القائمة الرئيسية

الصفحات


 بوزيان بغلول    

      

        الأسد والكلاب


   تعجّب الدليل الكشفي من قِصر قائمة أطفاله وهو يستعِد لكي يُقفِل بهم للتخييم في الغابة الخضراء تخييما صيفيا وكشفيا تعليميا وترفيهيا في آن، لكن قائمته لم تحوي غير ثلاثة أطفال بينما قوائم زملائه قد حملت دزينة من الأطفال، وفي منطقة اختارها غير بعيدة عن مخيّم زميل له بينهما مودّة نصَبَ خيمته وبدأ النشاط بتهيئة الخيمة والتعرف على المكان ثم كيفية إشعال النار دونما زناد وهكذا.. وعندما حلّ الظلام كان الطعام قد نضج وأكل الجميع وغسل الأطفال الصّحون وهيأوا فراشهم كما علّمهم ثم التفوا داخل الخيمة حول النار فقال لهم الدليل: سأحكي لكم عن اثنين: بَرْطيٌ وسَلحيٌ، وكانا هذان شخصان غير معتدّان بما يقال لهما أو عنهما، وقد زعم الناس فيما زعموا بخبثهما، وعلى ضرورة التربص بهما، لأن إفكهما كصنيع الجبناء قد بلغ منهما مبلغ السيل من الزبا، كالنّتن المنتشر ذاع وأزكم فأذى الناس جميعا.

   وقد كان الناس يريدون من برطيٍ وسلحيٍ مغادرة أرضهما التي ورثاها عن أبيهما كي يتخذوها ملكية عامة.. ثم توقف الدليل فجأة عن سرد حكايته وأطلّ إلى خارج الخيمة ووقف ينظر إلى الغابة الممتدة وهو يتنهد كأنه حلّت به ميزوفينية مزمنة أو يكون حل به ما حل وهو لا يدري، وصوت بدأ يهمس في أذان الكون الأخضر: "ولو أن البشرية أُهلكت سيبقى الصرح صرحك من الأفق إلى الأفق والمجد مجدك يا دليل" عندما فاجأه زميله على ظلمة كادت أن تذهب روحه إثرها، ثم أخبره بأن كبيرهم أمره باستبدال طفلة في مجموعتي بطفل في مجموعتك، ودون أن يفكر في الدواعي كاد صاحبنا أن يطير من الفرحة وشرع في تهيئة مكانها بين زمِلَيها وتتمة الحكاية لهم..

   وبعد أن تم الاستبدال تابع الدليل قائلا: أين توقفنا؟.. آه تذكرت.. الحكاية السابقة كانت قديمة جدا دعنا منها، لا بل سأحكي لكم عن ثلاثة أضاعوا دربهم النائي فصادفوا أثناء ضياعهم داخل الغابة كوخ الغول.

ــــ الغول! قال الطفل الأول.. الغول! قال الثاني.. الغول! قال الثالث مثلهما وهم جميعا في دهشة وإخلاد.

ــــ لا تنزعجوا قال الدّليل ثم أزاح بيده ستار الخيمة قائلا: ــــ انظروا نحن في ليلة مقمرة تكاد كل الأشياء تُرى كما لو كنا في رابعة النهار، أما الأصدقاء الثلاثة الذين أكلهم الغول فقد كانوا في ليلية ظلماء كالحة..

ــ أوَأكلهم الغول؟ قالت البنت.

ـــ نعم للأسف فكان له أسنان مثل المنشار وأذنين كأذني الفيل وعينان وكأنهما تقذفان ماجما تلجع بالحمم لما تُصوَبان وأنف تحتهما ينفث دخانا.. وبدأت فرائس الأولاد ترتعد من شدة الخوف.. وبينما هو في وصف مغالٍ للسيد غول، كان يتطلّع إلى حاجة وقحة في نفسه ولا شك، بيد أن كل شيء انتهى في لحظات حين أدخل أسدٌ رأسه في الخيمة وقام بسحب الدليل ليأكله بعيدا..

