بوزيان bouziane
رحلــــــــة
البحث عن الرقم السري*
"في البدء كان الله وفي البدء كانت كلمته" هكذا
حدثنا الكتاب المقدس، فهل كانت كلمته صوت أم كتابة أم سمة؟ هذا مالم يأتي به الإنجيل
ولم يخبرنا به أحد، فكيف سنهتدي إلى كلمته تلك وبأي طريق أمكننا الإمساك قصد
الوصول؟ هل بدين؟ قيل أنه رسالة مُكمّلة لِما جاء به يسوع، جاء بنحو 500 مئة
عام بعده وسُمي الإسلام، أم بطريق العلم وحده أمكننا الوصول إليها؟ أم بطريق التأمّل
الملهم للشعور، المختلج بنور التجلي المركب بعقولنا، ليس لنا فيه يد ولا حيلة، رُكِّب
بغية الاستنارة ليس إلا، فبأيّها أمكننا فك طلاسم شفرة الكلمة تلك.. ثم ماذا؟
ثم انفجار
هائل يروح ضحيته ثلاثة أساتذة جامعيين.. دماء جلخت هنا وهناك، وأعضاء بشرية مازالت
متناثرة إلى أبعد الحدود في تلكم البلدة المعروفة بهدوئها وبعد لحظة اللحظات تلك من
الانفجار خرج المتطوعون والفضوليون متغلبين على خوفهم؛ منهم من سارع إلى الأطفال
الذين كانوا بالقرب يلعبون، ومنهم من رجع إلى البيت لإحضار أغطية يغطي بها الأعضاء،
ويلم ما يمكن لمّه غير أن عمدة البلدة سارع لينتهرهم بانفعال كبير قائلا :"
ابتعدوا.. ابتعدوا من فضلكم ابتعدوا، سيصل الأمن اترك المكان للأمن.. لا لا.. هيا ابتعد
أنت، ضع عنك هذا .. اسعفونا بارك الله فيكم اسعفونا.. ابتعدوا ياللا ادخلوا
منازلكم ساعفونا يا جماعة فكوا عنا ياللا ياللا..."
وبعد دويقيقات
أُخر وصلت سيارتان ثم تبعتهما شاحنة عسكرية نزل منها رجال ببدلات مدنية وآخرون
ببدلات عسكرية وبدأوا في عملهم، فنشّوا عن باقي الفضوليين كما تنش ربة البيت عن دجاجاتها
ثم ضربوا حلقة الشريط بقطر يصل إلى نحو الخمسين متر أو يزيد عن مركز الانفجار. منهم
من بدأوا يلمون الأعضاء ويضعونها في أكياس بلاستيكية بتركيز وإتقان شديد ومنهم من بدأ
يعد الخسائر موغلا داخل البنايات المجاورة متفرسًا سائلا عمّا إذا كان هناك أناس مجروحين
دخلوا بيوتهم، وكان ذلك كله يحدث على مرأى ومسمع مفتش الشرطة الذي لم يُعمل له
حساب لما هم فيه من هول فاجعة، فأُخبر أحدهم أن إصابات الجميع سلامات، وأطفال
اللعب في حالة جيدة ثم تقدم مفتش الشرطة سائلا ضابطه:
ـــ كم من طفل مجروح لدينا؟
ـــ وجدنا ثلاثة في عين المكان واثنين قد أدخلوهما بيتهما.
ـــ جميع جروحهم غير بليغة؟
ــــ جميعهم حضرات، لحسن الحظ رتوشات بسيطة في أرجلهم،
فيبدوا أنهم كانوا يلعبون على مسافة تقارب الخمسين متر فأكثر من السيارة المفخخة.
ـــ "تقريبا تقريبا" ردّ المفتش.. سنستفيد
منهم بالتأكيد، قل للطبيب النفسي أن يهيئهم للمساءلة هذا المساء إن كان ممكنا.
وبعد سويعات كانا طفلين أخوين مع أبيهما في مقصورة مركز
الدرك المقام على الطريق مجيبا على أسئلة المفتش.
