القائمة الرئيسية

الصفحات

آراء حول الفكر الديني والعلمانية و التصَهيُن




بوزيان أوراغ


   لم تصل الحداثة الغربية التي أنجبت أعظم إمبراطورية في التاريخ ألا وهي الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس إلى مقولة أن الفكر الديني يقف ضد العلم وضد سعادة الإنسان إلا بعد تجارب حية لها معه، وعلى أرض الأوطان التي تعرف مروقا يُحسب على هذا التيار أو ذاك وميراث تاريخي مضني في الصراع مع حقوق الإنسان الأساسية في العيش بعزة وكرامة، بدءً بميراث صراع البابوية القروسطية مع إرهاصات العلم وحركات التنوير العلمانية الحديثة، ومراس آخر متجدد هو مراس صراعات الديمقراطية ضد الدين السياسي في تاريخنا المعاصر، وعندها وفقط عندها، راحت مشترطة تجاوز الدين من أجل بناء عز الإنسان ومستقبله المشرق، ولعلّ جميع علماء وفلاسفة الحضارة الغربية التي أفرزتها حقبة التنوير ثم حقبة الثورة العلمية والصناعية الكبرى بدءً من نيوتن إلى كارل ماركس، تحدثوا عن الدين و ليس التدين باعتباره وقف  ويقف حجرة عثرة أمام حركية العالم، حين قالوا أن الإنسان جاء إلى هذا العالم صدفة وهو يتحرك فيه متسلحا بالقانون الوضعي بدون غاية ولا قصد يُرتجى.

   هذا المفهوم الميكانيكي للدين كان دعامة صلبة للتشكيك في الدين و ليس في التدين ، كون جل العلماء و الفلاسفة كانوا يتبنّون المقولات الدينية الكنسية في أعماق أنفسهم ، باعتبار أن كل إنسان مهما تعلّم إلاّ واحتوى بالفطرة على بذرة التدين احتواءً غريزيا وهي التي تجعله في وفاق مع نفسه ، والتدين بالمفهوم الإسلامي هو فطرة في الإنسان ( فطرة الله التي فطر الناس عليها ولا تبديل لخلق الله) ، غير أن الإصرار على نقل هذه التجربة الدينية الذاتية في الأصل مهما كانت درجتها عميقة أو سطحية إلى الغير هو المرفوض منطقا و الغير موافق للطبيعة بأن يهتدي الإنسان إلى الخالق بنفسه طوعا لا كرها، وذلكم هو الفرق بين الدين والتدين ؛ فرق بين التجربة الفردانية وحنينها الفطري إلى موجدِها والتجربة الجماعية المستقوية بمعتقدها الديني الذي يتحول من رسالة الرّب إلى مخلوقه إلى رسالة الرب إلى جماعة من الناس تصنع منه أيديولوجية إطلاقية متجاوزة شريعة العقل، والمعتصمة به للدرجة التي تجُب معها كل تجربة فردية محتسبة بالتأويل أو بعلم الكلام.

    فعندما يعمل الدين على تدمير الإنسان يجرفه كتيار دافق، ويصر أن يجعل الدين في يد الإنسان لا في يد الإله فيصبح بعض الإنسان عبيد عند بعضهم الآخر، أي يتم تجاهل قيمة العقل بل تعجيزه مقابل قيم القوة و البطش التي يتمتع بها المقدس روحا أسطورية كان أو صنما أو شجرا أو بناية.. تصبح حظوة الوهم المتربع على الأذهان جماعيا أنبل من الأخذ بيد جسد يتألم ليل نهار من شدة ألم "الوحي" عليه، فيصبح الدين هو أفيون الشعوب كما قالا كارل ماركس و إيمانوال كانط ، بغض النظر عن تسمية دين معين. أما في حالة الإسلام فيصدق الأمر بين أهل الحديث و الجماعة و كل جماعاتهم السلفية الذين يقولون بأولوية النقل على العقل، وبين المعتزلة ومقربيهم كالماتريدية الفرقة التي قامت في القرن الأول الهجري على أنقاض المذهب القدري (الجبرية) الذي استغلّه خلفاء بني أمية لتبرير سلطتهم بل وحتى تبرير هزائهم؛ بقولهم أن الإنسان غير مخيّر خاضع للقدر، فجاءت المعتزلة لتؤول العقل عن النقل و تحرّر الإنسان وتقول بتاريخية القرآن ولكن لم يكتب لمشروعها الحضاري الاستمرار.