 ...ويحكى كما سرى بين الناس أنه كان هنالك سيرك وقد ذاع صيته في كل مكان حيث أسعد الناس أينما حلّ ّوارتحل، وها هو يحط رحاله مع بداية عطلة الصيف قرب الملعب البلدي فوجد فيه أبناء البلدة ضالتهم مرحا وطرحا بخاصة أبناء الوجهاءْ الأقدر علىّ دفع تكلفة العرض الباهظة، لكن يحدث أمر لم يكن في الحسبان، إذ يفر من السيرك أسد من الأسود فلم يجد هذا الأسد في طريقه إلى الدغل غير كوخ بلدي مسكين كي يلتهمه!

وقد وجد المحققون على مائدة الشخصّ المسكين المُفترس حبة بصل ورغيف كسرة يابسة وقربهما ورقة كُتب عليها عنوانا بالبنط العريض « خُططي المستقبلية لتطليق العوز إلى غير رجعة » وأسفل العنوان بقليل كتب بخط غليظ يتبعه شرح بخط عادي:

 خطة نمرة واحدة: أذهب إلى صاحب المخابز، بلى إنه مالك مخابز البلدة الغني الذي أعار جدي الأول جده بندقية صيد كي يصيد بها لكنه قتل بها معمر الإفرنج واستولى على ممتلكاته أكيد أنه لن يعرفني فقد مرّ وقت طويل قبل أن يراني. سأذكر له هذه الحادثة لعلّه يعهد لي بوظيفة مناسبة يا ريت لو تكون وظيفة قائم على الأفران حتى انتفع من المبيت فيها وأقي نفسي من قر شتاء منطقتنا الذي لا يرحم.

 خطة نمرة اثنين: في حال رفض طلبي أتوجه الى الحداد وأستعير منه فأسا وأتوجه بها إلى غابة الصنوبر ثم..

 خُطط مجنّحة في طموحها بدأت تتوارد على صاحبنا وكان من سذاجته أن كان يُتبعها بهز رأسه وقوله: "أجل أجل.. هذا ما سيكون، بل ما كان يجب أن يكون منذ زمان" بيد أنه ما إن دقت الساعة العاشرة ما كاد يحمل ابنه الصغير ليقبله حتى دخلت زوجته عليه من الباب الذي تركته مفتوحا مقفلةً إلى شؤونها المنزلية وليدخل منه ذلك السيّد غدنفر الفار وبكل عفوية ويقف قبالته ويبحلقان في بعضهما البعض، الأسد وصاحبنا العجوز المسكين ثم إذ هي قفزة واحدة ووجبة واحدة وانصراف واحد ثم لا من رأى ولا من درى! .......مسكين،

مسكين كان من عاش دهره في مخيلته لا يفارقها إلا كي يعود إلى واقع فقره ويكتشف أنه يعيش طموحا زائفا... كم من آمال وآمال هدتها لحظة شمطاء في حمقها وطيشها وقد تصل في حمقها بالعقل أن تجني عليه أو تتعقبه بكل روية، هدفها الإجهاز عليه.. أو تكفره وتقنطه بعد أن تجبره على بُغض الدنيا والناس، ذاك ما يلحق النفس أحيانا من سقوط متواصل للبلاوي، قد يؤدي بالحضري الغني للانتحار والبلدي الفقير في كثير من الأحيان أن فقدان العقل، كم من.... كم من جلد وصبر على مغالبة الفقر؟ كم من رغبة جامحة على إخضاع الطبيعة والانتصار على الكلاب والشرذمة وانتشال القمر؟ كم من حلم وحلم للصعود والصدود لم ترى النور لكنها تأفل وتنكسر، يا لها من همة قرحاء نكستها ونسفتها إرادة البشر في التهور وعدم اتخاذ الحيطة وعدم إطالة النظر ثم ردّتها غير واعية الى إرادة الحاكم المقتدر!  

