القائمة الرئيسية

الصفحات

التنوع الاثني بالجزائر، عروش قبيلة مطماطة أنموذجا


 

التنوع الأثني بالجزائر، عروش قبيلة "مـطماطة" أنموذجا

 

 

  بـوزيـان بغلول[*]

    هل التنوع والاختلاف حكمة أم نقمة؟ لعلّ الإجابة المثلى على هذا السؤال الإشكالي تقتضي درجة من الوعي، ويا حبّذا لو يكون وعيا حضاريا، أي التسليم أولا والقبول بمفهوم التنوع الثقافي الذي أقره برنامج الأمم المتحدة للتنمية البشرية الصادر إعلانه الأول العام 2001[†]، وما على القارئ إلا تتبّع خط سير هذا المقال وصولاً إلى الغاية المنشودة، المقال الذي يأخذ أولا في محاولة إيجاد صلة بين التنوع العرقي ومفهوم الثقافة، أو التحضّر، أو التقدم، أمام ما يقف عائقا دونها، من خلال إعطاء لمحة تاريخية عن البربر، ثم تبيان الفرق بين البربر[‡] والأمازيغ وأخيرا العودة إلى الثقافة من خلال الأنموذج عروش قبيلة مطماطة. فالبحث ليس ببحث في الإثنولوجيا ولا في الإثنوجرافيا ـــ العلم الميداني للإثنولوجيا ـــ بقدر ما هو انفتاح منقّب له عن صلة بالدراسات الثقافية والإعلامية.

  ولعلّ الإجابة على السؤال أعلاه كامنة في سرد الوقائع وضرب الأمثلة، خُذ على سبيل المثال مجال الإعلام غير الحصري المتمثل في الإعلام الإلكتروني، بما فيه الشعبي غير النخبوي الراهن، أتُراه سيكون قادرا على إثبات وجوده ضمن زخم هائل من فضاءات ما يسمى بالإعلام الجديد؟ لولا قيامه ثم حرصه على مبدأ الاختلاف، بل وجعله منهجا معرفيا ومهنيا، فبالاختلاف في الرأي يبلغ العمل الإعلامي ذروة تقدمه؛ فبحرية التعبير والفكر بين الحداثي والمحافظ، وبين الحداثي العلماني الليبرالي، والآخر الحداثي العلماني الثوري، وبين المحافظ الديمقراطي، والمحافظ الأصيل وهلم جر. وفي الحقيقة هذ المبدأ هو المكرّس لدى الغرب واقعا سوسيوـــ ثقافيا قبل الواقع الجيو ــ سياسي أو الجيو ـــ استراتيجي، فلا توجد طائفية في هذه المجتمعات الرأسمالية؛ لا بين الهندي الأصول واليهودي الأصول، ولا بين الأمريكي الإفريقي والبروتستانتي ولا بين الحر اللا منتمي والشيوعي وهكذا، لا فرق بينهم في الحقوق والواجبات وفي العدالة والمساواة.

  هذا المبدأ تطلّعت إلى تحقيقه الشعوب العربية بعد صراعات مريرة، بل ودموية أحيانا، وهو للأسف تكرس فقط لدى دول عربية تعد اليوم على أصابع اليد، وهي لبنان والجزائر وفلسطين والعراق، أما المغرب ذو الأعراق المختلفة فمستثنى بالنظر إلى نظامه الملكي. فلبنان بعد حرب أهلية ضروس (1975 ــ 1990) يشهد تنمية سياسية وثقافية ملحوظة، بفضل تجربة الحرب وتجربة الحرص على نعمة الاختلاف فالتنوع الإثني والمذهبي الطائفي[§] له آثاره الإيجابية، وفعلا هو ما انجر عنه فضاء أيديولوجي وسياسي ديمقراطي محل إشادة واحترام دوليين، وبقي محصنا بفضل تجربته من شرارات الربيع العربي الكثيرة في أيامنا، والذي يقال عن لبنان يقال عن الضفة والقطاع، بين العرب الكنعانيين والدروز والمسيحيين والغجر والشركس القبرديون، التنوع الإثني الذي ساهم في تبلور حركة ثقافية قوامها تعدد وحرية النقاشات الفكرية، بل وحدّتها وسمة الملكة في الإبداع الأدبي والفني، كل ذلك بدأت ملامحه في الظهور مع عودة ياسر عرفات وإقامته في رام الله، وقد خلق عرب 48 ـــ أكثر من مليون نسمة ـــ برأينا جوا منافسا سياسيا وثقافياﹰ طبعه انسجام يشبه ما هو عليه المشهد العراقي مع بداية نهاية حرب أهلية وطائفية مدمرة استغلها الخوارج الداعشيون ومن شابههم؛ انسجام سياسي وثقافي متطلع نحو الاستثمار في التنوع العرقي بين العرب والأكراد والتركمان والشركس والأقلية المسيحية، لخلق جو من المنافسة العراقية الأصيلة الثقافة، وهو ما لمسنا أثره حقاﹰ خلال الرد على مناداة أنصار فريق نادي اتحاد العاصمة الجزائري بحياة الرئيس العراقي الراحل صدام حسين رحمه الله، هذا الأخير الذي يمثله السنة المعارضين لحكم الشيعة والصدريين، ولمسناه أيضا في الانفتاح السياسي والثقافي للعراق اليوم في منطقة الشرق الأوسط لم نعهدهما من قبل، وعدم وجود اليوم عداوات للعراق مع أي أحد دليل على أن التنوع الثقافي داخل العراق قد أتى أكله.

   لكن هناك حقيقة خافية عن العراقيين وهي أنه لا توجد طائفية ولا عنصرية على أساس ديني في الجزائر، بل توجد على أساس أثني، ناهيك عن تجذر سنة الاختلاف على أسس ثقافية في وعيهم لا إراديا، أهمجا كانوا كجماهير كرة القدم بالملاعب العاصمية، أم مثقفين واعيين، فالجزائريون يقفون على مسافة واحدة بين الشيعة والسنّة، والجزائريون المسلمون أكثر من 92 بالمئة سنة مالكية والثمانية بالمئة إباضية، أما التيجانية فأضحت سلوكا وليس طائفة، لأن كل الجزائريون بمقدورهم ممارسة التصوف متى أرادوا، وقد فشلت نعرات الربيع العربي مؤخرا في إذكاء الطائفية بين الإباظيين والسنة في غرداية، ونتيجة هذا التصور فإن ما اصطلح عليه "بالمناداة" كان شيئا أو سلوك عاديا إن على جميع المستويات، كون الطائفية كثقافة شعبية غير موجودة عندنا، بل موجود بدلها بقايا الممارسات العنصرية العرقية بين الأمازيغ والعرب والبربر التي نحن بصددها في هذه الوقفة، وكذلك الموجود هو إرهاب الجماعة الإسلامية المسلحة، وإرهاب القاعدة (داعش وقاعدة المغرب الإسلامي) ولعلي سأكون صادقا وجازما مئة بالمئة إن قلت أن غالبية الجزائريين يعتقدون أن الحرب المشتعلة في العراق هي بين الجيش العراقي وداعش لا أكثر ولا أقل.

  ففي سنوات التي سبقت الحراك المعروف بالربيع الأمازيغي           Berbères  le Printemps  عام 1980  كان للجزائر أعداء كثيرون بخاصة في أوروبا، أما اليوم فإنه بعد بروز وطوَفان مشكلة التعدد الثقافي على سطح لأحداث مع العشرية السوداء غير ما مرة، فإن حركة كحركة التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية الـ RCD  والحركة من أجل الحكم الذاتي لمنطقة القبائل MNK الأمازغيتين، مثلا، قد لعبتا دورا بارزا في الدفع بالديمقراطية والوحدة بدل الانشقاق ثقافيا وسياسيا جزائريا، بمعونة أفكار وثقافة غربية غير أصيلة لديهم (لكنها تشبه ثقافتهم في أصالتها مثل عدم التدخل في شؤون الآخرين سواء كانوا أقوياءً أو ضعافا) وذلك من خلال بحثهما عن الوصول إلى العكس، أي إلى زرع الشقاق بالتمايز والاختلاف الثقافي مع العرب! ولعبته الـMNK  مع فرنسا بتجاوز تاريخها الاستعماري في الجزائر عكس شقيقاتهما حركة اﻟ FFS فساهمت في نوع من التقارب، واليوم لا نجد من أعداء حقيقيين للجزائر سوى إسرائيل، لكن لا أحد ينكر أن انفتاح السلطة في الجزائر بعد التسعينات وانقيادها إلى مطالب البربر والأمازيغ والاعتراف بحقوقهما الثقافية جاء لدرء خطر التفكك والتقسيم؛ فكل طرف قدم تنازلات وتم احتواء الوضع، ونفس التجربة الجزائرية عاشها وتجاوزها بنجاح العراق والسودان عن طريق تكريس التسامح  الديني والتعدد الثقافي بين الإثنيات والعرقيات دستوريا، وصولاﹰ إلى الحق الذي ما فتئت منظمات حقوق الإنسان المدنية العالمية تركز عليه، وهو إحقاق لكل مواطن وللأجانب ممارسة حريتهم الدينية بكل شفافية، وتثار هذه الحقوق باعتبار أن أغلب مسيحيو الجزائر اليوم هم من الأمازيغ ليتحقق مع الدستور المعدّل، فأدى ذلك ومثل ما يقول المثل «  تحريك وحل البحيرة سيجعل مياهها تصفى أكثر من ذي قبل »  فالذي حدث مع التعدد العرقي بالجزائر هو تنوع خلاق، مفضي إلى صراع تنافسي بنيوي بين الأطياف المختلفة وليس تاريخيا هداما، وباتجاه دلالة واحدة هي تعكير الأجواء كي تصفى وتتجلى « الديمقراطية » شفافة ومن دون قصد أحيانا.

