القائمة الرئيسية

الصفحات

بوزيان بغلول


   كنّا و كأنّنا في لعبة الاختفاء، عندما ظهر رئيس الوزراء البريطاني وهو يتحدث إلى حشد كبير من الشباب، حيناﹰ معلقاﹰ على مباراة في "البيسبول" تجري على المباشر، وحيناﹰ متحدثاﹰ بحماسة عن ضرورة التفوق الأنجلوسكسوني على سائر الأجناس. حينها كان بعض ممّن اختفوا فجأة من أمام أعيُني قد أصبحوا في "البلاتوه" رفقة رهط من شباب إنجليزي متحلِّق حول رئيسه.
كيف اخترق هؤلاء الأصدقاء المسافات البعيدة و وصلوا إلى هنا؟ كم حاولت معرفة أين تكون قد اختفت البقية الباقية لكن دون جدوى. حتى أطلّ شاب عربي السِّحنة من بين تلك الحشود و طلب من رئيس الوزراء بدء خطابهُ فيهِم، فبدأ رئيس الوزراء يقرأ الأوراق المكتوبة ورقة بعد ورقة وهو يتوسط مقدمة الصفوف، التي يجلس عليها بمعية كبار الوزراء و المدعوين، وعقيلته التي كانت تمدهُ بدون انقطاع بالأوراق ليقرأها و يعيدها لها لكي تلُفَّها و ترمي بها إلى سلّة المُهملات، كمن يرمي بكرة سلة من على بعد فائق، وكانت عقيلته تلك تتباهى بكونها رامية ماهرة مُحاولةﹰ اثبات موهبتها، حيث كلّما أصابت الهدف هتفت فتيات التشجيع المرتديات لزيّ موّحد الخاصات بفريق رئيس الوزراء، الحاملات لِإكـر إسفنجية، يقمن بالتَّلويح بها في صخب وصفير و زُعاق شديد كلّما أصابت العقيلة الهدف. وهكذا دواليك إلى أن توقف الحشد فجأة عن زعيقه ، بما فيهم رئيس الوزراء الذي كان يصفق ويصرخ معهم ، لعله يكون قد وصل في خطابهِ إلى لب الموضوع  و جوهره ، حينها ارتبك قليلا كمن صعب عليه النطق فجأة فبدأ في "الأحأحات" ثم مسح جبينه و تابع :« أما اﻵن (صمت) أحم أحم..، أما اﻵن (صمت) سيداتي سادتي .. فأنا بصدد تقديم (...) تقديم استقالتي » ثم يندفع من جديد الصّخب وتتعالى أصوات الصفير و العويل و يختلط الحابل بالنابل داخل القاعة وخارجها ، حيث لم يصدق أحد ما يجري .. حتى رمت زوجتُهُ بالورقة كعادتها في سلّة المُهملات ليصمُت الجميع مذهولين مُرهِفِي الأسماع لما هو آت من كلامه ..

فقد كانت لحظة حاسمة في تاريخ الأجناس التواقة إلى الحرية حقاﹰ ، لحظة خشعت فيها الأبدان و تسمّرت ، و رمشت فيها أبصار الشباب ثم جَمُدت و دلفت الأوداج تحمر و الوجوه تصفر و الأعين تدمع والشوارب تفتّر ثم تذبل ، و ظن الجميع أن نهاية العالم الحر قد بات و شيكاﹰ. و أن هناك من يهدد حياته وعلى المباشر؛ فاسترسلت المحطات في بث موسيقى بتهوفينية حزينة في وسط صمت و ذهول مُطبق ؛ إلى أن تحركت أخيرا يد أنثوية شاهدها الملايير حيَّة على الهواء و بكت لأجلها عروش وعروش ، و ذرفت مُشجعات فريق البيسبول لأجلها أنهاراﹰ من الدموع الحَرّة السخيَّة ، محيّرةﹰ ألباب علماء كانوا مُصطفين متحلِّقين خلف حاشية الرئيس ، و كُتمت فيها أنفاس الوطنيين الأحرار المتحرِّقين شوقاﹰ إلى تلك اليد التي تُنقذهم و العالم من هلاك لا مناص منه .. فإذا بيد الرئيس تتلقف بسرعة البرق الورقة من تلكم اليد الناعمة و تتلو ما كتب فيها : « .. أحم أحم .. علمت شباب أُمتنا ، ذُخر إنجلترا و ويلز، أنّ كل ما قِيل من قبل لم يكن سوى.. أحم أحم.. سوى سمكة ابريل » عندها تعالت الأصوات وعم الهرج والمرج إلى أن أطبق الظلام المفاجئ و أُسدل الستار، فأدركت أنها ساعة المغادرة ، لابد من تلقف بعض المُختفين قبل أن يلوذوا بالفرار مع موكب الرئيس أو ينتقلوا رفقة طقْم الإخراج الى مكان بعيد بعيد ، بين مُعِدّات كانت تُحزم وآليات كانت تُشحن لبدء رحلة الليل الطويل..

