أعلان الهيدر

الرئيسية رحلة التيه في الزمن

رحلة التيه في الزمن


بوزيان bouziane


 

1. رحلة التيه في الزمن

 

    لقد كان هناك رجلا ذكيا عمّر قرب أورشليم نحو 200 عاما معاصرا بعض الأنبياء والمرسلين وأحفادهم الذين عاشوا هناك بين عشرة آلاف وثمان مئة عام قبل الميلاد، وكان في حداثة سنّه رجلا عاديا لكنه عندما تقدّمت به السن تحول إلى عالم يقرأ ويبحث في شؤون الأولين كثيرا، فلمّا قالوا له أن « اليهود هم الدين والدين هو اليهود في هذا العالم ما بقي إنسان" هزّ لتوه رأسه منكرا عليهم قولهم وفي ثقة كبيرة بالنفس وهو يقول: " كلا، قد وصلتني أخبار أسطورة تقول أنه قبل نحو العشرة آلاف سنة تقريبا، كانت هناك قبيلة في هذا المكان بالضبط، وقد عزم بعض أفراد هذه القبيلة الفحول والطموحين للبحث عن ربّهم يهوه  فوصلوا إلى ما يشبه القنوط جراء ربهم بعدما لم يتهيّأ لهم ظروف العيش المريح الدائم كي يتسنى لهم بدء رحلة البحث عن يهوه، فأقاموا مسابقات فكرية عدة؛ مسابقة بعد مسابقة لإثبات علاقة الإنسان بالرب يهوه، فنخلت لهم زمرة شديدة البأس في النقاش والمجادلة وانتهوا إلى ضرورة أن ينتهوا إلى المسابقة العظمى أو المسابقة الفكرية الأم في شكل ندوة علمية فكرية الجامعة بين نخبة النخبة التي أفرزتها المسابقات تلو المسابقات.. وهكذا اختصّ هؤلاء المفكرين لوحدهم بالنظر في الرّب يهوه ومحاولة الوصول إليه دون غيرهم لأن أحوالا من الفقر والحاجة لا تسمح.

أجل، لقد أقيم يوم المجد الأول في التاريخ بين نخبة النخبة تلك إثْرَ المطارحات الفكرية محاولةً لإثبات وجود يهوه، وقد هُيئ لهم مكان عاٍل على ربوة زاهية تشرف على ساحة العامة اكتظت بالفضوليين المتفرجين على ما تناقشه نخبة نخبتهم وعلى ما ستفرز عنه من نتائج لكن بعد دقائق عم الضجيج وارتفعت الأصوات !؟&؟؟§!&! .. يبدأون في سبّ الرب.. فانسحب الفضولين مستائين.

   مهاجر إلى طريق بري وقد أعيته الحيلة في أن يختلي بنفسه متأملا أنواع الأشجار التي جنب الطريق كما كان يفعل في بلاده وغير بعيد منه يقف شاب مرتدٍ معطف يبدو أنه يخبّئ تحته شيئا ما..

ـــــ أنا مهاجر عربي أعيش في أوروبا، وأرجع إلى الريف في بلدي الأصلي كل صيف لأرى أهلي وخلاني واستمتع بالمشي على الطرق البرية كما كنت أفعل في أيام الخريف والربيع هناك حتى تصلُني إلى ضفاف السين.. لكن هنا في أوروبا شيء مختلف وحيرني كثيرا أمر الطرق البرية.. إني لا أراها خالية أبدا، وإذا ما رأيتها كذلك فاعلم أنه خلف شجرة أو صخرة كبيرة يقعد سكيرون أو مجرمون متواعدون ينتظرون بعضهم بعضا، أو مجانين وقد أنهكم تعب الليل الفائت فخارت لأجله قواهم نهارا كاملا غير منقوص.

ـــــ وهل لا يوجد عندكم أمثال هؤلاء؟

ــــ أبدا، إنهم موجودون أمام العامة وفي الأماكن المأهولة في الساحات والحانات.

ـــــ وفي عز النهار؟

ــــ أي نعم في عز النهار.

ــــ غريب.

ــــ وما الأغرب في ذلك.

ــــ المفروض أنه عندكم من يكثر المنحطّين وأراذل الناس وليس عندنا.

ــــ هذا صحيح، ولكن اِعلم أن شرب الخمر ليس عيبا عندنا فلا يسعى شاربه إلى أن يختلي إلى الطرق البرية، في داره أمكنه ذلك، وفي كل مكان أمكنه الشرب ويباركه الناس إلا إذا كانت مظاهر السكر بادية عليه وهذا شيء نادر الحدوث عندنا لأن الخمر معالج وللتعود عليه فهو قهوة صباح في عادات الأوروبيين.

ـــــ أترى تلك اللوزة هناك؟ سواء أسقيتها أو لم تسقيها فهي لا تثمر.. ثم اقترب المهاجر منها

ــــ ولكنها مثمرة يا صاح. سواء سقيتها أو لم تسقيها تثمر.

ـــ إنها ثمار مرة كالعلقم.

ـــ الثمار ثمار يا صاحبي فهل تمزح؟ قد لا تُؤكل بيد أنها نوع لوزي يستخرج منها الزيت الذي له فوائد كثيرة وفيها ما يصلح لأمراض القلب بل عصير اللوز أفضل من البيرة يا صاح.

ــــ القلب والبيرة.. إذن Adieu monsieur نسيت إنه عندي موعد...

ثم فجأة رئي السيد "شكل" وحوله مجموعة من الأحداث وهم يُمالئُونه فانبعثت من جوف اللّا شكل قربه، قرب الوليف لوليفه، روحٌ غامضة منطلقة من نفس حرة كعِظات الحراك القرُوسطي، عظة لا همَّ لها غير محاولة وعظ الأحداث فتنهدت ثم قالت:

ــــ لماذا تُمالئون الشّكل وتعرضون عن الجوهر يا أحداث؟ فرد أحدهم لتوهم:

ــــلا يوجد غير الشّكل في هذه الأمة فمن غيره نُمالئ إذن؟ ثم أضاف ثانٍ:

ـــ الشكل بيده القوة والحق لذا كان خليقا منا بالممالأة.. ثم قال ثالث:

ـــ نحن نأمل ألا تتدخل فيما لا يعنيك، فما يعنيك من أمر السيد الشكل إنْ هو كان شكلا، أغيرة أم حسدا؟ أمكنك أن تتشكلن مثله وانتهى الأمر

ـــ أنا كانت ولم تزل غايتي الأبدية أن أنصحكم وأعظكم لمصلحتكم.

ـــ قد عرفنا مصلحتنا منذ أن وهبنا ربنا عقلا نفكر به فاذهب واعطِ الريح لقدميك.

ـــ عقل؟ ومتى كان للشكل عقل؟ إني أراكم مجرّد أشكال خالية الوفاض عن محتواها وقد تماديتم لولا أني لم أرى تماديكم في القرن العشرين لاعتزلتكم، لأنكم لستم من سلالتي أصلا، فاسمعوا مي يا أحداث وعوا، أنا أوّد عضتكم بجملتين لا غير من أخذ بهما فلنفسه ومن لم يفعل فهو حر.

  كان غير بعيد عن بريّة صاحبنا المهاجر وهو برفقة الشاب ذو السحنة العربية "شلة" جالسة على قارعة الطريق تتأمل هي أيضا نسيم الروض وهي غافلة لكنها وكأنها شلّة مزروعة في التاريخ وضاربة بالجذور مثلها، لا يتبادلون أدوارهم في الحديث إلّا كما يتبادله الفقهاء والحكماء وعظماء الإنسانية إلى أن زاد أحدهم بصوت تلاعبت الأنسام به، ويسلم على أذاننا كأنه يعرفنا من أمد: 

  كان في نيّته أن يحرج الفقيه على المباشر بسؤال يجعله يقول لا أعرف أو شيء من هذا القبيل، فقال الدكتور والباحث الفضائي اليهودي الكبير، قال: لقد كنا خمستنا في مركبة فضائية متجهة إلى كوكب المريخ وعندما اقتربنا من المريخ حدث أمر مريب جدا جعلنا نبكي كثيرا فأين سنحط بعد أن شهدنا بأعيننا انحراف الأرض عن مسارها الداخلي حول الشمس؟ وتبخرها في لمح البصر بينما أخذ القمر مسار الأرض السابق، لكن مسار لولبي وسريع حول الشمس فماذا تقول لنا يا سيد فقيه؟ هل أن الله موجود بعد هذه النهاية المفجعة للأرض؟:

ــــ هل أنتم مؤمنون أم ملحدون؟

ــــ نحن أربعتنا في حالة ليست متقدمة من الإلحاد أما خامسنا فهو معتقد بالمسيحية.

فكر الفقيه مدة من الزمن ثم قال: ـــ إذن الجنة تقتسمونها خمستكم: 95 بالمية لكم الأربعة والخمسة بالمية المتبقية للمسيحي..

ــــ وكيف يكون ذلك؟ هل مازلت مؤمن بالجنة والنار بعدما حصل؟

ـــ طبعا مازلت، فهم ذهبوا للنار وأنتم للجنة! فهم اختفوا تبخروا إلى نوترونات وغاز الهيليوم فهل سيعيد الله النوترونات أم الهيليوم؟ وأنتم ههنا تدورونا حول الشمس وتدورون حتى تجدون كوكبا عملاقا قد تكوّن جراء تلك "الزحزحة" وهو من السكون والثبات بالنسبة للشمس وللمجرّات المجاورة له بحيث لا تشعرون بوقت، إنما كل ما هناك أن التصاقا بهكذا كوكب عملاق هو التصاق برب العزة فطوبا لكم الأبدية التي تستمتعون بها إلى جواره.

في اللحظة التي ما بعدها لحظة نهض آخر المتدخلين قائلا: بعد تقلب الأزمان هذا بكم وبي يا سادة يا كرام أوَتدرون ما كون قد أيقنت به يقينا صارخا جراء قضائي في الأرض؟

قالوا: ـــ ماذا أيقنت ويحك؟ قل هات ما عندك كلنا آذان صاغية.

 ــــ أيقنت أن لا دين ولا سيدي ربي كما يقول التوانسة مع الأيديولوجيا ولا علم مع الأيديولوجيا أيضا وأن العقل المحض ــــ الذي يكون هو من هدى صاحبنا لأن يصل إلى ما وصل إليه من علم باعتباره جزء لا يتجزأ منا نحن المعتزلون للناس إذن للمواضعة اللسانية/الفكرية إلا من خلال طلّة لابد منها كطلتنا هذه ــــ وعرفت أنه عقل مستنير ذاك العقل المحض لا يضاهيه في دنوه من الحقيقية أم الحقائق جميعا لا العقل الجمعي بسياقاته الثقافية والأنثروبولوجية التليدة والجديدة فكيف لك أن تسأل وتطلب علما ممّن عقولهم خاضعة لزمن تائه في الزمن برحمة ربك، ومعذرة على هذه الكلمة "رحمة ربك" التي لا تخرج من كونها إلا "عادة" من نتاج ذاك العقل الجمعي. فالأيديولوجيا والعلم والفن (الأدب شعرا ونثرا) كلاهم متعارضون، فالعلم يعارض الأيديولوجيا كما يعارضها فن الأدب، أما بين العلم والأدب فعدم احتمال التعايش نزقا وتأكيد هوية وليس تعارضا مطلقا.

   أما أنا يا سادة يا كرام فقد قررت بعد تفكير طويل أن أكون أول اللاعنين لهذه الحياة وهذه الدنيا إلى يوم يبعثون..

ــــ يا رجل! تريث، وهكذا دفعة واحدة! ستندم.

ــــ أجل. عندما نوجد مرة أخرى خلقا إنسانيا لكننا نوجد مثل صِفَتنا على الأرض؛ لا جنة ولا نار ولا عقاب ولا "الله" حتى، ماذا يعني أن نعيد تجربة قاسية عشناها، وقد كنا جئنا أطفالا للجوع والمكابدة والآلام فما برحنا نأكل ونروّث مثلنا مثل الحيوانات ولا من فسر أو شرح لنا الموقف حتى اشتدت سواعدنا فذهبنا بعد تخلي أولياءنا عنا نبحث عن لقمة العيش وكم من ضنك ومعاناة تجرعنهما بحثا عنها، وما أن وجدناه حتى استأنفنا أكلنا وروثنا وزدنا عنها تورطنا مع شبهات لذات أخرى، وبكميات أكبر مع وجود من يراقبنا هذه المرة تجسسا للتلصص والتذليل للاعتداء والظلم بخاصة اتجاه شبهة الفرج، فوالله والله لن أدّخر أي جهد في لعنة هذا العالم إن حصل ذلك.

