القائمة الرئيسية

الصفحات

ثالث مقاومان إذ هما في مهب الريح




بوزيان بغلول


   يصل فجأة إلى محطة الوقود بسيارته، فتتناهى إلى مسامعه أصوات البقيّة الباقية من مجموعة كانت تتجاذب أطراف الكلام وينسحب أفرادها واحدا تلو الآخر.  وإذ بأحدهم يقول للآخر: « حتى أن رئيسا أمريكياﹰ ظل يقاوم الصحافة والرأي العام لوحده دون جدوى ، معتقدا بالمرة أن أصحاب الصحافة الصفراء المهوسين بأخبار الجنس و التابوهات لا يفيد معهم سوى نزع الثياب والتجوال عرياﹰ داخل البيت الأبيض حتى يكفوا عنه ، فكيف بي أنا الإنسان البسيط وقد هرولت يومها عاريا في ليل أزقة مدينة مجنونة ،  قيل أن الشياطين الخرساء قد استوطنتها منذ ما يربوا عن الاثنا عشر قرنا ، غير أن دولاب المدينة الخشبي المعلّق على مدخل شارع شياطين الجنس ذاك ما انفك يتوقف عن الدوران قط ؛ غير مكترث بي تماماﹰ كأن  أحد المتظاهرين في مرائيتهم المُخزية هو الذي يعمل على تدويره عنوة لشغل الأعين المارة عن أمور أخرى تجري ورائه »
ـــــــ « إنه لَجنس وظلم لِمرتدي لباس العهر و التديُّن وهم سواء بسواء » ردّ عليه أحد المقاومين الشيوخ المتشبّعين بقيم الحضارة الغربية ، و كان محارباﹰ و رحالة في أيام شبابه ، معتكفا كثير المطالعة لِألبوم صور شبابه في حدائق واشنطن الواسعة في أيام شيخوخته ، ثم انصرف من أمام جمع صغير كان احتشد حوله إلى حيث يقضي معظم أوقاته.
وبالكاد كاد أن يفعل حتى أمسكه مقاومٌ متزمّت يريد الرّد على ما تفوه به : " انتظر يا سيدي العجوز، انتظر..." بيد أن رجلا يدعى بينهم ﺒ "المقاوم الأول" قاطعه ولم يترك له فرصة مواصلة كلامه : « لا لا ، أنتم إذا فعلتم ذلك فعلتموه في عز اللّيل ، فلم يرَكم أحد ومن رآكم حينها يكون قد سُرّ بمنظركم ، فليل هذه البلاد كما تعلمون قفرٌ إلاّ من المنحرفين و المتعربدين القاصدين مقاصف المجون و الخلاعة ، بيد أني أنا و الرئيس أيّها الغفر الكريم  قد فعلنا ذلك في عزّ النهار، و الفرق بيني و بينه هو أني كنت أرتدي ثياباﹰ بالية قديمة وكان شعري أشعث . ولمّا أطلقت وأنا أمُر بشارع الحضارة العنان لعاقلة العُري فيّا ظنّ القوم بدون أي شك أنني مجنون قد تهت في عوالم الخبل »
 في اللحظة التي يترجّل فيها رجل ثالث في منتصف العمر تبدو عليه ملامح الثقافة و التحضُّر و دون أن يأخذ معه شيء أردف قائلاﹰ : « غرّ الشيخ  وناء شيخ المقاومين عن الحق والله ، كِلاكما أراد لفت الانتباه إلى المستور الخفي في مجتمع تحكمه قوانين المادة وشريعة تنبو نصوصها عن الواقع مسافة دهور، تشعشعت وتشعبت فيه معتقدات بالية وتقاليد رثّة ملازمة إيّاه كأنها هي الدين نفسه ، غير أنها لا تعدو أن تكون مجرّد عادات أخلاقية جبل على ممارستها بالعادة منذ عهده على هذه الأرض ، فما عسى قوم يغوصُون في تلك العادات منذ أمد أن يفعلوا ؟ بل الأدهى والأمر من ذلك كلّه أنهم يستحمُّون في "بحر الرمل" و في لعاب بعضهم بعض ويدعون ذلك تحضراﹰ وعقلانية !  و لربّما أن الكثيرين ممّن لا حول ولا قوة لهم يدركون الأوجاع بينما لا يستطعون لها حراكا ، فكأنما التستّر على أخلاق و إبداء أخرى و التي أصبحت عادة جُبل عليها الجنس البشري ، لابدّ لزاما على كل انسان أن يبديها و يسير في دربها و إلا يُنبذ ويُدعى ملحدا أو خارجا عن العرف و القانون أو يقهر ويُدعى المتديّن المتزمّت.
   فأنا بالأمس القريب كنت مثلكما أُجابِه حظي التّعس وحدي حين تقطّعت بي السُّبل وأنا أقطع إحدى شوارع المدينة المشبوهة ، فحينها لا أدري لماذا لم أتريّث وقد كنت متجها إلى الشارع الذي يسكن فيه ابن عم لي ، فقد أخذتني الدّهشة وأنا أجد الدّكاكين مقفلة و المحلاّت و المتاجر مطفأة المصابيح إلاّ بعض المقاهي والحانات ،  فبمجرّد أن شاهدت في الطرف الآخر من الشارع لافتة مُضيئة بمدخل العمارة حسبت أن هناك من المحلاّت داخلها من مازال مفتوحا ، و عندما بلغت منتصف الطريق وإذ بشخصين يسارعان مهرولين إلى الداخل ، يبدو أنهما رجل وامرأة ، فتبعتهما وما هي إلا لحظات حتى كانت الشرطة تطوّق المكان وتضع الأغلال في يديّ و أيدي الشخصان اللذين صدفتهما عند مدخل تلكم العمارة الملعونة.
