قصة الحضارة من سقوط أيلول إلى صعود أبريل

 

بوزيان bouziane

قصة الحضارة من سقوط أيلول إلى صعود أبريل


صرف عنه لواعج النفس وخفّف عنه كُرب الدهر، صرصورا وكان منصرفا لالتقاط ما خلّفه الحقل من حب، متقيا شر القر و القحل و العقاعق معا ما استطاع ، و ربما جاز له أن التقى صدفة بالحجل و السنونو و الجرذ فزفّ إلى الشجرة واختبأ منهم تحت جذورها، وأطال الاختباء في الشق الأرضي بينه وبين الصخر ما أطال ؛ إنه بيته الذي أمّنه مهاوي الدنيا وفخاخ الصيف ، وعندما ألقت السكينة سدولها كما دأبت أن تلقيها بحسرة وصمت لا يُغني عنهما تأملا مليا في سدول متواطئ جعل الجميع يخشى السوء في نفسه إثر هرير وأزيز مختلط بحفيف وقرقعة قلوع ودبيب أرجل، كالخفقان المتناوب في الحرش هو، وحين طفقت السماء شمسا تلفح بالهجيرة، والأرجاء كلها رجع صهْد أيام وليالي من القيظ المتصل، حار الزمان وتأوه حصرةً على لسان صراصر وحباحب وجرذان وجحافل الغربان الضافية فوق الأودية وهي معقعقة، وككل فجر يوم جديد تأتيك ترانيم و أشْداء شجيّة من كل فج و غور بعيد، متغلغلة إلى كل حدب وصوب، و ليبزغ في أثرها ضوء الصباح أو كفيالق من طيور غريبة غرابة الموت المتربص بنبض حياة متبقية. تنزل الغدير وتعود إلى النبع فلا تجد للماء من أثر، بيد أنه مع كل ضحى يؤم الصمت من جديد، كان للبرية موعد أزلي معه، ويسود القفر وتأمل مشوب بحنين غامض ما أصاب الواد المحاذى بالغدران وضاحيتهم من كدر إلى درجة المسخ متحولا إلى ساحة للجُعل يلعب فيه بالكور، يركلها كالأكر فيما بينه إلى أن ينقضي النهار والنبع مازال يروي لكن في ابتذار.


وهي تلك الأيام في تداول وقد تراكضت وتراكبت ملتحفةً سرها المخبوء، وفي السماء غيوم بيضاء عالية اختنق بها الغاب فنفر ما به من وحش إلى الحقول والأودية المجاورة، هكذا ظلت و الصيف يُحتضر، ثم بعد ذلك تضغط بيد غير مرئية فترعد وتبرق، وأخيرا تسح في استحياء بقطيرات سحاً خفيفا ليلقى الكثير من الوحش والحيوانات الوليدة حتفها على يد وحوش أكبر وأقوى منهما، فقد فقدت حذرها ما اشتدت قبضة الرطوبة العالية عليها، بل هناك سناجب وجنادب وجرذان وحتى عقبان من وجدت غداة الانقشاع مختنقة على حواف الممرات الأبعد و من تلقاء نفسها؛ ثم إنه تداول لهذا الكدر والغم والبخل الذي افتعلته الغيوم العالية القادمة من أبعد البحار حتى حلّ أطول الأيام قاطبة فتحول لون الغيوم من اللون الأبيض إلى اللون الرمادي وطيلة اليوم كان هناك صهيل ونهيق وظهور واختفاء لبعض الثعالب تطاردها كلاب القرية حوالي الغابة السمراء، حتى لَئَنّ ديوك القرية تصايحت منذ عصر ذاك اليوم فتهايجت أوجرة مندسة، وسُمع لها عويل غير منقطع كأنه مرسل من لحود حتى أطبق الظلام، فتوجس أقرب المقربين خيفة مُطْلقين العنان لصفارات الإنذار، بيد أنها السماء وهي مرعدة ومبرقة ثانية كما لم ترعد وتبرق من قبل، فجادت مدرارا مثل لم تجُد من قبل، فغمرت السيول كل منخفض بما فيه بيوت القرويين وملأت أغمارهم فنهضوا بالفؤوس والدلاء يدفعونها عنهم ثم ماهي إلا ساعات حتى هدأت لكنها ظلت تهطل طوال الليل، وعند مجيئ الصباح كان قد لطُف الهواء بل انتعشت الأجواء لمّا تضاءلت أشعة الشمس، فأخيرا تغلب النسيم المنعش على الهواء الدافئ إيذانا بحلول الخريف.