كيف تميز الأمازيغ (القْبايل) عن البربر في الجزائر؟:

1.1.      التمايز التاريخي: 

    لو رجعنا إلى تاريخ البربر/النوميديين نسبة إلى دولة نوميديا الشرقية والغربية في شمال إفريقيا وجدناه ضارب الجذور في عمق التاريخ، يرجع إلى الإنسان البدائي قبل  9 إلى 15 ألف سنة، بتقويم فلكي خاص يرجع إلى 2968 سنة وهو تقويم فلاحي، وحسب المؤرخ الفرنسي غابرييل كامبس  Gabriel Camps المتخصص في تاريخ البربر فإن علماء الأجناس يؤكدون أن الجماعات البيضاء بشمال إفريقيا سواء أكانت ناطقة بالبربرية أو بالعربية، تنحدر في معظمها من جماعات بحر متوسطية جاءت من الشرق في الألف الثامنة قبل الميلاد بل ربما قبلها، وراحت تنتشر بهدوء بالمغرب العربي والصحراء[1]، ولا أدل من ذلك معنى كلمة " البربر" نفسها: البربر أو البرابرة اسم لا تيني، ويعني المتوحشون أو الهمجيون البدائيون الذين يتحدثون لغة غير لاتينية. أطلق الرومان هذا الاسم على كل الأجانب وبينهم الأمازيغ حين غزواتهم، ومنذ ذلك الحين وبعد عِلمهم كجيران طبيعيين لسكان الشمال الإفريقي بما يكون أطلقه على نفسه ذلك الشعب الغير متحضّر أي « أمازيغ » وهي الكلمة التي تُجمع على "إيمازيغن" ومؤنثها " تمازيغت" وتجمع " تِمازيغيّن" وتعني في اللغة الأمازيغية الإنسان الحر النبيل، "وكلمة « بربر» أصلها لاتيني : « بربارُس » و تنحدر هي الأخرى من اللغة الإغريقية : " برباروس"، هذه الكلمة تعني في الحقيقة "أعجمي"، أي الذي يتحدث لغة غير مفهومة"[2]، فلم يهدأ للرومان بال ولم يطمأنوا غيرة، واستشراءً عدائيا بينهم وبين البربر والأمازيغ، تحكمه نزعة العنصرية قبل الندية، حيث راحوا ينعتونهم بكل الأوصاف والأسماء المشينة؛ هم (الرومان) مع الــوندال الذين أنهو مسيرتهم الحضارية، وكانت قريبة من أن تكون على أيدي جيوش القائدان هانيبال في (247 ــ 182) ق.م  ويوغرطة في 130 قبل الميلاد الذي أشرف على بيع روما لولا الخيانة التي لحقت بهما، وهذا يرجع برأينا لحرصهم على نظام حكم ناجح قبلي جهوي مقابل النظام الملكي المركزي، ثم كان صدام تاريخيا يتلو صداما بينهم وبين آخَرَهم وبالتراشق الذي جوهره أصل ومدى صحة البديهية: تقدم البربر ثقافيا/ حضاريا مرهون بحرصهم على ثقافتهم المختلفة عن ثقافة الأجناس الغازية أولهم المسلمين الفاتحين والهلاليين عربا أو شيعة، وإلى الآن مازالت آثارها مستمرة، حتى وإن لم يفعل العرب كسابقيهم، لكنهم تفلسفوا في إيجاد رابط الرحم بينهم وبين البربر لحاجة في أنفسهم هم أيضا.

   لكن لمّا استند بعض المؤرخين إلى كشوفات علم الآثار والفنون القديمة، وجدوا أن أول إنسان في التاريخ اكتشف في شمال أفريقيا نحو مليون سنة في منطقة عين الحنش بولاية سطيف، وبالتالي فالإنسان الأمازيغي لم يهاجر إلى شمال أفريقيا، ولكنه وجد فيها منذ البداية. غير أن العالم الفرنسي   المختص في تاريخ شمال إفريقيا القديم من خلال أبحاثه العلمية رأى أن "البربر لا يشكلون شعبا منسجما من حيث الأنثروبولوجيا (..) فهم نتاج خليط من قبائل وشعوب متعددة"[3] وهذا الكلام يعضد فكرة أهل مكة أدرى بشعابها لابن خلدون في كتابه " العِبر" و حتى ابن حزم الأندلسي في كتاب المفقود "نسب البربر، أحرق" أن أغلبيتهم من أصول رومانية وندالية أوروبية وفينيقية أما من نسبهم إلى قبائل مضر وحمير بن سبأ ـــ بربر بن قيس ـــ ومن قبائل عدنان المستعربة فهم غير مختصين في تاريخ الممالك والشعوب كابن قتيبة وغيره، وهو افتراء مخطط له أول بأول، لأجل الاحتواء  وشرعنة الغزو/ الفتح باعتبار استمرار جيوب المقاومة لهم في القرون الثلاثة الأولى له ملتبسة عمدا بالصراعات بين الدويلات الناشئة وليس بين البربر والعرب، ثم جاء نيل المكاسب المادية قسمة بين الأطراف المتصارعة (في مغرب إسلامي شاسع ومثمر بخيراته) ولتخفيف الصراع وتحقيق نوعا من أنواع الطاعة والولاء.

2.1. التمايز الجغرافي والثقافي: 

   أما الفرق في التسمية بين "البربر" و" الأمازيغ" لغويا فلا يوجد من فرق يذكر؛ فالبربر هم الأمازيغ والأمازيغ هم البربر، والتسمية تبقى نسبية الفهم من قبل الأمم المجاورة للبربر أو البعيدة عنهم؛ ناتجة عن علاقة المُسمِّي بالشعب المسعتمر لشمال إفريقيا، سواء كانوا يفوقونهم في التطور الحضاري كالرومان. أو مساوين لهم كالعرب؛ فالخليفة عمر بن الخطاب الذي دفن بنته حية في الجاهلية انهزمت جيوش قواده أمام قائدة أمازيغية بدرجة ملكة تدعى كاهنة بنت ديهيا، ولم يفكر أباها إطلاقا في دفنها حية! غير معقول بأن يصف البربر بغير أنهم بربرا، فقد عكس معنى التسمية من حيث دلالاتها على حمل معنى "الأحرار" أو "الهمج" درجة وعي المرحلة التاريخية والأجناسية على السواء، أما معاصرا فقد اختلفت التسمية ذاتيا بين قبائل البربر وقبائل الأمازيغ، وتبعا لذلك تمايز "البربر" عن "الأمازيغ" واختلفوا؛ حيث لمدة عقود من الزمن مند أن وقعت مدرسة جزائر الاستقلال تحت سلطة إيديولوجيّة خلقت ورعت في أذهان التلاميذ والطلبة الجزائريين صورة عنصرية عن الأمازيغ وهي أن "البربر" هم سكان الجزائر الأقدمين الذين سكنوا الأكواخ والكهوف.

