القائمة الرئيسية

الصفحات

 بوزيان أوراغ

فِتاليس العربي


    نفس الحجم ونفس الهيأة بل ونفس ملامح الكلام وطريقة التفكير، وتتبعُه مجموعة من الأوانس المدرّبات على حسن التأدب مع الصفوة فقط، وأينما حلّ وارتحل مثل ما تتبع الكلاب وقردة المسرح المدرّبة فِتاليس، أجل فقد كان "فتاليس العرب" شخصية غامضة غموض درس الأدب والنقد الذي يقوم بتدريسه في كذا من جامعة عبر القارات الثلاث: أوروبا، آسيا، وإفريقيا، بيد أنه ولحسن حظه قد درّب نفسه لعقود وسنوات على إغوائهن بما يكتبه من كتابات معتقدا أنها "روايات"، وأنها روايات سائرة على خطى روايات بابلو نيرودا وماركيز وباولو كويهلو فلا يرفضن له طلبا مهما كان يفوق استطاعتهن بما في ذلك مشاركتهن إياه فيما يكتب. أجل، فقد كان صاحبنا صورة لأعظم شخصية روائية في القرن العشرين وهو لا يدري، صورة لشخصية بقدر ما هي شعبية واقعية بقدر ما هي متخيلة فذلك ليس قدرها أن تبقى متخيلة، الأمر راجع بالأساس لثقافة فِتاليس هيكتور مالو الأدبية والنقدية المختلفة أشد الاختلاف عن ثقافة فِتالس العربي، فإذا كان هذا الأخير بورجوازي بورجوازيةً عربية (بعد أن كان فقيرا) فسبيله مجد ربحي قائم على الأيديولوجيا بينما الثاني مجدُه مجد فني إنساني  من وحي جمال الضمير.

عام بعد آخر تحمّل صاحبنا فِتاليس العرب كل معاناته في سبيل مجده الروائي المأمول دون أن يقيم وزنا لتبعات الرحلات الطويلة وتغير ثقافة البشر التي تؤثّر سلبا على أسلوبه في الكتابة، فيقف فيها على "خالوطة" غير مقصودة، ولكنها خالوطة فنية على كل حال، يجمع فيها أسلوب الرواية التاريخية بأسلوب الرواية الفنية، فيدخل في متاهات عالم السياسوية والتخلف وغير بعيد يَعي أنه يمكن أن يغيض هؤلاء السياسويين والمتخلفين الذين يمضي في جامعاتهم بعض الوقت للتدريس فيهرع إلى جماليات الجسد وهباله كما يقول ويخلط هذا بذاك، فينأى المتخلّف لديهم حتى عن الشم في روايته ويعي حقا أن الشخص طرطورا فعلا، ويسعد السياسوي بذلك لأنها قد تُلهي الشعب وتفرّج عنه مشاكل صعوبة المعيشة على كل حال ويقتنع أن موكلهم فنان لا مثيل له وفي خدمة "الوطن".

عام بعد آخر تحمّل صاحبنا فِتاليس العرب كل معاناته في سبيل مجده الروائي المأمول دون أن يقيم وزنا لتبعات الرحلات الطويلة وتغير ثقافة البشر التي تؤثّر سلبا على أسلوبه في الكتابة، فيقف فيها على "خالوطة" غير مقصودة، ولكنها خالوطة فنية على كل حال، يجمع فيها أسلوب الرواية التاريخية بأسلوب الرواية الفنية، فيدخل في متاهات عالم السياسوية والتخلف وغير بعيد يَعي أنه يمكن أن يغيض هؤلاء السياسويين والمتخلفين الذين يمضي في جامعاتهم بعض الوقت للتدريس فيهرع إلى جماليات الجسد وهباله كما يقول ويخلط هذا بذاك، فينأى المتخلّف لديهم حتى عن الشم في روايته ويعي حقا أن الشخص طرطورا فعلا، ويسعد السياسوي بذلك لأنها قد تُلهي الشعب وتفرّج عنه مشاكل صعوبة المعيشة على كل حال ويقتنع أن موكلهم فنان لا مثيل له وفي خدمة "الوطن".