  والحق كل الحق أنه قد زرعت في ترثنا الإسلامي بذورا منتشة لكن ما أنتشت، وبدأت محاولات للاجتهاد لأجل إحلال التدين محل الدين، ونحو بلوغ علمانية إسلامية تكفل الاجتهاد للعلماء الذين هم في مصاف كارل ماركس وكانط، و تسد طُرق النيل منه من قبل شراذم الملحدين المرضى، من مثليين وخارجين عن القانون بالقول هم أيضا أن "الدين هو أفيون الشعوب" لكن ما استمرت وأقصيت. أجل فلولم تُقطع حركة المعتزلة والمُرجعة والفلاسفة المسلمين (أسماء بعينها) والصوفية/ أهل الصفا ( أسماء بعينها) العقلية والمعتدلة بالتكفير والزّج في السجون لما ظهر الملحدين أنذاك أمثال الرواندي ، ولولم يقطع دابر الاجتهاد ويزج به في حالات أسوأ من التكفير وهي تهمة اتّباع الشهوات لمَا ظهر الملحدين الرويبضيون أيضا في عصرنا، منهم من هو في شاكلة المفتي المخنث في قنواتهم اليوتيوبية! فالنزعات العصبية والإقصائية التكفيرية أساءت وهي إلى الآن مازالت تسيء إلى المذهب والطائفة وإذا استشرت تضر به ضررا كادحا بارزا قد تجمده وتفقده انتشاره.

. دواعي التصهيُن

   أخشى من أن الصهيونية ليست حركة معاداة للسامية بالقدر التي هي رد فعل طبيعي لاضطهاد الفكر الديني للإنسان ، و تحجير خاصية العقل فيه والتاريخ هو الشاهد والحاكم على هذه النتيجة، فعندما قويت شوكة الإمبراطورية الرومانية كان العالم المتدين تمثله الديانة اليهودية التلمودية، و كانت الغالبية العظمى من أتباعها مشتتين في أصقاع شتى و القسم الأكبر موجود على أرض فلسطين، أرض الميعاد، التي وعد الله "يهوه" حسب زعمهم بنصرة نبيه داوود على أعدائه فيها لأنها مقدسة ، هذه الغالبية العظمى لم تكن بالضرورة من أتباع موسى (كانوا من أنسال الاثني عشر سبطا : في ظل العزة التي عاشوها  في مصر، مع الشعور المصاحب لهم في التعالي بنسبهم ، جعل مقامهم في مصر قلقاً مضطرباً، إذ بعد ثلاثة قرون أو تزيد اضطهدهم الفراعنة حكام مصر و استعبدوهم ، فبعث الله موسى نبيًّا فيهم، و رسولاً إليهم وإلى فرعون، حتى انتصروا عليه و رجعوا إلى أرض إسرائيل/فلسطين المقدسة لكنهم ما صدقوا أنهم تخلصوا من استعباد آلهة فرعون حتى ترصدتهم آلهة موسى لتردهم إلى حالة العبودية ثانية) بل كان فيها من المذاهب العقلية المحاكية للمعتزلة عند المسلمين، وهي الفروع المعتدلة/العقلية الغير المتعصبة المتبلورة لاحقا المقابلة لليهودية الأرثذوكسية أو التوراة الشرعية ـــ الأسفار الخمسة ــــ التي نزلت على موسى بحجج العقل، فهؤلاء البشر العقلانيون من بني إسرائيل هم الأسلاف الحقيقيون لبناة الحضارة الغربية اليوم وهم النسق المضمر في تاريخ إسرائيل لم ينتزعوا الأغلبية من التوراتيين إلا بمعونة وحماية الإنجليز( و هم المساهمين الحقيقيين في تفوقها بلوبياتهم الاستثمارية وفكرهم السياسي المادي في الولايات المتحدة) بل أكاد أجزم أنه لولا تاريخ إسرائيل الديني الذي أخبرتنا به التوراة لما ظهرت المعتزلة أصلا، كيف لا؟ وكانوا كلما غال موسى في استدعاء ما لا يهضمه العقل من الغيبيات لتوه سألوه الحجة العقلية الدامغة كما أخبرنا بذلك القرآن الكريم كذلك « وقال موسى لقومه ... قالوا أدع ربك حتى يبين لنا../ وإذا قال موسى لقومه إني رأيت و رأيت ... قالوا ما مفاده : نحن لم نرى معك ، فكيف نصدقك؟ نحن بشر لا نرى إلاّ ما هو مجسد أمامنا »