 نعم، وكانت قد سرت في القرية شائعة تقول أنّ صاحب الغدنفر ونديمُه وصفيُّه ومُطعِمه بيده الممدودة الحنون كان قد سهَى عنه فلم يرُدَ القُفل الذي بالباب فاندفع الغدنفر الفضولي وانطلق كالسهم مستجيبا لنداء غريزة البرية فيه، مشتما نسيم الدغل القريب بوحوشه ووعوله. ومنذ ذلك الحين وأبناء القرية المأكولة فقيرها والبلدة المجاورة لها المأكول دليلها الكشفي في قلق وحزن شديد والتحقيق جارٍ على قدم وساق، أطرافه مفتّش الشرطة وأقرباء الدليل المُلتهَم وأصحاب الكوخ البلدي المأكول شيخه ورئيس السيرك، ولمّا كلّف كل طرف محاميه وجد محامي رئيس السيرك الذي هو شقيقه الفرصة في فقر صاحبنا لخلق قصة يُبرئ من خلالها ذمّة موكله، وبعد رفع مداولات حيثيات افتراس أسد سيرك لقروي مسكين افتراسا وجّه القاضي تهمة الإهمال واللامبالاة لصاحب السيرك ورئيسه متسببا في إزهاق روح بريئة بل في إدخال المنطقة كلها في حالة خوف دائم،

  واقفا في وجل أمام قاضي التحقيق شرع محامي رئيس السّيرك في الدفاع عن شقيقه بشجاعة:

ـــ إن الفقير الواقع فريسة لأسدٍ فار من سيرك موكلنا كان اسمه شعال أبو حطاب، ويؤكد عليه القرويون بكنية "شعال بو حطب"، وهو اسم قروي لكن يشي يا سيدي القاضي بأن صاحبه يعمل حطابا، وكما تعلم أن مهنة الاحتطاب ممنوعة في هذه الربوع بقرار وزاري رسمي منذ أيام الحرب الأهلية لهذا ألتمس من هيأة المحكمة النظر في دواعي الاحتطاب في غابة معزولة ليلا، إذْ الثعالب حينئذ ستقوم بمهاجمة من يدخلها فضلا عن الأسود، فيجب على هيأتنا الموّقرة أخد معطى خروج الضحية إلى حتفه، وأن أسد موكلنا من التدريب على استئناس البشر ما يجعله غير قادر على دخول القرية نهارا لأذيتهم فكيف يتم ذلك بالليل..

   وهنا يتدخل موكّل الشيخ المفترس قائلا: كلا سيدي القاضي لا تثقوا في هذه المعلومات ــــ ورئيس الأمن موجود بإمكانكم سماع شهادته ــــ فالحادثة جرت في وضح النهار، إنه يسوق تغليطا ما كان ليسوقه لولا افتضاح أمره، فجميع الأدلة تشير إلى إطلاقه سراح وحشه كي يعبث بحياة الأبرياء من الناس دون أدنى ضمير.

ـــــ كلا سيدي، اعترض على كلامه: فإن موكِلنا لم يكن له مع فرار الأسد حيلة، فهو لم يعلم بفراره إلا بعد نحو نصف ساعة، وهذا الوقت كاف للأسد كي يقطع مسافة عظيمة، وطبعا الأحراش المجاورة لم تساعدنا في اللحاق به أو حتى اتخاذ إجراءات تحذير القرويين الكثيرين المنتشرين بينها، فحتى إننا أطلقنا عند وصولنا للغابة السوداء صفرات إنذار لكن الدرك وحراس الغابة منعونا، وحتى أنه لم يفهم مغزاها أحد من القرويين ومضو خارجين من بيوتهم لقضاء حوائجهم، بل وأمرونا بالرجوع ليبقوا هم في المكان دون جدوى وكأن الأرض ابتلعت الأسد، وحتى عندما طالت مرابطتهم دون جدوى خرج الأهالي ببنادق صيدهم وكلابهم لخوفهم على مستقبلهم ووقعوا في مشادات مع الدرك والحراس وشهدت المنطقة فوضى كبيرة لما أُطلقت رصاصات التحذير وارتفاع الصراخ والعويل المختلط بنباح كلاب القرويين..

.. لسنا بحاجة لهذه التفاصيل الآن.. تدخل القاضي مقاطعا محامي العائلة الفقيرة، عندها زاد محامي رئيس السيرك قائلا: ـــ أريد أن أسال محامي الدفاع سيدي.

ـــ تفضل، رد القاضي.