ـــ ربّما يا حكيمنا تكون على حق رّبما لا ولتعلم منّي لماذا، لأن أولا الزمن الذي أخلدك للجوع والروث والذلة كما تقول لم يخلد جماعة إنسانية عن أخرى فهو قد اخضع جميع البشرية لهذا المنطق، ومنها من تحررت منه إلى حد بعيد ماديا ومعنويا.  

ــــ لعلك تقصد أنها تاهت في الزمن فلم ترجع إلا وهي تبعث على الصورة التي ذكرت لك.

ـــ يا رجل.!.!. على كل ٍأنت حر فيما تعتقد..

 

حوار الحمار العربي ذو ناصية اللغة

 

    توغّل أحد الفلاحين الإسرائيليين ما شاء له أن يتوغل في الضفة الغربية ليشتري حمارا عربيا ويعود به إلى مزرعته، لما اشتهرت به سلالتها السوداء عن البيضاء من جلَد ومصابرة على تحمل الجوع والعطش، وفعلا بعد يوم شاق تمكن من شراء جحش باعتبار أن جميع الحمير التي صادفها لم ترقه فقد كانت إما هزيلة كسولة أو هرمة مدبورة لا تقوى على أعمال المزرعة وعلى أمل أن يڤرسه/يُسمنه ليكتسب خصائص الحمير الإسرائيليين المجدِّين في المستقبل القريب انطلق المزارع به مقفلا وهو سعيد، وكان أول من رأى الجحش ابنا للمزارع الإسرائيلي وكان انتسب لتوّه إلى كلية الصحافة ليتخرّج بعد ثلاثين شهرا التالية صحفيا.

  انصرمت الثلاثين شهرا بسرعة وتخرّج ابن صاحبنا صحفيا ووجد الحمار شابا يافعا في قمة عطائه. وجده لكنه لم يكن مسرورا قط لأن والده قد تغمده الله بوباء مستفحل جديد ضرب العالم برمته واسمه وباء كورونا فكان لابد للابن أن يرث مزرعة أباه ويتحمّل مسؤولية إكمال مسيرته أي أنه تخلى عن فكرة الصحافة على مضض في سبيل تحقيق وصية أباه ولكنه لم يكن عنها بغافل لأن موهبة إجراء المقابلات الصحفية على غرار أشهر صحفيو العالم في "CNN" و"يدعنوت أحرنوت" و"الجزيرة" وغيرها، وقد استولت عليه بل طبعته بطابعها غير ما مرة أثناء نهوضه مبكرا للعمل أو أثناء استراحته في منتصف النهار أو حتى وهو يقف إلى نشرات الأخبار بعد نهار يوم متعب.

وذات يوم وهو يقدم لحماره القوي فطور الصباح بغية البدء في أعماله الشاقة، بل التي قد تكون هي الأشق يومها لأنه كان ينوي بناء صورا يحيط بالمزرعة، ولهذا استعدّ كي ينقل الحجارة الصلدة على ظهر الحمار لذا رأى أن يحفزّه بتقديم فطور فاخر؛ طبقين دفعة واحدة طبق نخالة بالشعير مبللة بماء مسكّر وطبق تبن اللافيس والحمّيض الشهيين مع دلو كبير من ماء البئر العذب الصافي وقدّمه لحماره بيد أنه أثناء تقديمها إياه بدا أنه كمن تسبب في جرح كبرياء حماره ليدخل الاثنان في حوار صحفي ممتع وغير متوقع: ..

.. فبعد أن قدم الفطور للحمار ناء الفلاح والصحفي الشاب بجسده على جذع الشجرة متبرما وهو يقول: ـــ اوووف تعبت تعبت وأنا لم أبدأ بعد.. والآن هيا كل أيها الحمار العربي فلقد قدمت لك أكلا لم تحلم به وأجدادك العرب الصابرين في يوم من الأيام، كل حتى تستوفي طاقة نهارك.. يبدو أن الحمار سنة الله في خلقه الذي جعل العداوة والبغضاء بين اليهود والعرب إلى يوم يبعثون قد تأثر وانتفضت في نفسه شوكة العزة والكرامة لمّا سمع كلمة صابرين حتى لكاد أن ينتعر فازا إلى البرية أو يشهق شهقة الأعراب يوم أن استباحهم طاغيتهم بسلاح الدين ما تعلمها وهو صغير بينهم، ولكنه نكف عن الجري أو الشهيق معوضا إياهما بالصدود عن الأكل، إذن عن العمل، فجاءه صاحبه ووكزه بسياط وكزة يهود حميَر فزاد انتفاضه غيضا ولم يجرأ على الأكل قط، فتراجع الصحفي المزارع القهقرة وخرّ على جذع الشجرة يسب أصل الحمار قائلا: ـــــ لو لم تكن حمارا عربيا خبيثا لما كنت تفعل أكاد أجزم أنك من سلالة شر ولم تجدي نفعا تربيتنا إيّاك جميع هذه الشهور، ألا حق قول المثل من شبّ على شيء شاب عليه حقا...

.. وهنا طلع صوت فجأة من محيط الحمار صُعق له الصحفي حتى كاد أن يغمى عليه.. صوت بشر لا بل صوت بشر مثقف في هيئة حمار عربي وهو يرد:

ـــ بلغ السيل الزبا يا يهودي أفلا ولتعلم كيف تحترم نفسك يا يهودي وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين؟ صحيح أنا حمار، وحمار عربي لكن قح عزيز مكرّم أخلاقا ولغة أتفهم فكيف إذن بأن يُخرج أراذل القوم أخيارها من ديارهم ليعتدوا؟

"ـــ ...!!!ظ؟ظ؟؟؟.. حمار متكلّم! هل أنا حلم أم أكون قد فقدت عقلي فأصبحت اسمع ملا يسمع من كلام الجن وأشباههم؟" قال الفلاح الصحفي وهو شبه مصدوم ثم تابع:

ـــ ثم إنك حمار عربي ليس كمثله حمير.. إنك أفصح من سحبان وائل تتحكم في ناصية العربية.

ـــ أجل، وأنا فخور كون العربية لغة البلاغة وهي ليست مثل العبرية واللغات الحية الأخرى التي فقدت فصاحتها، فاللغة العربية باقية ما بقيت فصاحة لأنها لغة القرآن.

ـــ يا إلهي أنا لست مصدّق من جحش أبونا العربي رحمه الله الذي غدا حمار فصيحا مفوها بل ومثقفا وأنا لا أعلم.. ثم قل لي بربك كيف حالك؟ أقصد هلا صفحت عن سوء ظني وأكلت ما أعددته لك هنيا مريا وأعدك أني لن أعود إلى ارتكاب هذه الحماقات ثانيةً فأنت حمار عربي يستحق الاحترام والتقدير حقا.

ـــ حسنٌ سأغفر لك زلّتك يا أيها اليهودي الحقود على الحمير العرب إن وعدتني أن لا تعود وتغلط معهم ثانية، فهُم وإن كانوا حميرا ــــ سنة الله في خلقه ـــ مع ذلك لهم كرامة وحقوقا وحرية ليس لك معهم فيها سبيل.. فهمت؟

ــــ صدقت، فإن حقوق الإنسان أقصد حقوق الحمير أمر مكفول لكل مخلوق متحمّر في عصرنا.

ــــ إذن ما بالك وأنت اليهودي سليل بني يهوذا في إسرائيل المتباهية بذلك تزل هكذا زلة ناهيك أنك صحفيا كما اعتقد، فهل الصحفيون ـــ إلا إذا كانوا صحفيو آخر زمن ـــ يسقطون فيما سقطت؟

ـــ لذلك سأكفّر عن نفسي بسؤالكم أسئلة صحفية مركزة في هذا المقام الحميري المبجّل والتي لاريب ستقودنا للاستزادة من ثقافتكم وتقاليدكم العربية باعتباركم كبير الأحمرة التي جلبها إلينا المغفور لنا والدنا، والتي إن وشى فإنه قد وشى عنها لسانكم الجزل.

ــــ تفضل أنا كلي آذان صاغية.

ـــ قل لي بربك إن لم تعمل كيف ستمضي وقتك ألا يمرضك الجلوس؟

ـــ نحن آل حمير لا يضرّ بنا الجلوس أبدا لأننا ننفق الوقت فيما يغضب الله ونرجع عنه بالتوبة وهكذا دواليك.

ــــ "هكذا إذن، أعتقد أنه لو لم يكن حمار لما مدح نفسه مدحا فيه موضع للذم" قال الصحفي في قرارة نفسه ثم تابع: ــــ لكن قلي يا أكرم حمار عربي هل كنت تأكل النّخالة وأجود الأطعمة الخضراء في وطنك؟

ــــ بصراحة كنت آكُله فقط في المناسبات والأعياد الوطنية وما أكثرها عندنا أو كمكافأة لي من سيدي بعد عمل مضني وشاق، واعتقد من ثقافتي أن معشر حمير يهود ليسوا أكثر منا مستوى فيما يأكلون بيد أنهم يتبجحون في كثير من الأحيان تشبها بالأمريكان والإنجليز حلفاءهم التاريخيين في المنطقة، وكأنه أصبح طعامهم العدس والبزلاء.

ـــ هكذا إذن، تنسب العزة لنفسك وقومك وتنكرها على الآخرين وهم الذين جلبوا الحضارة إلى الشرق الأوسط قاطبة وفوق هذا تعاكسهم بالرضى، بالسكينة والخمول!

ــــ لقد قلت أنّك ستسألني أسئلة راقية المستوى ما أراك إلا تستفزني في هويتي وثقافتي. 

ــــ وما قولك إذن في خطبة يوسف الثقفي عندما دخل على قومه وهم مستنكفون العمل بأوامر بني أمية مقسما متوعدا "والله يا أهل العراق" أتذْكر؟ وقد قال فيهم: "إني لأرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها، وإني لصاحبها، والله لكأني أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى.." إني وأنت منكم وإليكم، فاليهود من العرب، كل يهود بني إسرائيل هم من مناطق عربية من الطائف من اليمن من حمير من فاس ومن تونس وغيرها.

ـــ إذن اعمل ما تشاء فإن لم تنال مني صكة لتوّك سيأتيكم اليوم الذي تثور عليكم بني العباس بني جلدتي كما ثارت بالأمس على بني أمية..

.. ويبدأ الصحفي في ضرب الحمار وحمله على العمل عنوة وكلاب بني حيّه وسلوقياتها ينظرون ويتفرسون المشهد دون أن يتحرّك واحدا منهم جبنا وقلة حيلة.. لأنهم يعلمون أنه عازم عليهم متى سمحت الفرصة.

ـــ ألا حق فيكم قول الأمم: أنه لا خير فيكم إلا طول اللسان يا معشر حمير.....

 

3. أسير وأسير

 

   كنت يومها أسير وأسير جنبا إلى جنب ونفسي الأسيرة ولم أدري إلا وأنا أدخل مدينة الجن والملائكة، باريس التي خلت هي الأخرى من إنسها وجنّها فكم خاب مسعاي من مشدوه لما وجدتها فارغة مظلمة، ثم أين ذهب الناس أم أنا أكون قد غادرت الدنيا وذقت مذاق الموت أو دنوت فلم أقدر على رؤية الناس ولا فتح فاي لمكالمتهم؟

أجل، منذ أن استيقظت من نوم عميق ذات يوم صيفي حار متجها صوب البحر لأغسل وجهي وأكسر عظامي وأنا في ذهول؛ لمّا وجدت أن البحر قد جفّ ولم تبق فيه قطرة ماء واحدة فحملت زوادتي وأعطيت الريح لعاقلة المشي فيا حتى بلغت صقلِية ولم تكن صقلية غير جبلا أجردا عاليا تحيط به الغابات، وهو يظهر من براري البحر الأبيض المتوسط التي كانت بالأمس أعالي بحار يجول ويصول فيها أمهر البحارة وأعتى القراصنة. أجل، سرت وظللت أسير وهذه الأفكار الخيالية التي لم أدري إن كانت تأتي من مخي أم تتدفق على رأسي نازلة علي من ناحية السماء، فلو كانت مني فأين بقية الناس؟ لا أثر لهم ولا حتى من جثثهم شيا، بعد مرسيلية أطللت على مونبولييه، ثم بعد مونبولييه وصلت إلى نانت، لكن لا بشر واحد كأنهم رفعوا إلى السماء دفعة واحدة، وأنا الذي سرت أسير الرب يفعل فيا ما يشاء وأنا لا أدري.. لا.. لا مجرد أوهام لكن ها هي باريس تطل من أمامي بطرقها الواسعة وحدائقها الغنّاء ذات الشذى الملكي ومن حولها أبنية منمقة وأخرى صروحا شامخة وكل ذلك لم يكن مني غير ذكريات أمس غابر بعد أن اندلعت في بعضها النيران وتفجّرت من بعضها الآخر سواقٍ جارية، من نتانة ورجس ولا خبر يقين لمن يهدينا لمّا غدت باريس خالية هي أيضا عن بكرة أبيها من إنسها وجانها!!