 أما في الاصطلاح فهناك فرق واضح بين التسميتين، وهو يختلف باختلاف البلد المغاربي، حيث بدأ البربر في التمايز و التباعد عن بعضهم بعضا كقبائل متعددة منذ الحرب العالمية الثانية، أي مع حداثة المجتمعات المغاربيةModernité  La عندما جُند الألاف منهم في الجيش الفرنسي و هجر عددا مماثل منهم للعمل هناك إثر المجاعة الناجمة عن الحرب العالمية والظروف القاسية جراء استمرار المقاومات الشعبية ــــ وأنا أسرد ها هنا الاختلاف الاصطلاحي بين تبلور مصطلحي القْبايل/الأمازيغ والـبربر، والذي تكوّن مرحليا في الجزائر من منطلق معايشتي للواقع السياسي والاجتماعي أي الإثنوجرافي ــــ وعندما عادوا عاد هؤلاء المهاجرون القْبايل كانت قد تكوّنت لديم درجة من الوعي السياسي والثقافي، وهذا لا يعني أنه أثناء وقبل حرب التحرير لم يكن لديهم هذا الوعي ولكن كما يرى المفكر المغربي عبد الله العروي، كانت اليد الاستعمارية كونت مجموعة منهم انضمت إلى الثورة التحريرية الكبرى لتقف ضد خط الانتماء العربي الإسلامي وتطالب بجزائر بربرية، وقد قامت كما أوضح الباحث أحمد بن نعمان علاقة بينهم وبين المخابرات الفرنسية والأكاديمية البربرية بباريس التي أنشئت عام (1967 (لخلق تيار معارض للعربية وبث الفرقة والشكوك والنعرات العنصرية بين أبناء الوطن الواحد، وكانت لهم مطالب خطيرة في المؤتمر الأول المنعقد عام ( (1980بفرنسا تمثلت في ترقية اللهجات البربرية وتوحيدها وتدريسها، وأعقبوه بملتقى ثان في الجزائر العاصمة عام (1999) وأنشأوا حزبا يتبنى هذه المطالب و ينادي بها[4]، وبعد استقلال الجزائر تغيرت المفاهيم كثيرا، نتيجة نشأة طبقية وتراتبية غير معهودة في المدن الكبرى بالجزائر قاطبة بدءً بتغير مفهوم مصطلحي البربر والأمازيغ؛ حيث اسم الأمازيغ أصبح ينطبق على قبائل بربرية معينة في الجزائر، وهي القبائل الكبرى بتيزي وزو والصغرى ببجاية وإلى حد ما منطقة بني ميزاب بغرداية وحتى الطوارق إلى حد ما بتمنراست وجانت في الجزائر، لأنها أصبحت تحرص على نقاء الجنس بعدم الزواج من غير الأمازيغ الذين يتكلمون اللغة الأمازيغية (تاقفيليث، تمزابيث وثجانايت على التوالي) ولهم عادات وثقافة يحرصون عليها من الضياع، فالأحداث الدامية في غرداية مؤخرا كان سببها الغير المباشر الحرص على التراث الأمازيغي الميزابي، حيث بعد اضمحلال أيديولوجيا الحزب الواحد ظهرت الحركة الإسلامية ليس لتصحيح القدح، بل أضافت لتلك الصورة المشينة عن البربر عبادتهم، فقالت أنّهم كانوا ضالون كالغجر ويعبدون التيوس! ونتيجة ذلك الوصف والسلوك أصبح أهل القبائل الكبرى والصغرى يشددون على أنهم أمازيغا وليس بربرا، وفي نفس الاتجاه سار البربر حيث اعتبروا تسمية الأمازيغ لا تليق بهم لأنه لا يوجد عربا بين أمازيغ تيزي وزو وبجاية، العرب الذين هم عبيدا لله وليسوا أحرار، وعدم التواجد هذا مخطط له حسبهم بنية بقاء نقاوة العرق، والبربر ليس من صفاتهم عدم الاختلاط بالعرب.

والمناطق الأخرى التي بقيت "قبائل بربرية" واتصفت بها تسمية البربر هي نتيجة من نتائج عدم الحرص على نقاوة تراثها حرصا جماعيا فلأمر متروك عندهم للأفراد[**] فقط، أي أن البربر هم بالضرورة أمازيغ إذا ارتكزنا على الطابع الثقافي الفردي لا الطابع الجماعي (السياسي) أما العكس فليس صحيح، أي أن اليوم الأمازيغ ليس هم البربر، ولعل انتفاضة الربيع الأمازيغي واقتصارها على مناطق القبايل دليل آخر حاسم على ما نقول، مع التحفظ الدائم لنقص المراجع والحوار حول الموضوع لحساسيته لدى جميع الأطراف: الأمازيغ والبربر والسلطة، ثم لهذا الاعتبار، أعدادا من القبائل الأمازيغية النقية النسب في مناطق نطاق حدود العاصمة (بومرداس وبوفاريك حتى شرشال مرورا بموزاية ومليانة) تكاثرت واختلط نسبها فأصبحت توصف بأنها أمم أو شعوب بربرية وليست قبائل أمازيغية، اختلطوا بباقي إقليم وسط الجزائر من غير تيزي وزو وبجاية الذي يحوي بربرا: في شناوة تيبازة وعروش مطماطة بولاية عين الدفلى مثلا، وكذلك الشاوية في شرق الجزائر، والشلحة في الأبيض سيد الشيخ. وفي بعضها الآخر تناقصت أعدادهم أو تعربوا خاصة في منطقة الغرب الجزائري (ما يفسر أن أفصح الناطقين بالعربية اليوم في الجزائر نسبتهم أعلى في جهة الغرب) وذلك بسبب تعرُّب القبائل الأمازيغية القديمة ودخولها في حقل مفهوم "البربر" الاصطلاحي المعاصر، ولعل الوصف ينطبق تماما على بقايا قبائل زناتة وصنهاجة وأوربة ومطماطة وغيرها من القبائل المتشتتة اليوم بين إقليم الوسط والغرب الجزائري كذلك.

   ثم هذه الحساسية التي قد تصل إلى العصبية اتجاه اللغة الأمازيغية، بالحرص على نقاوة الجنس الأمازيغي والنضال من أجل التراث الأمازيغي التي تفجّرت في تيزي وزو وانتقلت إلى غرداية! هي في الحقيقة ثقافة تشكلت نتيجة الطبقية والبورجوازية العربفونية والفرانكفونية الليبرالية معا في فترة الستينات والسبعينات، أين كان الأمازيغي الذي لا يحرص على طابعه الديني لا يوظف ولا يتمتع بمزايا العربي الذي يحرص عليه! فإذا كانت القراءات المتعلقة بالإسلام بعد هزيمة 1967 خلقت ما يعرف بالصهيونية الإسلامية والتي وراءها من يدّعون أنهم يدافعون عن عزة ومجد الإسلام وقتال النصارى مطبقين نبوءة العهد القديم ـــ الصهيونية اليهودية التي جارت النبوءات القديمة في طروحاتها السياسية بضرورة فناء الشر على الأراضي المقدسة ـــ وعلى هذا النهج اهتمت بجلب الآخر الكافر إلى العالم الإسلامي لقتاله على أرض الإسلام.  نفس الشيء بدأت تتضح معالمه مع أمازيغ تيزي وزو وبجاية الذين يسمون محليا في الجزائر بالقْبايل Kabyliens بعدا أن خاب مسعاهم في تعميم لغتهم وثقافتهم على كامل ربوع الجزائر، فخلقوا نزعة صهيونية قْبايلية أو"الصهيونية الأمازيغية".

   فالمطالبة بالحقوق الإثنية بخاصة ما تعلّق باللغة قد طفت إلى السطح كرد فعل على الممارسة العنصرية الثقافية ضد البربر بشكل عام وعلى السلطوية الاجتماعية، من ثمة دخلت الخطابات السياسية معركة الإثنية، وهو الفعل الأيديولوجي الغير ديمقراطي مع بدايات سقوط الأنظمة الاشتراكية ثم العولمة، تبعه بالضرورة رد الفعل الثقافي، والذي أظهر، بل مايز وباين أكثر بين مصطلح الأمازيغ والـبربر. بالرغم من أن غابرييل كامب يقول أن "في الواقع، لا توجد اليوم لغة بربرية، بالمفهوم الذي تكون فيه انعكاسا لمجموعة تحس بانتماء موحد، ولا شعب بربري ولا عرق بربري. على هذه الأوجه السلبية كل الخبراء متفقون"[5] وقوله هذا جد عملي، لذلكم يقول أهل القبائل ـــ تيزي وزو وبجاية ـــ اليوم (المتحضّرون) بين قوسين الذين تمرسوا على الأفكار السياسية والثقافية التي تأتيهم من وراء البحار (من ذلك المطالبة بالحقوق الثانوية كتعليم الأمازيغية في الجامعة وكتابتها بالحرف الفرنسي) فيقولون أن تسمية "البربر" هي فضيحة عنصرية للشعوب المجاورة لشمال إفريقيا مع شعوب شمال إفريقيا ويرفضون تسميتهم بها؛ من هذا المنطلق تكوّن مفهوم الـبربر مختلف تماما عن المفهوم السابق قبل استقلال الجزائر، وهي القبائل التي لم تطالب بحقوقها الثقافية عكس القبايل، ونتيجة عدم هذه المطالبة أصبح عروش تيزي وزو وبجاية عنصريين اتجاه البربر الآخرين، أي أصبحوا عنصريين مع بعضهم البعض كأمازيغ بربر ــــ مع بربر: تيبازة والبرج والبليدة والبويرة ــــ مفتقدين كليا أو متخلّين عن الأصالة العربية الإسلامية نتيجة تأثرهم بالمعاصرة الغربية/الهجرة إلى فرنسا، سويسرا وكندا، معتقدين أنهم ضحايا للعنصرية من حيث أنهم سبب نشوء لعنصرية جديدة! ويذهبون في عنصريتهم بعيدا، ربّما جاز لنا أن نطلق عليها صهيونية تيزي وزو وبجاية القْبايلية، مُدّعين أن أصل الــبربر من غير القبائل الكبرى والصغرى لابد وأن يكونوا من السلالات القادمة من أعراق جاهلية عربية، وأصل أمازيغ تيزي وزو لابد لِزاما أن يكون من السلالة الأعرق الهندو أوروبية (القادمة من أوروبا)! لذا لابد من استدراج كل الجزائريين من غير الأمازيغ إلى منطقة القبائل ثم التفنن في قتلهم ثقافيا، أي رفض مذل للسانهم العربي وسلوكهم الديني، وهو الحاصل فعلا؛ إذا كنت في تيزي وزو وطلبت قهوة بالعربية لا ينفذ لك طلبا، وإذا سجلت الحكومة مشروع بناء مسجد فيها لا يخرج إلى النور أبدا، بل أن بعضهم ممّن يتكلمون العربية وقد التقيت بهم أثناء دراستي الجامعية بالعاصمة الجزائر يتطيرون من العرب، ويشكرون الله على أن خلقهم من جنس غير عربي! هذه الصهيونية تماثل صهيونية للوبيات اليهودية في الولايات المتحدة التي تزعم أن اليهود ساميون والعرب لا ساميون.

