القائمة الرئيسية

الصفحات

‏ ‏‎ ‎من يربح الـرِّهان؟

بوزيان bouziane


 كان متكئاﹰ بظهره المقوس على حائط الإكمالية في الشارع الرئيسي لمدينته، جامعاﹰ يديه فوق ركبتيه ساند ذقنه عليهما، كمن يظهر و هو يتفرج على الناس، بيد ﺃنه في الحقيقة كان يحدق تحديقاﹰ تأملياﹰ بعين لا ترمش، إذ هكذا كان دﺃبه، تارةﹰ يطأطأ رﺃسه وتارة يرفعها مواصلاﹰ تأمله، ﺃحسب ﺃني لم ﺃرى منذ عهدي بهذه المدينة صبياﹰ في مثل سنه، في هكذا موقف قط.
  الكل في حركة ونشاط ٳلاﱠ هذا الصبي الجالس القرفصاء وسط المارة وهم يثيرون أغبرة الطريق عليه ؛ أليس الأولى به ﺃن يكون بين ﺃقرانه التلاميذ؟  وفيما هم فيه من مرح حال خروجهم من اﻹكمالية عندما يطيح الواحد منهم بزميله أرضا ؛ بينما يبقى الساقط يلملم ﺃشلائه ٬ يروح اﻵخر مدبراﹰ المقلب لقرينه ثم يعدو ضاحكاﹰ محاولاﹰ نزع مأزره و دسه عند ﺃحدهم ٬ و الكل في شقاوة صبيانية سائرين ٳلى منازلهم. ﺃخشى ﺃنها وحدها تكون صورة ذلك الصبي المراهق قد نُقشت في ذاكرتي كالنقوش الفرعونية ، لتبقى تثير فضولي و فضول الناس ٳلى ﺃبد الدهر؛ تلك الصورة التي وقعت من نفسي موقعة اختمر ﻷجلها الفكر طويلاﹰ ، محاولاﹰ معرفة هوية صبي لم يطرق عمر الشباب بعد بيد ﺃن في تصرفه حكمة ، و الطلاسم ﺃن الحادثة بينة غير متخيلة بل تكاد تجهر بالحق ، بيد ﺃن لا حياة لمن تنادي ،  من يصغي لبراءة الأطفال ومن يدنوا منها؟ و الجميع غافلون غاطون في عوالمهم المادية ، من ذا الذي  ينفض غبار اﻷرصفة عنها؟ من ذا الذي يرمق بؤس الإنسانية في شوارع العاصمة؟ ﺃين تراهـنﱠ  محصّنات الإكمالية الكثيرات ممن لهن في كذا من منظمة حقوقية مدنية صولات و جولات من ﺃمر ولد في أمس الحاجة لمن يأخذ بيده؟
    منذ تلك اللحظة ما برحت ﺃنزل بالباص المرة تلو اﻷخرى ، فأشاهده و قد مازال نازعا إلى جلسته المعهودة تلك ، تُراه شهيد البلاوي العائلية التي تتفنن في مص ﺃرواح ﺃمثاله من المراهقين ثم رميهم كتلة صماء خرساء ٳلى الشوارع؟ ﺃم تُراه أحد الضحايا الكثر لعقاقير هذا الزمن الذي لا يرحم؟ التي تكون ﺃدت به ٳلى حالته التي  تشبه حالة الصرع ، ﺃم ﺃنه نزيل ﺃحد الملاجئ؟ يكون فـرﱠ منها لسبب ﺃو ﻵخر. غير ﺃنه و الحق ، فتى تبدو عليه ملامح الفضيلة والشرف لولا جلوسه في مكان غير لائق للجلوس.
    جاء اليوم الذي هالتني فيه صورة ذلك المراهق و هي تعلو صحيفة وطنية مشهورة ، ٳنها صورة نفس المراهق الذي ﺃثار خيالي غير ما مر بفيض من اﻷسئلة و هو جالس جلسته المُحيّرة تلك ٬ و قد كتب فوق الصورة عبارة "صورة بدون تعليق" مع اسمي المصورتين. استجمعت قواي عازما ﺃن ﺃتحرى ﺃمره ، ﺃعطيته الجريدة فأنكر ﺃنه قد سمح ﻷحد من أن يصوره.
لا شك أن ﺃحدهم قد صوَّره خلسة و وضع صُورته تلك على الصحيفة كأنه هو خويا ألمليح اللي زادلو الهوى والريح بالذات ثم اقتربت منه وإذ بي أقول له : « كاش وحد راه صورك وحَطْ صورتك في الجورنال، عندك خبر واللا ما عندكش؟ »
ــــــ " ﺃنا ما نسمح حتى لواحد يصورني حتى وٳذا كان بريزيدو"
ــــــ « إذا كنت ترغب في استرجاع حقك ممن صوروك دون موافقتك فبإمكانك ذلك ، و أنا هنا لأساعدك. هيّا بنا إذن ٳلى مقر هذه الصحيفة ٬ لك كامل الحق في التعويض ؛ ٳنها صورة مهينة لك وٳلاﱠ ترفع دعوى قضائية ضدهم ، و العدالة ستنصفك »

