقفنا يده. وما من تبدُدٍ للغيوم في تلك الربوع إلا وتبعتها ريح ثم سجفٌ وأوراق وسِدَر تتطاير عن بكرة أبيها فوق السطوح وخلف المزاريب حتى تكتدح بها الجدران المبتلة فتذكِّرنا بالمطر، وكيف كنّا حكايته كل مساء تأتينا، كالنسيم يطفئ الجثام، كالدموع تهوى من ألمُقل تُبرِد الجوى بتاريخ أسطوري ينثر غلاله فينا.. أمل ساطع كالذي مظى من حبات المطر، بلا عودة نترقبه كالأمس وهو عُبابه خيال مطر، مطر مطر... ويجري الأباء والأعمام والأضداد إلينا بالعصي: هيا يا عفاريت المطر إلى البيت فإنه المطر.. وينير داره أضواءٍ إذا أتاك ملء المسا المطر..

وقال عفريت المطر لأبيه حين سكت هدير المطر وهو يمسك أوراق الديناصورات الملونة، هل سيشرب الديناصور كل المطر؟

ـــــ"كلا" قال الأب المفجوع بالسؤال، أوتخاف من الديناصور؟ وما بالك به لو شرب كل المطر؟ أم تكركرتَ على عقِبيك إلى الصحراء حيث لا خُضرة ولا مطر، أوليست غير أمك علمتك هاذي الكلمة دي ن ا ص ور؟ وإخوانك لا يرسمون غير قطقوط وكلبون ودبدوب وأفعوان الأنطوان تبلع فيلا وأنت ترسم الديناصور محاولا بلع أمّك؟

ــــ لقد قال لنا معلمُنا الشاقور يا أبي: المطر حلو مذاقه في فم الوحش.. وأمرنا أن نُمعن النظر في الحيوانات وفي الغابة.. وقال بدأت الحياة على الأرض جمرا متقدا ثم بردت شيئا فشيئا وحكى أنه تجمّع بخار وملأ الأرض به ولمّا تساقط وتساقط تشكّلت بحار وبحار..

ـــــ وماذا حدث بعد أن تكوّنت المحيطات؟

ـــــ تبخّر قطر الماء ثانية وذهب مع الريح إلى الجبال وهناك سقط وسقى الغابة والأنهار وحين جاءت الديناصورات لتشرب..

اقتربت الأم من اللمة وقالت لالا، هذا غير دقيق، نحكي لكم حكاية قطرة المطر كما لم تسمعوها، لا من أفواه أهل تخاريف ألف ليلة وليلة ولا من مصاصي دماء دراكولا: يُحكى أنه في سالف العصر والأوان نبتت أدغال عظيمة بها شجر كثيف تنتابه الحيوانات من كل صنف كي تصطاد وتأمن .. (تدخّل الأب غاضبا).. ثم جاء الديناصور الذي بلعكِ وانتهت الحكاية.. حكاية بالية..

يا معشر عفاريت المطر انصتوا إليَ فقد حان موعد الرّحيل و"كما خلقناكم أول مرة، اليوم هي ذي صحفكم منشورة أمامكم" قال راوٍ يُرى بهيئة رجل لم يكبر بعد في ذاكرته من أبعد العصور، وكل ما مضى به العمر إلّا وألِفَ نفسه في سن الصبا حتى لكأنه هو هو لم يتغير قيد أنملة. وما زال كلما تلألأت سماء أمام عينيه يكاد يخطفه سحر غامض كالسّحر، وقد انطلقت منها أنوارا وشعّت أنجمٌ كأنها تعرفها منذ سنين وهو لا يبغي سوى أن يُفصحه خبرا كالوحي، وكالنشيج يعلوا مُحيا الزرائب حين تتغياهُ في أسًى شفيف أو مسكين الصُّبح يريد أتعاب نهارا أمسى، فيركض صعودا نحو الجبل يئنُ والجنّي متربصا يحاول ثنيه.. إنه الرجل الذاكرة يكبُر إلى ما بعد الظهرة ويصغُر في المساء، يشيخ ويحبو في ساعة واحدة وقد وجده الجني إلى شجرة موقدا ليلتة القر الشتائية تلك ومستترا من المطر فإذا ما بدى وبدأ "بدندن القصاص من حولها يُحكى أن جنية".. ظهر له الجان الأحمر وهو يوسوس له: لا تجلس. لا تجلس إلى النار ولا تحكي، لا تدندن لا تجلس. فقام وتبرم لِمَا لِمَا؟ اليوم قر لا يدفئه غير موقد ولا يؤنسنا غير حكي هاذي الخرافات فلِمَا..؟

ــــ قلت لك لا تفعل، ردّ الجني أنا مبتل إلى النخاع وإذا ماسِرت تحكي زدتُ بللاً وكما تعرف نحن معشر الجن يقتلنا اثنان ضوء السطوع وبلل المطر البارد اقصد رعشة البرد، لأننا ذواتنا تلفح غيرها ومخلوقين من نار لأجل ذلك استحلفك بالله أن تضرم النار وتقترب، ولا تحكيها من حكاية مبللة، فأنا أخشاها حتى الموت، خير لك أن تلقي دلوا ممتلأً من هذا المطر وترويها به من أن تحكيها من حكاية مطر شُمِتُّ بها منذ أزل، فقد كرهت أن أسمعها منك كلمة حزينة كالمطر "مطر" وهو مازال يسيح أمامك مدرارا مطر مطر، مطر مطر وتتلقفه كلابٌ وقطط.. وظل ليلتها مطرٌ مطرٌ كالجنون  يشزر، لا نور ولا ضياء قمر ولا مهد أطلّ، لا شررٌ كالصاعقة يسري، لا نار لا خبز ولا ميلاد..