وعندما سُقنا ثلاثتنا إلى مركز الشرطة كانت مظاهر الخجل والدهشة تعلو محيّا الأعوان، بينما ظل الشخصان اللذان كانا برفقتي مُطأطئا الرأس ، فحاولت  إقناعهما بقول شيء والتفّوه ولو بكلمة واحدة حتى يزول الالتباس الذي وقعت فيه الشرطة ، إلاّ أنه وعلى ما يبدو قد كان مُجرمين مُتمرّسين ، من عصابة تتاجر بالجنس والمخدرات أو ما شابههما فقد وجدا الفرصة للتنصّل من جرمهما بدّعائهما معرفتي ، فحاولت إقناع الشّرطة بأنه لا علاقة لي بالشخصين كل ما في الأمر أنّ التباساً ما يكون قد حدث لها ؛ حيث أدركتنا الشرطة صدفةﹰ ثلاثتنا عند باب العمارة وأنا أحاول شراء بعض حاجاتي لقضاء السهرة عند ابن عمي ، ولمّا ألححت في الاحتجاج زاد احمرار خدود أعوان الأمن و خجلهم ففهمت أني قد وقعت  لسوء حظي في حضرة متاجري الجنس.
..وفي الحقيقة ، يا سادة يا كرام ، أصبح في هذه البلدة الجميع مشبوهون إذ ما تجولوا ليلاﹰ عبر هذا الشارع أو ذاك ، إنها للأسف الشديد أوضاع حياة هذا الزمن المرّ و القذر، أين يُهان فيها المرء وتداس كرامته ويتحوّل فجأة من شخص شريف إلى شخص دنِس مرذول ، ولولا أن ابن عمّي سمع بما جرى بعد أن أخبرته عائلتي  لزُجّ  بي في السجن، أو قل لذهبت في مهب الريح و رحت ضحية لأحد الفريقين ، و الحال أن هاتفه قام بتسجيل المكالمة التي تمت بيني و بينه أوتوماتيكيا قبيل حادثة الإعتقال بلحظات ، فقدمها كشاهد للشرطة فأطلقت صراحي و نجوت من كيد المجرمَين الخبيثين اللذين أراد عنوة إلصاق تهمة المشاركة في بيع الهوى بي ، في ذلكم المتجر المتخفي كالعش داخل أدغال من الخرسانة المسلّحة ، بين عائلات فقيرة وأخرى مسكينة تقطن فيه حيّة في عالم الأموات ، ولا هي دارية بالشبكة التي تمارس الدعارة و الفسق بين ظهرنيها »
ـــــ عفوا سيدي .. يبدو أنك "مقاوم" من "الطراز الأول"  قال "المقاوم المتزمّت" مضيفاﹰ : « لولم يكن هناك من شاهد على براءة بيل كلينتون والرئيس " دومينيك ستراوس" حسب ما فهمته لجننّا مثلهما أو قمنا بجريمة ضد المرأة التي ادَّعت أنها كانت في انتظارنا»
 ـــــ « من المؤكد أني كنت سأكون في حالة هيستيريا ، كريح هوجاء أمام هيئة المحكمة ، كما كنتما وأنتما تحاولا المقاومة والدفاع عن نفسيكما ولا دليل مادي ملموس بحوزتكما، إلاّ ما حاولتما إظهاره من خلال نزع ثيابكما و كمحاولات أخيرة ، تعبيرا عن ما تتوق إليه نفساكما جرّاء خوالج السقم والقنوط اتجاه الظلم و المرائية » ردّ  المقاوِم بالعري.
ــــــ بلىَ يا صديقي ا...!،
ـــــ مصطفى ، اسمي مصطفى.
ــــ اسمع يا مصطفى إنّ كلامك كلُّه كان عين الصّواب ، فقد كنت أوّد منذ البداية مُشاطرتك الرأي ، عندما كنت تسرد قصتك مع الشوارع الخبيثة المندسة تحت حجاب التصنع والرّياء المحسوب بالميليم أناء النهار والترنح و التعربُد الخرافي أطراف الليل ، بيد أنه قاطعني كما رأيت ... و لكن هيَّوا بنا نمُر إلى الساحة المقابلة و نُكمل حديثنا ، هي يا مصطفى وأنت يا ا.. ! يا أيّها " المقاوم الأول" هيُّوا و أقدّم لكما نفسي : أنا رشاد " كبير المقاومين المتدينين " ، فتفضلا إلى هناك.
و هناك يلتف حول مائدة الشاي ، رشاد كبير المقاومين المتزمتين و مصطفى كبير المقاومين العلمانيين و"المقاوم الأول" الذي لم يشأ ذكر اسمه قائلا لهما عندما ألحا الطلب : ما أنا بينكما إلا ثالث مقومان إذ هما في مهب الريح! فلماذا تلحان على معرفة اسمي؟
author-img
موقع تنويري فكري وشبه أكاديمي، يتغيا تقديم إضافات نقدية تخص تحليل الخطابات الثقافية ونظرية النقد والأدب متوسلا بجماليات التلقي والنقد الثقافي، كما يعنى بنشر إبداع قصصي جديد ليس له ما يماثله على الساحة الجزائرية، والمقال المتناول للشؤون السياسية والإعلامية والاجتماعية المقاربة للظاهرة الأدبية والمحاكية المكملة لها.

تعليقات