    ما من نزعات عقلية مادية ظهرت في تاريخ الإنسانية إلا و وجدت لها عصبيات مقاومة لها قائمة على أسس دينية كمعاداة السامية أو معاداة اليهود بالإنجليزية anti semitism في بداية القرن العشرين في ظل غلبة النزعة العقلية في المجتمع اليهودي ــــــ على أرض إسرائيل بين جبل "شامر" في نابلس الذي انتسب إليه الساميون وبيت المقدس في أورشليم ـــــ وهو المصطلح الذي التصق أو أخذ له رمز الأرض/ الجبل لتعبر عن مجموعة عرقية ودينية مضطهدة. و المعنى الحرفي أو اللغوي للعبارة هو "ضـد السامية"* ساهم في خلق الصهيونية السياسية في نهاية القرن الـ 19 ثم الدينية بعد ذلك، فتيودور هرتزل 1860-1904 في البداية لم يؤسس حركته على أساس ديني بل على أسسها على أساس قومي لكن عندما كبرت حركته تلك فمن الطبيعي أن ينضم إليها دعاة الفكر الديني و ربما المتعصبون منهم أيضا، ولعلّ هذا التقابل الطبيعي بين حركية العقل في وجه الميتافيزيقا في تاريخ الإنسانية هو سبب مآسي المسيحيين في القرون الوسطى؛ أين كان يحرق المرء بمجرد أن يتكلم كلاما منطقيا عن الكنيسة، وهي سبب مآسي العالم الإسلامي منذ نشأة الفرق العقلية المعتدلة كالمعتزلة إلى يومنا، ما تصهينت الحركة السلفية تصهينا دينيا إلاّ بعد أن ذاقت ذرعا من تمييز وعنصرية ليس من قبل الأنظمة العربية الليبرالية بل من فرق أهل الحديث والجماعة المنتشرة عبر ربوع الوطن العربي انتشار النار في الهشيم، والتي انقلبت عليهم كما انقلب الخليفة المتوكل ابن المعتصم ابن المأمون على المعتزلة، فعندما غالت السنة والجماعة كنا أمام الأصول السندية المفتقدة للبراهين العقلية، بل محاكاة الصيهونية في المناداة بعودة القدس ولم شمل المسلمين. وعلى منوال الصهيونية اليهودية و الصهيونية المسيحية و الصهيونية الإسلامية ظهرت بالجزائر في منطقة القبائل الكبرى و الصغرى ( محافظتي تيزي وزو وبجاية) كذلك الصهيونية الأمازيغية كنتيجة طبيعية لاضطهاد الفكر الديني قبل و أثناء وبعد العشرية السوداء للأمازيغ ، فتشكلت حركة سياسية علمانية واسعة ضد العرب والمسلمين movement anti arabomuslims تدعو إلى إقامة وطن للأمازيغ يحفظ لغتهم وتراثهم من التشتت والضياع، وقد بدأت فعليا في إنتهاج ثقافة (عنصرية جديدة ) مضادة للناطقين بالعربية وما بالك بالمتدينين في منطقة القبائل ، فيها تيارات معتدلة نسبيا كحركة الأرسيدي RCD والعروش وأخرى متطرفة وهي حركة الحكم الذاتي MNK التي يترأسها فرحات مهني ولعل المقارن بين نشأة الصهيونيات في مختلف أرجاء المعمورة لن يفلح في إمساك نفسه من سطوة العجب إلا بعد أن يستحضر قوله تعالى « و لولا دَفع الله الناس بعضهم بِبَعض لفسدتِ » 