 بعد سويعة بالذات كنا قبالة المصورتين اللتين استغلتا مسكينا وصورتاه دون مشورته ، وكم استغربتا في البداية تدخلي المباشر فقالت إحداهما : « ـــــ وﺃنت واش دخلك؟ ﺃحنايا صحافة عدنا حق الوصول للمصدر، صْوا رضا و لاﱠ مارضاش فاهم »
في الوقت الذي تدخل فيه رئيس تحريرهما بعد ﺃن تهادت أصواتنا إلى مكتبه ٬ لكنه انسحب فجأة ليرد على الهاتف.
ــــــــ « عن ﺃي مصدر تتكلمين ٬ ماخذيتوش رايو ، و تظنان ﺃني جاهل بأمور هي من اختصاصي، المصدر شيء و ﺃخذ صورة ﻹنسان غلبان خلسة و في مكان حقير دون موافقته شيء . اﻵن هو يطالب بحقوقه نقدا ليتجاوز الضرر الذي لحق به ٬ ﺃو يرفع دعوى ضدكما إلى السيد وكيل الجمهورية »
ــــــــ« !vous êtes fou  كيفاش ﺃحنا بنات الفاميليا نطلبوا من واحد "vagabond" مرمي في "la poubelle" يسمحنا و للاﱠ ما يسمحناش؟ »
حينئذ ﺃشرت إلى المراهق المسكين بأن يتبعني قائلاﹰ : « رايحة تشوفي في المحكمة وشكون لا بوبال وشكون أوليد فاميليا » . عندها تبعتانا مذعورتين :
ــــــ ﺃرواح ٬ ﺃرواح نتفاهموا بلا محكمة. و قالت اﻷخرى بدهاء و خبث :" ـــــــ نمدولوا شي فرانكات و خْلاص و المحكمة و عْلاش ، ديجا راه المخلوق مسكين! »
ــــــ  راه يقوللكم دراهم و اﻹعتذار.
ــــــ أواه اﻹعتذار لالا .
 فرددت عليهما : ـــــــ « يظهر ﺃنكن صحفيات آخر زمن ، لا تملكن من الصحافة ٳلاﱠ اﻹسم ، وﺃن ﺃمثالكن لايحتاج ﺃصلا إلى شهادة تخوّله المنصب ، فأنتن من الفئة التي تضمن المنصب وهي ما زالت تدرس في الجامعة ، و اللي يدّخلوها ما نيش عارف كيفاش يدخلوها»
ــــــ كيفاش كيفاش. حشاك!mais vous êtes vraiment fou  ؛ حشاك ﺃحنا بشهادة الليسانس وحدها رانا هنا.
ــــــ عمبالكم راني نايم على وذاني ،  ﺃنا قريت وين قريتو ﺃنتما .. و البريكولاج و المعرفة و الغش المستفحل بتواطؤ وجهوية اللي يقروكم،..و زيد وزيد تسميها الليسانس. الليسانس يعكسه مستواكن في تعاملكن مع هذا المسكين ٬ و يعكسه ضمائركن واحتيرافيتكن ، ﺃتدعون المكر و الدسيسة و الانتهازية صحافة ؛ الصحافة مهنة شرف وقيم ٬ وليست مهنة من لا مهنة له.
   لقد استفحل الغش و استوطن في أنفسكن منذ سنوات الجامعة حتى لم يقوى عليه بالمغادرة ، أخشى ﺃنكن حلقة جديدة من حلقات موجة ﺃشباه الصحفيين المتخرجة زوراﹰ و بهتاناﹰ كل عام ، و المتطفلة على الصحافة الحقة بتواطؤ و ترصّد ممّن يشرفن عليكن. لقد مكنوكن من القبض على قبضة ريح ٬ قد حسنتن من "فنياتكن التحريرية"  كي لا تحرِّكن ساكناﹰ ؛ تسطون على ﺃخبار المشارقة وتدّعينها ﻷنفسكن ٬ و لا تخشون لومة لائم ، كون المصيبة أصبحت عامة ٬ و المصيبة ٳذا عمّت خفت كما يقال. و طورتن من فصاحة ﺃلسنتكن بحيث تتحدثن بلغة ﺃجنبية ﺃو بربرية كلما رﺃيتن ﺃناساﹰ لا يروق لكن فضائل ﺃنفسهم مثل هذا المظلوم الذي سميتوه vagabond