  بعد أيام من السير سِرْت رويدا رويدا أنا والضّجر كلينا في شوارع باريس والحسرة والحزن تأسرنا حتى الساحات والمقاهي الشهيرة أصبحت جذبا والشاشات العملاقة فيها لا يزال بعضها يبث إعلاناته لكن لا سلعة لتلك الإعلانات غير الحطام والرماد المختلط بالغبار، فأسواق الماركات غدت كالعهن المنفوش شحبت باريس لأجلها وظلت قدماي في شوارعها فأضحت تقودوني الى أي مكان لأن المكان أضحى فجأة دون مبرر ولا منطق لا مكان؛ فأين باريس المكتبات المغدقة الفارهة؟ أين باريس الفيترينات الملكية الفاخرة؟ أين مسارح راسين وكورناي؟ أين ألعاب الساحات؟ أين باريس الجن والملائكة؟ أم تُراه قادنا المسير إلى تلك البلاد الظالمة أهلها؟ ويستحضر قوله: ﴿ فكأيّن من قرية أهلكناها وهي ظالمة فَهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد، أَفلم يسِيروا فِي الأَرض فتكون لهم قلوب يعقلون بِها أو آذان يسمعون بِها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور، ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند رَبكَ كأَلفِ سنة مِما تعدونَ، وكأَين من قرية أَملَيت لَها وهي ظالمة ثم أَخذتها وإِلي المصير﴾

 وانطلقت حينئذ الى تلك الشاشات التي استمرت تشتغل بكهرباء محركات خاصة لأسلي عن نفسي بمشاهدة التلفاز أو تبحر النت لكني وجدتها من السرعة والتطور التقني المذهل ما جعلني أتذكر قانون تدفق النت العالي الذي سعت سلطات بلدي الغابرة هي الأخرى أن تسنه لكن دون جدوى لأسباب غير محددة ولا وجيهة وكنت حينها طالب علم، إنّ في نت باريس وهي خالية من البشر سحرا وفضولا بل رونقا من نوع خاص برغم ما سقطت فيه من أسر في غياهب الحزن والملل الأكسيومي؛ كأني استيقظت فجأة على عالم خالي من الناس  فطفقت أتخبّط على وجهي كالهائم أسير مع شخص ثاني تولد من قرارة نفسي وهو هذا الشخص الذي كان أسير ثقافة القرن الواحد والعشرين وفجأة افتقدها فاصبح أسير شكوك ووساوس لا تنطوي على الحجة والبرهان والدليل العقلي أبدا والتي كان يفتخر أنها إلهه الحقيقي التي أن تمسّك بها مع فضائلها وأخلاقياتها التي من الفطرة والغريزة لن يضيع أبدا؛ حتى لو ضاع أصل ذلك العقل نفسه وهو الغرب، لكن ها هو الغرب يضيع فعلا من تحت أقدامه وهو لازال يسير وسيره فيه؛ يدلّه لا شيء إلا إلى أثار ذلك العقل الذي تركه الراحل الكبير المدعو "الغرب العاقل" ألا وهو النت الخيالية التدفق والسائرة معه في دربه الثقافي تدله كلما عاودته أوقات الضجر والملل القاسيين حتى لَأَنه كان يحسب نفسه طه حسين ثاني وهو ينتقل من موقع الى موقع متأملا حياة الثقافة الثرية الخصب؛ تارة تأسر نظره مؤلفات النقد الأدبي المصفوفة، ما إن يغريه واحد بقراءته حتى يظهر من يتوسّله لبدء قراءته فيتيه في اختياره بين هذا وذاك.

  أما كتب الثقافة ذات الصلة بالنقد الأدبي فحدث ولا حرج أشكالها كزنابق البرية التي تحيط بحقول البر بوشاح زاخر فاخر وقد ألقت عليه بردائها الأبهى من العسجد أو العقد الفريد، وطورا تجذبه مواعيد الندوات الثقافية التي يلقيها أشهر نقاد الأدب من  تودوروف إلى تشومسكي إلى  بودلير وألان جرييه، أما مسرح راسين وكورناي وشكسبير ففي كل ليلة من موقع إعلاني أمكنك الإبحار إليه وبنقرة واحدة، تجدها مواقع افتراضية ممتلئة مزهوة كأنها تعيش أعياد رأس الميلاد التي لا تنتهي، وكل هذا يحدث أمامك وأنت جالس بإزاء شاشة الكومبيوتر، فكاد يجن من أي هذا التنوع ينهل و يختص، ووقته الذي كان إلى أمس وقتا دون معنى وإذا به بين ليلة وضحاها لم يصبح ثمينا إلا في مدينة الجن والملائكة حتى وهي في سبات شتوي أو موات بشري مستمر ــ لا يدري ــ لكنه يدري بثبوت المنطق وحده أنه أمام فيترينة العالم في الأدب والعلم والثقافة المغرية اليوم كما الأمس ملهمة الشعراء والفنانين والعباقرة باريس.

 

4. النهوض من اللّحود

 

   "النهوض من اللحود" ليست قصة من نسج الخيال ولا سيناريو مسبك الحبك والخدع السينمائية لأجل إمتاع المشاهدين برهة من الزمن ولا هو فن خالص جادت به قريحة قلم تبيّن له أن القيامة قد قامت فعلا، وبوصفة فجائية لم يتهيأ لها الخلق، بل كل ما في الأمر أن "النهوض من القبر" عملية سائرة منذ أن خلق الله البشر على هذه الأرض أي منذ نزول آدم من الجنة، أوَتعقل سلالة القرود منذ أزل بعيد؟ لكنها جرت وتجري مستترة عن أعين البشر لحكمة لا يعلمها إلا الخالق.

ـــ لكن كيف علمناها ههنا؟ قد يقول قائل

ـــ عن طريق الصدفة وحدها، فكل ما مات رهط من البشر مقبورين عليهم لحْدْ حتى تحولت أجداثهم وأجسادهم إلى أرضٍ بلقعا، يعني إلى تراب، ترابٌ ينتأ ويتفلطح هنا وهنا حتى تخرج يد الميت بيضاء أو ربّما رجله أو رأسه أبيضا أشقرا كالحليب، فسيقيم واقفا عاريا كما ولدته أمه ثم يهم جاريا الى البر الذي لا يوجد به جيران أو بشر، وبسرعة خيالية حتى يخيّل إلى الناظر أنه سيطير مثل الطائرة وفعلا رويدا رويدا يرتفع ويرتفع حتى يختفي في الغيوم أو في السماء التي أعد الله له فيها "الجنة"

ـــ لكن من أخبر بهذا وحتى رأى هذه الحادثة؟

ـــ "النهوض من القبر" سنة الله في خلقه عملية جارية منذ الأزل وستبقى إلى الأبد جارية حتى آخر إنسان، مثلاً إذا كان في أيامنا يتوفى في الحياة العادية حوالي 80 إلى 100 إنسان على وجه الأرض فإن هذا العدد يوافقه نهوض من القبر واحد ووحيد ولا يدري أحد من البشر أين، ربما في سبيريا أو في جزر نائية قرب أستراليا أو في صحراء المغرب العربي، المهم أنه مقابل كل 100 نفس مائتة في العالم هناك دائما ما يوازيها نهوض قبر والعود، فبرجوعه إلى الحياة يعني رفعه من قبل الله إلى الجنة مباشرة من دون أن يراه أحد أو غالبا ما تتم العملية دون أن يكون هناك قبر، قبر لا قبر أي أنّ القبر استوى ترابا تليدا لشدة قدمه ومن عشرات الألاف السنين أو مئات الألاف السنين ولا يبرح صاحبه يكرر نفس سيناريو النهوض كأنه نبتة طالعة من أديم الأرض فجأة كما أراد الخالق عز وجلّ، وبشكله الأبيض الناصع كأنه ملك بيد أن هذا ليس قانونا عاما فقد يحدث أن يكون القبر والناهض منه جديد لم يمضي على وفاته غير سنوات أو ربما شهورا،

ــــ لكن بربّك وبعزة ربك وجلاله من أخبرك بهذه التخاريف؟ كأنك شهد النهوض من القبر بنفسك؟

ــــ لا أبدا، ليس بمقدور الإنس أن يروا الناهضين من قبورهم قط لحكمة لا يعرفها إلا هو، لكن بمقدور حكماء الجن الذين بلغوا مرحلة من الحكمة والتصوف ما يعجز اللسان عن وصفه بإمكان هؤلاء أن يروا الناهضين من القبر.

ــــ هذا يعني أن أحد هؤلاء الجن الذين تصفهم هو الذي رأى ناهضا من القبر فأخبرك.

ـــ أجل فهم ينظرون من حيث لا يُنظَرون. ولعلمك فإن هؤلاء النوع من الجن لا يتواصلون إلا مع الإنسان المجنون!

ــ إلا فليت شعري فإذا ما أرجعتني إليك كهذه الرجعة فما أجلّها من رجعة، أرجع حينها عائد إليك من رمس كفائز عظيم، أنا وصليبك وهذا النبيء، أنا وعبيدك وهذا المجنون جنونا متفننا في التميُّز والفرادة!  

 

5. آية راعي الماعز

 

     تأخّر الخريف في تلك التلال فهبط الرعاة بقطعانهم إلى البقاع المحيطة بالقرى المتناثرة هنا وهناك، ولم يزل راعي قطيع الماعز يسوقها إلى الطرقات كي تنعم بالتقاط أوراق الأشجار المتساقطة، بيد أن هناك من شك في سلوكه شكا يكتنفه حقد الجاهلية الأولى، معه حق، ماذا عسى قطيعه أن يجنيه في المرتفعات اليابسة غير الحصرم ثم إنّ الوقت قد حان لتكديس غلة الصيف من الأعلاف والأعشاب الجافة، فهو يمتلك قطيعا يشبه صاحبه غرابة، تسع معزات وتيس فحل مسن وحيد!

ماعز يشبه صاحبه، لأن الناس وأقرانه الرعاة أصبحوا يشكّون أنها ماعز مسكونة من شياطين الجن مثل صاحبها، فظلّت المعزة منهن لا تلد غير الإناث. ولم يكترث هو لتخاريفهم وظل المسكين دون حقل أو بستان كسائر صغار الرعاة، فكان حين يدنوا من القرى للرعي يدنوا أيضا من بيادرها المنتصبة بشموخ لا ليمتع ناظره كما كانوا يدّعون لكنه يدنوا مساوما أهلها في بعض العلف الجاف يخزنه لفصل الشتاء. أما خشيته الكبرى فعندما لا ينقضي الخريف الطويل إلا وأعقبه تأخر قدوم الشتاء بثلوجه وأمطاره فيتكدر مزاج صاحبنا وتعاوده حالة من اليأس ويصبه هم الماعز فأين له بالعلف والتبن الكاف؟

  الحل هو في الجبال مرة أخرى، فإن جبالنا ذات القمم البيضاء الشامخة شموخ تاريخ الأجداد الذين جلبوا للعالم كله العلم وحرّرهم من براثن جهل واستعباط الكنيسة، ذلك أن الجبل الأبيض بما يحيط به من قمم بنية اللون على مدار العام لا تخلُ من أندر النباتات منها ما هو صحي شافي من أهلك الأمراض الحيوانية والإنسانية لذلك عزم صاحبنا أن يقضي فيها شهرا أو أربعين يوما ينعم بنباتاتها لماعزه وهوائها النقي له لكن أين سيقيم وأين سيبيت ماعزه..

ــــ "أجل.. حقا.. لقد أصبح حالي يشف الناس، ولا أفكر إلا كما يفكر العبيط أو الأطفال" قال ثم أطرَق هُنيهةً وعاود ما قال "الأطفال.. إنهم الأطفال" لقد وجدتها هايدي.. هايدي سيأويني بيتر راعي الماعز الطيب صديق هايدي فإنه وحيد جدته الضريرة، وسأتكفل ببعض أعمال البيت مقابل أن يسرح لي يوما واسرح له اليوم الذي يليه وهكذا دواليك! لكن هل ستقبل جدته وهل سيقبل جاره جد هايدي الرجل الذي يكره الناس؟

"ربّما يقبل ربّما لا يقبل، فهو صديق وحيدته، إذن ربّما أصعد ربّما لا أصعد.."، هكذا ظلّ يفكر صاحبنا طوال الوقت إلى أن استكبر في اليوم الموالي ولم يجد نفسه مع ماعزه إلا وهما يعطيان رجلاهما للريح ناثرين كومة من الغبار خلفها وصعود بعد صعود هضبة بعد أخرى حتى وجد قطيع ماعز صاحبنا نفسه غير بعيد عن قطيع بيتر يحاول أن يرعى قربه لكن صيحات بيتر لا تتركه بحنق وغيظ طفوليين:

ـــــ من أنت؟ هيا اذهب بعيدا من أنت؟ هذا المرعى ليس ملكك هيا اذهب من هنا.