عام بعد آخر تحمّل صاحبنا فِتاليس العرب كل معاناته في سبيل مجده الروائي المأمول دون أن يقيم وزنا لتبعات الرحلات الطويلة وتغير ثقافة البشر التي تؤثّر سلبا على أسلوبه في الكتابة، فيقف فيها على "خالوطة" غير مقصودة، ولكنها خالوطة فنية على كل حال، يجمع فيها أسلوب الرواية التاريخية بأسلوب الرواية الفنية، فيدخل في متاهات عالم السياسوية والتخلف وغير بعيد يَعي أنه يمكن أن يغيض هؤلاء السياسويين والمتخلفين الذين يمضي في جامعاتهم بعض الوقت للتدريس فيهرع إلى جماليات الجسد وهباله كما يقول ويخلط هذا بذاك، فينأى المتخلّف لديهم حتى عن الشم في روايته ويعي حقا أن الشخص طرطورا فعلا، ويسعد السياسوي بذلك لأنها قد تُلهي الشعب وتفرّج عنه مشاكل صعوبة المعيشة على كل حال ويقتنع أن موكلهم فنان لا مثيل له وفي خدمة "الوطن".

  لقد ظلّ صاحبنا مهُوسًا بتقليد أشهر الروائيين العالميين، بخاصة بأولهم (اللاز) كما يقال في اللهجة الجزائرية الشعبية الواقعية وليس في رواية وطار الواقعية، إنها شخصية دي سرفا نتيس الفنتازية والبورجوازية التي تهوى الرياسة واستتباع المتبوعين لها، وكان متبوعيها في ذلك الوقت شبابا أوفياء وحتما حتى وإن امتطو أحمرة، أما في وقتنا بعد أن تغير العصر سيصبحوا أوانس جميلات تتبعنه في مركبات الفيمي، لذلك فإن الشخصية الثانية التي هوَس بتقليدها صاحبنا كي يصبح عالميا مثلها كانت فلاديمير نابوكوف، أما شخصية كشخصية فِتاليس التي صنعت شهرة صاحبها مالو، والتي لا ندري لماذا لم يقلّدهما صاحبنا بالرغم من أنه كان على شكلها اجتماعيا قلبا وقالبا حتى النشأة على الفقر والطموح العظيم لتطليقه وبأي السبل في مقتبل العمر، إنها الشخصية التي احترفت الفن، وبعشقها لحياة البسطاء وقعت هي الأخرى في خدمة حتمية للبورجوازية من أجل لقمة العيش.

  وقد أعاد صاحبنا الروائي العربي الذي لا يعلم أنه فتاليس العربي بَعدْ فِعلا رواياتهم، وإن كان يحسن تبديل سير خط الأحداث رأسا على عقب، بيد أنه ألِف اقتباس العناوين نفسها تقريبا علّها تحظى بترجمات وبرواج، ورواية بعد أخرى، لا رواج ولاهم يحزنون، عدا في جامعات العالم المتخلف أين يدرّس. لعلّ هذا الطموح الغريب والعجيب لترويض اليافعات من كل المشارب لجعلهن جلباب له أينما ذهب به هواه ذهب بهن وياه، والإصرار على السْتايل العالمي سيجعله بدون وعي فِتاليس عصره حتى وإن اختلفت الأساليب اختلافا جذريا. لكن كان يمعن اختيار الفكرة ويبحث له عن موضوع جوهري لكتابه حتى يؤكد احترافيته في ميدان الكتابة الروائية.. وإجابةً على فكرة أخيرة قد دارت في مخيلته منذ ما يربو الأربعين عاما عندما أتم روايته الأولى وهو بعد طالبا محتارا أيعنونها نوار اللوز أم ما تبقى من سيرة فلان ابن فلان، تأكد أنه من طينة كبار روائيو ما بعد الحداثة، هذا إن لم يكن واحد منهم بالفعل.. ثم أطرق برهة يحيك خيال فكرة ليخطّها أو يخلص فكرته التي علقت بين الدال والمدلول، الدال والمدلول اللذين ظل أربعين سنة يدرسهما دون أن يهتدي إلى سرّهما في كتابات الروائيين الحداثيين أو ما يشبه كتابات الروائيين الحداثيين، والذي يفتخر بتصنّع وتبجح زائدين أنه واحد من عباقرتهم لا ريب.. أهي علامة فنية محسوسة أم علامة جفاف القريحة المعلقة بينهما في شبه صمم مجرد من الحواس؟ قائلا محدثا ضميره وهو يود إيقاظ المبدع فيه:

ــــ "كنت أكتب من أجل غاية سامية بدون أدنى شك.. لكن.. ويحي قد نسيت فعلا لأجل ماذا أنا أكتب؟" قال ثم أردف: "ـــ ..؟ آااه .. قد تذكرت.. من أجل أن أشرب وأشرب قيلا (طبعا فأنا رجل أدب فلا تسألوني ما أشرب!) بل حتى إن شربت كثيرا فلا بأس (حتى أتجشع فقط) لكن أشرب وفقط من ذلك الشراب الذي لا يشربه عادة غير بورجوازيو ومشاهير هذا العالم، وفي الليالي الشتوية الباردة عادة كي يعطوا لعاقرة الدفء اللازم في كيانهم فيستمرون في تحفيز الذائقة لمزيد من انسياب الأفكار والمخيلات التي تحولّها إلى إبداع راق مسكوب على ورق أبيضٍ أملسٍ.. فأنا أفضل الذين شربوا من جهد قوت يومهم ليومهم. أجل أنا عكس أقذار هذا العالم الذين لا يشربون غير مر العلقم في أجوافهم كلّما تبينت لهم فكرة جليلة يخطونها تقبيلا لأسيادهم فيرمون لهم بقنينة أو اثنين من شراب العام الماضي، أي نعم عكس هؤلاء الناس الميتون في مدن ومداشر الأحياء."

...... تخمين صاحبنا وحديث من النفس للنفس .....

" ــــ أم متى شرب فِتاليس من معين ذلك المنهل الصافي زلالا رقراقا؟ شربه وهو مرتحل بين قرى الألب، الألزاس واللورين حتى أدرك أنه الزلال الفطرة التي وهبها له الله شفاءً وطمأنينة روحية رغم ذل "اللقطية" التي تتبعه كظله وهو فيها معذورا ومختلج الصدر ما بقي الفن..

.. لكن في الحقيقة أنا لست متيقن حتى من الشراب الذي ارتضاه فتاليس لنفسه ماذا يكون، ربما كان مدمنا على إتيان منابع أرياف فرنسا الزلال.. ممكن جدا..

ــــ لكن حقا كيف لم انتبه لـعنوان رواية جديدة عنوانها "عرّاب العرب" بل "فتاليس العرب" مثلا.. أجل كان علي أن أُخِرج للعرب بنص روائي يشبه نص فكتور مالو أعنونه بـ "فتاليس العرب" وأخطو به خطوتي الجبارة نحو العالمية ونوبل للآداب..؟! لا أدري لماذا تجاهلت أشهر رواية والتي فاقت شهرة بطلها شهرة كاتبها بكثير مما فاتته شهرة لوليتا بطلة "لوليتا" رواية فلاديمير نابوكوف؟"

 هكذا ظل صاحبنا يُسائل نفسه ويجيب وذهنه سارح في شروده المتصل، كأنه يحاور معشر جن وعفاريت لمّا أكثر التيهان إبحارا في عوالم التخييل صبح مساء.. ليل نهار..

"ــــ كيف لم يخطر في بالي متشرد مالو وفتاليسُهُ الذي أُشبِهُه ـــ عفوا أقصد الذي يشبهني ـــ؟ ثم لعله أفضل من قرأته في حداثة سني، قرأته لما كان يقطع قراءتي له منادي الصلاة، حي على الصلاة حي على الفلاح.. صلاة الأدب هي! آه تذكرت.. لعلي أكون قد وجدت سر عدم استدعاء ذاكرتي لفتاليس: إنه تداخل وظيفة الأيديولوجيا بوظيفة الأدب، أخشى أن عدم استدعاءها له يقع في جوهر ما يحمله هذا الذي نسميه الأدب والذي أضحت الأيديولوجيا تقتات به بينما هو يُحيا به ولا يُقتات به، نعم يا إلهي وآسفي، قد تذكرت متأخرا كالأبله.. أذكر جيدا أن أحد من أساتذتنا في ولايتنا التاريخية الحدودية قال لنا بصريح الكلم ما لا يُفهم بل ما لم يفهمه غير الضالعين في قراءة نصوص الجيل الذهبي من ذلك الزمن الجميل، لقد قال حينها وكأنه يهذي هذيان من شرف على خبل مطبق قريب: إشعاعنا بعد إشعاعهم، باسم الليل ونهار، سنرده إليهم إشعاعهم، موت وخفاء.. موتي كصبح يوم جديد، مِراء آخر تراجيديات للحلم الأخير أيضا نوره، أنا والضمير، متى الراحة؟ الأبدية ومنتصف الطريق كمستشهد أنا، يموت الليل ونقيم عزاؤه الأخير، وفي كل ملمح أموت أنا هنيهة مع الموت.. وينفلق من موتي نور أمل جديد من حمأ الموت.. مع ذلك قالت لي سوسنات الربيع القادم وزنابق العمر الفائت وبنفسجيات ضامرة تحت أقدام الورى المضطجع، وحدثتني بشموخ عن دجىً حالك بيد أن هناك لججٌ مدججةٌ من أكاليل الندى بين الزهر والرياحين، هناك لم تزل تاجية الألى ـــ وفي تقديرنا ـــ لم يطأها غيرك.