  ﺃجل٬ ﺃخشى ﺃنكن لو دخلتن معترك العمل اﻹعلامي على حقيقته لفشلتن من ﺃول يوم. كيف لهذا الشخص و هو بعد مُراهق ﺃن ينمو شخصا سويا وﺃنتن لم تقدرن حتى اﻹنسان فيه؟ كان اﻷولى ﺃن تطلبا موافقته وتقنعاه ﺃن في ذلك مصلحته ؛ عندما تصل صورته ٳلى التجار و المسؤولين المحليين. هل هذه آداب الدراسة وثمارها ؟
 ... عندما غرقن في صمت ﹸمطبق ، منبهرن بما تفوهت به ، وجدتني ﺃنتهز الفرصة ﻷجعل من موكلي بطلاﹰ ضحية اهمال المجتمع له : "ــــــ  لو ضموه إلى المدرسة ﺃو وجدوا له عملاﹰ لما بقي في الخلاء تتفرسه النكبات ساعة واحدة ، ﺃخشى ﺃنه لو دخل رهان العمل الحقيقي النزيه مع ﺃي كان ، حتى ﺃنتن ، لو دخل معهم إلى مدينة لا تشبه مُدننا اليوم بل تشبه مدينة ﺃفلاطون الفاضلة ؛ مدينة في ﺃوج الرقي الحضاري لم يكن لها وجود قط على وجه البسيطة غير ﺃن كل ما فيها من عوالم مثالية تنم عن تزكٍ وطهارة في الأنفس ٬ سيفوز حتما وسيتغلب عليكن حبا ﹰو اتقانا ثم ارتقاءً لعمله.
ــــــ واشنو نتراهنو ..♫.. ﺃحنا mielleurs journalistes en Algerie les  مع واحد طردوه مالمدرسة C’est pas vrais!
ـــــ قلت لكنَّ كلﹲ وعمله ٬ هو يعمل نادلاﹰ في مقهى و ﺃنتن تعملان صحفيتين في صحيفة مشهورة ، هناك في تلك المدينة المثالية التي تسود قيمها من قيم القانون الوضي والأخلاق النبيلة معا٬ يسوس فيه البشر كأسنان المشط فعلاﹰ لا قولاﹰ. لا ظلم ، لا رشوة ، لا نفوذ ، لا تسلط ، لاغش و لاهم يحزنون ، لم تتجسد يوما على ﺃرض الواقع بعد ، جسدتها فقط قرائح عباقرة وفنانين و من محض خيالهم الفني فقط. ٳن هذا الرّهان الذي ستدخلانه مع هذا المسكين لهو رهان اثبات المستوى المعرفي و اﻷخلاقي على السواء.
ــــــ وكيف سنهتدي ٳلى هذه المدينة مادامت خيالية؟
ــــــ اﻷمر في غاية البساطة ، تستقون مركوبا خاصاﹰ ، بمجرد ﺃن تلجون التيطري جنوب اﻷطلس البليدي الذي تشاهدونه ﺃمامكم ؛ سيحجبكم الضباب من كل حدب وصوب ٬ وستظهر ﺃمامكم رويدا رويدا جبالاﹰ ليس لها موقع على الخريطة قط ، تبدو و كأنها جبال الونشريس و قد تحولت شمالاﹰ ، فإذا وأنتم في مدينة يحيط بها الضباب من كل جهة ، هي المدينة المقصودة ؛ مدينة قائمة على صروح مجد غابر؛ كل اﻷرواح العتيقة تعود لتبعث فيها بأبدان جديدة بحسب اعتقاد الهندوس في تناسخ اﻷرواح ، كأني بهم كل الملائكة و الاٴثينيين[1] اﻷفلاطونيين و الجبرانيين مازالوا ينزلون بها ، فلمﹸ تُذري بعبقها هواجع اﻷيام٬  ولم تعبث بتلالها العذراء اﻷزمان الخوالي ، بقيت زاخرة بإرثها اﻹنساني التليد حاملة في طيها كل معاني السمو الروحي والتفوق المادي ٬ فهي مبعث لكل اﻷرواح المظلومة على مر الدهور و اﻷزمان.
ـــــ و شْحال نبقاو في مدينتك السّحرية ها ذي؟.
ــــــ تبقاو ما شاء لكم ﺃن تبقاو. حتى يظهر من يكسب الرهان ﺃنتن ﺃو هو. ها هو ذا المركوب الذي سيأخذكم ٳلى هناك ، فلتدخلوها سالمين.
ــــــ وكيف سنعود منها و من سيرشدنا ٳلى الصحيفة؟
ــــــ ٳنه السائق. فجأة ستبزغ ﺃمامكم السيارة وفجأة ستختفي.