لكن صاحبنا الشاب القوي العضلات ما كانت دعابات الأطفال لتهيبه فتقدم تقدم الأب الحنون العطوف على ولده وقال له: أهلا بيتر، كيف أنت؟ منذ أن سمعت القرية بأخبارك مع الطفلة هايدي أعجوبة تاريخها حقيقتها بخيالها لم تفارق خيالي، وها أنا ذا أتعرف عليك بكل سهولة أرأيت؟

ـــ هذا لا يهمك.

ــــ بل يهمني ويهمك لأننا سنصبح من اليوم فصاعدا شركاء في رعي الماعز في هذه المرتفعات الخصبة.

ـــ إنها مرتفعات لا تخصك، اسأل رئيس البلدية إن كنت في شك، واسأل كذلك السيد العجوز شيخ الجبل فإنه من يقيمون في الجبل فقط من لهم الحق في مراعيه، أفهمت هذا هو قانون بلدية كانتون غرابوندن.

ولكنه الشتاء وأنا لا أرغب إلا في تلك المرتفعات الحجرية ثم أدَعْ ماعزي يقاسم ماعزك المأوى حتى يتكدس الثلج على تلك الأحجار وأنزل إلى القرية.

ـــ أنت تحلم جدتي وجدي لا يقبلون بالغرباء.

ــ اسمعني يا وغد، من قال لك إني غريب أنا وأنت من نفس القرية غير أنك جبلي وأنا سهلي، وبيتك لا يبعد عن بيتي إلا كما يبعد عن أقرب حانوت، هذا كل ما في الأمر.

ـــ حسنٌ عليك طلب موافقة رجل الجبل وجدتي.

ـــ أنا بمقدوري أن أبني كوخا صغيرا يأويني، لكن كيف سيأمَن قطيعي من خطر الذئاب في هذا الليل الطويل..؟

ـــ بين بيت هايدي وبيتنا ستظل الكلاب تنبح فتقيها من خطر الذئاب.

وهكذا ظل صاحبنا يرعى ماعزه بين الشقوق الصخرية، وفي الليل يهجع بين كلاب هايدي وكلاب بيتر بقطيعه الصغير إلى أن بدأت الثلوج تكتسح القمم الصخرية وكان استوفى قرابة الشهر فنزل دون أن يشكر أحد، إلّا بعد انقضاء الشتاء، لمّا ولَدت جميع المعزات ذكورا اثنين حيث أرسل لتوّه يشكرهما ويخبرهما أن لا مفعول للسحر في تلك البلاد يستدعي انفرادهما به.   

 

6. بلاد الحيّات الرقطاء

 

   أُصيبَ أهالي البلدة المحاذية لمدينة الجن والملائكة بالرعب والفرع بعد الزلزال بوقت قصير فقبل بلوغ منتصف الليل سمعوا أصوات المكبّرات الصوتية تدح عاليا: يا أهل البلدة الواجب أن تأخذوا حذركم لا تدع أولادكم يخرجون احتاطوا حتى نقبض على الحيّات.. يا أهل القرية لقد فرّت حيات الحديقة العلمية إثر تشقق أحدثه الزلزال خذوا حذركم.. يا أهل البلدة خذوا حِذركم...

ـــ "هل الحيات الخمسة خطرة؟ أعني هل هي سامة" قال مفتش الشرطة لمدير الحديقة

ــــ لا سيدي. لكنها من النوع الكبير الحجم بإمكانها التهام دجاجة.

ـــ صف لنا درجة خطورتها.

ـــ هي من النوع السريع الحركة والولود والأكول.

ـــ كلها ذكور

ـــ لا. أربع إناث وذكر واحد.

ــــ هل تهجم على الناس؟ يعني هل هي شرسة مع الإنسان؟

فجأة يرن هاتف المفتش وقبل أن يغادر يأمر المدير بانتظاره حتى يعود لاستكمال تحقيقه قائلا: ــــ انتظرني لا تغادر التحقيق وطمأن المواطنين أن البحث لا زال جاريا.

.. في هذه الأثناء مرّ عمرو زاحفا إلى الشمال بكل قوة، ولم يكن عمرا هذا بعمرٍ البشير ولا عمرا الفاروق ولكنه كان عمر الحي المعروب بـ"سْمينة"، مرّ بجثته المترهلة شحما وبطنا مطأطئا ولمّا رآه المفتش من بعيد وهو زاحف صعق كصعقة إمبراطور حيال جيش عدو القرون الوسطى الزاحف نحو مدن وقرى إمبراطوريته في هيئة دبابة كومندوس أو عنتيل. ماشيا كان عمر كفريق مشيا باتجاه لا يعلمه إلا هو فاضطر المفتش بعد أن نداه ولم يصغي إليه إلى توجيه كتيبة الشرطة للقبض عليه حيا أو ميتا ولكنه تجاهله قائلا بصوت مرتفع: أين هي أين؟

ـــــ "ما هي عمّا تبحث يا هذا يا دبابة عما تبحث عنه؟" قال بعض الفضوليون

ـــــ الحيّات.. أين الأفعى أين الأفعى كي اشرب دمها..

وبالتحاق مدير حديقة التجارب وأعيان الحي عَلِم القوم الذين استبدّ بهم الخوف والقلق على أولادهم أنّ سيد فريق المدعو دبابة زاحفة ما هو في حقيقته غير مُروّض الحيّات وقاهرها بالتنويم المغناطيسي المنبعث من طبقات شحمه المتماوجة، بمقابل ما يعانيه من ضعف في سمعه يحس بالزواحف وبخاصة بالحيّات وكالرادار يلتقط إشاراتها سنّة الله في خلقه، لذا فإذا ما شوهد وهو مواصل زحفه يعني الأمارة على التقاطه أمواج الحيّات الفوق صوتية وهو لن يقف إزاءها إلا وهو ماسك بها وفاتِلَها على شكل حبل البحارة من دون تقزز ولا إصابة بنوبة بحر نقصد بنوبة أفاعي.

وقد اتّجه صوب الحيات يلتمس شرب دمها كما ظل يردد في الوقت الذي اتجه فيه أعوان الشرطة وفرقة من الجنود المشاة المتخصصة في المخاطر الأرضية أيضا والتقى ثلاثتهم عند المفارغ النهائية لقنوات التصريف الصحي، والتي من المحتمل أن الحياة غاصت فيها وكانت المقدمة للدبابة البشرية المستقبلة كما يبدو في كل خطوة تخطوها لِإِشارات عن وجود الحيات على مرمى حجر، في الحين الذي تأخر الآخرون لنتانة الوضع غير أنه لمّا غطس في بركة القذارة لم يفتل غير نبات الجلنار، ولم يشرب غير مياه الصرف الصحي حتى لصاح قائد الكتيبة ومعه مفتش الشرطة من شدة الغيط متذكرين أنه منذ عقود لم ينهزموا هذه الهزيمة المذلة؛ الشعب مع قواته المسلحة لم تفلح في القبض على الحياة الرقطاء المندسة بإحكام في البلدة.

  وقد عَلِمنا بعده أنه ما كانت تلك غير هزيمة الاستنزاف أو النكسة، وبعد سنتين من فوات الأوان أن تلك الحيّات نسلت جيلا جديدا انتشر في كامل ربوع الوطن وصار يثير الخوف والرعب لديهم ويهدد أبناءهم بالرجعية كلما طمحوا إلى الديمقراطية، وهكذا دواليك ظل الوضع لسنين ثم لأجيال والحيات المختبئة تنفث من سمومها سرا في البلاد، ولا أحد استطاع أن يوقفها عند حدها، ولأن أحفاد الرجل الدبابة نفسهم أكدوا أن الوقت قد فات ولا يفيد معها غير ثورة عظيمة يتقوم بها كل كيانات الأمة لتخرجهم من جحورهم فينفرجون إلى النور بعد مخاطر الأزمة والعيش في كنف  الظلام المطبق.

 

7. أفق الحقل والرحابة

 

     نفسي أن أزرع وأحصد غير مدّخر لزرعي وحصادي ذاك جهدا ما بقي في نفسي زمن، وفي ذات صباح كنت قد أحكمت زرعي جهدا حتى إذا مضى نصف النهار بدأت في السقي والعناية وأنا منهار جوعا وما أن مضى ثلاثة أرباع النهار حتى حصدت زرعي محصولا وزادا طازجا صالح للأكل وشبعت بعد أن استسغت ووفرت منه لغدي، وحتى إذا ما أطلت السّهر كانت طاقة مغالبته كافية فأخذت الورق والقلم أدون قصة الأمس دراما فقلت:

   كم كان شعورا متسما بالخطورة، كم كان، كم كان ماضيا حافلا بتطلعات التلألؤ في غمرة من لؤلؤ وبرار سعيدة، باسم الألى والطير الحامل رقة العرش، باسم الجدول والتماسي، ورحلة العمر وأصيله المتداني على جدار الأزلية لمّا كان ما كان بي في أفق يوم واحد رحب بسعة رزقه وكينونته الضاربة جذورها رحبةً من قلب الثرى إلى قلب كل نفس تنبض وتائهةً في الزمان.

   تلك الأيام تضيع، تتجدد ولا تضيع، لنسبق الحاضر البعيد في زبد البحر، في ركنينا المنتصبين، في جريان صبانا، وفي الشفق البعيد وقد انفلج بالحمرة بأعز من تماسٍ قطبية. هذا التماسي جزء من كبد الأرض والسماء في حوارات الالتحام، إني اليوم عامر ومضني، إني اليوم النجم يستفحل مركب وبدر، وهذا العزاء باسمي يعطلها الرب والصبح والغدير بعدها يستفز الكون، شيء آجري وأنا وهذا العزاء للحمى، أكاد انقرض ونفسي تأْبَ أن تدمع إنه الكذب من عيون الشرق إلى نهاية اللانهاية؛ أين نجمة الانقطاع؟ أين الرذاذ؟ أين باكورة الأمس؟ أين وطني لحمة أبي وأمي؟ أين السّنا؟ أين وريقات أيلول؟ أين النهر الخفّاق؟ أين الضباب والوادي والترعة والماجن؟ أين روح الأبدية تغفوا وتهفوا بكذا من شعور إلى البراري؟ أين هم جميعا؟

  إحساس برد خفيف ومرّ مدلهما خلف الزرائب وخلف التماسي تلك، تطوي دهور وأنا همٌ يكابد الورى لا يهدأ لا بعد العصر، ولا بعد هبوب النسيم القارس، ولا بعد الخطوة المليونية وهو يمر جنب الساقية يروي طحلبه السعيد، لكنه لا يفتأ لونٌ آخر من ألوان الأزلية تعود لينبض كعمر منّي وصبا حالم بكذا من سَن غامق، غامض دافق، نحو المجهول، لكي تعطّرُه نسمة أيلول، تدفئه نجمة الحياة، تُعبّد له شريعة الولوج وعلى خاطره بعد كل ما كان حانت الشساعة والمدى ديوان من البرك مقفّات، وتغريدات خلالها من مطلع الصُّبح إلى مطلع القمر، وكان زمنا دهرا ماضٍ الهوينة يوما واحدا، ست عشرة ساعة صيفية أو أقل.

 

8. فرنسا العجُوز والجزائر العَجُز

 

ـــ لولا أن الجزائر فازت بكأس إفريقيا بفريقها المحلي الذي يلعب في بطولتها الوطنية لا الذي يلعب في فرنسا ووُلد هناك وتعلّم أبجديات الكرة وترعرع عليها هناك، ولولا أن الجزائر بلغت هذا المبلغ من علوم العربية وآدابها تدريسا وإنتاجا ــــ على تواضعه حالياـــ دون الاعتماد على العرب المشارقة سنوات الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، ولولا أن الجزائر اليوم تبني اقتصادها وتشيد صرح حضارتها ومدنيتها من دون الاعتماد الكلي على الماكنة والآلة؛ حتى المواد المصنّعة ذات الجودة العالية والغير متاحة سوى لأمها القديمة فرنسا ودون الاعتماد على المقدرات والمقومات الفرنسية في التقنية العلمية الدقيقة سواء في الطب أو في البيولوجيا أو في الإلكترونيك وتكنولوجياتها الرقمية أو في مجال الصناعة الميكانيكية على أنواعها، لو حدث كله حقا لخط قلمي من دون تردد وبالبنط العريض:" بورك في جزائر العزة والفتوة والشباب وطوبا لها هلاكا رؤوما لفرنسا العجوز بما كسبت يداها من أثام ومن ورطة دماء الأبرياء في جزائر الاستعمار" ولمّا كان هذا الاحتمال بعيد التحقّق على أرض الواقع ظلت فرنسا بلد المعجزات والجزائر بلد العَجُزات* الذي يساميها باتجاه الضفة الجنوبية من البحر المتوسط كِرهَ من كرهَ وأحبَّ من أحبّ، وإلى اليوم الذي يشأ فيه رب العزة غير ذلك.