ـــ من أين لك بهذه التفاصيل؟ لعل الشاهد السيد رئيس فرقة الدرك البلدي له قول آخر..

ـــ معلوماته صحيحة سيدي القاضي معلوماته مطابقة لما جمعناه من أفواه الناس، رد الشاهد مواصلا "والسيد المفتش في بدلته المدنية يؤيد شهادتنا".

القاضي مطالبا محامي العائلة الفقيرة بالرد:

ـــ إن هذه الشهادة من المفروض أن تعمل لصالح موكلنا وليس ضده

ـــ كيف؟ وضّح قولك.

ـــ بعد شهر من الحادثة هدأت القرية وعادت الطمأنينة إلى سكانها لكن سرعان ما عاد الخوف وهيستيرية القلق إليها من جديد بعد أن انتشر فيهم خبر التهام الأسد الفار المختبئ بها لكشاف في أوج شبابه، وخرج الناس بكلابهم ثانية وانتشر الذعر بين الطرفين، الأمن والقرويين، لأن كلا الطرفين مسلح والكلاب التي تتبعهم كلاب همج واعرة ومسعورة اتجاه الغرباء، كالدّهماء في طريقها لم تترك من أخضر ولا يابس..

ـــ ها قد قلتها بعظمة لسانك: الكلاب كلاب دهماء. زاد محامي الضد.. وليعلَم سيدي القاضي أن هذه إشارة إلى التهور واللامبالاة من قبل القرويين، إذن عدم إعمال العقل واتخاذ الحيط عندهم هو الذي دفع بهم إلى فقدان شيخهم وكشافهم الشاب، لأن أسد موكلنا وإن كان حيوانا فهو متوفر على غريزة استئناس بالإنسان لأنه تربى في حضنهم، فهو مستأنس أكثر من كلابهم الواعرة الغير مستأنسة للبشر والحضارة!

ـــ "ها..! وما دخل الحضارة؟" موكل العائلة الفقيرة متدخلا

ـــ "لا تتدخل إلا عندما أعطيك الكلمة" رد القاضي.

ـــ ولكنه تدخل بدون أن تعطيه الكلمة

ـــ أنا أُحذّرك،..ويتكلم مع هيأتة.. ويُدوّن المساعد إنذارا أولا موجه لمحامي موكل ع.ف

واصِل السيد محامي الضد.

ـــ كما تعلمون سيّدي القاضي، فإن الفرق بين الإنسان والحيوان هو في الغريزة كون أن الإنسان يتمتع بنعمة البصيرة التي تجمع بين النفس السوية عقل وقلب معا وبين الغريزة، وهذه الثلاثة لا تعمل إلا مكملة لبعضها البعض، فإذا ما حُجب العقل في النفس السوية بالعواطف الإنسانية تنقلب غريزة الإنسان إلى غريزة حيوانية تسفك وتلتهم وتنتقم بغريزة الانتقام، لا بل تعيث في الأرض الفساد كما يقولون، وأكثر بكثير ما تفعله الحيوانات نفسها فحتى الكلاب مع هذه الطغمة من البشر تفقد غريزتها وتصبح في مقام الوحوش المفترسة، بينما الأسود الضارية لو وجدت لها أناس أسوياء وتربت في أحضانهم كانت ألطف ومستأنسة أكثر من كلاب القرويين الواعرة، أقصد من كلاب الغريزة الحيوانية من البشر ومن شابههم على هذه الأرض، وأخشى أن هذا هو جوهر ما حدث من آلام للإنسانية ليس عبر حادثتي التهام شيخ وشاب من قبل أسد لكن التهام ملايين مُملينة من البشر يوميا من قبل الغريزة الحيوانية في الإنسان ذاته ولا مَن مُعتبر.

ــــ "رفعت الجلسة وتستأنف المحاكمة غدا صباحا." اختتم السيد القاضي.