ـــ "أنا رأيتها" قال أحدهما
ـــ ومن كان بقرب السيارة التي كنتم تلعبون قربها، أتذكرها
لنا، هذا الحطام هو حطامها إنها السيارة التي انفجرت " إنها سيارة أستاذ
جامعي" نزل منها وأنتم تلعبون أليس كذلك؟
ـــ يا الشيخ كان بقرب السيارة رجل غريب، رجل لا نعرفه، رأيناه
خرج من عند صاحب الحانوت وهو يحمل كيسا ثم اتجه إلى السيارة وفتح صندوقها ووضعه
فيه.
ـــ حسنا حسنا أين هو الحانوت؟ تعالى وقدنا إليه.
دلّ الصغير
مفتش الشرطة على الحانوت فشكره الضابط ثم أخذ يغازله قائلا له أن له ابنا في عمره مستقصيا
إياه عما إذا كان يدرس معه، غير أن المفتش وهو متوجه إلى الحانوت طلب من الأب الرعاية
وأخذ ابنيه والتزام بيوتهم حتى نهاية التحقيقات وإذا احتاجهم سيستدعيهم مرة أخرى.
وهو والج إلى الكشك تبين له أن صاحبه طالب جامعي
وأنه لم يمضي على تخرجه غير قليل أما عمّن كان زائره قبل هنيهات من الانفجار العظيم
الذي أرهب بلدةً بكاملها فتوصل بعد دردشة قصيرة معه، أنه بدوره طالب، سبق وأن رآه
الحانوتي في الجامعة، وتبين توا لفريق التحقيق أن ومن حسن حظهم أن الحانوتي شخص
ذكي وسيجرهم إلى ملابسات الجريمة المروعة بلا أدنى شك.
ــــ أشك في أن
هذا الطالب الذي لم أره منذ ما يربوا عن الخمس سنوات، وقد علمت حينها أنه طالب
منطوي جدا ليس له أصدقاء كثيرون واعتقد من حديثي إليه أنه مازال كذلك، بعد الذي
حدث أشك أنه وقع في خصومة مع أساتذته، لكن أي خصومة تلك التي تجعله ينسفهم نسفا
هكذا؟ هذا هو اللغز المحيّر حقا..
ــــ "كيف كلّمك؟ أقصد هل كان مرتبكا، يعني صف لنا هيأة
وجهه؟" قال المحقق المرفوق بالمفتش؟
ــــ آحح آححح.. على العموم كما قلت لكم، فهو دخل علي
وحياني وهو محتشم الوجه، حياني كما يحيّي الغريب غريبا مع أنه سبق وأن شاهدني في
الحرم الجامعي أكثر من مرة، وهذا يؤكد أنه شخص انطوائي وطلب مني تعبئة رقمه وها هو
أمامكم رقمه .........
"ــــ شكرا، لآن عليك أن تتذكّر ماذا كان مرتديا
وماذا كان حاملا ثم ندعك وشأنك" قال مفتش الشرطة للحانوتي الطالب القديم.
ـــ آه. أما لباسه فعبارة عن تريكو صيفي بدون أذرع، أما
ماذا كان حاملا فلم انتبه جيدا لأنه كان يطل عليَ من خلال رف الكشك بجزء بدنه
العلوي فقط.
ـــ حسن حسنٌ، هيا بنا.
يُشير المفتش
لمرافقيه ويغادرون ثلاثتهم الكشك على عجل إلى أقرب بريد موصلات وقبل أن يهموا أصدر
المفتش بعض التعليمات لأعوان تقفي الآثار وأعوان البصمات البيولوجية والمختصين
الطبيين بضرورة تركيب الجثث تركيبا لا يخلُ من أخطاء حتى يسير التحقيق دونما
مشاكل.
وفي مركز
البريد يطلب المفتش رئيس المصلحة ويقدم له الرقم، ويطلب منه بطاقة هوية مفصلة عن صاحبه،
وبعد لحظات تأتيه المعلومات يحدّق فيها باندهاش وهو يقول:
ــــ كيف ذلك؟ مستحيل امرأة عجوز !! امرأة!! الجاني طالب قديم وأنت تقول امرأة! هلّا تحرّيت الرقم جيدا من فضلك ارجع ودقق
معلوماتك جيدا أو من الأفضل أن آتي معك والقانون يسمح لي..