  ثم واصل الذي منها، وقد أعياه أن يرى بلده عاجزة كالبدنة، وهي لوحدها مِن دون رأس بين صنواتها الطايرة همّة وشانا قائلا:

ـــ لقد ذقت ذرعا من السلطوية إزاء المهاجرين في بلدي الأصلي الجزائر، وأنا بعد شاب في مقتبل العمر في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي حين كنت أرى التوانسة والمغاربة يشدّون الرحال إلى بلادهم كل شهر ودون أدنى مشقّة، أما أنا فلا أصل إلى مسقط رأسي بجبال الونشريس إلا بعد جهد جهيد أسرق فيه كل ما حوشته تقريبا.

ثم ما فتئ أن سمعه الذي منها مهمشا جورا، لأنه وصل إلى اعلى دراجات العلم فرّد عليه قائلا: " ــــ لعلّ التوانسة والمغاربة الذين تذكرهم، قد سارت بلادهم على سكة النظام الغربي الليبرالي والمسالم عكس ما اتخذته لنفسها الجزائر، التي اختارت مواصلة أيديولوجية معادية الأنظمة الليبرالية الرأسمالية، لذلك لم يحصد مواطنيها حتى ممن خدموا مع فرنسا في حربها الضروس التي استمرت سبع سنوات والذين يدعون "بقدماء حرب التحرير" لم يحصدوا إلا الإعراض والإهمال بل ربما المعاملة السيئة، فمتى تدرك جزائرنا التي تتبناها بأنها صاحبة أعظم ثورة في القرن العشرين، إنها قد لصقت في التراب بينما صِنواتها اعتلت مراتب التقدم والشرف حيث ما زالت تحن إلى سنوات الحرب الباردة وعجزها يكبر ويكبر حتى أعاقها على الانعتاق من جذب الطين لها، نتيجة ما هي فيه من خيلاء الجمال والأبهة والرشاقة والفتوة وهي بعد في سن الشباب، ليت شعري إنّما حصل معها ذلك كله لأنها لم تنظر إلى نفسها في مرآة الآخرين قط.

ــــ أجل والبارحة فقط قبل أن أحمل حقدا على أحد بعد أن حملوه علينا وعلى أنفسهم.. تريثت قليلا.. أتُراني فعلا في يقظتي قد كنت مررت صدفة بمسجد باريس الذي تديره الجزائر، إلا أن أكون لم أمر قط كوني كنت محسوبا على المثقفين المستنيرين القلائل، فالأمر لا يغدو أن يكون مجرد أفكار التخلف والتطور التي تنتابني من لحظة لأخرى كغيري من مناضلين عصرهم القلاقل ــــ وعلى كل حال ـــ فكرة مفادها طرح سؤال على إمام المسجد المعروف بتقاه وغزارة علمه، فوقفت مع الطلبة وهو فيهم يشرح الدرس وعندما أتم قال: هل من سؤال؟ فرفعت صوتي قائلا: ـــ ما خطبك يا شيخ وأنت فينا الشيخ العزيز الجليل؟   فقال: ـــ هات قل

فقلت: ــــ لماذا تحب المرأة والرجل كليهما وبجنون إدخال عضويهما التناسلي في الآخر؟!

عندها أمر الإمام طلبته وبعض المستخدمين في المسجد من إمساكي ثم ضربي ضربا مبرحا بالعصا حتى إذا سمع بعض الفرنسيين صراخا دخلوا علينا بالمسجد وخلوا سبيلي وانعتقت من مخالبهم بأعجوبة انعتاق ورشان من مخالب عقاب نجس وهو يقول:

ــــ أتتخذ دنيك هزوا يا وغد؟

فرددت عليه بكل سعة منطق وربطة جأش: ــــ بل أنت الذي تفعل ذلك ومع العصبية المجرمة التي تحكم بلدك. اتّخذتم من دين حنيف مسخرة تقتاتون بها وتهيّأت لكم الفرصة للهزء بالدين. إن الجواب على هذا السؤال هو الذي سيبين استرزاقك وتطفلك على الدين الحنيف: كان حري بك قولك أن الرجل والمرأة الذين يتحدث عنهما ما هما إلا الزوج بزوجته وبما أنك لم تهتدي إلى ذلك فإن أمك لا تحب شهوة زوجها (أبوك) فهي إذن في خبر كان من ضلال الخيانة الزوجية، كما أن ابنتك لا تفكر في الزواج أبدا كي تحترف الزنا، ولعمري أنك أنت وأمك وأختك حري بكم حانة باريس لا مسجد باريس.

 

9. أطفال السّماء أو الوِلدان المخلدون

 

    كنت ومازلت يحدوني أمل منقطع النظير في أن أصل إلى فوق وفوق إلى أعلى وأعلى من السحاب حيث قصور حكايات الحكمة الإلهية والفنتازيا مشيدتان ويسكنها طبع العمالقة، قصره المشيد على الغيوم البيضاء الناصعة السميكة، عملاق ليس كما في أفلام كرتون العتيقة ولا كما أحلام الطفولة الأولى الساذجة لكن كما طموح السعي إلى القمة الشماء في نصوص الأدب الذي هو صنو خيال بشريٍ جميل، قد يتحقق في كل حين وقد لا يتحقق قط عندما يموت البشر وهم بعد أحياء، وسواء تحقق أو لم يتحقق أعرف أني كنت ومازلت قطعة منه حتى ادركني الشباب بل الكهولة، وعلى حين غرة عندما فتحت عيني ذات ليلة وإذ بي أقف حقا بدمي ولحمي على شجرة عظيمة الطول وقد نبتت في المربع الذي ابتعته من بستاننا لأغرس فيه بقدونس ونعنع وهلم جر من قطايف النكهة.. من أين جاءت؟ لا أدرى؟ ما أطولها حتى اختفت في الضباب وعندما انجلى ضباب ذلك ضحى الشتوي البارد وجدتني عازما على تسلقها إلى الغيوم التي اختفت فيها، ولم تعد ترى، ولا يهمني شيئا إلا أن أقف هناك وأرى بأم عيني ماذا يمكن أن يكون فوق الغيوم تلك حقائق أم أوهام؟

   بعد قرابة عشر دقائق من الصعود تسلقا وصلت قبل أن أفقد الأمل في نجاحي، ولم أعد حبلا لربطه بي حتى لا أسقط وأبقى مشدودا إلى جذع شجرة البزلاء اليانع الأسطواني الشكل لكن بعدما نجحت استلقيت على ظهري.. ولم أستلقي على ظهري حقا على تلك الغيوم إلا بعد أن عرفت أني حقا مستلقيا عليها.. فغفلت عما كان دائرا قربي وأنا في مثل غبطة وحبور أو حلم يقظة أكون فيه كالأمير المتوج بجائزة عظيمة.. أجل، لم انتبه إلى كل شيء، فقد كنت سارحا حينها ببالي وساهٍ جدا كوني مستلقٍ على ظهري على الغيوم ولم أهوي، فأني لم أسقط ياه..! لم أسقط وكأني في عالم عجائب كرتون زمان فقد شدتني الغيوم فوقها كإسفنجة موضوعة على سرير ولما لم أهوي إذن أنا موجود.. ورفعت بعينيَ فإذا برهط من أطفال السماء يلعبون غير بعيد عني أنهم أطفال ينبعث من أجسادهم نور ذهبي..

كنت مليا في حياتي آمل بلوغ الآفاق أو مملكة الغبار، وإذا أنا في منحدر العمر أمضي إلى مرتع أطفال كأطفال الجنة هم، وأبلُغها عبر شجرة كشجرة الدّر هي، وساحة زرقاء فوق غيوم بيضاء صر تلعب فوقها وتسرح صبية وولدان مجنّحة لم أرى مثلها في المنام وما بالك في عز اليقظة، ثم لما رأتني راحت تجمّعت من حولي حتى انعقد لساني فتلعثمت برهة ولم أقوى على الكلام.. أيكونون حقا من صورتهم لنا أفلام السينما ملائكة الجنة Heaven's Children أم أرواح شياطين الإنس الأنانية les apaches de l’enfer ؟ ثم بعد مرحلة جس ونبض نطق أخيرا فحلهم الذي يبدو أنه متعود على الحديث باسمهم:

ـــ من أنت؟ وماذا جاء بك إلى أرضنا؟

ـــ أن فلان ابن فلان، قلت... وليس لي يد فيما جرى لي، فقد وجدت نفسي هنا صدفة.

ـــ إذن تسلقت البزلاء حتى وصلت إلى الجنة. قال آخر

ثم رحت متمتما في سري "الجنة!" إذن كما توقعت إنهم المخلدون من أهل الجنة أطفالا لا أنبياءً ولا حكماءً.

ــــ نحن كنا نلعب فقطعت علينا لعبنا ثم إننا لا نأمنك أليس كذلك يا خواني أليس كذلك؟

كلهم بإجابة واحدة: ـــ أجل، أجل.. أجل

ثم قلت لهم أنا بشر مثلكم وأنتم عندما تكبرون يصبح شكلكم مثل شكلي بشوارب وعقل و..

ولد محلاً بثوب أبيض ناصع آخر كالنور يتدخل مقاطعا بسخرية:

ـــ ها! لقد قال "عقل"؟ مسكين.

ـــ يحسب أن لهم عقل مسكين ومساكين أهل الأرض، ومن قال لك أننا نكبر أو نصغر أو نعقل أو نحمق.. إننا صورة الله في جنته لا نكون إلا كما صورنا أول مرة.

ثم تقدم موكلّهم بعدما رمقني رمقة عتاب شديد ثم ركز ناظريه إلى أسفل دون أن يبعد الغيوم ثم قال: لقد رأينا بالأمس فقط رئيسكم يرفع يديه متوعدا اليهود، نعم اليهود يتوعدهم وكأننا ما طفقنا مع هؤلاء البشر نعود لننتكس إلى الصّفر قدرا مكتوبا لمّا عزمنا على تخطيه، من هم هؤلاء اليهود الذين أدرك بعض العلم أنه لم ينصفهم حتى العلم نفسه، أي أن أغلب أهل الأرض تعصبوا عليهم والبعض الآخر مازال في طغيانه واستبداده ممسك مثل رئيسكم هذا ليت شعري، هل هبط ربكم أنتم المسلمين من الأعلى وأمركم أن تكنُّوا لهم هذه العداوة التي يحصُر العقل إزاءها؟ لقد بدأت تحار له البقية الباقية هذا السلوك، تحار له قاطني الأراضي المسحورة بعدما اكتشفوا لا وعيهم وتشنّجهم الذي لا يستند إلى منطق عقلي، وهم نتيجة هذه الحيرة والقلق حفزوا أقوياء المعمورة للبدء في عملية إجراء شطف العصبية الباقية عن المغرب العربي..

ـــ سبحان الله ما هذا بولد هذا كلام حكماء، أحسبني لم أصل فوق فوق ولكن وصلت تحت تحت.

ــ وهل ستنتهي أزمات المغرب العربي بعدا هذا "الشطف"؟ قلت

ــ كلا لن تنتهي. فالعدد الأكبر من اليهود اليوم هم ممّن اضطهدهم الإسلام في هذه الديار. وإن التجبر في الأرض والتغطرس مازال لم ينتهي باسم الاعتقاد بالألوهية المطلقة وهو باق، وقد ورث المغرب العربي عصبية تاريخية بين العرب وبين الأمازيغ استوطنت النفوس قرونا، وهي أثرها اليوم واقع في الصراع الذي اسمه الصحراء الغربية.

ـــ الآن تأكدت أنكم ولدان مخلدون حقا، وأنا بينكم الآن متطفل؛ قذارة إلى أرضٍ طهور فسامحوني لأدرك النزول لتوي.

ـــ الكل: وداعا يا عم، وداعا يا عم.... ولا تنس عن تبلغ سلامنا لأرض الأحرار! 