 

 

آمال "بوتفليقة"


   كانت هناك فتاة جزائرية تدعى آمال بوتاليكة وتكنى "بوتفليكة"، وهي التي وُلدت في بداية التسعينات بأحياء فقيرة غير بعيد عن عاصمة البلد في وسط سهل البرتقال، ولم يجلب لها هذا الاسم متاعب تذكر قبل العام 1999 لكنه بعد هذا العام لوحظ اهتمام غير مسبوق بهذه الفتاة، وبعائلتها، ربما لتشابه من قبيل الصدفة في الألقاب وتعلقا بأفخار النسب والشرف عند المتعودين تملق ساساتهم ومسؤوليهم والمثقفين على حمل القفة أبا عن جد، لكن ما برحت الفتاه النجيبة تؤكد لأساتذتها وزميلاتها أنه لا علاقة تربطها بالرئيس الفلاني أو العلاني بل حتى أن لقبها الحقيقي هو بوتاليكة، كما أخذت تكتبه على جميع الوثائق غير الرسمية لتقنعهم بذلك لكن دون جدوى، وهي بذلك إنما تزدري فيهم تلك الثقافة لحد محاولة الثورة عليها، وفعلا كانت هذه الفتاة تنظر بدلا من ذلك وبتمعن وحيرة لأمراض أحيائها الاجتماعية والبيئية. فالبرغم من أن سكان السهل كلهم لا يساوون حتى ربع سكان جيتوهات السود في ضواحي جوهانسبورغ، التي قرأت عنهم في درس الجغرافيا غير أنها قد تضاهيهم في انتشار مظاهر التخلف والأوبئة والأمراض الفتاكة، كتفشي وباء الكوليرا وتعاطي المخدرات والمشروبات المهيّجة والمتاجرة بهما ما يفوق التصور، ولعل في استدعاء صور هذه المقارنة لديها ما يوحي بوعي سياسي مبكر لأجل تقليد مانديلا ونكروما في التحرر من أشكال العبودية والاضطهاد اللذان انجر عنهما استمرار مظاهر التخلف.. وهكذا دواليك، في تبادل للأدوار العلمية والسياسية كتبادل المتفاعلات بالنواتج في معادلة كيميائية راحت سيرة وآمال دولة وشعب هافتة وراء شبابها يلعب بها ريح الغادي والرايح وتقلّب الأزمان، والتاريخ حادس أنه سيدوّن على صفحاته شيء من هذه الآمال الآملة في العصمة بمهب الريح،..

   أجل، وكانت تنظر بتمعّن وتُبطئ المسير أمام مشاهد كتلك التي يندى لها الجبين، حتى اكتملت الصورة في ذهنها، وكانت حدّدت على إثرها وجهتها وهدفها في الحياة وقاسته على مقاسها بدقة متناهية، خاصة بعد أن علمت من أنها أصبحت مراقبة من قبل ابنة عمها ذهابا ومجيئا من وإلى الثانوية، فقط لأنها تبطئ المسير، فما أن أخذت البكالوريا بتفوق حتى قررت أن تدرس الطب في خارج البلاد كي تهيئ نفسها لدخول معترك من الحياة مثمر في الوقت ذاته، وبأحسن تهييئ، ولأنها كانت خبرت واقع بلدها المر، واهتدت بغريزة التأمل أن مشكل البلد ليس في طاقاته البشرية ولا طاقاته المادية بل يكمن في سوء التسيير المرتبط بسياسات الإقصاء والتهميش واللاّعدالة الاجتماعية.

  كانت تحدو آمال بوتاليكة طموحات منقطعة النظير للاستمرار بخطى ثابتة في عملها رغم الصعوبات، وبأن تعمل ليل نهار لتحقق الهدف، بل تذهب أحيانا بعيدا في أحلامها كأن تصبح يوما ما أسطورة الجزائر الخالدة ومضرب الأمثال لأجيالها في صون النظام الجمهوري بالعزة والكرامة التي يستحقها مثلها مثل ماريان فرنسا، وتحرير البلاد من مظاهر التخلف التي ضحّى من أجله الملايين منذ فترة العثمانيين إلى التحرير إلى العشرية السوداء وكانت قد أسْرَت بطموحاتها الهادرة تلك غير ما مر لصديقتيها في غرفة الإقامة الجامعية هناك في بلاد الغربة؛ وكانت الواحدة تدعى كاترين وهي طالبة مالية الأصل، وغزالة الإمارتية الأصل.