 3.1. مطماطة الأنموذج البربري الأصيل الثقافة:

   أما عروش قبيلة مطماطة فهم عينتنا من القبائل البربرية التي تمقت "الصهيونية القْبايلية " بالضرورة بالرغم من أنها تفقد يوميا من تراثها المطماطي البربري الشيء الكثير، ناهيك عن الإرث اللغوي (منها اللغة الـزناتـية) الذي يكاد ينقرض، وهم بالكاد يكادون يأمّنون قوت عوائلهم في بؤر تجمعاتهم المنحصرة جيل بعد جيل؛ عندما كانت قبيلة مطماطة قديما قبيلة كبيرة كالقبايَل تماما، لكن الاختلاط والمصاهرة والفرار الجماعي إلى الجبال إثر التمييز الاجتماعي في تحصيل مورد الرزق حتى من القبايل أنفسهم في مدن طارق ابن زياد أو دراﭭـ أو مدينة برج الأمير عبد القادر[††] حتى أصبح عددهم اليسير اليوم لا يكاد يذكر إلا في ولاية عين الدفلى، في عين الأشياخ ووادي جمعة، وبين هذه المدن الثلاثة تقع مرتفعات جبلية، هي ما يسميها عرب المنطقة بـبلاد مطماطة، على أن عرش مطماطة الذي هو أكبر العروش (عرشي مطماطة وهراوات وعرش أولاد مهدي، وجميعهم يتحدثون لغة واحدة هي زناتية ويدعون مطماطة) وتسبب إرهاب التسعينيات مؤخرا في تركهم مناطق نفوذهم في مداشر: دوار تيغزرت ودوار أغبال ورويفية والشاون حتى بلعتاريس وغنّامة شمال تازا، نازلين إلى مدن دراق وطارق ابن زياد وتازا على التوالي، وإن لم يُعرف المطماطيين بلسانهم المطماطي (إمظماظن إزْناتين) فإنهم يعرفون برطانة عربيتهم المختلفة عن رطانة القْبايل والشاوية، وتقدر نسبة مطماطة الذين يتكلمون الزناتية والذين لا يـتكلمونها في بلدة برج الأمير عبد القادر حسب تقديرنا الشخصي بعد وأثناء العشرية السوداء حوالي 25 % ونسبة الأمازيغ (القْبايل) 15% والباقي عرب. وقد تراجعت العنصرية بين هذه العرقيات الثلاث طبيعيا مع انخفاض معدلات الأمية وازدياد التنمية المحلية.

   كانوا يأملون بل يُمنّون النفس أيّما مَن بإقامة أسس مجتمع الشمال إفريقي الحر، والمتنوع الثقافات حتى قبل التداول السياسي لهذا المفهوم؛ مجتمع العدالة والتقدم، لكن هيهات، لذا تراهم اليوم كما الأمس من أشد الشعوب حرصا على حريتهم، تحدوهم إرادة وعزيمة فطريتين إليها، وقد اختلط هؤلاء المطماطيون كغيرهم من البربر بعرب شمال إفريقيا القادمين من كل مكان عبر التاريخ، سواء أولئك العرب المقيمون في الغرب الجزائري الذين يدعون بالموريسكيين أو المور[6] أوالهلاليين المنتشرين بالسهوب وأطراف الصحراء الكبرى أو المقيمين في حوض المتيجة من أمازيغ وكراغلة[‡‡]  ولمّا تميز هؤلاء المطماطيون بالتوق إلى الحرية والدفاع عنها كان من الطبيعي أن تتضاعف الممارسات العنصرية اتجاههم بخاصة في النقل والتوظيف في القطاع الحكومي.

   ولعل الفرق واضح بينهم وبين جيرانهم التاريخيين العرب الموريسكيين ـــــ جل الموريسكيين الذي دخلوا الجزائر قطنوا الغرب الجزائري تعرّبوا طوعا ولم يتمزّغو، وهم الذين كان أجدادهم متمدنين في الجزيرة الإبيرية مُعايشين بل خاضعين للسلالات الإسبانية، إن كانت أقوى منها ـــــ وهو عدم الاستسلام للشهوب والأعراق الأخرى بسهولة، بل يحبّذون عيش معيشة الحيوانات في مناطقهم الجبلية المعزولة على الاستسلام لغلاة المستعمرين وحلفائهم الذين استقووا على مناطقهم وأخضعوها لحكمهم بعد 1834، فعندما استسلم الأمير عبد القادر ابن محي الدين لهم بعد 17 عام من مقاومة الكــر و الفـــر، كان هؤلاء المطماطيون يصارعون الحياة القاسية في شرق جبال الونشريس بعد أن رحلوا إليها من المنخفضات الخصبة التي صادرها المستعمرون الفرنسيون ـــــ تماما مثلما صادر الإنجليز أراضي الهنود الحمر الخصبة في منطقة الماهيكان  Mahicans‏ ضواحي نيويوك وطردوا أصحابها إلى الجنوب ــــ لصالح مستوطنيهم ولصالح البشاوات والقُياد من أحفاد الكراغلة، ومن أحفاد الموريسكيين الذين يقومون على خدمتهم معا، وانتقلوا إلى مرتفعات الونشريس الشرقية لآمانها وبعدها نسبيا عن الشريط الساحلي 100-140 كلم.

  إن تاريخ مطماطة كقبيلة كبيرة يرجع لآلف السنين وهي من أشرس القبائل دعوة إلى السلام وإلا ما كان يذكر ابن خلدون بالذات (موطن ابن منداس) في كتابه "تاريخ ابن خلدون" قائلاﹰ :" وهذا ما تلقيناه من أخبار مطماطة (وأما موطن منداس) فزعم بعض الأخباريّين من البربر و وقفت على كتابه في ذلك أنه سمّي بمنداس بن مغر بن أوريغ بن لهرر بن المساو وهو هوارة"[7] فقبيلة مطماطة كانت قبيلة كبيرة في عهد ابن خلدون ـــ القرن 15 ميلادي ـــ أما حاليا تفتتت إلى عروش ضاع منها تراثها اللغوي بنسب مفجعة تشمل ويلايتين متجاورتين: شناوة (إيشنوين) بولاية تيبازة  ومطماطة (إمظماظن) بعين الدفلى و فيها ثلاث عروش كبيرة ( والعروش الأخرى يقال أنها موجودة في شرق عين الدفلى لكن غير معروفة وبعيدة عن الجبال! ) وذُكرت مطماطة في كتب التاريخ أنها لواتة أو هراوة[8] ﻛكتاب "القبائل الأمازيغية" للبوزياني، أي أنها من عروش قبيلة جندل أو خميس مليانة مصاهرةﹰ؛ وهنا لا بد من الإشارة إلى نقص الوثائق والمراجع.

  أما العروش التي نحن بصددها موطنها التاريخي شرق المدية وجنوب خميس مليانة ومازالوا يكنّون بمطماطة، ومنطقتهم تسمى بلاد مطماطة على المرتفعات وسفوح جبال الونشريس الشرقية القريبة، في شكل اختلاط عرش هراوات بعرش مطماطة لكن الناس لا يعرفونهم إلا باسم واحد وهو مطماطة، ويقطن أغلبهم حاليا في مدينة طارق ابن زياد وحواضرها حتى مدينة برج الأمير عبد القادر جنوبا، وهم منقسمون محليا إلى عرشين هراوات ومطماطة، وهناك أيضا عرش أولاد مهدي بواد جمعة بين جندل و طارق بن زياد، كما نجد الشريف الإدريسي يذكر قبل ابن خلدون أن موقع مطماطة منداس من شلف غربا إلى المدية شرقا إلى حدود مهدية جنوبا، وما كانت لتكبر لولا التحاق زناتة ابن توجبن من تاهرت (تيارت حاليا) ليؤكدها المؤرخ المعاصر حماه ولد السالم ذلك: " لحقوا بنو توجين من زناتة على منداس وصاروا في عداد قبائل الغارمة"[9] ، يقول الإدريسي في كتابه "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" كانت مملكة بن توجين ـــ مملكة الونشريس ـــ تحوي مطماطة الكبرى أنذاك، فقال في التعريف بجبل الونشريس: وبنو أبي خليل وكتامة ومطماطة وطوله أربعة أيام ينتهي إلى قرب تاهرت/تيارت. وفي هذه المملكة التي كانت تشمل أربع قلاع أو حصون: المدية (أغلب الظن هي مطماطة الحالية في ولاية عين الدفلى) تاو غزوت، تاقدمت، وتافرقينت. بقيت قلعة المدية وهي المدينة التي بناها بلقين بن زيري في عهد الدولة الفاطمية بعد تأسيسه لمدينة الجزائر الحالية ومدينة مليانة.