 

10. الهبّة التضامنية

 

   "ما خطبك يا سامري؟" أصبحت هي العبارة التي لا تفارقه أبدا كأنه موعودا قضاءً بالجنة مثل الأنبياء، بيد أنه شخص فقير مغلوب على أمره كلما سرّح فوقه يد المساء تلحَفَهُ حتى لكاد يطوي به، ولكن كسائر السائرين في طريق الحتمية حَلُمَ باطمئنان حُلم اليقظة قبلاً وهو على مشارف الإغفاءة فيقوم قائم باختزال حلم اليقظة بحلم المنام فيه، مرةً يتابع منامه سعيدا مرة يفجع في حلمه فيهرول إلى "الكتاب" لقراءة الآية والانعطاف على آية السامري ليرى ما خطبه هذا السامري مرةً أخرى؛ أالله أوحى له بالإغواء والتضليل أم الشيطان؟ ولم يكن الشيطان يذكر كثيرا في تعاليم موسى كما في تعاليم محمد.

   وحدَث عديد المرات أن رأى كما يرى النائم أن الناس الفقراء مثله تمكنوا بين ليلة وضحاها من ربح ملايين الدولارات دون أدنى جهد، فقط لأنها الصدفة لعبت دورها الحتمي، حتى جاء اليوم الذي اكتشف أن فجأةً أصبح هو كذلك لسان حال موقع الفايسبوك الموقع الأكثر اجتماعية في العالم كله تنشر صوره وتسهب في ذكر بطوليته وتظهره أنه "الفقير الوطني" الذي كشف لقوات الأمن عن جاسوس خطير، فكان فجأة وطنيا يفوق الوطنيين الأشاوس شجاعة فاستحق هبة تضامنية واسعة إلى درجة الشهرة الفيسبوكية و.. والوصف برُتبة "الوطنية" ثم حكّ على شعر رأسه مسترجعا خبر البارحة الذي ظن فيه الظنون؛ لا بل اقتنع من خلاله أن الإنسان في هذه الحياة مسكين أكثر منه، وهو مسيّر غير مخيّر، وأنّ أعظم مخلوق على الأرض قد ينتن بل يُكسر عرضه أمام عينيه دون أن يقدر على فعل شيء، وهو يرى الرئيس بوش يذرف الدموع مكتشفا حينها أنه أضعف إنسان على الأرض وليس رئيس أقوى دولة عليها قط.. وهكذا شعر حين تذكّر أنه دلّ غريبا طلب منه دلّه على فندقا فدلّه على بناية جديدة تتبع المخابرات ظانا أنه فندق! وكل شيء انتهى بأمر ربّك بعدها ونال ما نال من مكرمات و.. وشهرة. بيد أنه فجأة استيقظ من نومه فوجد أنه لا يملك حتى الخلوي الذكي الذي يمكنه من الفيسبوك كي يرى إن كان حلمه حقيقة أم مجرد حلم وبصق عدة بصقات على وطنية الذل والعادات المحقرة للذات الجاذبة إلى التخلف.

أما المرّة التي مرّ فيها على مقهى البلدة متوجها إلى المخبزة، بيد أنه رأى قربها شابا يبيع خبز الدار بثمن أرخص من ثمن المخبزة فحيّره أمره كثيرا حتى أنه شاب غريب! أما المرة التي أدهشته فهي المرة التي تلت المرة الأولى مباشرة وهو لقاؤه شاب آخر يبيع شيئا ما على الطريق المؤدية إلى السوق؛ الطريق الذي كان من عادته التوجه إليه مخمنا فيما يقتنيه منه ويجعله يصنع خلطة تؤكل لترافق لُقْمات الخبز إلى جوفه فهَمَّ بفضول إلى الشاب وكاد أن يغمى عليه عندما رأى أن الشاب يبيع قفة تشبه قفة رمضان بثمن رمزي فأهداه الشاب قفتين بدل واحدة قائلا: ــــ خذ قفتين تمينًا بك، لأنك كنت الأول من ألاقيه في بيعي هذا اليوم المبارك.

وهكذا دواليك وفي يوم واحد تضامنت ملائكة السماء معه حتى تمكّن في يوم واحد من ملء المطبخ والمخزن وغرفة النوم من كل حاجياته الخاصة والعامة لا بل أكثر من ذلك أصبحت زريبته لأول مرة منذ سنوات تصيح فيها الأنعام وتسرح فيها الدواجن عندما تركها عنده أحد الموالين الغرباء قائلا له: ـــ أن فلان ابن فلان اشترى مني الأنعام وأمرني بأن أسوقها إليك!

فاعتقد صاحبنا منذ حينها بربه اعتقاد مؤمن. إنه يمكن أن يكون كل ما حصل نتيجة وطنيته قلبا وقلبا فاستحق هبة تضامنية من السّماء، دون تحذلق وقرعا للطبول ونفخا للمزامر وفبركةً للقيل والقال. غير أنه لم ينقطع عن صاحبنا شيئا من الهِبات التضامنية غير بعد أن ألقي صاحبنا على الأرض مغشيا عليه وهو يرى في ليلة ذلك اليوم المبارك أن اسمه ظهر مع قائمة المعنيين بالسكن الاجتماعي الذي توزعه الدولة على "الوطنيين" وهو الذي لم يطلبه قط لأنه لم يؤمن في يوم من الأيام أن تبيعه الدولة سكنا بثمن مخفض حتى فما بالك أن تعطيه إياه بالمجان.

 

11 ـ مسلك الرافِدَين

 

   عندما قُيّض له أن يختار بين مسلك الرافِدَين وبين مسلك العارفين اختار دون تردد مسلك الرافِدَين لأن كلا المسلكان  قد عُنيا بدرس اللغة العربية ليس نحوا وقواعدا فقط بل أصولا وفقها وهو كما يعلم في قرارة نفسه أيقن يقين لا يصلح لغيرها، غير أن مدارس الرافدين كانت تقدمها لطلابها في حلة نقية مزدهية على طبق تتنوع فيه خِلاَلُ النصوص والطالب هو الذي عليه اختيار المذهب المواتي لميولاته ورغباته ليختص به في نفسه، وهناك في الرافِدَين تعتبر الصوفية شيئا عاديا تلتمس في كل مكان، لأن الرَّبع ربعها بينما في بلاد المغرب العربي والجزائر خصوصا فإن اللغة العربية التي فعلا يلتمس أنها العربية لم تكن مستقلة عن مدارس التصوف في الزوايا المنتشرة بها، بل تابعة لها، فمن أراد تعلمّها لابد أن يلبس أو يتقمص كرها أو طوعا لباس الصوفية، لذلكم اخترنا مسلك الرافدين رغم البعد عن الديار ولم يختلجنا أي إحساس بالندم أو ..

   أجل وأنعم به من وَجْد وجد اللغة وقواعدها والشعر والحكاية والخرافة كأنوار شموس متلألئة لكن بين العقل والقلب، ومن مسلك صاف نقي خالٍ من أخلاط ونفائث سموم العصر، حتى ليخيّل أن السالك الرافدي أنه بصدد حضور دافق من علو الواقع الجلجامشي أو من حدائق بابل وسومر ونينوى نحو عبق خيالات تراثها السردي الزاخر. عبق مع الزمن ومنعش قد نشرته نسائم أرجاء دجلة والفرات في البصرة والكوفة وبغداد، وحتى إذا داهمني العصر شعرت شعورا متصلا بنبض حياة قديمة تسري في عروقي وكياني هي التي من باب علمانية أدب العباسيين..

  إن مسلك الرافدين مسلك يسري فيه عبق من زمن جميل لكن عاقل ويكفيه هذين الجوهرين، زمن الجاحظ والمتنبي والمأمون، في أثرهم تنبعث نسائم الحرية وألطاف العربية المشجّاة منمنمات من فن أصيل، ولمّا حمل أصحاب مسلك العارفين العصا من الوسط قرونا لم يفلحوا في إمساكهم لها فما خلّفوا لنا غير العصبية التي أضحت غريمة تقليدية للثقافة والديمقراطية في بلاد المغرب العربي؛ فحين سعى هؤلاء السالكين مذهب ابن عربي يتباهون أنهم عربا مستعربة* إلا لمّا وجدوا أن مكانتهم ليست من مكانة الرأس في جسد طائر الحبّار، ولكن كما أصر والد المأمون من ذيل الطائر الصحراوي المسمى الحبّار لشبه بينه وبين طائر الطاووس الأعجمي الأصل. ووقف أحرار المغرب العربي من أمازيغ وبربر مع ما وصلهم وما اطَّلعوا عليه من ذلك العبق المتّسم بالرؤية والرجاحة، أي بسمة الجمال والمنطق العقلي معا، والتاريخ الذي انتكس إزاءهما ومازال نيئا يشهد في صدورهم وشذِيًا، وسديدا، وحقيق أن يحظى اليوم باعترافهم وباعتراف عصر الثقافة، والعقل كله ضد منطق القوة والاضطهاد والتعسف في استعمال سلطة الدين الاجتماعية أخلافية وغير أخلاقية.

كأجدادهم العارفين بسبل الهداية إلى المطلق هم أسلاف مسلك الرافدين والذي به ينالون وبعبق العربية التي خلّفها لنا نحن بربر المغرب زمن المعتزلة ولا مكان فيها لأيديولوجيا إلا ما كان فلسفة في فلسفة نائية عن أوحال الأيديولوجيا، وهم اليوم الذين كلما استنهضوا هِمّة أجدادهم المعتزلة قائلين أيها العارفين السالكين النائمين في أوحال الذات والأيديولوجيا إمّا أن تقبلوا بمعتقداتكم الدينية ـــ وهي معتقداتنا أيضا ــ وتبقوها في أنفسكم مثل المسيحية وسائر أديان العالم بينكم وبين ربكم ولا تسخرّوها لاضطهاد غيركم مهما كانوا، وإما أن نطالب بوطن لنا في شمال إفريقيا.

وعندما أردف معشر العارفين السالكين قائلين: ــــ وما ذاك الوطن الذي يكون شعاره قرون رأس التّيس الذي كان يعبده أجدادكم؟

فرد عليهم السالكين مسلك الرافدين ضيُّهم ضي الجمال والعقل في لغتهم ودينهم الذي هو دين الحرية وإرادة التسامح: ــــ بالأمس كنتم قد أتيتم بفزورة ذيل الطاووس واليوم بقرون التيس ليت شعرنا أفلا تفيئون مما أنتهم فيه من أثارٍ للسحر فيكم لا تضأل ولا تضمحل..

 

12. الشّرخ

 

   كلما حلّ بمكان من الأمكنة إلاّ وأحدث فيه شرخا ثم تركه، فيضمحل ويتلاشى بعده حتى المكان الذي تزوج فيه بزوجته التي لا يعرف كيف ولماذا تزوّجها! لأنه كان من عائلة متوسطة بينما كانت هي من طبقة أرستقراطية، فحدث أن تعارفا في مرحلة الدراسة الجامعية واستمر تعارفها إلكترونيا كما يقول، فبينما أصبح هو مدرسا ثانويا أصبحت هي مدرسة جامعية فعندما حملها وذهب بها إلى الشقة التي اكترياها مناصفة بأموالهما ما فتئ أن دبّ شجار لجوج بينهما فصار الطلاق بسرعة البرق، وعندما أتاه رسول من عائلة مطلقته يدعوه إلى منزلهم لمناقشة بعض الأمور المترتبة عن زواجه السابق بينهما جنّ جنونه ولم يدري إلا وهو حامل لموسي في جيبه وعندما بادرته أم طليقته قائلة: "لا تنسى أنك معاشرا لزوجتك واحتمال الولد وارد جدا فلا تتعجل التنصل من واجباتك المحتملة" فرد عليها متظاهرا برودة الأعصاب: "ــــ لا بد أن تكون حاضرة هنا معنا حنى نتفاهم." ولمّا خرجت الأم لتدعوها هيأ موسه جيدا في جيبه ثم جلسوا لكن قبل أن تردا بصريهما إليهما كان صاحبنا قد زف زفة واحدة نحوها وترك في وجهها ندبا في هيئة شرخ وفرّ هاربا، ليُمضي شهرين في السجن لكنها هي مضت إلى اللحود بعد تلك الحادثة بشهر واحد فقط.