  ولعلّ الركيزة الأساسية التي شحذت وتشحذ همم الصهيونية هو مدنيتها أو نفورها من القانون الغيبي إلى القانون الوضعي، ولعل عودة المثقف العربي والأمازيغي والمسيحي الرافض اليوم كما الأمس للحركة الأصولية ليصرخ بالمدنية وبالعلمانية secularism للعلمانية ليس لأهداف سياسية فالأصولية صنعها نظام الحكم الاستبدادي وهو من ينهيها، وهذا المثقف له أصوله في أمة بني إسرائيل القديمة، العلمانية ليست هي المقابل للدين ولكنها المقابل للكهانة أو استغلال الدين. العلمانية هي التي تجعل السياسية من شأن هذا العالم والتدين شأن من شؤون الله. العلمانية في جوهرها ليست سوى التأويل الحقيقي والفهم العلمي للدين، العلمانية لا تجعل الدين أساساً للمواطنة بل تفتح أبواب الوطن للجميع من مختلف الأديان ، وشعب إسرائيل القديم الذي يلعن ذريته في أيامنا الأصوليين والدواعش صبح مساء هو نفسه الشعب الذي وقف ضد اصطفاء توراة موسى لليهود/ أسباط يعقوب أي ضد مقولتي أرض الميعاد وشعب الله المختار العنصريتين، بل أخشى أنه الشعب الأول الذي دعا إلى حق المواطنة(العلمانية) كأساس الانتماء إلى أرض إسرائيل، فلا كلام من الله إلى موسى ولا هم يحزنون بل قاضي واحد لجميع الأسباط بعد عودة الأرض بدون حرب (اذهب أنت و ربك فقاتلا، إنا ها هنا قاعدون)، من الطبيعي إذن أن الديمقراطية الغربية التي ساهم في ترسيخها بعض اليهود استندت على أفكار العقل "المتمرد" المناهض للجمود والغيبيات ، نظام الحكم مدني يستمد شرعيته من الدستور لتحقيق العدل من خلال تطبيق القانون و يلتزم بميثاق حقوق الإنسان. فلا ديمقراطية من دون علمانية ولا علمانية من دون فكر عقلاني فكأنما « العلمانية نظرية في المعرفة حاولت الاستقلال ببعض مجالات المعرفة عن عالم ما وراء الطبيعة وعن المسلمات الغيبية »([1])