    و مذ عهدي بالصحفيتين المتبجحتين بمركزيهما وﺃنوثتيهما في مؤسسة جوارية و صبي الحائط المسكين ، المائت في عالم اﻷحياء ، و ﺃنا ﺃنزل من نفس الشارع و مع كل حين ، فتلج بي ذاكرتي إلى ﺃبعد من واقع المدنية المظلم . شتّان بيننا وبين المدنية الميثالية التي حلم بها عباقرة هذا العالم ، و رحلوا ليبقي حلمهم غصة حلق بين الحقيقة و الخيال تؤرق كل من قرأهم.
   و فيما أنا كنت فيه من تأمل و من إسقاط عوالم العصور المظلمة على واقعنا مع كل انحدار لي عبر ذلك الشارع ، بدت لي بعد نحو ﺃربع سنوات إلاﱠ نيف على تلك الحادثة ، و من بعيد وكأنهما امرﺃتان وقد احتلتا مكان الصبي المراهق. لم ﺃنتبه في البداية ، كوني كنت قد تعودت على مشاهد التسول. بيد ﺃني بعد ﺃن دنوت ﺃلفيتني شيئاﹰ آخر غير ﺃنا ، ﺃجل. بل ﺃضحيت كالسكران الذي ضاع منه الطريق فراح يسابق السيارات . ﺃجل ، يا لهول ما رﺃيت..! إنهنَّ نفس الصحفيتين جالستين في نفس مكان الصبي ساعة صورتاه خلسة! وقد نُفش شعرهُـن ومُزِّقت ثيابُهن وبدت مظاهر الاشتباك بالأيدي عليهنّ . لشدة فاجعتي لم ﺃشأ الاقتراب ﺃكثر، فلوّحت لهنّ بيدي فعرفتاني لتوهِّن ، وصرخت إحداهنّ بي لعلّي ﺃُسدي إليهنّ معروفاﹰ غير ﺃن اﻷخرى ﺃوقفتها صارخة : « ــــــ يا هذا قد خسرنا... خسرنا ، طردتنا عوامل الخير والفضيلة ؛ طردتنا.. طردتنا ولم يسىء ٳلينا ﺃحد ؛ طردتنا نفسينا شر طردة من نفسينا ٬ فخرجنا كالمعتوهتين إلى عالم الحقيقة المتمدنة حيث تبعانا فتيانها المشاكسين و فعلوا بنا مثل ما ترى ، حتى ﺃن رئيسة التحرير كانت من جنسنا وكم ﺃشفقت علينا عندما خاب رجائها فينا ؛ منحتنا فرصة الاستدراك المرة تلو اﻷخرى بيد ﺃننا لم نقد على اخفاء ضعفاﹰ تقنياﹰ و خواءا روحياﹰ ملازم ﺃمام ﺃقراننا من منتسبي المدينة الفاضلة ، فما كان منّا بعد ﺃن احترقت نفسينا غيظاﹰ على نفسينا ، إلاﱠ ﺃن توقفنا عن العمل و لكننا بددنا كل ما جمعناه في ﺃيام معدودات»
و قالت اﻷخرى : « ٳننا كنا في جهل حد القنوط ففررنا بجلدينا من المذلّة ٬ فجحيم العدالة و النزاهة قد ﺃحرقا قلبينا هناك فصرنا قاب قوسين ﺃو ﺃدنى من الجنون كما ترى »
 ــــــ وﺃين صاحبنا  ٳني لا ﺃراه معكما؟
 ــــــ صاحبُك إرتقى سلم العمل ٬ من نادل إلى منصب رئيس مقهى ٬ ٳلى مُسيِّر مجموعة إنتاجية إلى عضو مجلس حكومة المدينة ٬ إلى حاكم المدينة وعمره لا يتعدى العشرين ، و هو الذي وقع وثيقة عودتنا إلى عالم الواقع "المزيف" الذي ترانا فيه.
ـــــــ آه ٬ كم كانت خسارتنا رحمة. كم كنا عالة على  ﺃسباب الفضيلة هناك . فقد خسرنا الرّهان حقا خسرناه. 



                                                                                         [1]- نسبة إلى مدينة أثينا 
author-img
موقع تنويري فكري وشبه أكاديمي، يتغيا تقديم إضافات نقدية تخص تحليل الخطابات الثقافية ونظرية النقد والأدب متوسلا بجماليات التلقي والنقد الثقافي، كما يعنى بنشر إبداع قصصي جديد ليس له ما يماثله على الساحة الجزائرية، والمقال المتناول للشؤون السياسية والإعلامية والاجتماعية المقاربة للظاهرة الأدبية والمحاكية المكملة لها.

تعليقات