  لم يُعرف عن قبيلة مطماطة التاريخية منذ القرون الوسطى إلى أيامنا الشيء الكثير، وما بالك بالعروش المنقسمة عنها، المنجرة عن التشتت بالمصاهرة في تاريخنا المعاصر، وكنتيجة حتمية لسقوط مناطق المغرب الإسلامي القليلة الساكنة والغير استراتيجية بالنسبة لطرق التجارة سقطت في التخلف الحضاري قديما وحديثا ـــ ولعل مطماطة إحداها لعدم وقوعها ضمن خط سير القوافل ـــ سقوطها في العزلة والتهميش بسقوط دويلات المغرب الأوسط: الدولة الرستمية فالدولة المهدية الفاطمية ثم دولة الموحدين، ومنذ ذلك الحين بضياع الأراضي السهلية منها لعبت بداوة المرتفعات دورها السلبي في التعود على ثقافة اللا تمدن مثل قبائل النيبال تماما.

  ولكنهم غالبوه وتغلبوا عليه، غالبوا حياة القـــر الشديد في الجبال والذي يمتد لثلاثة أشهر بالتفنن في تجفيف الأطعمة وتخزينها لهم ولماشيتهم، وحياة الحــر الأشد الذي يماثله مراوحة. وفي تلكم الفترة، فترة التخلي عن الأراضي المنبسطة بدأت المعاناة والقساوة. وكان الأمير عبد القادر الجزائري[§§] تحول منفيا إلى دمشق الفيحاء مؤلفا كتابه "المواقف" متغافلا عن اتخاذ موقف من المقاومة الشعبية المستمرة في كامل ربوع الجزائر؛ حيث كان فيها المقاومون الأشاوس من الـمور الذين ذكرنا بالسهوب يُذبّحون بكل وحشية ويقتلون أشر القتل بل يشنقون على مرأى من العالم المتمدن، على أنهم بربر خارجون عن القانونBerbères hors de la lois   فيما كان سيادة الأمير يهادن غلاة المستعمرين ويعايش النصارى واليهود، بل يتفنن وهو في حل من أمره في الفيحاء دمشق التّمكين لمذهب محي الدين ابن عربي الصوفي في كتابه المواقف الصوفية ـــــ  ليس ليقتدي بها أحفاده ولا يعودون للمقاومة ثانية، بل كي يقنّن ما أقبل عليه من استسلام ويشرعنه كي يستسيغ الاستسلام كل المسلمون الأمازيغ الذين مازالوا مرابطين الذين رأوا فيه "استسلاما مهينا" لهم، وعمل الأمير هذا أشبه ما كان بعمل السلطات السعودية اليوم مع المقاومة الفلسطينية ـــــ

  أجل، كان الزعيم البطل الشيخ بوزيان القلعي يُجلد ويعذّب ثم يقاد ليشنق على الملأ في ساحة حسين داي بالجزائر. والشيخ بوزيان القلعي لا ترجع أصوله للمورسكيين (في غالبيتهم خليط زيجات بني أمية حفدة عبد الرحمن الداخل بالإســـبان والمرابطين الأدارسة) مثل الأمير عبد القادر الجزائري، وإنما ترجع أصوله لفخذ من قبيلة مطماطة في غليزان القريبة من عين الدفلى، ولم يُلتفت إلى نسبه إلى أيامنا لما قاوم الاستعمار في منطقة شبه صحراوية مختلطة الأعراق تجمع بين المـــور والعرب الهلاليين الذين استوطنوا في سهوب الحضنة وأولاد نايل: المسيلة، الجلفة والأغواط حاليا، وبين البربر "الشّلحة" في الأبيض سيدي الشيخ وكتامة وصنهاجة تاهرت المنحدرة منها قبيلة مطماطة كما يذكره ابن خلدون؛ وكلهم مقرّهم في المغرب الأوسط بين التيطري ووهران أو بين تاهرت ووهران، فالشيخ بوزيان القلعي رحمه الله في سلوكه الشهم غير المهادن تُعزّه وتكرمه أصوله البربرية القحة، و إلاّ ما كان ليُضرب به المثل بعد استشهاده بتلك الطريقة، فيُخلد في الأدب الشعبي بقصيدة ملحمة[10] تحمل اسمه.

   وبالرجوع إلى قبيلة مطماطة وما تحمله من خصائص ثقافية أصيلة مقابلة لأخلاق الأمير آنذاك، والذي رابط غير بعيد عن منطقة نفوذها، أي رابط بين قصره المحصن في تــازا ( برج الأمير عبد القادر ولاية تيسمسيلت حاليا) وعاصمته المتحركة طاﭭين (زمالة الأمير عبد القادر ولاية تيارت حاليا)، العاصمة التي قوامها ولاشك فرسان وجنود مطماطيون أيضا، سنجد أن التقابل حقيقي غير متخيل وهو الذي يتجلى أول ما يتجلى في شعار المقاومة « النصر أو الاستشهاد » لدى المطماطة وأبطالها التي تربطهم روابط نسب، كالشيخ بوزيان القلعي والشيخ الحداد والشيخ المقراني بالمغرب الأوسط، واستثناءً مقاومة الشيخ بوعمامة نوعا ما بغرب المغرب الأوسط (البيض والنعامة حاليا) والشيخ ابن زلماط بالشاوية، وشعار مقاومة الأمير « النصر أو الانسحاب/ الكر والفر» في الغرب الجزائري (من تيارت وغليزان حتى الحدود المغربية) ولا نريد هنا الدخول في متاهات أخرى نتيجة هذا الحكم لأن الموضوع لا يسمح: هذا الرأي أو الموقف تدعمه مشاركة عروش مطماطة البطولية في الثورة التحريرية؛ إذ لا تخلو عائلة من عوائلهم اليوم من شهيد[***]، بينما نجد عدد الحرْكة ممّن خانوا الثورة وخدموا أسيادهم أكثرهم من منطقة الغرب الجزائري، منطقة الموريسكيين!

2. الإثنية في الجزائر تكريس لمقولة "التــقــدم ثقــــافــة":

  بالأحرى الثقافة هي أولى الخطوات التي لابد منها لوضع القدم على السكة الصحيحة أو على المسار الصحيح للتقدم، فعندما يدخل في فكر المجتمع الديني اقتناعا بقدَر التحول إلى المجتمع المدني، فإنها خطوة ثقافية ولا شك نبذَ من خلالها الأيديولوجيا التي شكّلها الدين إلى ارتباط طبيعي فطري (لا أيديولوجي) بين العبد وربه بعيدا عن الإكراهات والمنفعية، ثم تأتي العملية العكسية التي هي مآل المجتمع المدني وهي الديمقراطية للحفاظ على ذلك التقدم، وبالتالي يصبح التقدم ثقافة. ولعلّ اللا انسجام بين البربر والسلطة الحاكمة اليوم يعود للمرجعيات السياسية والقومية الأيديولوجية أكثر منها إلى المرجعية الدينية، حتى أضحت بالعادة والتقادم تبدوا وكأنها مشكلة ثقافية؛ أحدهم يرنوا إلى قيم التقدم التي لا تتأتى دون هوية أصيلة، والآخر يحن إلى قيم التخلف والرجعية.

   فإذا كان أمازيغ القبائل بتعصبهم الجديد إزاء الثقافة ــــ ربما غير مقصودة العنصرية المنجرة عن هذا التعصب ـــ أرادوها أن تكون مشكلة حدود التقدم الاقتصادي والسياسي الذي هو الحد الأدنى من الديمقراطية والعلمانية الغربية، أي الممارسة الحرة للثقافة بالحكم الذاتي في القبائل الكبرى (تيزي وزو) والصغرى (بجاية)، وقد مهّد لهذه الرؤية تقليدهم للممارسة الاختلافية السياسية في أكثر من قطر أوروبي؛ فرنسا مع مونتي كارلوا وإسبانيا مع الباسك، لكن الديمقراطية الغربية والتي يريد أن يتبناها الـ MNK وتطلع إليها حزب الأرسيدي أيضا، تعترف على الأقل بحقوق الأقليات الإثنية التي لها إرث ثقافي مختلف، إذن فالبون شاسع حول القيم الديمقراطية وثقافتها بين الدول الغربية وبين من حاول تقليدها فيها من عرب مور وبربر وأكراد وفرس، من ذلك لجوئهم إلى ممارسة العنف فيما بينهما ومع الحكومة، بل ولجوء الحركتين إلى تعبئة سكان المنطقتين من أجل الاستقلال ثقافيا عن البلد، بإحلال شامل وكامل للغة الأمازيغية محل اللغة العربية، يعني حتى اللغة العربية تدرّس باللغة الأمازيغية، وباللا مبالات بالاحتفالات والأعياد الوطنية، والاحتفال مكانها بكل ما له صلة بالتراث الأمازيغي في المنطقة فقط، أي أن يصبح تميز الكيان القبائلي عن غيره ملموس من خلال الثقافة والتقدم يبدأ بهذه الخطوة الأولى كما يعتقدون.