   وذات ليلة حدّثت كاترين صديقتها قائلة: ـــــ كيف لا تنامي الليل والنهار، أنا لا أفهم؟ ربما تستطيعين ذلك مع نفسك لكن لا أعتقد أنك تقدرين عليه وأنت في حضن الشعب؟

ــــ ماذا تقصدين؟ ماذا تعنين بـ "الشعب"؟ أم أنك عدت لتخاريفك ثانيةً وقد نهيتك! أقسم سأبدل الغرفة إن..

  ــــ "لا، لا، لا يعني شيء، بل يعني فقط منظومة المجتمع في بلدك الجزاير وللا أقولك حتى هنا في مرسيليا، لازملك وجهين حتى تقدري تتعاملي معاه، وجه تخصيصينه للشعب العلماني الناضج في طريقة تفكيرو ووجه لعامة الشعب وللمتديّنين الذين يكرهون الحرية" ردت غزالة بدل كاترين وبكل عنفوان وثقة بالنفس.

  أما آمال "بوتفليقة"، كما كانوا ينادونها استهجانا ما برحت تصطدم كل مرة بواقع مرير معاكس تماما لتطلعاتها وطموحها الجياش.. "ومن ذهب ليُسدي المشورة لربما رجع بما لا يحمد عقباه" وتذكّرت هذه المقولة التي سمِعتها من جدتها في صغرها والتي بدت وكأنها أصمت أذنيها برنين غير منقطع يومئ إلى أيام الحنين الذي تمتع به ذلك الصبا المنصرم إلا في الخيال، غير أنها عرفت في قرارة نفسها أنها ربما غيرت الغرفة أفضل، لكن هل ستقبل إدارة الإقامة المعروفة بالمعريفة في هذه الأمور؟

  وما بال السخرية تلاحقها حتى من أقرب المقربين وكأنها من ذوي الاحتياجات الخاصة وليست طالبة طب، إذ بمجرد أن استقر بها المقام في إحدى الإقامات الجامعية بالناحية الجنوبية لمرسيليا لدراسة الطب حتى بدأت ملامح العراقيل تتبدى وتبرز أمامها، فقد واجهت بمرارة المُعاكسة والاستهجان من لدن الطالبات الإفريقيات اللائي تصرّفن بإزائها تصرّفين متناقضين، غير أن كليهما يكشفان عن سريرة في أخلاقهن، فما أكثرهن اللواتي يهرولن إلى آمال لتقبيلها وهي لا تعرفهن تحت طائلة أنها جميلة وابنة إفريقيا! فتنبعث من أفواههن رائحة الخمرة التي يفرطن في احتسائها وإن حدث ذلك إنّما حدث أمام أعين المراقبات، وإن هي حاولت صدّهن تفطنت لوجود المراقبات فلا تفعل إلّا بحيلة، فالمراقبات سرعان ما ينصرفن إلى غرفة المراقبة ويسجّلن ملاحظاتهن، وفعلا فقد وصلها يوما فاكس من إدارة الإقامة في شكل تحذير يقول ما يلي: « سجّلت لإقامة الجامعية يومه "...." بمعية المجتمع الطلابي المدني بأسف تصرفات عنصرية من لدن طالبة من أصول شمال إفريقية باتجاه زميلاتها الإفريقيات في نفس الإقامة وشهدت المراقبة "...." الحادثة، لذلك تندّد إدارة الإقامة بهذا السلوك وتوجه إنذارها للطالبة المعنية "A. Boutalika" لكن مع كل ذلك ففقد اقتنعت من ضرورة ترك العربيات ومصاحبة الإفريقيات برغم الخمر وافتضاح لباسهن.