   حقا فأن درج الدين مع أولئك الذين اضطهدوا حقبا ودهورا من أجله، منطويا على تدين فهو التدين الذي يصاحبه عقل ، ليرعى صاحبه ويمنعه من التطرف والانحراف إلى تسويق الفكر الديني أي إلى الدين السياسي ، وهذا التدين الحالة الفردانية المتماهية فقط مع حالتها ، وهي الحالة التي أفرزت الحداثة الغربية أو قل السّير بالعقل وراء الدين لتوجيهه ، وأبرز مثال هو  المفكر والفيسوف الألماني فرديريك هيجل 1770ــــ1831 الذي تخرج قسيسا بيد أنه ما انفك يحرص على أن يضع الدين في مكانه الطبيعي اللائق ؛ فهو حينما صنّف الأديان جعل من المسيحية الدين الكامل الذي لا يتضمن نقصا، والإسلام مع اليهودية ديانتين وحييتين و الزرادشتية والبوذية والبراهمانية ديانات طبيعية مرتكزا على معطيات عقلية لا عاطفية ، كما اعتبر برغسون المسيحية دين متحرك وبقية الأديان ساكنة بنفس المنهج ، بالتالي عندما تُرك العقل يعمل عمله حمل إضافات إيجابية لصالح الدين نفسه، وعندما منع وصودر مع الإسلام الذي عرف انعطافات فكرية مشابهة للمسيحية في القرن الثاني للهجرة مع جماعة واصل ابن عطاء المعتزلية، غير أنهم وُجهوا بالتكفير والحط المذل من طرف النقليين. فلو أنهم تركوا لوصلوا بالإسلام إلى بر الأمان وأصبح العالم الإسلامي اليوم مثل أوروبا، مجالاﹰ رحب للتقدم والسلام، فكأنما العقليون المعتزلة أرادوا بالدين إنقاذا له من نفسه حين سقوطه في مناقضة العقل في كثير من الآيات والأحاديث، كما أراده تماما فلاسفة الحداثة الغربية بالدين المسيحي، وليحموه من الفرق المغالية المتصهينة بالتواتر في كل زمان و مكان تماما كالصهاينة اليهود قديما مع النبي موسى وحديثا مع السلفية والإرهاب العالمي. وفعلا فاليوم نجد من الملحدين المتطرفين وهم شرذمة معزولة ضمن تيار الإلحاد المعتدل؛ الذين استنهضهم بل وأرهبهم فكر الجماعات الإرهابية المحسوبة على الإسلام زورا ما نجد ، حيث لا يبرحون منتهزين فرصة تلو الأخرى للإساءة إلى التدين هم أيضا، و مَثَلنا في ذلك قصة الخضر مع النبي موسى الواردة في القرآن ، فحينما سعت المعتزلة إلى محاولة تأويل تصرفات الخضر اللاعقلية مع بحارة السفينة ومع الصبي ومع أهل القرية الظالمة تأويلاﹰ علميا لتخلص على أنها سلوكات نبي يفوق موسى نبوة وحكمة وكفى ، أكدت جماعة أهل الحديث و النقل بالحجة، الطعن في القرآن ذاته، من خلال إعطاء الخضر مجرد صفة عبد صالح! و يمكن اليوم من أن تجد تفسيرات الخضر(رؤيته) للنبي موسى المجافية لجميع الأدلة العلمية و العقلية : « كان هناك مَلك ظالم يأخذ أفضل السفن ويترك السفن التي فيها عيب أو نقص فلمّا رأى الثقب الذي صنعته تركها لهم ، وأمّا قتل الغلام لأنّه كافر وسيُتعب والديه بكفره وعناده وكبره وضرر موته على والديه أقل مفسدةً ممّا سيفعله بهما لو كان حياً وسيبدلهما الله بولد مؤمن يُدخل السرور على قلبيهما، وأمّا الجدار الذي في القرية فتحته كنز لولدين يتيمين كان أبوهما مؤمناً، فأراد الله أن يبقى الكنز تحت الجدار القديم و لا ينهار حتى يبلغا سنّ الرشد » تأويلات أخرى على لسان الملاحدة ، تأويلات منطقية هي الأخرى لكنها مطية حيث لا تنصف التدين إطلاقا و ما بالك بالدين، كالقول مثلا : لماذا لم يبحث الخضر عن حل نهائي للقرصنة بقطع الظلم من أساسه أي يبحث عن الملك أو القبطان الظالم و يوقفه عند حده؟ ولماذا لم يذهب الخضر إلى والدي الصبي ويخبرهما حتى يتقيا شر ولدهما بدل قتله؟ ولماذا لم يعمل الخضر على إصلاح أهل القرية بدل إصلاح الجدار؟

ولعلّ من نزعات الدين السياسي المعاصر المحرّض على التصهيُـن ( قلنا التصهين، المصدر الدال  على استمرارية الفعل متى توفرت الظروف ولم نقل الصهيونية) أو على أقل تقدير المنتج للخطاب الاثني والملاحدي ما لا يخطر على بال، سنورد أول بأول فيما يلي أحداث مستقاة من واقع بلاد المسلمين اليوم( الجزائر، مصر..)، حينما يورد الشيخ محمد كشك حديث جد ضعيف السند ــــ يصنف تحت خانة النزعة الصهيونية الإسلامية المحقرة لليهود و أشياعهم النصارى الغربيين؛ الذين هم أصحاب حضارة يزودونه صبح مساء من حضارة العلم والمعرفة، فضلا عن التكنولوجيا التي هو في أمس الحاجة إليها، ربّما تكون النظارات السوداء التي يرتديها إحداها ــــ قائلا:

 ــ1ــ قال موسى لربه يا ربي خلقت أدم بيديك، و نفخت فيه من روحك و أسجدت له ملائكتك، و أدخلته الجنة و تبت عليه فكيف استطاع أن يؤدي شكر هذه النعم كلها؟ فقال له الله: يا موسى يكفي من آدم أنه قال الحمد لله رب العالمين، قال موسى يا ربي إذا قال العبد يا رب و هو راكع ماذا تقول له، قال أقول له لبيك يا عبدي ، قال فاذا قالها وهو ساجد ، قال أقول لبيك يا عبدي، قال موسى فاذا قالها و هو عاصٍ، قال أقول له لبيك لبيك لبيك!