   وفطِنت السلطات لذلك بسرعة واتخذت تدابير فورية مضادة. ولعل البربر عامة نخبتهم ودهمائهم ـــ مِن غير القْبايل ـــ مع السلطة الحاكمة اليوم في الجزائر لا يريدون للمشكلة أن تخرج عن إطار مشكلة العدالة بين مختلف جهات الوطن؛ حتى بين البربر في جميع مناطق القطر ومع قبائل تيزي وزو وبجاية، والقطيعة مع ممارسات الماضي، مع وجود السلوك المفارق لكليهما بربرا أو أمازيغا، حين يقول كليهما أن كل الجزائريين أمازيغ، لكن الكيفية حول جعلهم كذلك مختلف حولها بينهما البربر والأمازيغ من جهة، والحكومة من جهة أخرى. لعل أحد تلك الكيفيات هو: فيمن يحق لهم الاحتفال بالرموز الثقافية البربرية وجعلها احتفالات وطنية دائمة!؟ أيعقل مثلا بأن تحيي وهران سنويا مهرجان التراث البربري الترقي أو الميزابي! وكيفية تعميم تعليم الأمازيغية؟ فالحكومة تقول بتعلم اللغة الأمازيغية لمن أرادها، بينما يقول سائر البربر بأن اللغة الأمازيغية لغات عدة أو أمازيغيات عدة لذلك يجب أن يَحُل تعليم اللغة الأمازيغية الموجودة في كل منطقة محل اللغة الفرنسية واللغة الفرنسية محل اللغة الإنجليزية وهكذا.. وفي المقررات الدراسية من الإعدادي حتى الدكتوراه.

  وعلى ذكر المحلية لابد من ملاحظة أنّ المتأمل للساحة السياسية الأمازيغية القبائلية وحتى الشاوية سيرى أن جل قادة الحزب المنادي بالحكم الذاتي الـ MNK وكل المناضلين والنشطاء في الأرسيدي، وفي ميادين حقوق الإنسان المحلية بالقْبايل (العروش)، منذ أحداث الربيع الأمازيغي الثاني في 2001 هم فنانين محليين أو مهتمين بتراثهم المحلي، وولجوا السياسة من باب الفن والموسيقى، بعدما نجحوا محليا ولم ينجحوا وطنيا، لعلّ نجاحهم محليا وعدم نجاحهم وطنيا راجع للقاعدة الشعبية ذات المرجعية الاجتماعيةـــ الثقافية المختلفة من قبيلة لأخرى، وفي نظرتها للفن والدين والأخلاق ولعلمانية الدولة نظرة مختلفة، وقد انتبه السياسيون والإعلاميون في المشرق العربي لهذا المعطى فوصفوا أصحابه من قيادة حزب الحكم الذاتي بالبربريون حقا!

   وقد فطن السعيد سعدي المناضل القبائلي التاريخي الثاني بعد الحسين آيت أحمد بعد خروجه المُخزي في انتخابات الرئاسة عام  1995 أمام الأمين زروال ومحفوظ نحناح مِن أن غالبية الشعب الجزائري صم بكم عمي أمام طروحاته ومعتقداته السياسية، بخاصة ما تعلق بإقامة محافظات لا مركزية ببرلمانات محلية بدل الولايات وإبعاد الجيش عن بيت المرادية، فاتّجه إلى حل آخر وهو تكريس الثقافة والديمقراطية ضمن المجال الحيوي فقط، وهو منطقة القبائل، والتنازل عن دوره البرلماني ومسؤولياته الوطنية متحولاﹰ إلى حزب جهوي، حيث سيتحول مقصود «الثقافة» اللغة والتراث الأمازيغي بمنطقة تيزي وزو وبجاية وليس كافة مناطق البربر بعدما كان يحمل بعدا وطنيا ومغاربيا، وبرغم سهولة إنشاء الأحزاب السياسية في الفترة الأخيرة بالجزائر غير أن المناطق البربرية الأخرى لم تشهد إنشاء أحزاب على شاكلة حزب الأرسيدي، كمطلب من مطالب العدالة في الثقافة، وهذا إن دلّ على شيء دلّ أولا على اختلاف الأمازيغ عن البربر اليوم بسبب دخول مصطلح العنصرية أو الصهيونية القبايلية الذي أشرنا إليه سابقا إلى اللعبة السياسية، وثانيا كون "القبايل" أصبحوا يختلفون اليوم حقا عن بقية البربر والمعيار هو المكون الثقافي  الاجتماعي الأصيل من عدمه، بتفتّحهم على التيارات السياسية والعلمانية والديمقراطية والعولمة، والمتسامحة دينيا، لا عجب أن يعترفوا بحَرْكة فرنسا، العدو التاريخي للشعب الجزائري وثورته؛ ولعل المشاركة بقوة والتحالف التاريخي ــ حتى ولو لم يكن منظما ــ للأمازيغ القْبايل مع إخوانهم العرب في حرب التحرير الوطني كان تحالفا استراتيجيا من أجل التحرر، ثم ما يأتي بعد الاستقلال سيأتي بعد الاستقلال، وهو فعلا ما حصل، ورويدا رويدا تطور النضال الحركة القْبايلية من التحالف قبل 1962 إلى الانشقاقات سنة 1963 والعام 1970 الذي أُغتيل فيه عبان رمضان، بل إلى الصراع  أثناء ربيع العام 1980، أما بعض بربر غرداية والطاسيلي وكل الشاوية ومطماطة والشَّلحة، فأحزابهم السياسية هي تلكم الأحزاب المعروفة المحتكرة للساحة اليوم، وهي حمس والأفلان والأرندي لأن مقوّماتهم الدينية أصيلة تجعلهم ينسجمون مع الاتجاه الثقافي والسياسي لهذه الأحزاب، وهم يمتحون هويتهم من قيم الزوايا والطرق الصوفية السمحة المنتشرة بكثرة في شمال إفريقيا، ولا يقيمون وزنا للثقافة التي تأتي من وراء البحار ولا لعلمانية الدولة، ولعل الملاحظ المُطّلع على شؤون وقضايا الإثنيات في العالم سيقول أنها قبائل البربر جسدت بربريتها في الواقع؛ براضاها ورضوخها، وتفريطها في حقوقها. ولهؤلاء نقول لهم كلاّ والله، بل واعية كل الوعي، لكنهم لا يبتغون مبادلة عنصرية بعنصرية ولا صهيونية بصهيونية جديدة. والدليل أولا هو في تقوقعهم في أشد المناطق وعورة تضاريسيا حفاظا على تراثهم ولغاتهم، وثانيا ألا يكفي البربر والنوميديون في الصحراء ما ذاقوه عبر تاريخهم الطويل، من ويلات وحروب ومن عصبيات شد وجذب حتى يزيدوا عليها عصبيات و"نضالات" أخرى هم في غنى عنها! بعد أن اعترف العالم اليوم بما أصبح يعرف بحقوق الإثنيات في التنوع والاختلاف الثقافي وبتراثها الإنساني تراثا عالميا. ولعل من بينها هذه القبائل البربرية قطعا ما بقي منها في الجنوب الشرقي لولاية عين الدفلى، بالتحديد في مطماطة وهراوات.

2. التعصب (الأيديولوجي ـــــ الإثني) ومقولة دعـه يصلي دعه يـمـر:

   عندما تضع الإيديولوجيا سواء كانت دينية أو سياسية نفسها كمقابل وجودي للحرية فإن حتمية صراع الإنسان مع نفسه لأجل العيش الكريم تزداد وتتعقد، والدليل البيّن أمامنا هو الصراع على السلطة في الجزائر، منذ استقلالها عن فرنسا إلى يومنا، مازال النظام غير الديمقراطي الذي يحكم باسم أيديولوجيا هي أيديولوجيا «الشرعية الثورية» أي تمجيد المكاسب التحررية المحققة في خمسينات وستينات القرن الماضي وتجديدها بالاستثمار في المرتكزات الهوياتية الثلاث للشعب التي أبعدها هو نفسه عن التلاعب السياسي. صحيح أن المجتمع الديني في الإسلام لا يعترف بآخر غيره (إلاّ من كونه آخر كافر متخبّط في الانحلال والقيم المادية) إذن لا يعترف بالديمقراطية، ويصبح وجود النظام العسكري مِن وجوده. وصحيح أيضا أن الشعور القومي الوطني إلى العروبة يكاد أن يكون شعورا مقدِّس قداسة تاريخ الفتح العربي (الممجد) لأجل صهر الهوية الأمازيغية في المغرب الأوسط /الجزائر فيه. غير أن هذا النظام لا بديل له في الوقت الحالي على الأقل (باعتبار التيار الديمقراطي المتبلور في منطقة القبائل بالخصوص ما انفك يكرس عُقمه بجهويته) غير استدعاء سياسي للمكونات الثلاث: الدين والعروبة والأمزغة لدرء كل الأخطار المحدقة به، المكونات التي سبق له أن شرّع لعدم تسييسها دستوريا بنفسه! وفي ظل هذه العصبية بين الطرفين؛ الدولة عن طريق حكومتها وأحزابها التي تحصي أيضا الوعاء البربري مع جل قطاعات الشعب غير الواعية، وبين الأحزاب الراديكالية اتجاه الثقافة كالحزبين الأمازيغيين RCD وMNK، من المفروض حسب فرضيتنا السابقة حول مزايا التعدد الثقافي أن تنضج الممارسة الديمقراطية، وتعي الجماهير لتلعب أدوارها نحو التقدم لا أن يحدث العكس. بيد أن في الأمر مسألة وقت متروك البث فيه للمستقبل.