بيد أن هناك سكون و روعة نسيم في الخارج ، برغم أن البُعد بين السرير و الشباك كان بعد العالم الحر عن العالم المستعبد ، غير أنني خِلتُني في راحة و سكون بال من أمري عندما نهض من يُشبهني ليَطُل عبره إلى الخلاء الليلي، في ضي صفاء البدر و النجوم الحالمة ، فالكل نيام و الكل صمتٌ واضطجاع إلاَّ بعض عرير لصرصورِﹺ ليلي ؛ فما أحلاها ليلة حالمة هادئة مُنسّمة بنسيم مُنعش تُهيِّأ الأجواء ليوم مُشرق و حافل بالمشاغل المتنوعة... غداة هذا الهزيع المترهل من الليل الراحل مع الزمن إلى مكنونات من طلاسم داجية ، وعوالم مختفية ، شعر جسدي بقُشعريرة ، حيث ما كان نسيماﹰ منساباﹰ أضحى بردا ، وما كان وهجا قمريا رومنسيا أضحى دكْنة وهجوع كأنه القهقرة، أو توقف لقطار الليل عن المسير.. وفجأة أرعدت السماء وبدأت تسح تلك الغيوم من قطراتها ما شاء لها أن تسح فنهضت مسرعاﹰ لغلق الشّباك .. غير أنه يبدو أني تجاوزته و رحت أمشي في الضباب حتى وجدتُ نفسي أمام إحدى الحانات اللندنية الشهيرة ، و قد خرج منها أُقْنومان ثمِلان متصارعان وقد أهلكهما السُّكر حتى لم يقدرا على الشِّجار، فراحا يعربدان ويتبادلان اللّكمات والشتائم بلكنة أسكتلندية ، مُبتعدان ضاربان كل ما اعترض سبيلهما ركلاﹰ و رمياﹰ حتى اختفيا صوب أفق غير منظور..

حين انزاحت ساعات الظلام و ترآى نور الفجر كاد يغمى عليه " ـــــ وعزتك يا رب ، أين أنا؟" قالها مشدوها ، إنه لَعالم شديد التمدن، رصيف مصقولة وطريق ملونة وبنايات ضخمة عتيقة... يا إلهي إنه رئيس الوزراء بريطانيا ثانيةﹰ .. إنه يقف بموكبه قبالة " البوش هاوس" ، ينزل من سيارتهِ ويدخل المبنى الضخم المشرَعة نوافذهُ العديدة على الشارع الرئيس؛ إنه الآن رفقة مذيعي الbbc  يتحدث إليهم ويقهقه دون أن ينتبه إلى من يراه و يسمعه في الشارع المقابل " للبوش هاوس" قائلاﹰ لهم : « ﺃريد أن أحدِّثكم أيّها المُذيعين العرب عن أمير عربي ، قِيل أنه ترك إمارته و غادرها إلى المشرق العربي، أتعرفونه؟ كانت ملكة بريطانيا وجميع أحرار العالم آنذاك قد تعاطفوا معه .. كانت تحب أن لا يغادر برغم الغزو الذي تعرضت له بلاده على يد الإفرنج .. إنهم أعداءنا كذلك نحن الإنجليز.. هؤلاء الإفرنج المتعجرفون.. »

ـــــ ـ" إن العرب يحبُّون الحرية و هم أشد الناس توقاﹰ إليها ، فكيف لا يغادر هـروباﹰ من استعباد وإذلال الإفرنج يا سيدي؟" رد أحد صحفيي "البوش هاوس.»