  (هذه التجليات التي تنضح وهجا تساقط على الذهن كسقوط المطر على أرض قاحلة وتخصّب الفكر بمعان غاية في السُّمو، ولم تصلها وفي ثوب بهيج غير الكلمات. وخلته يردد بعد أن ملأ قبعته وصحونه نقدا يقول: أشد قبضتي لأصفع القدر وفي كل أصبع أحمل النذور للبائسين وبالقلوع والمجاديف نُطعم الجوعى والمتشردين..)

وقد علمت شذرا* لما قطع علي المؤذن كل مرة ذاتي مقتلعا إياها مني اقتلاعا.. وفطّرني عليه فرحت دون وعي مني أتلوا معهم: "سبحان الله وبحمده.. سبحان الله العظيم (50) مرة، وهما كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن. سبحان الله.. والحمد الله.. ولا إله إلا الله.. والله أكبر (20) مرة، لا إله إلا الله (70) مرة، لا حول ولا قوة إلا بالله (50) مرة" ثم ما إن رجعت إلى البيت وانعطفت للسوق وإلى الكوليج وللمسرح لم تبارحني تلكم الآيات قط، وكأنني شغلت بها عن سواها، لأفسّرها، ولم تمتلأ حياتي بدلها فقد تأدّبت بأدب الأيديولوجيا.. وإلى الآن (بعد أربعين) خلتني أردد وأدون دون وعي: وبقبضتي أحمل الشرور من على أفواه الأفاعي أنثره بينكم سما في دسم.. حقا كأني عرفت لتوي أن الأدب جمال فقط أو تحرر من ربقة ما ينغّص عن الجمال، بينما أنا في الحقيقة شاكٌ أو فيَّا بعض شكٍ دائم، كنت وإلى الآن أقف حائر حياله حتّى خيّل إلي في بعض اللحظات أن أغير الصنعة وألج التمثيل أو الإخراج مِنْ أن أخلط الدسم بالسم كما أخلطه لي أساتذتي من أدعياء الحداثة ومناهجها البنيوية بأيديولوجيتهم خلطا ماكرا وقالوا هكذا هو العلم خذه منا هنيئا مريئا ولا تخف فوجدت أن من تحايل على هذا الجمال عندنا وبهكذا خداع وغش في واقع الأمر أقنومان لا أكثر: واحد من خلت ذاته منه ــــ سنة الله في خلقه ــــ وكان في ذلك أقرب إلى كذا من علم مِن الأدب العربي ولغته بكثير، غير أنه الاسترزاق والتطفل يمنعانِه فتظهر عليه علامات ذلك قِصَر ذات اليد أو الصنعة أول ما تظهر، أما الآخر فهاجس أصولي وتليد اتجاه الآخرين المختلفين عنه في أخلاقهم وثقافاتهم وهذا الهاجس المستوطن النفوس يعذبها حتى لا يتركها إلّا وهي في حالة من الغيض والقلق الدائم فتسعى بكل السبل لطمس حقيقة كل جميل لأنه الوحيد الذي يكشف عن الزيف والتطفل جدلا.

أجل، فلما كان فتاليس مالو العالمي يرنوا إلى الشمس وقوس قزح فوق القمة الشّماء هازئا بالأنواء والأنوار والسحاب كان صاحبنا فتاليس العربي لا يألو جهده ساعيا إلى مخدع فخامة فلان الفلاني قبل غيره ومتحملا الويلات وتتبعُه أوانس جميلات كظله، إلاّ لكي يُلقي عليه التحية الصباحية أو المسائية كلاما عسليا كالمدح هو وما هو بالمدح ومشفوعا بالإشارة العسكرية. أجل، لمّا كان يشدّ على قبضتيه تحملان شوق ألف عام إلى المستحيل لينثرها نذورا وحِدّة سؤال فتاليس مالو وهو يسخر من لم يكف قبضته ـــ كصاحبنا العربي ـــ أذىً يحمله للشعب المسكين الغلبان صبح مساء.