   لقد مضت متأثرة غير مصدّقة أنها فقدت أعز ما تملك بينما صار هو شخصا انطوائيا مندسا في تنقلاته خشية الانتقام ثم أنه صار يحمل أشياء في سيارته الشخصية الصغيرة للصدقة، لكن لا أحد علم من يكون، بينما حَسِبَهُ بعض زبائنه الفقراء رسول الحكومة السري إليهم، في الوقت الذي ظنه الآخرون إنسانا متدينا يبتغي وجه الله بصدقاته تلك دون أن يكتشف أمره أحد، فإذا ما أحسّ أن هناك من يصوّره بطّل وارجع صدقاته إلى بيته وهو ما حدث فعلا عندما اشترى 64 دجاجة ثم ذهب بها إلى حي فقير يقع غرب حيه الشرقي وكان كل مرّ به رجل سأله عن يهدي الأناس الفقراء الذين يمرون بهذا الشارع إلى سيارته حتى وقع في سؤال مسؤول، وقد ارتاب المسؤول من السؤال فعزم بأن يدل فقيرا إلى السيارة ويختبئ خلف شجرة قريبة ويصوّر ما يحدث بتوجيه كاميرا هاتفه نحو المكان فرأى كيف أن الرّجل الفقير لمّا وصل إلى السيارة فتح صاحبها وهو ملثم باب السيارة وأخذا دجاجة ووضعها في كيس وسلمّها له فتعجب جدا لما يفعل ذلك في السر. وهكذا مضى صاحبنا يوزع دجاجاته إلى أن جاء المسؤول وفاجأه: ــــ لما تحترس في صدقاتك يا هذا كأنك توزع الكوكايين عليهم؟

ـــــ مادامت قد تجسّست علي فلا بأس أن أخبرك إذن: إني احترس لا مُبديا حتى ذراعي فما بالك بوجهي فأنا هو عامل الشرخ في وجه طليقته والذي لم يهضم شرخه فيها من يريدون الانتقام منه سنا بالسن والبادئ أظلم وعمل شرخ له في وجهه كما فعله في أختهم. فأضمر المسؤول في نفسه بأن لابد أن يخبر الوالي ليلقّن المنتقمين درسا.

وفي مرة من المرات ولمّا أكمل صاحبنا توزيع الدجاجات على الفقراء والمحتاجين سرا كعادته فاجأـه الوالي متنكرا وهو يقول ما ذهب مثلا يضرب بعده وإلى يوم الناس هذا:

" أهلا بالسيد شارخ. أترانا الآن ولسنا ندري الجاني من المجني عليه ألا فرحم ربك العالم الذي قال "غرب فاضل أحدث شرخا في شرق فضولي؟" ثم ما سر رقم 64 فرخة في مدونة رب أعمالها حلفتك بالله؟!

 

13. الفقير واللّحم

 

   اتّفقوا أنه كان في أرض الهنود رجلا فقيرا يعيش في كوخ حقير هو وزوجته وكان يعمل طوال النهار عند مُكاريا في سقي المزروعات والاعتناء بها بيد أنه اقتطع منها بموافقة سيده ما يقارب الفدانين، جعل جزء منها خما للدجاج وجزء مزرعة خاصة يزرع فيها بعض ضرورات مائدة البسطاء من بطاطس وبصل وفلفل وأعشاب التحلية، وقد نجح هذا الفقير في هذه وفشل في تلك إذا بعد أن تعودن بنات الخم من الانسلال إلى الحقل اضطر لبيعها جميعها حتى لا يراها سيده متوخيا ما لا يحمد عقباه، ويوما بعد يوم صارت نفسه وزوجه تتوق إلى بيض ولحم الدجاج طعاما لكن ما باليد حيلة، فهو فقير ليس له مالا كافيا لشرائها من لدن جزار المحلة غير أنه في يوم من الأيام عندما كان مارا أمامه قادته قدمه إلى داخله لا يدري كيف قادته، وهو لا يصدق من في محل الجزارة؟ فلما رآه بالكاد كاد يفرك عينيه من شدة السعادة لأنه صديق الدراسة "عمر" وبعد أن سلّم عليه همّ أن يقول له شيئا يكون حزّ في نفسه أن يقوله له فآثر الانصراف على أن يلطخ سمعته ويجلب مهانة لعائلته بيد أن صديقه الجزار سرعان ما نداه وقال له "ــــ أحلفتك بالله إلا أن تقول حاجتك وأنا طوع أمرك باسم عهد الطفولة"، فقال الفقير: ــــ كما تعلم يا عزيزي إنني اعمل عندي السيد "باشاغا" وكان كريما علي بأن أهداني قطعة استرزق منها من تربية بعض الدويجيجات غير أنه كما تعرف العلف غالي فلم ينجح مشروعي ناهيك على أنها أصبحت مصدر خطر بتسللها إلى مزروعات السيد فبعتها واشتريت بثمنها ملابسا لي ولزوجتي، غير أني اشتقت للبيض ولحم الدجاج وأنا استحلفك بالله أن تقرضني كل ليلة جمعة قطعتين من لحم الدجاج أطبخها بخضاري.. والخضار خضاري (يعني..) فأنا مزارع أجل.. أجل مزارع مستكفي كفاف عيشي يعني (...) وهنا يدخل الجزار في دوامة من الضحك الهيستيري حتى سالت دموعه فارتبك لأجلها الفقير وهم بالانصراف غير أن صاحبه نداه وأمره بالمتابعة: ــــ ها ثم ماذا ثم ماذا يا صديقي؟

ـــ أطبخ القطعتان وأعيدها لك، أجل أعيدها لك مطبوخة لتتعشى بها ونكتفي نحن بشطيطحة الدجاج فقط/ ها ما رأيك؟

ــــ ضحك ثانية ومن فرط ضحكه كاد أن يغمى عليه ثم تراجع وأحضر السكين وهو يقول له لي لك كل ليلة جمعة رطل من لحم الخروف على أن تطبخه كله وتعيده لي وتكتفي أنت وزوجك بمرقه؟

ـــ أوافق أوافق يا صديقي العزيز وأشكرك كثيرا على كرمك.

ثم ظل الفقير على هذا العهد يمر كل ليلة جمعة على محل صديقه ويأخذ رطلا من اللحم الغنمي الطري ثم يطبخه ويعيده له مطبوخا على أنه يستفيد هو وزوجته بالمرق والشحم الذائب فيه فقط حتى العظم النقي لا يتركه إلى أن جاء اليوم الذي فقد الفقير وزوجته صبرهما فأجهزا على الرطل كاملا، وقرر الفقير أن يقفل الباب جيدا ويطفئ الأنوار وينام لمّا أدرك شناعة ما فعلا، لكن الزوجة طلبت منه أن يذهب ويطلب من صديقه المغفرة.

ما أن أتم كلامه وهو بين يدي صديقه الجزار نادما حتى بادره قائلا: ــــ أنا الذي أطلب مغفرتكما أيها الفقيران الكريمان اللذان ابتلاني فيهما ربي، لكني لم اتّق فيهما ربّي فناشدتك بالله يا صديقي من اليوم فصاعدا تعال كل يوم جمعة لتأخذ نصيبك من صحبتك رطلا من اللحم إلى أن يشاء الله أمره فيك الذي كان أمرا مفعولا.

 

14ـ أول أوراق الخريف

 

الانقشاع: ظل الأولاد يركضون ويركضون طيلة نهار يوم خريفي ولمّا انقشعت الغيوم أخيرا تصايحوا قائلين أنّها الشمس، وهاتفين أكثر من ذلك أنها الشمس قرص أصفر.. الشمس قرص أصفر.. وبعد برهة عادت وتلبّدت السماء بلون رمادي داكن فتصايحوا المطر المطر وبعد أن ابتلّ الأطفال بالمطر تسابقوا إلى بركة الطين للغطس بيد أنه سرعان ما اندلعت ريحا قوية كلما أبعدت على إثرها أجساد الأطفال الصغيرة رويدا رويدا عن البركة الخطِرة كلما ابتعدت الغيوم السوداء بعيدا إلى مرتفعات الشمال البعيدة البعيدة فتراءت السماء للأطفال قرص أزرق تتراكض بها السحب البيض وتشد بعضها بعض بقوة أمام الرياح التي تجري بها نحو كل حدب وصوب وهي تصفِّر، فتسارع الأطفال خوفا من هديرها إلى زرائب الحوطة أين سمعوا صوتا قادما منها يئن كأنه صوت جدّهم الناطور ولم يحدث هذا عندما حدث إلا في يوم واحد.

مجاري المزاريب: لما تواصل هطول المطر دون انقطاع سالت المزاريب وظلّ الأطفال يطلون من النوافذ. خرج ولي الدار يرتدي معطف النيلون لحفر خنادق صغيرة لسيول فلا تتجمّع حول الدار ولمّا دخل العصر ومازالت السماء ترسل مطرا مدرارا تأكّد الأطفال أنهم لم يخرجوا هذا اليوم، وأرسلت المداخن رائحة الصنوبر فانتاب الدّشرة كلّها عبق شتوي مُبكِر ويوم بعد يوم رُسِمت حياة الريف بين ندى الصباح وبرودته واكفهرار التماسي وأقدام الأطفال والدواجن ملطّخة بطين تبعثره في كل مكان كأنّها محاريث كانت تقلّب حقل الزرع رسمت لوحة خالدة البهاء عند أقدام أوّل خريف تطل ساحرة أمام أنظار الناس.. كل الناس..

الضباب: اشتدّ عبق صنوبري وازكى أنوف البوادي، زادته نكهة الضباب الرابض غرقا في رحلة التناهي أو التبدل الذي يصيب كل خريف أجواءه المشبعة بأريج المداخن نوع من غبش المناظر حتى لتختفي عن الأعين كل الخلائق إلا عبق الصنوبر المحترق. هكذا هي صباحاته إذا ما تراءى الزمان متراجعا حين يغدو الصبح مرتعا للضباب، وحين تغدو ما بعد الظهيرة تدحرجا إلى هاوية التلييل، ولا تعرف كنهه الضباب إلا مداخن المداشر كعهدها..

السروة المدهامة: ألوان من السرو الأبدي الطلعة تقف كإله الزمان الجبّار قرب المداخل والمخارج، هنا كما هناك، ومن على المرتفعات تُرى كأنها نصبٌ تذكارية خالدة تركتها أرباب غابرة لا تهرم ولا تحول، وغير بعيد عنها ألوان العرعر المختلج لصفحات لا تمّحى ولا تزول من زمن تلك الضيعات الريفية اللا تنسى كسياج للبساتين أو فاصل بين الحقول أو كزينة للحوزات والمداشر.  تقف السروة المدهامة على المشارف المؤدية "للباب" وهي قبالتهم جميعا صنو عروس الزمان أو فحل اللوحة المحكية عنها وعن صنواتها الأبديات الخضرة وروعة الريف وإياهن لكن لسان خريف مدبر وآخر مقبل.

أوراق تشرين: وقرب السواقي المؤدية إلى البساتين تجمعت أوراق صفراء وكليلة أخرى من لون الرماد والشمس شاحبة نصف قرص تداعب ألطاف سناها نسائم لا تقف ولا تلوي على الكل، لا تبقي ولا تذر من أوراق الشجر شيًا إلا وتناهت به وتطايرت فوق الأرجاء والأزمان منتظرة أن يسحب الرحمان آيته الصفراء ويبعث أيته البيضاء ندف من أول ثلوج الخريف المتأخر..