 ـــ "والآن ها قد نهض الربيع في كامل شمال إيطاليا وفي وسط أوروبا من النمسا حتى الحوض الباريسي، ولم تظهر حتى الآن أي أمارات على نهوضه مجددا في موطننا بشمال إفريقيا بعد.. برغم الشتاء الكثيف والمطر المدرار" قالت آمال بوتاليكة

ــــ "معك حق، بل قد مضى بعيدا في زهوه وعطائه، ولكن عندنا لا حياة لمن تنادي" ردت زميلتها كاترين المالية وهي متأسفة على مفارقتها

ـــ ها قد شهدتنّ معي بأنه قد أجدبت أرضنا لطول ما احتجب عنها الربيع و... واليوم لا عجب في أن نغير الأجواء قليلا

ـــ وماذا احتجب؟ أكملي ناشدتك بالله، الربيع وماذا أيضا..؟

ـــ الحرية.

ـــ الحرية!!

ــــ أجل الحرية التي يوفِرها للشخص مُرتب محترم وليس منحة تذهب فقط في الفليكسي، لقد عزمت على ممارسة مهنة حرة توفر لي ولعائلتي الميسورة الحال مدخولا.

ــ أنت مجنونة، هنا في بلاد الناس!

ــ نعم هنا لأن هنا مناسَبة نجاح أي عمل ربحي مرتفعة. ولقد نظرتُ في أن أكتري بستانا وازرع فاكهة الموز وأقوم بتصدير منه ما يصدّر إلى بلدي بنسبة ربح منخفضة حتى ولو كانت مساهمتي قليلة في رفع الغبن عن غالبية الشعب بالنسبة لهذه الفاكهة التي يراها الناس وكأنها فاكهة الأثرياء والملوك في الوقت الحاضر.. أجل سأفعل بمعونة..

ـــ سيصيبك القنوط مع سماسرة السوق الإفريقية الذين ليس في قلوبهم رحمة ولا شفقة أوَنسيتي فضيحة استيراد لحوم المائدة الأخيرة.

ـــ لم تفارقني فكرة تربية الدواجن قط ولا حتى الأرانب المسمّنة منذ أن اكتَريت شقة للإقامة فيها في حي المغاربة هنا في مرساي، لكني وجدتها لا تناسب مبيتي، فقد خفت أن تنهار العمارة علي وتسحقني في الطابق الأرضي، فالعمارة مكونة من سبع طوابق قديمة واحتمال وقوعها وارد، ففكّرت بعد أن دفعت ثمن الكراء أن أحولها إلى تربية الديك الرومي لكن حذرني بعض صغار التجار من مغبة المغامرة لأن هذه الحرفة تشهد احتّكار وفوضى، وكما ترين فإن الفرنسيين خبثاء مخادعون في التعامل مع الأجانب وخاصة العرب؛ لا يفوتنكن أنها قتّلت أجدادي وسلطت على بلادي شتى أنواع البغض والاحتقار يمكن أن يُسلّطه بلد متقدم على شعب اعزل ومسالم، ذنبه أنه قال له "لا أريدك" ولمدة غير يسيرة من الزمن اضطهده، وكل فترة تمر كانت له مع أجيالها ثوارا وحكاية مُدَمّات في ذكراها أو ملعونة المآسي والأوجاع، ومازال هؤلاء الفرنسيون يكرهوننا كأننا خلقنا لنخدمهم لكن هيهات أنا من سيضيقنهم مر العلقم..

ــ ألا تخجلي ممّا تقولين يا امرأة.. هذا اللي قال "في داري بغى يبنى شالي"

ــ ثم أنسيت نفسك! أم تظنينَ نفسك شي ڨيفارا أو مانديلا..؟ في اعتقادي كان كاف طلبك إرجاع أموالك بدل شطارة اللي توصل للمذلة.

ـــ أنا أعي ما أقوله..، لقد حوّلتُ هذه الشقة الخطرة الإقامة إلى بقعة لأمارس فيها.. أح أححححح .. مهنة حرة تضمن لي مدخولا محترما فقط، بل كنت آمل لو لم أكن طالبة علم حتى أكبُر بها وأدخُل كَربَّة عمل إلى بلادي.. ونُساهم عبر تصدير لحم الديك الرومي والبط بنوعيهما المدجّن والأصيل الى بلدنا الميت اشتهاءً إلى هذه المادة التي يرميها الفرنسيون لقططهم وكلابهم، وبسعر مخفض حتى نساهم في رفع المعاناة والحاجة عنه.

