القائمة الرئيسية

الصفحات

بوزيان بغلول


   فجأة  رفع اللثام عن وجهه ليقول لفتاة كانت مارة من أمامه: « يجب ﺃن تبتعدي عن طريقي .. فأنتِ قد خنتِ وطنكِ، أما أنا فمازلت أحبُ وطني وقائدُه الشهم.. ثم ماذا تريدين من شخص متورط في السياسة وألاعيبها إلى الأذنين؟ إنَّ عليكِ الابتعاد حتى لا ينكشف أمر طابورنا الخامس»، وإذ بالفتاة وكأنها لم تفهم شيئاﹰ تتوارى من أمام عينيه وهي تتأمل الحي الذي يقيم فيه صديقها عمر بدون أن تنبس ببنت شفة، حتى إذْ كادت أن تختفي من على تلك الطريق الطويلة الخالية، الملأة بالمتاريس والعجلات المحترقة ناداها بأعلى صوت: « هاااااي، أتمنى أن تتعلمي الفرنسية بدل الإيطالية، وتهتفي باسم مُشربكِ من زلال ماء النهر الصناعي الصافي كل صُبح وكل مساء متى أغارت طائرات العدو» ثم انصرف مسرعاﹰ حاملاﹰ في يده قرصا مضغوط وقد كُتب عليه " تعلم الفرنسية في أسبوعين".
   ما إن وصل البيت حتى جرَّب القرص ، ليستمع إلى تلك اللغة الفخمة الأنيقة التي طالما أسرته .. لكنه لم يفهم شيء فالمحادثة كانت سريعة ولم يستوعب أي شيء .
ــــ « لا بد من متابعة الصوت بقراءة النص المكتوب حتى أعي ما يقوله » قالَ ثم عاد أدراجه للحصول على نسخة المُسجَّل مكتوبا، لكنه لم يكن محظوظاﹰ فقد نفذت جميع النسخ، فعاد لتوه، و بينما هو يعبُر أحياء المدينة حياﹰ بعد حي باتجاه البيت، كانت تتناهى إلى مسامعه أصوات المُكبِّرات وهي تُشيد بالقوات الأجنبية المغيرة وبالمتمردين فأسرع خطوَهُ وهو يبصُق هنا وهناك، وما إن وصل حتى خفّت الأصوات وصُدَّت الأبواب وهجعت الأرواح على أزيز سِرب آخر جديد من غارات الحِلف وهي تستبيح العاصمة وتدك معالمها كما تشاء، وكأن الأمر لا يعدو أن يكون حلماﹰ ، حاول صمَّ أُذنيه على السّماع، ﺃو ﺃن يلعن قدره، ﺃو يخرج إلى شباب الحي يحرِّضهم على رمي العدو بكل ما يُرمى .. لكنه هجع وسكن هو الآخر، وهو فاقدٌ للإدراك. حرَّك قُفل الراديو مصغياﹰ ﻷخبار محطات راديو الإفرنجة و حلفائهم حيناﹰ و المحطات العربية حيناﹰ آخر، فلم يسمع غير تدخلات الخونة و المتمردين وهم يحيُّون أسيادهم و يشتمون قائدهم ، فلم يدري في وقت تسارع فيه الصراخ بعد قنبلة طائرات العدو للعاصمة طرابلس و ازدياد ضجيج الأصوات المخترقة بأصوات المكبِّرات و هي تتلو أخبارا تشبه الأكاذيب إلاًّ و هو يضرب الراديو ضربة أسكتته إلى الأبد. 
ــــــ « أتُرى صحيح ما تقوله دعاياتهم ؟ أصحيح يكون المتمردون سيطروا على أطراف العاصمة؟  لِماَ لا أتأكد من ذلك بنفسي؟ »
 هيَّأ دراجته للخروج إلى الأحياء التي قالت الأخبار أنها سقطت في أيدي "الثوار" ولكم كانت دهشتُه عظيمة عندما دخل و كثير من أبناء العاصمة الغاضبين إليها ، وأعينهم تشع بنور أشبه بالنور الذي يعتري عادة أرامل المجاهدين في سبيل الله ، لا وجود إلاّ لطوابير طويلة من النور مُنبعث من أعين شباباﹰ وكهول ، شيوخاﹰ و أطفال صاروا في أمس الحاجة للماء.. والنور وبس، منهم من كان يحمل السلاح ، فعرف حقيقة أن زعيمهُم قد وزَّعها عليهم قبل أن يتوارى ، لكن هل سيثبُت هؤلاء أمام الخونة المُحيطين بالمدينة وهم عطشى؟ إن المتمردين وآلياتهم باتت تحاصر ممرّات العاصمة مستعدة للانقضاض ككلاب مكلوبة أو خنازير جائعة ، بل دخلت بعضَها إلى المدينة و سيطرت على مصادر المياه ، و تشدقت لتوها و نظَّمت طوابير كانت و أخرى ستكون لملأ قوارير المياه و توزيع سِلال الطعام.. وكان كل هم عـمـر هو أن يرفع صوته كمكبـر صوت أو كبرّاح شعبي إلى عنان السماء قائلا : « الأهالي جاءوا غاضبين حانقين لا مُبتهلين فرحين ، جاءوا لملء حاجاتهم من المياه ، لا الترحيب بفلول الخونة كما ادَّعت المحطات الاذاعية » لكنه لم يقدر أو لم يجد ذات اليد التي تعاونه.