 

15. ثلاثية الزمن الضائع

(إنما الرسول المشار إليه في هذه القصة رسولٌ نموذجي يكون قد عاش في القرون السحيقة البعيدة كل البعد عن فترة الأنبياء والرسل المعروفة، وقد يعيش في المستقبل السحيق، إذ للعلم رسله كما للأديان رسلها، إذن لا يستحق ذلك أي تأويلات خاطئة)

 

 

  1 ـــ يوم رحل النبي الذي بعث رحمة للعالمين، إن هذا النبي الذي رحل، رحل عن 120 عاما ولم يكن يُعيبه يومها غير المسلمين الذين انحصروا عن هذا العالم ـــ في ذلك الوقت ـــ إلى المناطق المقدسة في شبه الجزيرة العربية فقط وما بقي منهم كانوا حوالي تسع ملايين نفس يقطنون من حولهم جيرة تسع ملايين آخرين، أولم يقل الإسلام نفسه أني بدأت غريبا وسأعود غريبا كما بدأت؟ تالله لحُق قوله إذن، ثم أن البرية التي حارت حقا في أمر ذلك النبي المدّعي النبوة لم تكن غير برية المسلمين؛ فلم تكف من تاريخها على طرح الأسئلة تلو الأسئلة عليه وعلى قومه، نحو: كيف ومتى ولماذا ومن أين وإلى غيرها. فجاوبتهم قائلا "أنا" كنت آخر نبي بُعث رحمة للعالمين في العام 4552 أي بعد 25 قرن ونيف من الآن وكنت أول الأمر مدع النبوة أقولها شططا عن ربي وعن أنبيائه المصطفين، واظلم الناس دون وجه حق وافتري الأقاويل لكل من لم يؤمن بي مؤولا الأحداث والأحاديث مُتمثلا بنبيٍ جاء قبلي بـ 45 قرنا وآخر بـ 39 قرنا. فكان أن طلب مني الناس معجزاتي فقدمت لهم كلاما شبه موزون ومقفى مثل كلامهم تماما غير أنهم رفضوه ساخرين بي، لا بل طفقوا يشتمونني وملتي ثم يضربونني ضربا شديدا مبرحا ثم استهجنوا قلة حيلتي إزاءهم فردوا عنه بقولهم: " حتى لا تعود ثانية لارتكاب الحماقات تأتينا بشعر غير ناضج فنيا من دون قريحة مكتملة، ربما هو بعض ارتقاء في مشاعرك وتجرّدها عن كل العادات الموجودة والأخلاق غير الحميدة، ثم إنه ما شهد بأن وعد الله حق وأن النار مأوى الكافرين غير شعراء وآخرون مثلهم جرتهم غوايات الدنيا إليها، وعندما يعود إليهم رشدهم وتستقر طاقتهم العقلية الغريزية الكامنة لا يشهدون بما قالوه أول الأمر، وكنت إثر ذلك التنبي المزعوم وأقولها بصدق ضمير قد تجاوزت حدودي فأدبني ربي تأديبا، ولما اعترفت بذنبي صادقا ملتاعا قرر جل جلاله بعدها بسنوات أن يبعثني إثر سلوك انتهجته؛ طهراني، اصطفائي روحاني وما هو بالروحاني، صوفي وما هو بالصوفي، ملائكي وما هو بالملائكي نبيا حقا، فأديت في الناس رسالته على أكمل وجه وآزرتهم وآزروني خيرا ولمّا كانت جنازتي بلغت من ضخامتها مجمع البحرين بدايتها في جزائر كوبا ونهايتها في شنغهاي الصين، فيالق من البشر في سلاسل متراصة أتو من كل فج عميق ليؤبنونني فكانت جنازة كأنها الحشر.. وصائغين كرامان أنفس، وحدها كانت متحركة، دموعهم على خدودهم تتهاوى وحال ألسنتهم متأوهة إلى مغيب الشمس، ثم بدأوا يضربون صدورهم ويلطمون خدودهم حتى فاتك أنهم هم أنفسهم لم يفهموا تغيرهم من حال الى حال، من حالة خشوع وتدبر، تجلٍ وتحلٍ، رضا وطمأنينة النفس الراجعة إلى ربها راضية مرضية، حب واستمرارية، إلى حالة من التشظي ومحاولة رفض العدم واللا عدم معا. كل ذلك إنما وجد دفعة واحدة في جنازة النبي الذي بعث رحمة للعالمين، كيف لا وقد ترحّم على روحه الطاهرة الشريفة حتى من عرفوه من مسلمي أهل الجزيرة العربية.

  2 ــ حتى نزل "الله" رب العالمين قدس اسمه بجاه كماله وبعزّته وسلطان جلاله إنسانا إلى هذه الأرض ليؤدبني فيما قولته عنه زورا وبهتانا، وكان هذا الرجل شابا في عمر النبي عيسى ليس بالقوي ولا بالهزيل، لكنه صلد جلد وكان حينئذ عابر متنقلا من مدينة إلى مدينة بسيارته الخاصة فاستوقفه راع كان يرعى غنمه في مزرعة ممتدة ثم تقدم إليه مستمتعا بمناظر خلابة فسمع صوتا يناديه "يا رسول يا رسول" فالتفت مدع النبوة إلى مصدر الصوت وهو مشدوه: ـــ من من؟ من أنت؟ من يناديني؟ ـــ أنا يا رسول.. ها أنا ذا. ثم قفز الشاب إليه من أعلى الشجرة قريبة أو قل خرج إليه من جوف السماء حاملا معه مَشحاطا* قال: ـــ "من هو ربك يا فتى"؟  فقال " ربي ربك الذي خلقك وخلقني بعد أن فطر السماوات والأراضين وهو على كل شيء قدير."

 ــ وأين هو؟ قال

ــــ في ملكوته يدرك الأبصار ولا تدركه الأبصار.

ــــ ومن علمك هذا؟

ـــ هذا وحي انزله الله علي لأهدي به من ضل عن سواء السبيل، أهديه إلى طريق الصلاح ونور الهداية.

ـــ وما الهداية وما الصلاح؟ قال الشاب الصلد الجلدُ.

ـــ قال: أن تعبد الله كأنك تراه وإن لم تكن تراه فهو يراك، تعبده بإقامه الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم وحج بيت الله والإيمان بقضاء الله خيره وشره.

ــ حسنا كيف تصورت أنك مختار من جميع البشر وأنت لا تعدوا أن تكون مجرد فتى فج وأناني ها كيف؟ أوليس من طبيعة الكلام أنه أصلا صناعة عاطفة تنمقه المشاعر وتسموا به بلاغة وإعجازا كلما تأجج لهيبها لتوقد به عزائم الناس؟ ثم هل تستطيع أن تكون في أوج حضور بديهتك العقلية والشعورية في الوقت ذاته أي تحس إحساسك بقمة اللذة وتُعمل مخك في قمة الألق الفكري الراجح في وقت واحد؟

ــ لا لا أقدر على ذلك، إلا بإذن ربي؟

قال: ـــ وأنا لم أأذن لي بشريٍ أن يكون نبيا، إذن لو لم يكن ذلك مستحيلا لتألّه كل من عليها آخذين مكاني، هب حينئذ أن رجلا إلها أو نبيا مثلك يدعو امرأة إلى فراشه كلما التهبت شهوته التهب عقله بالأفكار النيرة وعج، كيف يسلك؟ وماذا سيحدث هل سيمسسها أم لا!؟

قال: ـــ ويحك ومن تكون.. زفرة تتبعها شهقة.. كلما جاوبتك تكابرت تكبر الآلهة.. (حبسة تحدث للرسول ويفقد القدرة على الكلام إلا بعد دقائق.)

قال: ـــ إذن خُذ سيُعرّفك المشحاط من أنا، إذا لم يهديك إلى معرفتي أحد.. خُذ خُذ .. وبدأ المشحاط يعمل عمله ويزيد إثر الضربة بالمشحاط أذًى وتقرحا حتى لكاد يتبول على نفسه. ثم قال: أأزيدك أم تراك قد اكتفيت؟

فقال: ـــ بل اكتفيت ولن أعود إلى هذا المنكر ما حييت. ثم رفع الفتى المتنبي المضروب صوته أخيرا إذاك غيضا إثر عودة متأخرة للضمير وهو يقول: ـــ سبحانك ربي سبحانك، إني ظلمت نفسي لما قلت عليك شططا، قلت عليك مالم تنزل به من سلطان، إذا لم ترحمني فتسامحني وإياهم الذين لعبت على عواطفهم لنكنن من الخاسرين. قال: بلى هذا تأديبٌ لك ولغيرك حتى لا تعودوا إلى غيّكم وإلى أفعال ليس بمقدوركم، أنتم مخلوقين على قدر، أتعرف ما معنى على قدر.

 قال: ـــ أجل، سامحني سبحانك وارحمني.

 قال: ـــ نعم عفوت عنك. لتعرف أننا غرسنا غرسا ما يُّعرِف خلقنا بنا بل ما يوصلهم بنا من علم وعدالة وحفظ أمانة الضمير، وتلك من حكمتنا..

.. ثم عاد رب العزة من جديد ليبتليه في توبته أنصوحا أم كذبا فوقف عند راسه ذات ليلة وهو يستعد للنوم فأتاه بمن يسمعه قائلا: يا نبي الله، أنا الملاك صبرائيل وقد أرسلني إليك ربي لأنه يقول لك قد اصطفيتك رسولا وصنعتك لنفسي فاذهب إلى شمشون فإنه قد طغى واستكبر..

وما أن أتم الملاك كلامه حتى لهج صاحبنا الراعي جزعا: ـــــ لمَ أنا يا ربي قل له لما أنا بالذات يا ربي أسألك أن تعفيني يا ربي.

ــــ ويحك أو تعصي أمر ربك.

ــــ لا أريد أن أتسبب في أذية أحد لا أريد سببا في تعاسة ولا هلاك أحد من البشر مهما كان

ـــ أنه باسم ربك ستفعل بأمر ربك كل شيء يهون.

ـــ ولو كان ذلك، لأن ربي لن ينزل معي عندما يرفض الناس أمري فاضطر لمقاتلتهم واضطهادهم، أجل لن ينزل وسأكون مجرد عبد يُخضع الناس بجبروت وقوة ليست بيده بل هي غائبة عنه وما أنا بقادر أن آتي هذا العمل بإيمان أو بدونه.

ـــ أهذا آخر كلام.

ـــ نعم هذا آخر كلام.

ابتسم الملاك وقال لعبد الرحمن: ـــ طوبا لك، وقد اجتباك ربك فعرف أنك تبت توبة نصوحا.

  3 ـــ لم يُعلّمك ربّك من تأويل الأحاديث يوم اجتباك شيئا، لكن علّمك كيف تأتي بالمعجزة العينية أي أن تخلق المادة، ويُجزيَك جزاء اعترافك بإثمك وطلب مغفرة ربك بأن يُصيّرك نبيًا عند قرب نهاية أجل الخلق على الأرض، بعد ذلك يَشْطُف الزمن الضائع شطفا، ويقيس وزنه بزمن الجنة لترى كل نفس ما عملت رهينة زمنًا حرا في الجنة، تعوِّض زمن ما سرقه بعض الخلق إنسيون وجانًا، من بعضهم الآخرون، إفكا وشططا وغيًّا، فأَنْ تخلق من عدم "المادة" عليك بتعلّم تأويل الأحداث، فهناك ستجد أنّ أول تلك الأحداث حين قال الرب لعبده ورسوله: خذ طريق قصر سلطان البحار والأراضين لُننجيك ــــ من عِلْمِنا ــــ وأنه سيكون بمقدرتك إتيان امرأة السلطان وهو شاخص أمامها، وبعدها تكون قد خطوت أول خطوة في اتجاه تجبير الأشياء وإعادة الروح إلى الميّت منها وحرقك للموجودات حرقا بنظرة ثاقبة من هيوليتك المختلفة عن هيولات البشر.

ثم زاد الذي لا يُرد له قول قائلا: ــــ أما أن تأتي امرأة هذا السلطان يعني أن تأتيها بأمرٍ مقضيٍ منا وكأن شيئا لم يكن، فهناك حارسان وراع سيتوقف عندهم الموكب السلطاني بسيارته الأول سائق والثاني حارس وبينما سترمق امرأة السلطان الراعي، ودائما الراعي ما يقف موجودا في طرف الحقل خلف شويهاته حكمة إلهية في البشر، وفي طرف الحقل واد نزل إليه الراعي  كعادته في نفس الوقت الذي نزلت إليه امرأة السلطان على غير العادة، فلم يرى أحد منهما الآخر وهما يقضيان حاجتهما في نفس المكان، خلف سدرة الوادي، بيد أنهما عندما خرجا إلى الموكب أخبرتهما بالذي حدث واسترجعت صور العري لم يروها عن بعضهما لذاكرتها فما كان منهما وهما فوق العشب على مقربة من الحارسين والسلطان إلا أن يبدآن في النكاح سويا وقرب فخامة السلطان وموكبه، فحدّث عن الذي جرى عندئذ أنه اصطفاء لنبيه بحوائه، فأنا لم اسرق زمنا منه لأعطيه آخرا من خلقي أي أجعل هذا نبيا ثم من بعد ذلك أخلق له أنثى هدية، هذا حدثُ مسخرة وضياع بل تيه للزمن في كوني، فلو فعلت ذلك حُق لك أن تقول ليس للكون من مصور، فتأمُّل الزمن في الوجود معيارُ للاهتداء للألوهية الحقة.

   أآمنت أين تكمن النبوة الحقة..؟ وكنت فيما مضى من الزمن الضائع تقول هذا وحي من عند الله، فتبا لك، ما هذا بوحي من عند الله بل هو أنانية منك.



* .  بمعنى عثرات التقدم عثرة تلو أخرى

* . يعني أصلهم قحطاني من اليمن الحالي.

* . شحط يشحط الشيء إذا استقامه بالعود، والعود يشحط لغة الأشياء بينما المعنى الاصطلاحي هو الضرب للمعوج من الناس واسم المفعول منه مشحوط بمعنى مستقيم والجمع مشاحيط، اسم الفاعل مشحاط: العود الذي يجعل الأشياء تستقيم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.