ــ2ــ إن الله تعالى يقول لموسى ابن عمران وهو يتلقى التوراة ، قال موسى ياربي  إني أرى مكتوباً في التوراة أن هنالك أمة تأتي...... إلخ حديث (تمني سيدنا موسى أن يكون من أمة محمد)([2])

 

   خطاب كهذا من شأنه إحياء الصهيونية المسيحية وإذكاء الأثنية وتغذية الأحقاد والعنصرية بين النخب في البلد الواحد فضلا بين الديانات. أو لم يكن موسى نبيا من أعظم خمس أنبياء؟ أو لم يكن كليم الله و وارث وصاياه العشر، وصاحب توراة تتلى أسفارها وتناقش مبادئها أيام البعثة المحمدية وقبلها؟ بل حتى أن التراث اليهودي والنصراني قد طبع بشهادة المؤرخين المشهد الثقافي للجزيرة العربية بطابعه، وأصبح جزءا من حياة الجاهلية التي كانت فيها الوثنية هي الغالبة، حتى إذا نزل وحي القرآن نزل على طراز التوراة دعوة واحتفاءً بقصص الأنبياء والأولين. أخشى أن في هذا الخطاب عنصرية أيديولوجية لا شعورية اتجاه اليهود/الإسرائيليين توارثته الأجيال المحبة لاستعباد الآخر المختلف جيل عن جيل، منذ عصر نوح مرور بالعصر الفرعوني ثم الفارسي و المقدوني فالإسلامي، لكن ما استجابت لهم وما استجاب شعب الأسباط الصعب المراس لعصبيات الفكر الديني، الفكر الذي أصبح يكاد يشكل في ذاته مرادفا لاسم إسرائيل نتيجة وقوفها له بالمرصاد تاريخيا ، لذلكم فكأنما الشيخ كشك باستفزازه ليهود إسرائيل تكاد تنطبق عليه صورة مسمّى الشويعر إلا قليلا في بيت أبو الطيب المتنبي الخالد : 

أفي كل يوم تحت ضِبني شُوَيْعرٌ   ***   ضعيف يقاويني قصير يطاول

   ولعلّ العجب العجاب هو في أن نلفي من محض تجربتنا الخاصة، نأي النزعات العقلانية إسلامية كانت أو علمانية بالنفس عن مجال الربح السهل نأيا فطريا رادعا، بينما حشرت النزعات الكهنوتية نفسها في ما يحق لك و ما لا يحق لك (الحلال و الحرام) عبر تاريخها الطويل لتستثمر فيه، وحتى بالانتهازية و التمويه لغايات لا يمكن تفسيرها إلا من زاوية شغف الإنسان الفطري أيضا للتسامي عن أخيه الإنسان! فيما المفروض أن يكون الحاصل هو العكس، خذ مظاهرات الربيع العربي في الجزائر مثلا تجدها كشفت الغطاء عن أحزاب ومنظمات إسلامية صغيرة (كما يصفها عادة الإعلام الغربي) كانت حليفة استراتيجية للنظام السلطوي، وقد تحولت بين عشية وضحاها إلى معارضة شرسة له!

. أحداث الربيع العربي وانتهازية الحركة الدينية .. تجارب شخصية

   عندما عدت إلى الجامعة بعد طول غياب استوقفني البواب عند مدخل الجامعة، بيد أنه في غمرة من فرح وصراخ وعويل صاحب تواجدي أمام مظاهرات طلابية وأخرى لأسلاك الحرس البلدي اختلط فيها الحابل مع النابل، وجدتُني فجأة في حاجة إلى الانسلال والولوج للحرم، وفعلا فعلت ذلك في لحظات، و لم يكن ذلكم الفعل انتهاز للفرصة كما قد يتبدى قط. وفي الداخل إذ بأحدهم يدهسني فيسارع لطلب المعذرة "سامحني يا أستاذ سامحني يا أستاذ" .. ياه لم أتصور أبدا أن ينادني  عون من الأعوان يوما من الأيام بالأستاذ وأنا مازلت طالبا!  ياه فهل أكون كبرت لهذه الدرجة أم تراها تسريحة شعري أوحت له بأني أستاذ؟! وما إن ابتعدت قليلا حتى لاحقتني أعين مجموعة أوانس بالتحديق المهلك حتى ألفيتني أفر من نظراتهن إلى المدرّج فرارا. هناك وجدت الأستاذ يستعد لِإملاء سؤال الامتحان على طلبته، فجلست وتناولت الورقة مستعدا لكتابة السؤال، لكن سرعان ما تلقفتني منه ومن طالباته نفس النظرات، فأدركت أن في الأمر إنَّ، ربّما فعلا أكون قد كبرت بشكل لافت! أو أن الأمر يعود لثقافة قد أينعت وسط الأحداث المتسارعة تأوّل كل شيء، بل لا بد من أن تأول كل شيء على مقاس ما يحدث من حولها من حراك سياسي وشعبي غير مسبوق، ولا يهمها حينئذ من أن تعمل من الحبّة قبّة، وإن كانت بالفعل قد عملت من الحبة قبة ، و هذا ما أبانه رد فعل دخولي الامتحان معهم و أنا على شكل لم يكن أولا و أخيرا غير شكلي! بعد أن أخذت مكاني كان الأستاذ قد اتجه صوبي وهو يلتفت بين الصفوف لردع محاولات التهيُّؤ للغش، وبعد أن وصل خاطبني قائلا: ـــ أنت غايب على طول يا ابني أين مبرر الغياب؟