وافق رئيس المصلحة على مضض معاودة التحقق من صاحب الرقم
وإذ بالمفتش يتأكد أنها عجوز ليست من نفس البلدة بل من العاصمة على مسافة ساعتين.
ـــ "إنه لص محترف" قال الشرطي المساعد
ـــ "وكيف لم تبلغ هذه العجوز عن فقدانها لرقمها؟"
قال المحقق
ــــ ألا يمكن أن تكون مصابة بداء النسيان أو زهايمر أو
أنها رأت أن فقدانه لا يشكل أي خطر عليها في هذه السن المتقدمة، على كل حل بقي لنا
حل واحد هو الأرقام المستعملة في هذا الرقم الهاتفي المسروق.. وموجود هنا في سجل
مكالمات البلدة بعض الأرقام تكون هي عشيرة وأهل الرقم المسروق وعلى ما يبدوا أن اثنان
فقط كان الجاني دائم استعمالهما قبيل الانفجار لكن سيصعب جدا محاولة الاهتداء
اليهما أن لم يستحيل.
ـــ لكن إلا يحسن بك إبلاغ مدير أمن الجهة حتى يتصل
شخصيا بأعوان المكلفين في البريد حتى يعملوا معنا لكشف هوية هذه الأرقام وبنية
صادقة؟
ـــ "أخشى أن ذلك أمر مستحيل لا توجد أي تكنولوجيا
متوفرة حاليا تهدينا إلى كشف الأرقام. تحديد زمانها وموقعها نعم أما معرفتها
فيستحيل الأمر" رد المفتش
ـــ أوتَشُك في حكمة العلم.
ـــ لا أفهم ما تقول ولكن علينا أن نعمل مع خيرة
المفتشين والخبرة ونُسخّر جهدنا للوصول إلى الجاني.
..................
بعد شهور ثلاثة تمّ القبض على المجرم الجاني والضابط المساعد
أمام مهندس عملية القبض داخل غرفة التحقيق يسأله: ـــــ هلا ذكرت لنا ما سبب أو
الدافع الحقيقي وراء جريمتك النكراء؟
فيروي الطالب
الجاني لهم ولتوه دون وجل حادثة جرت له في المنام تكون سببا مباشرا لارتكابه جرمه:
.............. يمد يده إلى الكأس ليشرب...
ـــــ لقد كنت نائما نوما مؤرقا حتى ظهر لي كأنه ربّي جلّ
جلاله وقد نزل على شكل إنسان واستقر به المقام عند شحرة يستظل بها رسولٌ نبي فقال
الله الذي في هيأة رجل هل أنت رسول؟
ــــ نعم أنا هو. وفي نفسه شك عمّن يكون هذا الرجل لأنه
كان غريبا.
فردّ عليه مسرعا: ــــ نعم أنا هو فمن أنت؟
فقال: لا يهم أن تعرفني الآن: ــــ لو أُعطيت بيضا مالحا
على جوع هل سيجعلك هذا البيض المالح تسهل أم لا؟
تعجّب النبي أكثر فأكثر لكنه بتوافق مُغيض مع نفسه زاد قائلا:
"نعم. هذا أمر لا شك فيه ولكن الشفاء في العسل"
ـــ وهل يسهل الرسول وينتن؟ أيتركه ربَّه الذي اختاره
نبيا لينتن؟ ألا يعدّل له نسبة الملح في جوفه؟ وهو حسب علمي أمر يسير جدا طبيًا، فإنّ
بروتينات البيض وهرمونات الأيض تعمل عملها حسب درجة حموضة السوائل التي تكون فيها.
عندئذ زاد شك الرسول في أمر الرجل الغريب وتعاظم وبدأ
يتفرّسه جيدا وهو يتمتم الشيطان الشيطان لعنة الله عليه، لعنة الله عليه..