  ولعل أحد مزايا التعدد الثقافي هو استحالة صعود التيار الذي يحكم باسم الدين برغم قاعدته الشعبية، ناهيك عن عدم إمكانية تبلور بنية مصالح طبقية أو فردية (فساد) خفية تتقاسم الولاءات والمكاسب بين بعضها البعض، يعني عدم إمكانية أن تقوم التيارات السياسية الثلاثة بتجاوز الصراع المثمر (لما عبّد الطريق لثقافة التقدم) إلى التحالف الاستراتيجي غير المثمر لثقافة التقدم (على حساب قيم الحرية وقيم الإنسان) وهو فعلا ما لُمس مع خيانة العروش، عندما عملت السلطة الإيديولوجية والمجتمع المتدين، والعروش التي مثلت العرق الأمازيغي القْبايلي تمثيلا غير سياسي، على التحالف الاستراتيجي بينها، فبعد عشرية من الدم اضطر الرئيس بمعاونة "النظام" الذي رُكنه الرّكين الجيش ـــ الذي يقول أنه سليل جيش التحرير الوطني ـــ إلى شراء السلم والأمن مقابل المال في ظل بحبوحة ريعية نفطية، ثم جاءت انتفاضة الربيع الأمازيغي بعد مقتل المطرب القبائلي "معطوب الوناس" على أيدي المخابرات، لتزعزعه (النظام) من قلب العاصمة متخذة شكل ثورة أيديولوجية مضادة لعنف الإسلام السياسي، ومضادة لمحاولات نظام الرئيس العفو بدفع الأموال، ثم استرضاء الإسلام السياسي بمقولة ارجعوا إلى مساجدكم تسلمون أو دعه يصلي دعه يمر!

   نحن نحتاج في مجتمعنا الجزائري إلى حالة من تكافؤ الفرص لا تكافؤ الأيديولوجيات، أي الكف عن استعمال الدين كمبدأ لإقصاء هذا أو ذاك، والتغطية عن حالة الضعف مع فقدان القواعد والمرجعيات التي تجعل من الدين الإسلامي لا يعوق حركة التقدم الثقافي. وتلكم هي الإشكالية العويصة إشكالية المجتمع الديني التي دفعت إلى تفككات لا حد لها، وإلى تعددات لا رتابة لها حتى على مستوى ذلك المجتمع المنغلق المتقوقع على نفسه بزهو، بالتحديد في ما يعرف بفقه السنة وفقه العبادات قبل فقه الشريعة/العقيدة؛ إنها الإشكالية التي خوّلت أو منحت الضوء الأخضر للإسلام السياسي بأن يتصهين اتجاه أمازيغ تيزي وزو وبجاية (يخترق غاباتها كي يهزمهم في عقر دارهم)، وهؤلاء الأمازيغ القبايل يتصهينون أيضا كرد فعل، لكن على كامل الجزائريين دون تفرقة بين شاوي، وشنوي، وعروبي، ومطماطي، كما تقول به النبوءة القديمة. فالخوف كل الخوف الذي تنبّه له النظام هو ترعرع الصهيونية الأمازيغية القْبايلية بعد تبلورها الفعلي، كمقابل موضوعي للصهيونية الإسلامية، بالتالي تتفكك الأمة وتتشرذم الجزائر القارة، فاضطر مرة ثانية هذا التحالف الاستراتيجي المكون للنظام من شراء السلم والوحدة الوطنية مع فئة بربرية لا تمثل جميع البربر، بل تمثل فقط بعض الأمازيغ (بعض بربر منطقة القبائل) بالمال، يقودها مجتمعها المدني "العروش" كما يسمي نفسه (بِمنح المنطقة شيك تنموي ضخم وتجبير خاطر أعضاء العروش فردا فردا) وبعض المكاسب السياسية الطفيفة كتعليم الأمازيغية، ودسترة الأمازيغية لغة وطنية ثانية بعد العربية.

   لقد بقي البربر مجتمعا بدون كيان وهوية ثابتة نتيجة تاريخه الطويل في شمال إفريقيا على هذه الشاكلة، نضالات ونضالات حماسية غير كافية كونها تُلبَى فقط بجبر خاطر أفرادها كممثلين لعوائلهم وأحيائهم البربرية قبل تمثيل قبائلهم؛ سرعان ما يُشترون ثم تعود الأمور مثلما كانت، والعروش في منطقة القبايَل أعطوا نموذجا، بأن الأمازيغ كغيرهم من الأقليات الإثنية تتحالف أو تتفاوض استراتيجيا لأجل مصالحها، وهي بذلك ليست بأفضل من باقي القبائل البربرية قوة ولا حزما في التعصب لمبادئ هويتها الثقافية، بل وتفقد كثير من الامتيازات جراء هذا التفاوض، ما يؤكد غياب التمثيل الحقيقي للمجتمع المدني والشعبي في هذه المنطقة، كمجتمع يتوق للتحرر من الاستغلال المادي والديني، لكنه غير قادر على ذلك، ولعل الدين كان ولا زال هو المحك والعائق الحقيقي في سبيل عدم المقدرة هذه عندما دخل كثير من الأمازيغ المتدينون (وهم من أبناء المنطقة) يُزرعون في المنطقة لمراقبة الوضع وهداية الناس مقابل المكاسب المادية، ولعله هنا يكمن سبب التعصب الصهيوني من الطرفين، طرف يحاول كسر وفك شعار "شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب"، الذي هو شعار سلفي تبناه النظام، بالمقاطعة الثقافية، لكنه يجد من يحاول تكسير محاولة التكسير هذه نفسها، عن طريق إيجاد شكل من أشكال الوفاق والتحالف وبتقسيم المكاسب، وهكذا تكرّست دولة الوفاق السياسي الاقتصادي في المغرب الأوسط تاريخيا على حساب الوفاق الاجتماعي الثقافي، لذا يبقى تكريس التنوع الثقافي هش محدود وهو مكسب للجزائر لو أحسنت جميع مكونات المجتمع الجزائري استغلاله.

  ولعلّ تراجع نسبة قبائل البربر المطرد منذ بداية الفتح (645م-709 م) لا يفسّره إلا الاندماج ثم ذوبان خصائص كل قبيلة في الخصائص العامة لمجتمعات الدويلات القائمة ضمن مجال سيادتها الحيوي آنذاك، فقد كانت هناك قبائل كثيرة موزعة على كامل تراب المغرب الأوسط قبل بداية قوافل الفاتحين العرب الأوائل ثم الغازين الهلاليين فالمطرودين الموريكسيين، وما اختيار قواد من البربر، وهم قواد متواضعين عسكريا وسياسيا، وغير مشهود لهم بالكفاءة ولا بالخبرة ليكونوا على رأس هذه القوافل/السرايا الفاتحة إلا دليل على كثرة عدد البربر آنذاك، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يفسّر التراجع الكبير في أعداد البربر بعد غزوة الهلاليين التقوقع أو الفرار للانزواء الطوعي في الجبال الداخلية الوعرة، لأن قبائل الهنود الحمر في أمريكا الشمالية كان لهم السلوك نفسه تقريبا وفي نفس الفترة التاريخية، غير أن الفرق كامن في جانب حقوق الإنسان، حيث كان القوي يأكل الضعيف بكل اعتيادية والمؤشر على ذلك سقوط الحضارة العربية الإسلامية وسطوع نجم الحضارة الغربية بدءً من اكتشاف أمريكا، ولعل محاولات تذويب الأقليات الإثنية الأصيلة عن طريق محو لغتها كانت استراتيجية ومازالت خاطئة؛ إذ أنّ ما يميّز العروش كعروش قبيلة مطماطة ليس اللغة ولا حتى المظاهر الثقافية من لباس ومأكل وطريقة حياة، بل إنّ هناك خصائص بيولوجية متوارثة محمولة في الجينات تحافظ على السلالة، وتجعل احتمال انبعاث خصائصها اللغوية والثقافية وارد في أي وقت مهما طال الزمن، إنّ هناك من أسر تنتمي إلى هذه الإثنية في خصائصها الجينية لم نشعر أنها فقد هويتها أبدا، وهي مندمجة اليوم ضمن أغلبية عربية في مدينة دراق ومدينة برج الأمير عبد القادر اندماجا اجتماعيا فقط.