  في أثناء عودة عمـر إلى المنزل تسترعي انتباهه كاتدرائية مُهشّمة ، كأنها مهجورة ، تقع بين أحياء راقية تعج بالحركة فاستغرب عدم استعمالها من طرف المتمردين ، وهم الذين من عاداتهم تسخير كل شيء للإطاحة ﺑ " الديكتاتور" حسب زعمهم ، حتى دور العبادة ، حاول دخول الكنيسة وما كاد يفعل حتى هاجمته مجموعة من الكلاب الضالة و الجرذان الضّخمة  كانت محتمية داخلها ،  صار عمر متلهفاﹰ بدافع الفضول لاكتشاف رُدهة الكنيسة التي لم يرها إلاّ في التلفزيون ، أو اكتشاف سر ما من أسرار حياة القساوسة يكونوا قد تركوها فيها قبل أن يرحلوا ولِماَ لا اغتنام فرصة القلاقل  لغنم ما يمكن غنمُه ؛ برغم الظلام المُطبق الذي يضيع فيه الطريق ، تحوّل بين مقاعد الكنيسة المُغبرة وبين الرُّدهة ثم إلى غرف صغيرة قُبالتها ، فلم يشاهد غير الحُطام والخراب والأوراق المُبعثرة في كل ركن ، إذ كل ما بقي من خزائن وأدرج كانت ملتصقة بالحيطان ، لا وجود لأي أثاث حر، فلا بد من أن تكون كل مقتنيات الكنيسة كلها قد سُلبت.
   بينما بدﺃ عمر ينفض الغبار عن حزمة مكدّسة من الأوراق ، إذْ به ينتشل كتاباﹰ متوسط الحجم ، ما بقي فيه من حروف توحي أنه الكتاب المقدس ، فمسحه و وضعه تحت إبطه و راح يفتش عن المزيد، غير أنّ مُواء القطط المجرَّحة المتصارعة مع الجرذان الضخمة قد أدخل الرعب في نفسه. ولكنه تعاطف كثيرا مع القطط المُكابدة بدون جدوى إذْ لم تقدر على النيل منها لنحافتها و سمن الجرذان التي كانت تعيش في رغد عند الأوروبيين ، تلك المشاهد الدرامية المُرعبة جعلته يفكر في المغادرة لكنه ما كاد يفعل حتى ناداه أحدهم ، بادياﹰ في هيئة مسلح كالمتمردين تماما ، سائلاﹰ إياه :
 " ــــــ هاي توقف ماذا تفعل هنا؟   ــــــ من أنت تكلم؟   ــــــ ماذا تُخبأ تحت ذراعك؟
  ــــــ هيَّا انبطح بسرعة.
  ومن حسن حظ عمر قبل ﺃن يواجهَهُ بالكتاب المقدس ، بدأت طوابير مُختبئة خلف الكاتدرائية تصوب نيرانها على غير هدى .. « إنها خلايا المقاومة يا لحظي. سأحاول الإفلات من هذا المجرم » قال عمر، بينما سارعت مجموعة من المتمردين إلى مصدر الطلقات هرول هو عكس مصدر الطلقات وهو يلهث أخرج الكتاب ؛ إنه زاده الغريب الذي لا يدري ماذا يفعل به ، فلغته الفرنسية مازالت ضعيفة حتى يقرأه.
  أدرك أنه يجب أن يتخلى عنه حتى لا يثير شكوك المتمردين فيرمُونه ، بيد أنه قاوم على طريقته ، ودخل بين المباني مختصرا المسافات جُهده حتى وصل سالماﹰ ، ولم يبطئ وشغَّل راديو هاتفه متناسيا أن شبكة الإنترنت مقطوعة منذ أمد، فتوجه للراديو فوجد أن دعايات المحطّات قد زادت وهي تبث أنواع من الشهادات ؛ عن "معارك حامية الوطيس" يُقال أن أبطالها اعتقلوا "جرذان النظام" كانت مختبئة بكنيسة القديس فرنسيس وسْطَ العاصمة ، فتعكر مزاج عمر لاعنا أبواق الطواغيت ثم بصق. ولم يوجه ضربته للراديو لكنه غير المحطَة بسرعة لينأى بنفسه عن كل تلك الأكاذيب و السفسطات الإعلامية بالاسترخاء على سريره ، وأخذ قسط من الراحة.. وبينما هو كذلك تتناول يداه المتعبتان ذينك الكتاب المقدس من على الرَّفوف مطلقاﹰ تنهيدة عميقة ، ثم ما لبثت أن عادت لتُلقي به لكن على الصدر ، على الجسد المتهاوي ، فستعذب اغماءته متمططا تمططا روحيا فيهما بشارة ونعيم لم يزل. ولم يكن في حل من أمره سوى التمتع بلذتهما.