" طيب" أجاب رئيس الوزراء ، ثم أضاف : « .. وأنتم كعرب تعيشون ببلاد الحرية ألا تشعُرون بالاستعباد واﻹذلال؟ قولوا لي يا إخوتي.. إني أدعُوكم كي توفِروا بعض المال من رواتبِكُم كي نبني بهِ مجد العالم الحر.. نبنيهِ من اﻵن ، من هاته اللحظة ، بسواعد عربية وأقلام إنجليزية.» وفجأة سُمع صوت العِربيدان وهما يصيحان ؛ " كاذب  كاذب" ، خرج رئيس الوزراء مذعورا متعقباﹰ مصدر الصوت ، فوجد الشارع خالياﹰ إلاَّ من ضبابِه وبعض القِطط والكلاب الضَّالة و الحرس الشخصي محاولاﹰ إبعادهما عن المبنى وشخص مُرتدِﹺ لجِلباب مغربي؛ كأنه قد تاه لتوه عن فِراشهِ، أو تاه عن بيته فلم يعد بمقدوره تمييز بابه عن باب جيرانه ، أو كأنه عبد تاه عن بلده أو حتى عن "عالمهِ المستعبد". وكمن يبدو متسائلا عن سر وجودهِ في هذا المكان والوقت لا يزال مبكراﹰ ، فسارع رئيس الوزراء إليه محاولاﹰ اخفاء ابتسامة عريضة :« ـــــــ أأنت مغربي؟ ـــــــ أنت عربي أليس كذلك؟ لما وصفتني بالكاذب؟ «
فردّ الرجل التّائه : « ـــــ كلاَّ يا سيدي حاشى أن تكون كاذباﹰ ، كيف تكون كذلك وأنت في إمبراطورية الbbc  ، إنهما أقنُومان أسكوتلنديان قد لعبت الخمرة بعقليهما.»
ـــــ أفهم من كلامك أن الbbc  وقسمها العربي لا تكذب ، ولا تحرّف الأخبار، أنا أقول لك أنها تفعل حتى في بلاد العدالة والديمقراطية.
إنها تفعل أيُّها المغربي الذي لا أعلم من أين خرج.. إني قد كنت منذ فترة قصيرة في حضرتهِم ، و وجدتهم يُحضِّرون برنامجاﹰ اسمُه "قصص على الهواء" وهم يسألون المُحكِّم عن أسباب ترشيحه لقصة " جريمة قتل على الهواء" فأعلمهم أنها احتوت على لغة مقبولة و على جمل سردية مكثفة ومباشرة. و لمّا تدخلت لأسالَهُ عن القيمة الأدبية للقصة ارتبك وفتح لي فاه ، فلم يدري من شدة هوله إلاّ وهو يقول : « ــــــ الحب ؛ إنه الحب هو القيمة الدلالية للقصة يا سيدي.» فسألته ثانية : « ــــــ عن أي حب تتحدث؟.. إنها خيانة البطل لشريكَتِه ، حسب ما فهمت وأنتهى، فهو مذيع قد خان محبوبته و قَبِل الطلاق منها. ثمّ هل تعتقد أنه لمجرَّد تبادل عشيقين بضع إشارات يبدو ﺃنّها توحي إلى عاطفة الحب كفيلٌ بلبس القصة معطفا دلاليا قوي الحياكة؟ إنّ مضمون القصة من المفروض أن يكون جادا بما فيه الكفاية و أكثر درامية حتى يوازي إيحاءات بعض مفردات القصة. بل يجب أن يسيرا معاﹰ .. »