وكنت في هذه
اللحظة قد زغت ببصري فوق رأسيهما فوق الشجرة تماما فإذا بشبح رجلان أخشى أنهما
كانا ملاكان؛ أحدهما شرير أحمر مقرون والآخر خيّر مبيض الرّداء وغير مقرون، وخلت
كأنهما يكادان يتعاركان بعد نقاش حامي الوطيس لم يفصلا فيه، ويكون قد أمرهما الله به
خفية؛ أي أن يبثان في قضية الرسول والإسهال، فقام الذي من الخير إلى صدر الرسول
وطمأنه قائلا: قل لربك أنه لمن النتانة التي لا صادَ لها خرج أنبياء الله نوحا وأيوب
ثم ما لبث أن تبعه الملاك الذي من الشر موسوسا له في أُذنه: كلا إنما هذا الرجل
هدفه نفي النبوة عنك بل شتمك فأريه ختم النبوة. ثم أراه ختم النبوة ففعل "الرب"
الذي في صورة رجل غريب نفس الختم على كتفه الأيمن وقال لست الوحيد الذي تملك هذا
الختم أنا لي مثل ما لديك ولم ادّعي إنني رسول قط. ثم أمر الرب في صورة الرجل الملاكان
بالابتعاد عن الرسول ففعلا. وعندئذ بانت سجية الإنسان عبدا أو عاديا أو حكيما في
الرسول، فقال محدثا الرجل الذي لم يهتدي أنه ربّه بعد: "ـــــ أنت رجل غريب
ممسوس من جن، جئت تستفزني في ديني، سأقرأ عليك آية الكرسي والمعوذتين علك تفيء إلى
نفسك". وما كاد ينطق حتى اكتمل نور ساطع من لدن الرجل الغريب وتألق ملء السَّما
حتى لكاد يذهب ببصر الرسول ثم رسم على الرمل خطوطا مبهمة قال أنها تحوي رموز سرية
ستهديك إلى أمري، وانتفى كوميض بين الأرض والسَّما فصُعق الرسول كصعقة موسى يوم
دكّ الجبل، وعرف منذ أكثر من أي وقت مضى أنه أقرب إلى العبد الضعيف منه إلى الرسول
الحكيم.. "وأين تكمن الحكمة؟" حدّث نفسه.
هكذا كان
منامي "الرؤية" يا سيدي لكن ما دفعني لارتكاب الجرم حقا هو تلك الرموز
التي تركها "الحكيم ربي" على هذه الأرض الطهور، لا شك أنها تستدعي أول
ما تستدعي فك شفراتها للسير خلف حكمة من رسمها، إنها كالرحلة الشاقة التي لن تنتهي
بكشف الأرقام السرية على هذي الأرض وما أكثرها، وما أجلّ ما تحمل من رموز، ولعلّه يكون
قد أوّل رموزه، ذلك الرسول النبي الذي جاءتني به الرؤية وكل نبي قبله وبعده، إلا
من تكبّر تكبُر الإنسان النّتن، وتعجرف تعجرف الإنسان المتعجرف.. إنها رؤية أجلَت
لي بأن الرجل الغريب قد أودع رمز إنسانية الإنسان أو حيوانيته في كل شبر من
ملكوته، ولم يقفل لما قفل إلى عرشه إلا في رضا وطمأنينة تامتين. وأنا الآن أخشى أني
أكون قد نُبئت نتيجة ما وقعت فيه من ظلم وجبروت أنّ على هذي الأرض رموز قد تقي من
يتأملها بكامل جوارحه من النرجسية أو حب الذات، وهو الطريق السهل للادِّعاء
والمحاباة والظلم، تهديه إلى نبذ النرجسية وحب الذات بعد طريق شاق نحو الشرب من
منبع الحكمة..
..إن الثلاثة
الذين صفّيتهم منذ أسبوعين كان من الممكن أن أضَيِّفهم وهم يمرون بسيارتهم معا يوميا
على البلدة التي أقطن بها، لا أن أُصفِّيهم لولا تلك الحكمة، بل إنها تلك الحكمة
بالتأكيد؛ ألم تكن تلك الحكمة غير جدل وخصام مرير
بين المقدس والحرية؟ حتى بات واضحا أن البعض يرى أن كليهما معاد للآخر، فإما أن
نعترف بالمقدسات، وأما أن نؤمن بالحرية، غير أنه وبكل بساطة محاولة للوصول إلى
جوهر الحرية في المقدس وجوهر المقدس في الحرية كامنة الحكمة هي وفي أكمل جوهرها،
والتي زرعها الرب رقما سريا ومضى وشأنه بمعنى آخر، إنها محاولة تمر عبر كل الأزمات
حتى تكشف في النهاية لحظة تجلّي المقدس والحرية معا..