  واليوم أنى كنت، وكأكبر خِبّة عربية مقيمة بمارسيلية، أعلنُها للجميع دونما تردد أنني سأفضل أن أكون خِبّة لمصلحتي على أن أستقيم لمصلحة الآخر، أجل وقد تملكني طمع كبير اتجاه وطني.. كيف؟ لن أقول لكم، إنه الطمع الذي يصيب عادة المرء وهو غير السوء، لا حاشا، مع أنه يمكن أن يتحول الطّمع إلى أسوء من الشر، متصورا صاحبه وهو في قمة استحواذ نفسي غير شعوري أنه والوطن سواء، أي كبُر في أعين الوطنيين والوطنيات وأصبح اسمه وهيأته تعادل وطن بأكمله وأنه يستحيل أن يوجد على أرض الشهداء رمزا من الرموز الوطنية السابقة أكبر منه، ويستحيل أن يتحول عن هذا الوطن يوما من الأيام بعد أن يتهيأ له، لأنه سيحسب أكبر منافق في التاريخ وحيث النفاق و"البيان" نفسهما لم يخلقا بعد.

ـــ واذا كانت هذه هي آمالك وطموحاتك وأنت بعد طفلة تجري وراء شهادة الطب فكيف سيكون عليه الأمر حين تنمو ثروتك وتحصلين على تلك الشهادة.

ـــ لن يحدث أي شيء إطلاقا، بل سيتحدثن عني زميلاتي وأهل حيي وبلدتي وولايتي أنها هكذا هي آمال بوتفليقة، ليس لها حدود..

ــ لم أفهم.

ـــ أقصد إن كانت آمال بوتاليكة شلال هادر وهي في بداية الطريق فإنها ستكون بحيرة عذبة ساكنة في منتصف الطريق، وبحرا متوسطا أبيضا مسالمًا في نهاية الطريق.

.. ومضت الشعور والسنون وتخرجت آمال بوتاليكة وعادت إلى أرض الوطن لتعمل ــــ وكأنها ولدت بشاربها ـــ مباشرة نائبة مدير أكبر مستشفى عسكري، قالوا حينذاك: لأنها كانت تنفق بسخاء كان المجتمع ينفق عليها بسخاء! وكذلك هو منطق بلاد الشهداء الذي انتسبت إليه، مُمنية الآمال كالمُجارية السّحب في السماء العليا، وجدت فيه من وطن معتز ببيانه ما سخّر مجده الأولون لفلذات أكبادهم، كالتي جارت السحب في آمالها، آمالا عريضة في الارتقاء من منصب الى آخر إلى أن تمكّنت من قطاع حساس وجوهري فعُيّنت في المنصب السياسي لتخلُد فيه، وكان أن خوّل لها المنصب السياسي أن تنهي آمال الآخرين في أن يطمعوا أو يطمحوا كمثل ما طمحت إليه يوم كانت مجرد طالبة بل وأن تسعى لتغيير القوانين كي تتربّع على عرش المنصب السياسي إلى يوم يبعثون.. ثم ماذا؟

  ثم تثبيت لأقدام التخلف عن طريق الإيهام بالتخلف، باصطناع الوطنية والبطولية وهكذا دواليك لا تمرّ فترة من دون أن يتكرر الإيهام والاصطناع مرة تلو أخرى.. والكل رابض أو جالس القرفصاء وهو مسلّم ينظر بعين الغيض إلى هناك حيث الديمقراطية متمرغة على أرضي العم سام والمسيز ماريا يكاد يقتُلها الضحك ولا تتوقف عنه إلا عندما يفاجئها البكاء شفقةً..

 

author-img
موقع تنويري فكري وشبه أكاديمي، يتغيا تقديم إضافات نقدية تخص تحليل الخطابات الثقافية ونظرية النقد والأدب متوسلا بجماليات التلقي والنقد الثقافي، كما يعنى بنشر إبداع قصصي جديد ليس له ما يماثله على الساحة الجزائرية، والمقال المتناول للشؤون السياسية والإعلامية والاجتماعية المقاربة للظاهرة الأدبية والمحاكية المكملة لها.

تعليقات