لقد جُلّ أيلول يوم حلّ نافضا عنه الأغبرة ، كيوم البعث طارحاً عن كاهله ثقل الدهور المنسحقة. يومٌ ظلت ترقب فيه الخلائق أنّى كانت جرعة ماء، فساحت ملء الوجود في أثره الطيور وانتشرت حول الحقول والمروج والأودية محلقة وهي مزقزقه لكنها ما برحت متباعدة في تحليقها وهي جفلة كأنها استشعرت خطرا مع عودة النشاط والحركة بعد موات ، فكأنّما البزاة والعقبان تترصدها من فوق كيما تنقضُّ عليها، وقد جاز لصياد متحرك حاملا بندقيته وآخرون أطفالا فضوليون حاملين فخاخهم أن ينتشروا. بيد أن روح أخرى ملئه حياة وقد طلعت ملء الوجود من تحت الردوم والأنقاض كي تظفر بنصيبها هي الأخرى، فالشموس الآيلة إلى الانحناء والترهل قد فتنتها فتراها تارة متيقظة وتارة متوغلة تبحث تحت أوراق الشجر و تفتش عن ما يسد الرمق مثلها مثل أي صرصور ساغب أو جربوع أو جُرابي يبحث عن ثمر البلوط المتساقط. وبعد بضع أيام أخر تثاقل الجو أكثر فأكثر وبدأت السماء تزخر بالمطر ما شاء لها أن تزخر وتجود به في كل حين، والأطفال الآيبون إلى منازلهم القائمة عند أطراف الغابة والحقول أو الممتدة هناك إلى مداشر الروابي والرواسي، وهم متماوجون متفاعلون مع أنسم أيلول فمن أبطأ المسير منهم أدرك تشرين والداه، فكلما تاق إلى المكوث قرب سواقي الممرات و مجاريها لينعم بسحرها، أين تقفز ضفادع وترتوي زواحف، و الأعشاش على الصنوبر والزان و الحور صفراء وخضراء بلون الأديم ، بين صفصفات وقد تجردن من أوراقهن متحولات لمنصات توقف لأجناس من العصافير و الشحارير الصادحة إنشادا؛ جوق ينشد ويجفل فيليه جوق وهكذا ذهابا ومجيئا، هكذا كان أطفال المساء عقب دروب القرى الريفية يروحون ويجيئون أمام تلكم الدردارة المقدسة ذات اللحاء الطري يقف الأولاد نفرُ للتحية، كأيكة مهربة من رياض الجنة، سرعان ما تخضوضر مشمّرة عن مفاتنها حيال قوس قزح مصطبِغة أغصانها الفارعة بالندى ندى الرذاذ التشريني. إن روعتها به قوس قزح و بألوانهم السبع ما اكتمل يشكّل خلفية إطارا للصورة المتوجة، ولمّا يُقبِّل قلب الثرى الرذاذ كعبير أو أكسير حياة شمُّها، أما النبت المزدهي قرب جذورها فمرقص كئيب للطيور و العصافير تسعى للدود ، لكن محفل مُسكر بنَداه و مازال يرشُفه من تحتها ويثمل ذلك الزاوُشي حتى أكمل الصورة ، والشذى عبير ذكريات سترويه للربيع القادم الأيكة فإنَّ خلفها حضارة ، وأنا إزائهم ذكرى بينهم لم أزل طي روح غازية ماكثا ، لكن سرمدية سمحا ملء الوجود مترهلة رويدا رويدا نحو وجهة مقيمة ما شاء لها أن تقيم، تقيم بالأرجاء حوطة وحوزة وجْدا وتلحِقه بذاكرة الأمس كلما كبرنا؛ والأقرب إلى ذاكرة الصبا تلك هي الحوزة عابقة بفيض دافق كلما استأثرت بي ذاكرة المطر عبرها والحقل والشجر الآخر ما حل السّحر.


هكذا كان عبق الخريف حضارة لوحده، وكلما حل بتلك الربوع أنجادا و برارٍ استحال فيضا و أملا من بشائر تعلو وتهوي بفلاح مترنّم يمسك بمحراثه الذي يجرّه بغل، وتستنهض فيه همّة الربيع همّة الغلال والحضارة ، ومع كل إشراقة ليوم جديد يضمحل الزمن متراجعا إلى الوراء ولكنهم جميعا في بشرى؛ الفلاح بهشاشة الأرض، اليافعين بغد جديد، وأبو الحناء بلحاء الكرم والتين الغض تنقره وتطير فرادة وأسربا حيث أُلقيت البذور و وُضع سماد، غير أن هناك حرباء جاثمة متربصة وقد ألف الفلاح رؤيتها والشر متلونة بلون غصن التينة فما كان منه إلا أن يسحقها و يحذِّر الأولاد من سمِّها. لكن يعود كدر السماء من جديد والهوينة ترسل برذاذها البارد كأنه حبّات الثلج فيؤوب الأطفال وبأيديهم أغصان جافة، فتنبعث في أثرهم رائحة الموقد إلى أبعد الحدود، عبير الصنوبر المنبعث من المدخنة وتشرين الثاني صنوان، أجواء حيالهما في كدرها حول الغاب والحوزة مبحرة.