..أجل.. فقد كانوا متكبّرين شنيعين جدا ولا يقيمون وزنا
إلا لمصالحهم الشخصية والكل كان غافلا عنهم هؤلاء الأساتذة الثلاثة الذين قضيت
عليهم، وهم في زواياهم المظلمة كجرذان حزيران يقرضون الغالي والنفيس من ذخر وكرامة
الأمة، فقد ألفيتهم مرات ومرات لا يطلبون غير فائدتهم، خدمة لا تجوز إلا بخدمة، كأنهم
في مؤسساتهم الخاصة لا مؤسسات الشعب ومازالوا يصرون وخلتهم إذّاك أن على جباههم
مكتوبة عبارة "من الشعب إلى الشعب" بدل "بالشعب وإلى الشعب" كبطاقة
هوية إعلانية لإسداء الخدمة البزنسية، فإذا ما قاموا للتدريس وضعوا أيديهم في
جيوبهم ومسحوا على جباههم وهم يعضُّون على شفاههم، أما اذا قاموا يمتحنون طلابهم
قاموا يسألون الواحد فيهم تلو الآخر عن مستواهم المعيشي وعن عمل أوليائهم، أما إذا
جابوا الطريق بسياراتهم فكثيرو الالتفات والبطء في المسير لعلهم يرون فتاة أحلامهم
الطالبة عندهم ليحملُوها معهم.. الضابط مقاطعا
ــــ وطبعا، حضرتك البطل والمهدي المحرّر المنتظر وهُم
بئس ما يعكفون، كي تحشر أنفك فيما لا يخصك.. مالك ومال الفساد هذا إن افترضنا كما
تقول بالفساد، هل اختارك الرب كي.. فق لنفسك أنت ممسوس مشحون بالغرور والنرجسية قبلهم
وقبل أن ترى في أعمال الناس انظر إلى عمل نفسك واسألها لِمَا لا أحد يقول بما
تقول..
ـــ لا سيدي تريث قليلا واسمعني للآخر. إني يا سيادة
الضابط كنت قد حلمت ما حلمت وأسقطت لتوي رؤيتي على حالي كجامعي يبحث عن
الحقيقة العلمية، ووجدت أن الباحثين العلميين في جامعتي والجامعات أينما كانت،
إنما موضوع أمام أعينهم بشكل أو بآخر ما وضعه الرب في شكل رموز مادية بل طلاسم على
الأرض للأنبياء كي يهتدوا بها إلى اسمه؛ واسمه الذي كان متوارٍ جوهرا ، لكن مادة
كان حاضرا دائما، وهكذا هو الرقم السري جوهره ليس السر المتجلى ماديا بل جوهره هو في
رحلة البحث عن مضمونه وهكذا سر الذي يتعرى للشخص بعد جهد ومشقة عظيمة يكشف ما في
الأشياء المادية التي يلاقيها في هذا الكون من خطوط مبهمة تقوده إلى الحكمة المشبعة
بالروحانيات إن هو فك شفراتها مستعملا عقله وقلبه معا.