فقلت له: ـــ ما هو المبرر أمامك ، ألست مسن أمامك ولا إيه؟ فأنا أشتغل حتى أدرس وبصوت مهموس رحت متمتما « فلماذا دائما تعملون من الحبة قبة! »

فقال: ـــ أنا راح أسمحلك تمتحن بس لازم  المبرر بعدين. فاهم .. متّفقين؟

يا لطيف السؤال عن الثورات العربية. لماذا نجحت هنا وفشلت هناك حلل وناقش؟ الراجح أني راح آخذ العلامة الكاملة فالجواب واضح أمامكم؛ الثوار بين قوسين عن طريق وسائل دعايتهم المختلفة يروحون عاملين من الحبة قبّة، فإما ينهار النظام العربي المتردي نفسياﹰ أولا ثم لا يحتاج بعد ذلك غير بعض الطلقات هنا و هناك، حتى يقوم الجميع يكبر ويهلل الله أكبر تحيا الثورة أسقطنا النظام ويحيا الثوار.. الله أكبر. وإلاّ يتفطن "النظام" قبل فوات الأمن فيروح مسخّر قواته الرادعة وخططه الاستراتيجية أمنيا وإعلاميا هو الآخر لقمع " الثوار" ثم يظهر أنصاره متفاخرين ؛ تحيا الدولة .. يحيا الرئيس.. قضينا على المتمردين، قضينا على المجرمين .. قضينا عالكلاب .. هذه سنة الحياة عندما تنجح الثورة تسمى ثورة وعندما تفشل تدعى تمرد وخروج عن القانون، فاكتساح الثورة لأركان الدولة يكون كاكتساح النار للهشيم، بل كاكتساح الورم الخبيث العنيد لكامل الجسد حتى يصبح في لمح البصر الكل ثوار، حتى الحيوانات ثوارا مجازا: البطالين ثوار و المحرضين ثوار.. أما قادة الجيش (حامي النظام) الذين فرطوا في شبابهم وفي عوائلهم لأجل أمن الوطن وكرامته فجأة يصبحون هم الفساد! والنظام الذي يَامَا أكّلنا عيش لسنوات طويلة هو البهدلة والديكتاتورية نفسها! وفي منتهى القسوة! والله العظيم لقد ذكرنا تكبير الأشياء فوق ما تستحق ونحن نتأمل نهايات آخر شرارات ما سمي ﺑ "مظاهرات الربيع العربي" يوميا في سوريا واليمن بالثورة التكنولوجيا في عالم الجينات، أين تمكّن العلماء من تكبير حبة الفاصولياء ليضاهي حجمها حبّة التمر، لكن هل يا ترى سيصبح لها نفس المذاق الطيب بهذا الحجم؟ حتما لا، الأمر سيان عندما يكبر البطن  إما أن يقول للرأس غني وهذا حال رفاهية المجتمعات الغربية، أو أن يقول له اعمل من الحبة قبّة عشن أتناول فطوري بالزيادة حتى وإن كان بدون طعم! وهذا حال المجتمعات الشرق الأوسطية.