    ودواليك من خشية هلاك الجن الذي يخرج للمطر صدًا قال الأب (الصبي الذي كان): لم أشأ إتمام حكاية ما يتألم له الجني (وهو المطر) برغم من أن المطر ظل يهطل ثم أتدرون ما جرى يا أولاد يا عفاريت المطر.. انصتوا جيدا لقد أصيب المسكين فعلا بنوبة برد ومات الوسواس بعد أن أطفِأت نار واستأنفت الصعود هههههه ههههه، ربّما كان أتعس منا ذلك الجن، ولكنه لسنا أسعد من سكنَ عالم الغاب وبرِيَّات المطر وتضاريسه التي توجده منذ الأزل‏.. و‏سأل الابن: لماذا لسنا أسعد منهم؟‏‏

ـــــ أجاب الأب: لأن في جوفنا شوكة تشجّنا وتعذبنا،

ـــــ قال الصغير: شوكة في جوفنا..‏ مساكين نحن، ومن الذي وضع في جوفنا هذه الشوكة؟‏

ـــــ قال الأب‏:‏ نحن أنفسنا من وضعها‏. وضعناها بيدنا وصارت تشج ضمائرنا دائما وتعذبنا‏. أتعرف يابني هذه الشوكة؟ قال عفريت المطر الصغير‏:‏ لا‏ لا أعرف، قال الأب: إن هذه الشوكة اسمها الطمع. فلو كنا كقطرة المطر في سخائها لما تملكنا الاملاق يوما وتمكن منّا على هاذي الأرض أبدا.

ـــ أو نحن حكاية مثلها؟ قالت الأم، هذا شطط..

ــــ أجل نحن حكاية: إذ لم نكُن ثم فجأةً كنّا، لِنُبعد عنّا الأقذار، ونلتقط أنفسنا في طريقنا، ونتبخّر، ونتفكّك إلى اللا شيء مثلها، فذات يوم زعموا أِن جارية تدعى "قُطيرة" كانت خليلة سيدها النّهر المبجلُ، وكانت سيّدتها تدعى "البُحيرة" غير بعيدة عنهما، وقد افسحتها منها مكانة أميرة الدار والمزرعة ككل وعاشوا ثلاثتهم عيشة هنيّة حتى اليوم الذي أصاب سيدها النهر تلف في الكليتين أتبعها تلف كبدي حاد، فلم يعد يقوى على تصفية سوائله الداخلية فتلوّث حتى عضل وانهكه الجفاف فمات المسكين عن خمسة قرون ونيف، وكان قبل أن يتوفاه الأجل قد عهد بقطيرة لمولاتها بحسن التربية وصون عهد "أهل مائع" في الشرف والمروءة حتى آخر النبض، بيد أن هذه السيدة الشديدة المعزّة بعذوبتها أخلفت الوعد ملتفة حول أنانيتها المنبطحة للسواقي ووديان المجاري وهي تغمرها والفضائح ليل نهار.

    فكانت دون النهر ضعيفة الشخصيىة، جميع الرياح التي تهب تتلاعب بقطيرتها تلاعب المحب بمحبوبته حتى أنكرها كل ما ينتسب إلى السيدة البحيرة من خلان فخسرت "قطيرة" نضافتها عندهم وعمدت بحيرة إلى إرسال شكوى ضيق وامتعاض من سلوك قطيرة إلى جلد السّماء حيث الشمس والزمان من فوق يرقُبان دوران الفصول فسلطت وهجها تلبيةً للنِّدا نحو مصدر الشكوى كما كانت تفعل سيرة الأولين ما فسقوا، وما هي إلّا لحظات حتى تحوّلت قُطيرة إلى بُخار يتلاعب به النسيم ويتراقص، ومع توالي الأيام شُوهد روح المسكينة فوق فوق مرفرفًا عند الجلد السابع متسابقا مع أرواح جنسها إلى ضيعة جديدة وبيت يجمعهن ليسترهنّ وأترابها فيه حماية من حر الشمس وكم ذرفنا حين الرحيل من دموع خشية ان تُلَمنَ بالمطر، فوجدن بعد مغالبة وعناء مرافقة الريح الاستوائية الجافة اللافحة حتى توصلها إلى الجبال فيهنئنا وينتعشن ويبردن، ومن حلاوة ذرفنا ثم جهشنا حتى انهمرن مائعا بعد جفاف ونكد.