وهكذا دواليك مع كل ضحى تشريني شمس باردة تأبى الانتظار ويأبى الظلام أن يخيّم في سقم وفتور كأنه يبغي فداءها بالقتل الرحيم ولا يفعل إلا بعد أن يستعد له الناس بلبس الصوف وأحذية اللدن الخاصة الطويلة، فالصباح صباح برد، والثرى ثرى ورق الشجر الأصفر، والمساء مساء المداخن، والكل في انتظار حين بات كل ما على الأرض يبس ٌمتراكض تـلهو به يد النسيم دافعةً به نحو الأركان ومهاوي الجداول. والسماء من فوق غيوم تجري وأخرى تتكاثف مسابقة الزمن تحت وقع نعيق الغربان المتطايرة إلى كل ناحية متهيبة من عاصفة ما أو حدث جلل ما وقد أطبق السديم لتُنصت لما هو آت.


ما هو آت تبييت وتلييل في عز النهار، إذ يؤم الربوع سكون مطبق بعد ساعة فقط من سماع صياح ديكة الأصيل ، وقت ما بعد الظهيرة آيل بخفة إلى التلييل كأن ملك الوقت يطارده إلى الليل اللائل ولم تمضي بالكاد سويعتان على ما بعد الأصيل، وإذا خرج أحدهم لحاجته لم يخرج إلا وهو مقمّط في دثاره ولا يعود إلا وقد أصابه ما أصاب الضّيعة من كدر؛ الأشجار أغصان سلكية شائكة والحياة المختبئة حولها بدأت تبيَض رويدا رويدا وهي مستقبلة أول حبات الثلج راضية مسلمة بقدرها، لكنه إحساس أزلي غامر بالاستمرارية والتغير نحو قدر لابد منه مع كل حبة أو نتفة بيضاء ترسلها السماء، ثم تغطي الثلوج الحوزة فترى الحوض في الفناء إلى السياج وماكناته القديمة والمتاريس والسور المتهدم وأشجار التين صفحة بيضاء هامدة وقد كتب عليها الموت اسمه ثم محاه، فلا يعرف سره إلا من خبر الربيع الماضي فربّ ثلج وهو يعلو البطاح والأودية يحييه خير تحية سديم رابط حول المداشر المضاءة بالشموع و الزرائب القريبة منها كأنها منتشِجة بعد أن كانت بدواجنها وأنعامها سرِحة مرحة، ككل مساءات تشرين ثاني الأخيرة قشعريرة وسكون وهجوع وروح بيضاء ملاكية ملهمة للتحلُّق حول الموقد في وقت مبكر، لأن الكانون مبعث نور يقرأ عليه الصغار ويستمتع بعبيره الزكي الكبار، عبير القهوة العربية ممتزج بعبير الصنوبر، ولأن تلك الأيام قصيرات النهار تشرئب فيه الأنفس دوما إلى الزاد، لذلك يجسر من يجسر إلى التخطيط لصيد ذوات الفرو، والى التماهي مع حكايات الجدات حول الموقد؛ عن خرافة من خرافات غول الغابة و"قديدش" الصياد. ولما يجيئ الصباح يكون الثلج الذي بات يتساقط همسا قد ردم الربوع فلا يجرؤ الصغار إلى الخروج عندما يهم الكبار للصيد، أما الإبكار فلا يكون إلا لمن أراد مؤونة أو تعليف ماشية مع ذلك لا بد من تحمُّل الغوص في متر أو يزيد من الثلوج المتراكمة أو الرجوع القهقرة إلى الكانون العزيز. أما هبوب الريح المحملة بساف الوادي أو رواسي الجبال القريبة فانّ معناه زمهرير يغمر الأرجاء قريبا يحسُن أن تُجبَر له كل نفس خاطرها إما بجمع الحطب أو طحنا للحبوب وربما حتى اصطيادا للأرانب والظربان بمعونة الكلاب لأن الرعب المتسربل بها جراء سماع عويل الذئاب الجائعة قابض على النفوس لا يذهبه غير الاكتناز بما لذ وطاب وعز من حريرات، أو عودة لتباشير ذات القصة عبر ملمح من إشراقات شمسية هاربة متكلفة عناء نفسها، وعلى ما إعتادته طويتها وفي غمرة كانون ثاني وشباط لا تتسربل الخمائل بغير حلة ناصعة ثقيلة كالقفطان الموشح أو الفستان المزركش ببديع الجواهر، تود تخليد صورتها فيشرب الثرى حيالها مولما للربيع القادم ما قوامه أنهار تجري تحتها الأنهار.