   إن الزج بالدين في صراعات هو في غنى عنها تحصيل حاصل لافتقادِه لسمة الاعتدال، الاعتدال المنوط بالعقليين الموجّهين له كما أشرنا. ولعلّه سيجد له في كل عصر من يجتهدون زجاﹰ به في براثن تلكم الصراعات معتقدينن أنهم ينصرونه! من هؤلاء علماء الدعوة السلفية القائلين بوجوب طاعة الحاكم في غير معصية لله إثر أحداث الربيع العربي، وهم السلفيين الذين لهم حظوة في كذا من بلد عربي، وقد قال المعتزلة بعدم جواز ذلك عندما لا تتوفر شروط الثورة على الحاكم الظالم، وهي القدرة ، فلو عُمل برأي المعتزلة لتراجع السلفية ومن سار في دربهم في تلكم المظاهرات عن دعم الهمج الذين ساروا وراء محرضيهم في ربوع كذا من قطر عربي، فسقط من سقط من أبرياء وحدثت ما حدث من مآسي نتيجة لانتهازية واستغلالية الفكر الديني الحاجر على نعمة العقل، وهو المعنى الذي أردت استجلاءه في مقالي السابق بعنوان « مظاهرات الربيع العربي وقفة للتذكر والتأمل » نشرته في كذا من موقع ، عندما قلت فيه لولا استغياب العصا لما عصى من عصى المعنى الذي يلتمس فيه ذم للأنظمة العربية الاستبدادية بأسلوب توكيد الذم من خلال المدح ؛ مدح ثقافة الخنوع والحجر عن العقل في المجتمعات العربية التي اطّلعت بحمايتها الأنظمة العربية ، فكم من مقال لي أسيئ قراءته و لم يفهم من قبل القائمين على المواقع فضلا عن سواهم ، ربما لآنه يتطلب جهدا قِراءاتيا إن لم نقل جهدا تأويليا مرتكز على معطيات هو الآخر.

   وبالعودة إلى انتهازية الفكر الديني المحجّر لحاسة العقل، فلننظر كم من ثورة تدور رحاها في العالم في كل يوم بل في كل ساعة ـــ ولم تعمل من الحبة قبّة ـــ إنها الثورات المدنية، أصحابها متدينون تدينا مدنياﹰ؛ إنها ثورات الضمير التي تجعل الوزير ( أو أي مسئول وطني كان أو محلي ) الذي يعتقد بعد تتسبب الأحوال الجوية في مقتل العديد من مستعملي الطريق مثلا ، أنه هو المتسبب الذي لم يهيئها، فخاف مقام ربه من سلم من عقاب الضمير وعقاب المجتمع المدني فاستقال ، ولم يسلم من آمن بأنه سيزحزح عن الجنة في بغلة إن لم يهيئ لها الطريق ، لأنه ظل في منصبه حتى خلعته الثورة  شر خلع. وقد يذهب إثر انزلاق حافلة ومقتل العشرات من ركابها ليس وزير النقل فقط بل الحكومة بكاملها تستقيل، بل قد يسحب البرلمان ثقته من الرئيس المنتخب شرعيا. إنها الثورة الحقة؛ الثورة التي تدور عجلتها مع الزمن، مع التاريخ إلى الأمام و لا تنتكس لتدور إلى الخلف ، إلى السكون والانتهازية والتحجر أبدا.

 




 

 



*. ينظر موقع ويكيبيديا على الرابط :   https://ar.wikipedia.org/wiki/

([1]).  حسين أحمد أمين، دليل المسلم الحزين حول الدعوة إلى تطبيق الشريعة، مكتبة مدبولي، مصر 1987، ص 254.

([2]). عن الأحاديث والرسائل غير الصحيحة المنتشرة ــــ جبهة دفاع قناة الأمة الفضائية على الفيسبوك.

 


author-img
موقع تنويري فكري وشبه أكاديمي، يتغيا تقديم إضافات نقدية تخص تحليل الخطابات الثقافية ونظرية النقد والأدب متوسلا بجماليات التلقي والنقد الثقافي، كما يعنى بنشر إبداع قصصي جديد ليس له ما يماثله على الساحة الجزائرية، والمقال المتناول للشؤون السياسية والإعلامية والاجتماعية المقاربة للظاهرة الأدبية والمحاكية المكملة لها.

تعليقات