وحتى إذا ما نلتُ الشهادة رحتُ أدرّس الأدب والنقد مستشهدا لهم بالوعظ الإرشاد بدل معاني بؤساء فيكتور هيجو أو بول دو سويف موبوسان، بل ولا حتى أيام طه حسين أو فيض خاطر أحمد أمين انحرفت وزغت عنه.. ولكني قبضت مرتبي جراء ذلك دونما إطباقة ضمير.. آه وحينها تذكرت الفرق بين عقيدة العصبة والعقيدة الحقة وهي الإيمان بواسطة من موهبة التعاطي مع الفن والعلم والأدب والإخلاص في فهم الإنسانية والكون والطبيعة، التي تقود في الأخير إلى رضوان الخالق.. لكن ما فائدة هذا بعد أن عدت من رحلته الطويلة خائبا؟ ربما لأني كنت العربي الأول السائر به طموحه دون تجارب من سبقوني، فكلهم انتكاسيون رجعيون كانوا الذين سبقوني.. ربما.

.. ثم بعدها رأيت كيف أن الأيديولوجيا تتقفّى آثار الأدب بأم عينيَ في أكثر من مكان وزمان وتلقنه للناشئة في مهادهم بورش عن نافع ورسالة غفران المعري ولا بأس أن تختمه بختمة صحيح البخاري ومسلم وتدعو ذلك أدبا، رأيتها تذكي شعلة الأيديولوجيا نارا لججا في صدور الناشئة ولم انتبه إلا بعد أن رأيت فتاليس هذا وعدت إليه بعد أكثر من أربعين عاما، فقد وجدته ينهل الأدب صافٍ من منهله العذب مباشرة؛ مقبلاته من وحي غادة كاميليا الكسندر دوما الابن، ومدام بوفاري بودلير والإحوة كرامازوف دويستويسكي، وفضيلة بول فرجيني وشاعر دي برجراك، وبحيرة لامارتين واعترافات فرلين.. فالأدب حاجة فنية، شعور فتّاق يَجْمُل بالقلب فيصيب منه الإدراك ليصقله كونه إدراكا بشريا بصبغة إنسانية فيعِش أبد الدهر في وفاق مع نفسه والآخرين، لذلك رحم الله عبد الله ابن المقفع الذي فُطِّر على الأدب الصغير والكبير، يا ليتنا كنا مثله ومشوار عمرنا يقترب على نهايته.. وحسرتاه.. وأسفاه.. ويا ويلتاه على ما سرنا تائهين خلفه مسيرة عمر نحسب أنه الأدب.."

استيقاظ متأخر لضمير الأدب أم ضمير الأيديولوجيا؟ الأيديولوجيا لا ضمير لها، لاريب أن نجد ابن المقفع نفسه لو لم يُفطّر على نشأة صحيحة الأسلوب أي على ألف ليلة وليلة و"بخلاء" الجاحظ ونوادر فارس لجاءنا مثل ما جاءنا صاحبنا فتاليس العربي..، على كل حال نخشى أن أي كاريزما تزيغ عن هذا النهج تسقط في فخ اللا أدب وهي غير واعية أنها ساقطة فيه.. ثم لّعله السكوت أو الصمت؛ صمت المتصوفة الذي أصاب فتاليس هيكتور مالو كان خير مغيرٍ للأحوال ومازال بعد أن استشرى قحطٌ وجدبٌ، صيفا وشتاءً.. قر ٌوحرٌ في كل مكان وزمان، لكن كلما أصاب جوهر الأدب شرقا وغربا زيفا وبطلانا إلّا وظهر من أرواه من معين صاف مرة أخرى، لكنه فتاليس كل زمان ومكان.. ويبحث في نفسه عن شيء اسمه أدب ليواجه به ذلك البؤس فاغتنم منه زادا وزاده حياة..  فلرحم الله ذلك الشاعر الذي قال:

                           قد مات قوم وما ماتت مكارمهم

                                               وعاش قوم وهم في الناس أموات



* ـ وعيد فيه كياسة وظرف ترهيبا وترغيبا.

author-img
موقع تنويري فكري وشبه أكاديمي، يتغيا تقديم إضافات نقدية تخص تحليل الخطابات الثقافية ونظرية النقد والأدب متوسلا بجماليات التلقي والنقد الثقافي، كما يعنى بنشر إبداع قصصي جديد ليس له ما يماثله على الساحة الجزائرية، والمقال المتناول للشؤون السياسية والإعلامية والاجتماعية المقاربة للظاهرة الأدبية والمحاكية المكملة لها.

تعليقات