  وعجينة القول، ربّما لو كان لها هجرة إلى الصحراء مثل ما فعل أبناء بنو عبد الواد، وبنو توجين، وبنو زردال، وهم زناتة كما ذكر ابن خلدون في كتابه العبر وديوان المبتدأ والخبر، لحافظت مطماطة على كيانها كما حافظت عليها زناتة بنو عبد الواد، كون أن الواحات بعيدة عن منطقة التل لا يمكن أن تبتلعهم قيم دينية ومذهبية منافية لخصائص البربري في العيش بكرامة وحرية ( كالتحالف أعيان العرب ومشايخهم الكثيرة في التل ضدهم، بالولاء المطلق للدولة والجهاد وغيرها)، كما حصل مع الميزابيين المنتسبين لقبائل ابن توجين الرّستمية في تاريخ المغرب الأوسط الإسلامي من حروب بين الأعيان ذوي الأنساب المختلفة: بنو مصعب (مُصاب) مع بنو توجين، فاضطروهم إلى المغادرة والانعزال بعيدا في أغوار الصحراء الكبرى، وفي جميع الأحوال فإن الانحطاط الحضاري في المغرب الإسلامي آنذاك كان من أسباب تخلف قبائل البربر إلى مواقع جبلية محصنة أو ضمورهم ثقافيا أكثر فأكثر في مناطق غير محصنة، لكن مع ذلك فالانقسام والتفتت الحقيقيين المُمهد لتبدد شبه تام لقبائل البربر في منطقة بلاد مطماطة وغيرها من مناطق تاريخية للبربر كان مع مجيئ الاستعمار الفرنسي، وظهور مقاومات الكـر والـفر الشعبية في كل بوادي وجبال الجزائر وأريافها التي تشكل موطن البربر، كمقاومة الأمير عبد القادر، حيث انضم مجاهدون محليون بربر إلى تلك المقاومات بعفوية طلبا للرزق، المقاومات التي تُنسب إلى قواد بربريون معلومو النسب، كالشيخين البطلين بوزيان القلعي والحدّاد، وبرغم من أن مجال مقاومة الأمير عبد القادر الجغرافي ضم بلاد مطماطة، فلم يكن أعداد منتسبي "المجاهدين" من بربر مطماطة وهراوات كبيرا فيها، كأعداد المنتسبين منهم إلى مقاومة الشيخ بوزيان القلعي من جنوب التيطري حتى الأغواط؛ لذلكم تميزت مقاومة هذا الأخير بالشراسة مقابل مقاومة الأمير، كمقاومة عن الإرث من جهة، وعن الأرض وحدود الدولة من جهة أخرى، واستمرت بعد انقطاع دام نحو نصف قرن، مع البطل الشاوي أب ثورة التحرير مصطفى بن بولعيد، وعديد الأبطال البربريون من أمثاله كأسود منطقة مطماطة، لكن لم يشتهروا مثله لأنهم لم يكونوا قوادا، بل كانوا في سبيل التحرر من نير الاستعمار مجرّد جنودا أشاوس..          



[*] . باحث من الجزائر.

[†] . دمج الثقافة في برامج وسياسات التنمية المستدامة وتعزيز حقوق الإنسان والحريات الأساسية. هي من البنود الأساسية الذي جاء في الإعلان العالمي للتنوع الثقافي لـ 2001 موجود على الرابط : http://www.un.org/ar/events/culturaldiversityday/assets/pdf/CulturalDiversityDeclartion.pdf

[‡] . يطرح اسم " البربر" تساؤلا مفاده لماذا لم يغيره أصحابه ما دام اسم محقّر، كونه يوحي أول ما يوحي إلى التخلف واللا تمدن ويختارون بدلا له "الأمازيغ" مثلا؟  لعلّ الجواب يكمن في عدم اتفاق عام عند شعوب وقبائل يقطنون مناطق واسعة جدا في شمال إفريقيا والصحراء الكبرى على اسم جامع، ناهيك أن اسم "الأمازيغ" المنحوت من قبل القائد مَازِيْسَسْ (Mazices) أصبح يشير إلى القبائل في شرق العاصمة الجزائر، والبربر قبائل كثيرة وشعوب جمة وطوائف متفرقة  ينتشرون في كامل الجزائر وشمال إفريقيا، إضافة إلى أن اسم البربر فيه معاني إيجابية مقابلة للمعاني السلبية أيضا وهي الاختلاف والشدة، فشعوب البربر غير منقادة مثل الفرس والجرمان الذين كانوا يسمّون بالبربر أيضا، أما نحن فنفضل عليه اسم النوميديين نسبة إلى دولتهم نوميديا، ونفضل اطلاق اسم قبيلة مطماطة النوميدية على اسم قبيلة مطماطة البربرية. مع العلم أن شمال إفريقيا قبل الفتح كانت تحت حكم نوميديا الشرقية والغربية، واليوم غدا هذا الاسم يشير إلى قبائل الصحراء الكبرى البربر فقط.

[§]. هذا المقال يعرض بالتحليل فقط للاختلاف على أساس عرقي أو اثني أما الاختلاف الطائفي بين السنة والشيعة العلويين فمستبعد.

[**]. أي أن البربري المقيم في منطقة البربر يرجع له الخيار الحر بالزواج من البربريات مثله، من عدمه، ويرجع له الخيار في تعليم أبنائه اللغة البربرية من عدمها، وكنت أنا بصفتي مطماطيا قد ولدت لأبوين يتحدثان اللغة الزناتية لكنهما لم يشاءا تعليمها لي ولأخوتي لأسباب لا متسع لذكرها، لكن تعلمت بعض أساسياتها من أبناء العمومة. ولو نأتي لنتائج هذا الخيار أجدني مدينا لأبي لأنه لم يعلمني الزناتية ومن ناحيتين: أولها أن جينات الأجداد فينا بقيت شاغرة وملأت فراغاتها اللغة العربية، وبالتالي طاقتنا اللغوية مع العربية أضحت طاقة زائدة حتى عن العربي الصافي في جبلته للعربية. وثانيا أنه وفَر لنا داخل البيت كتب مشرقية تراثية عربية وتربوية بخاصة من نوع الأسلوب الصحيح اللبناني والنحو العربي من خلال النصوص وغيرهما، والتي كبرنا على مطالعتها فوجدنا أنفسنا ننام ملء جفوننا عن شواردها عندما يبيت جراها غيرنا ويختصم.

[††]. اخترناها كذلك لأن صاحب المقال يعتز ويفخر أيما فخر بكونه مطماطيا زناتيا، وله من التجارب المدونة في ذاكرته ما له، وقد حفل بها صباه، منها المعاملة العنصرية من الأمازيغ القْبايل أنفسهم والعرب كذلك: فالقبايل في البلدتين المذكورتين على سبيل المثال متحكمين في قطاع التجارة وكان والدي يرسلني لأتبضع من عندهم وألتقي في حوانيتهم مع أبناء الموظفين، فيحادثونهم ويضاحكونهم ولا يفعلون معي نفس الشيء ويقدمونهم علي بالرغم من أنني دخلت حانوتهم أولا، وربما لا يرجعون لي الباقي إلا بعد أيام بدعوى نقص السيولة.

[‡‡]. الكراغلة أحفاد الأتراك الباقين في الجزائر والمختلطون النسب مع الجزائريين.

[§§]. يقول المؤرخون أن في هذه الفترة التي قام فيها الأمير في دمشق تغير لقبه من الأمير عبد القادر ابن محي الدين إلى الأمير عبد القادر الجزائري.

[***]. وأنا بالذات محرر هذا المقال، كان جدي شهيدا، وأبناء عمومتي أباءهم وأجدادهم كلهم شهداء، مع هذا كلنا نعاني ومازلنا من الفقر وشظف العيش جراء البطالة وغيرها!



[1]. غابرييل، كامبس، الـبربـر ذاكرة وهوية، باريس: بابل للنشر، 2005، ص11.  

[2]. Herman Obdeijn, Geschiedenis Van MarokkoBulaaq Uitgeverij, Ed 2, 2002, p22.  

[3]. غابرييل، كامبس، البـربر ذاكرة وهوية، ص11.

[4]. شحاتة الخوري، القضية اللغوية في الجزائر، وانتصار اللغة العربية، دمشق: مطبعة الكتاب العربي، 1991، ص20ــ21.

[5]. غابرييل، كامبس، البربر ذاكرة وهوية، المغرب: طبعة إفريقيا الشرق، 2014، ص16.

[6]. مصطلح المور: ويقصد به السكان الأمازيغ القدماء الخارجين عن سلطة الرومان الذين اختلط نسبهم بالقبائل الإفريقية ومن كلمة المور اشتق اسم موريتانيا الحالية. تواجد أحفاد اللاجئين الأندلسيين الذين يرجع أصولهم إلى الأرغون والكاستيليون الموريسكيون الذين ظلوا يتحدثون اللغة الإسبانية في الجزائر العاصمة والبليدة وتلمسان وغيرها من المدن السحلية. والمريسكيون أو الموريسكوس بالقشتالية هم المسلمون الذين بقوا في إسبانيا تحت الحكم المسيحي بعد سقوط المملكة الإسلامية، وخُيروا بين اعتناق المسيحية أو ترك إسبانيا إلى شمال إفريقيا بين 1510 و1610 تقريبا.

[7]. عبد الرحمن، ابن خلدون، تاريخ ابن خلدون، الجزء 6، بيروت: دار الفكر، 2000، ص164.

[8]. بوزياني، الدراجي، القبائل الأمازيغية، الجزائر: دار الكتاب العربي، 2007، ص 109.

[9]. حماه الله، ولد السالم، تاريخ الأمازيغ والهجرة الهلالية، جزء 1، مصر: دار الكتب العلمية، 1991، ص 79.          

[10]. ينظر قصيدة بوزيان القلعي على الرابط: //http://beitibda3.eb2a.com/2016/11/252

 

author-img
موقع تنويري فكري وشبه أكاديمي، يتغيا تقديم إضافات نقدية تخص تحليل الخطابات الثقافية ونظرية النقد والأدب متوسلا بجماليات التلقي والنقد الثقافي، كما يعنى بنشر إبداع قصصي جديد ليس له ما يماثله على الساحة الجزائرية، والمقال المتناول للشؤون السياسية والإعلامية والاجتماعية المقاربة للظاهرة الأدبية والمحاكية المكملة لها.

تعليقات