  لم تمضي برهة قصيرة حتى تناهت إلى أسماعهِ أصوات و شوشرات الراديو من جديد ، فقد عادت فيه الروح من جديد، يبدو أنه كان بعيد كفاية لكي يُصمتَهُ إلى الأبد ثانيةﹰ ، لذلك تمنى أن يفهم الراديو نفسه في وقت هو وقت قيلولته ، بيد أن الأصوات المنبعثة منه ما لبثت أن استحالت قراءات متقطِّعة كأنها حشرجات إنسان ثم استوت خطاباﹰ بلغة جميلة أنيقة هي لغة الشعر و الرومانسية ، لغة موليير التي طالما استهوته، فأدرك بالخصب في نفسه بكل ما بقي لديه من وعي، عندما لاح  في ذِهنه طيف تلك الصديقة الخائنة وخيال ذلك القرص المسجل فاستجمع قِواه محاولاﹰ فك طلاسم تلك القراءات المتتالية...كأنها محطة إذاعية تبشيرية.. أضحى يستمع بتمعن وتركيز شديدين ويداه تعبث بالكتاب المُلقى على صدره ، و تقلِّبه دون وعي حتى تبين له أن المُذيع يقرﺃ من نفس الكتاب المُلقى بين يديه ؛ فأرسل تنهيدة أخرى كأنها تنهيدة عودة الروح إليه بعد موات فزاد أمله في صبر أغوار تلك القراءات للكتاب المقدس ، ثم ظل على مداومته تلك حتى تمكن من فك طلاسم لغة موليير نطقاﹰ وكتابة.
..و ليته لم يفعل ، فقد عاودت عمر أوجاع ذكريات القطط و الجرذان و الكنائس المحطّمة و البلاد الخَرِبة حتى بلغت بهِ الحلقوم ، حيث ما برحت آلام الظّلم متقدة كجذوة تلازمه كلما لاح ببصره صوب الشباك ، كأنه وقع في مرض لا يعرفه . ربّما هو مرض الوطن المستبد به ، بعد أن فقه اللغة الفرنسية وصار يفهم ما يُذيعه الغزاة ، أو كأنه مرض تلك التعاليم التي جاءت جسداﹰ لثوب اللغة لتُحطمه وتقوّض كيانه بل تزلزله غير ما مر؟ ؛ « ليتني لم أقرﺃه و ليتني لم أْحْبِبه وليتني لم ألتقطه ، كأني أصِبتُ بطاعون تلك الجرذان السمينة القذرة في لحظات من غبن وطمع وانقطاع عن الوعي..!» تمتم في نفسه.
  لقد أدخلتهُ تلك التساؤلات متاهات الأرض و الوطن و الله مستبعدا على غير عادته مسألة الثورة! إنه مدخل وهم  جديد ، ليس بوهم اللغة هو، لكنه وهم الفكر المسيحي بوساوسِهِ جسدتهُ تعاليم ما قرﺃ، فأضحى كالمجنون لا يدري ما أصابهُ ، بيد أن كل شيء أضحى يجذبه و يستدرجه لامعان النظر، ثم التأمل و التفكير بجد في : الحي قبالة الكنيسة المهدّمة أو قرب شوارع الطوابـير الـخمس المندسة بِأحكام أو قرب نعوش الشهداء المسجّاة أو قرب القرب. أجل، قرب ضميره و فكره المتحول المناجي لذاته بأعلى صوت ؛ أن أترك لغة الحرب و الطوابير و أقبل على لغة السلم و السلام.
author-img
موقع تنويري فكري وشبه أكاديمي، يتغيا تقديم إضافات نقدية تخص تحليل الخطابات الثقافية ونظرية النقد والأدب متوسلا بجماليات التلقي والنقد الثقافي، كما يعنى بنشر إبداع قصصي جديد ليس له ما يماثله على الساحة الجزائرية، والمقال المتناول للشؤون السياسية والإعلامية والاجتماعية المقاربة للظاهرة الأدبية والمحاكية المكملة لها.

تعليقات