وتكون تلك الروحانيات المتوصّل إليها بهكذا رحلة
وحدها الروحانيات الحقة السماوية وما عداها كلها روحانيات زيف وباطل أرضي تسعى
للمصالح، بسبب النرجسية التي تعمل في الإنسان عمل الشيطان بالنسبة لهؤلاء
المزيفين، فأنا ــــ ولا تتحير إنني اكتشفت لتوي فقط أن التفتيش البوليسي هو عمل
مثله مثل الباحث العلمي والمتأمل النبي سعيا لجوهر مختفٍ وحكمة بليغة في الأشياء
والموجودات ــــ فكلنا أنا، والنبي الذي حلمت به إزاء الرّب، وأنت أيها المفتش،
سعينا إلى ما سعينا إليه ليس لكي نُحصِّل مادة في شكل قهر أخلاق معينة في الإنسان
مصيرها الطبيعي أن تقهر نفسها بنفسها كونها متحولة، أو القبض على فلان أو علان لنيل
تقدير وترقية أو البحث المضني ليل نهار لتكريسه من أجل الرفعة التي تجليها المظاهر؛
مظاهر كاسم "دكتور" أصبح في أيامنا جوهر يُسعى إليه سعيا وهذا دليل قاطع
على أن من يتوهم ذلك ليس بباحث علمي قط بل هو ضياع السبيل من تحت أقدام الأكثرية بوهم
المادة المضللة بحثا عنه، فلو هُمْ اهتدوا إليه حقا لاهتدوا بالاهتداء إليه إلى
قيم روحية هي قفا وجه تلك الأبحاث المضنية عن علم مادي أو إنساني سنوات وسنوات،
وكلنا أنا، وأنت، وهو إنّما سرنا في عملنا ليس في ما فُتح أمامنا من منافع المادة،
لأنها باب من أبواب النفس الأمارة بالنرجسية إن لم تُفتح بانفتاحه باب القفا وهو
معرفة الحكمة من هذا العمل لا خير منها فلا تعدو مجرد زيف أو عرض وشر. وتلك الحكمة
هي إيمان العلم بالعلم، والفضيلة بالحكمة، والرزق بالوسيلة وهي بعيدة دهورا منسحقة
ملايين سنوات ضوئية عن وجهها، وبالكاد هي ظهر أو قفا الوجه، فسبحان الله لما تكون
حَرِية بالعلماني الحكيم آنئذ من المتدين المزيف فسبحان الله حقا..
.. سيدي عذرا لكن لعِلمك.. وكان طريقي هو التأمّل الملهم
للشعور، المختلج بنور التجلي المركب بعقولنا حتى أدركت أن الأساتذة الثلاث إما
يعملون لمصلحة الشيطان الحقيقي الذي ينكره أغلب الناس للأسف الشديد وهو تمثل النرجسية
وحب الذات الفردانية والجماعية، فما كان عليَ بعد أن اكتشفت تحويل بحوثي الجامعية المتميزة
والجادة من قبل هؤلاء الأساتذة الثلاثة المزيّفين لصالح معارفهم الكسلاء العاملين
على المادة، بالجاه والنفوذ، وكم طلبت منهم رد المشاريع إلى أصحابها فأنا قد سجّلت
أكثر من مشروع بحث لكن وجدتها مسجّات بأسماء غيري المبهمة في ميدان التخصص، بل أكثر
من ذلك أنجزت بحثين عالميين واحد رفضوه دون حجج مقنعة، والآخر سرقوه مني وحاولوا
بيعه لأحدى الفتيات التي ما توقفت عن إرضاء نزواتهم، فما كان مني إلى إبلاغ المجالس
العلمية بهذه السرقة لكن لا حياة لمن تنادي، ورضيت في الأخير بالأمر الواقع لما لم
يكن لدي دليلا قاطعا أنه يخصني.
لكن لم أكن لِأرضى
أبدا بهوان ذهاب الكرامة والأنفة وأنا الباحث الحر، كون أن هؤلاء الأساتذة بعد أن
قدّمت بحثا مشرفا ونيرا آخر، ولما كانوا أعضاء بارزين في اللجنة العلمية المكلفة
بالتخصص، رفضوه بدعوى أنه مسروق من مخبر تابع لجامعة بلد مجاور، فما كان مني إلا
أن قمت وأنهيت شرا كان قائما منذ دهور ومازال مطبقا على المقدس والإيمان إطباقه
على العلم والحرية.
وأخيرا تنهدا الضابط والمفتش الصعداء كأنهما صاحا في جب، ثم قال المفتش
للباحث الجامعي بصعوبة ووجل: ــــــ ألم تجد طريقة أخرى لجرمك غير هذه الطريقة
الشنيعة؟
ــــــ أشنع من وأد العلم والححرريية مفيييييششش......
غرغرة يتبعها خروج روح
ويلفظ أنفاسه
الأخيرة أمامها باحثا فذا وشهيدا ونبيا، وحكيما مفتشا لا يكل ولا يهنأ له بال بحثا
عن الحقيقة ما تتبّع أثرها الباحثون الحكماء النزهاء الأولون.