ـــــ أحسبُني أيُّها المغربي ﺃني قد تحوّلت إلى ناقد ولم أمارس النقد في حياتي قط ، ولم أرى في حياتي كيف يقف رئيس وزراء إلى تزييف و تحريف  كالذي وقفت عليه مع ذلك المُحكِّم الذي بدأ يتلون لي كالحِرباء ، كمن جُبِل على خيانة الأمانة. لذلكم أنا أوصي دائما بالتريُّث قبل الحكم على الأشياء، وما برنامج " قصص على الهواء" إلاّ عينة من تلك الأشياء ، فلو أنك شاركت معهم في برنامجِهم ذاك لبقيت الدَّهر كله مُهمشاﹰ أيها المغربي ؛ سيتعللون لك مرة بقصور المغاربة اتجاه العربية ، ومرة بقصور في الخصائص الفنية .. و سيظلُّون يمرّرون تفاهات الجنس اللطيف التي تصلهم مسبوقة أسماءهم بحرف الدّال و يتوجونهم كدأبهم ، حتى ينالوا رضا لوبياﹰ مندساﹰ بينهم ، متحكم في دواليب القسم العربي كله ينحدر معظمه من شبه الجزيرة وأطرافها.

ـــــ « لكن أنا فعلاﹰ بقيت دهري أرسل بقصصي إليهم دون جدوى! هذا اسم بلدي إذن الذي حال بيني و بين إمكانية الفوز«

فجأة ارتفع من داخل مبنى " البوش هاوس" صوت المخرج ومُعد البرنامج وفريق مُذيعي الbbc العربية مندفعين كعرمرم صوب مكان تواجد رئيس الوزراء مُردّدين الاسم : " يعيش أبو جلباب مغربي " عدة مرات ومُشيرين بأصابعهم باتجاهي ، طامعين في أن يلمحهُم السيد رئيس الوزراء ، كأنما يريدون أن يصبحوا بين ليلة وضحاها ديمقراطيين كدأب الشرقيين لكن بتبجح واضح ، حتى لا تنالهم غربلة ما أو عقابا أو تحويل من لدن رئيس الوزراء نفسه.


بيد أني علمت بعد فوات الأوان أنه لم يبقى من ذكرى رئيس الوزراء غير صدى الكلمات ، تعيدها على المسامع  بنايات لندن الشاهقة ، وخيط من سراب الضباب ما فتئت الرياح تذريه بعيدا. مومئا إلى تلاشي بعضا من الديمقراطية عن كل مبنىً تمر به إثر غياب الرئيس ، وإذا بالبرق يبرُق و الرعد يرعُد و أنهض مفزوعاﹰ لمغادرة رئيس الوزراء بهذه السرعة حتى ارتطم "نفوخي" بقوة لا مثيل لها بباب الخزانة ، فأدركت أن ما اقترفه مُحكِّمي البرنامج العرب في حق الإبداع كانت غلطات لا تغتفر في حق الديمقراطية الغربية و في معقل الديمقراطية. لكن يمين الله قد فعل بنا زمهرير المغرب المندفع عبر الشُّباك ما لم يفعله بنا ضباب لندن البارد الرابض حول "البوش هاوس"، و سحقا لمن ادّعى و أنكر ، فنحن من اليوم لسنا جزائريون قط بل لبنانيون أو مصريون.
author-img
موقع تنويري فكري وشبه أكاديمي، يتغيا تقديم إضافات نقدية تخص تحليل الخطابات الثقافية ونظرية النقد والأدب متوسلا بجماليات التلقي والنقد الثقافي، كما يعنى بنشر إبداع قصصي جديد ليس له ما يماثله على الساحة الجزائرية، والمقال المتناول للشؤون السياسية والإعلامية والاجتماعية المقاربة للظاهرة الأدبية والمحاكية المكملة لها.

تعليقات