   وما هي إلا دقائق حتى عادت قُطيرة الى حضن مولاتها في شكلها الذي فارقتها فيه كأن شيئا لم يكن، وكان حينها قطرٌ متهاوٍ خلفها موقعا جلجلة ورهبةً كأنه فريق من مشاة خميس غير منقطع الحدود، وفي انسياب حركاته ما يقبض النّفس ويملؤها رهبة ووجلا، فلكأنما هو فيلق جيستابو أو كومنوندو المهمات الخاصة صوته عبر كل الضواحي المحيطة بالجبل والبحيرة وما بينهما من أحراش يثير الأرض العطشة ويغريها كالمطر.. مطرٌ مطر في امتشاق عوده راكض خلف القطط والكلاب المسعورة، مطر مطرٌ إلى النهاية مطر..

..وعندما وصل الراحل الأخير "النهر المهاجر الربيب" من جديد إلى البحيرة كعهدها كل عام وجدها تئن على وقع خفق المهاجرين، عام بعد الغياب غرق فيها وفي جعبتها الجارية قُطيرة، وهو يردد كما يردد المثكول: وتردّني إلى الوكر الذي فيه درجت رد الشمس قطرة المزن الى أصله ورد الوفي الأمانات إلى أهلها، فولدتا منه القطيرة والبحيرة عرمرم من قطيرات غزيرات وعذبات حتى فاضت بهن البحيرة وسالت عبر الممرات والحقول وتدفقت منسية هناك ناسية متدافعة هموم البشر في جفاف العام الذي قضى..

.. ها.. هاذي حكايتنا يا عفاريت الأمطار فهل من عبرة؟ قال الأب وهو يحاول مسك أيدي عفاريت المطر المنفلتين من أمامه انفلات خيوط الفجر من قبضة ليل حالك، وهم متوغلين كأسهم إلى أحضان الحوطة والحقل يبحثون عن "قُطيرة" والنهر وذاكرة الصبا لذاك الأب المشدوه مشدودة إلى الغمرِ والبيادر* ساعة غرقت في الأمطار ذات صبا فارع فاعتلّ الجميع بالمطر، والبقاع ايقاعٌ تارة يجوس وطورا يشتد بالمطر في كل رحلة يذكرها الأحفاد عن الأجداد لتستمر رحلة المطر المتهاوي كوميض من ذاكرته التي خلت إلا من حوطة البيدر: مطرٌ مطر لا شيء غير المطر.

 ثم لما انصرف الأولاد شياطين المطر قالت أمهم لأبيهم: ــــــ وكأنك حكيتني في عذوبتي للأولاد فهمَّ أن ينقطع المطر..!

  لا. مرّة بعد مرّة بعد أخرى نزلت كلمته وشاءت أن تحييي الأرض الموات، كي تشرئب الأعناق وتمتد إلى بعضها البعض غير بعيد، وتُلقى الزوادات على الظهور والمنطلق والوجهة إمامة الصحراء، بل إمامة الجنوب الأخضر بل نعمرها بالسّد الأخضر . كلاّ، المقصود هو المرج الأخضر! لا .. بل الجنة الخضرا. ومن ذا الذي سيدع شماله الموغل في القدم ذاك، يترك التلال الشمالية ويهرع نحو الجنوب الممعن في الخضرة، من سيترك جده الشجرة ويرتحل إلى أرضه الجديدة الجنة الخضْرة. من؟

أنا. أجل سأنزل اليوم مع من نزل، أنزل الطريق مشياﹰ وزحفاﹰ، كالصِّبية، كاليافعين سأنزل، كالسيل العرمرم، كمجرى الدمع المجلجل، كالرجفة، كسنو الحياة سنى بارقة الأمل تدنف نحو مرفأ روحها أجل أنا اليوم عائد، عائد على مضض عائد إلى تباريك خلوات كنت أحياها راهبا لا مؤنس له إلاّ خلوته وعالم ماضٍ بين رطبٍ ويُبسٍ. فسلام صحرائيَ الكبرى سلام عليك سلام عيسى ليافا والجبل.. سلام الصفا لأهل الروضة، سلام مجدولين لأهل الثورة، سلام الشرق العظيم لمحبوبه يسوع والصليب، سلام الخليل لأهل اليمن، سلام نوميدية من أرض كأرض أملاّل والهبرة أحمله لك كما تحمله زخات مطر تباشير موسم القطف والنذور كرزا وشعير.. سلام التُّرَع في أرض بابل والكليفالا تسعى لإرواء عروق خلي مُصرع.


* .  الكُم : الفم للرمال قم لأنها تمتص المياه.

* . الغمرُ والبيادر: مكان تحت الأرض تدخر فيه الحنطة والشعير.

.

 بوزيان bouziane
بواسطة : بوزيان bouziane
موقع تنويري فكري وشبه أكاديمي، يتغيا تقديم إضافات نقدية تخص تحليل الخطابات الثقافية ونظرية النقد والأدب متوسلا بجماليات التلقي والنقد الثقافي، كما يعنى بنشر إبداع قصصي جديد ليس له ما يماثله على الساحة الجزائرية، والمقال المتناول للشؤون السياسية والإعلامية والاجتماعية المقاربة للظاهرة الأدبية والمحاكية المكملة لها.
تعليقات