عندما يحل آذار أقبِل إلى الروضة الشّماء ترى بقايا الثلوج منحبسة وقد تجمّدت عند أقدام الجدران والأسوار وبين اليراع المنظّر، وإذا ما جُلت بناظريك فوق، إلى المرتفعات الزرقاء المحيطة بالمداشر المتناثرة هنا وهناك ترى بين السديم بقعاً بيضاء تطعم الواد بآلاف التريليونات. أما إذا قام لآذار حقا المقام في تلك الربوع القصية، و وجدَك في مقتبل العمر فعمره من عمرك، والزمان أمامك كله ربيع فبئس ما يضمر النور بالسديم والسدف وعصفور بات منتقل من غصن إلى ثان وهو شادٍ من نشيج الأمس القريب، فويحه كأنه الوحي وقد تأمل جنازته الشيخ والكهل في شرف طوية، أو لكأنه الفصح مستقبلا مسيحه بأشجي الألحان أو كأنه العَودُ. مرحى من شغلت بالخلد عنه ألحانا وألوانا من أحمر قان وأبيض في الربا لماح وهي تلوي. ورفٌ من حجال الشمأل يحط على اللوزات لا لينُوفر ولا جُلنار ولا توت بري، ثم تبغي بعد ذلك بناء أعشاشها عند الحاشية مستترة أو عند المرج الذي، أو في عمق اللبلاب الشوكي غير أنها كانت للواد وللحقل أو بين الحقل وبستان الحوزة هي.

ومحيّا الربيع الطلق قد انبجس هاتكا عرض الدنيا حوله، فاليوم لا وهج ولا حر ولكن نسيم عليل يغمر الدنيا في ضي تباشير الخضرة، والسندس المتفتّق على اللوز والتفاح وقد أغدق بعبير الربيع الزاهي وقد امتزج بخرير السواقي وحفيف السنديان والسرو ذو الخضرة الأبدية حبوره، فأشفى الربوع بلحنٍ أزلي مختلجا بنسائم لا أزكى ولا أطيب، وحين الفجر تتفجر متيقظة تشدو في عليائها البلابل والشحارير ملء الوجود كأنها أعتقت من عقال إذ تحط على أغصان السندس والرُّمانات ، والهوينة تنقر الغض والصمت فيهب عنها الربيع اسمه للبرية. ومع الضحى ترى السواقي والجداول جارية والنسائم تحذوها وهي جذلى مترنّمة إلى المنبسطات الخضراء المترامية منسابة إليها من الأعالي والمرتفعات، والشمس وهاجة والظلال ممتدة تؤنس القطيع. هكذا حال الربيع وبأنفاسه الزكية فما تركت الرياحين ولأزاهر والبنفسج من ربوة ولا فسحة إلا وغزتها واكتنزت من تربتها ثم فاضت بالنسيم العليل كما يفيض آذار بدرره، وكل عام مباهج الروض الأخضر تعود فيحاء يألف فيها الطير العائد ما ظهر منه وما بطن ألوان الخمائل والزهور، حتى أعشاش النحل ألِفت قبلتها بالبرية والمرج والحقل وأطراف البستان المحاذية للدار والزريبة.


براعم و وريقات منطلقة من رشيمات مزهوة وهي اليوم شجيرات التوت والتفاح والتين والإجاص و المشمش والرمان، وهناك هناك على الربوة الغناء قبالة الدار عبقٌ كيِّسٌ وظريف كله كألحان أو مهجة روح صبي عارم ظل يحلم بعالمه المتفتق في سبع ألوان ونَهِر، له وبه يفخر؛ بنفسج غافل ولبلاب مزهر ملتف حوله وهو مكلل بالفطر الطيب الذي قبالة الأقحوان وقطر الندى ككؤوس الشذى، وزهر وسندس متعالٍ، ياسمين في الضاحية وتوليب أصفر عند الحافة وقد تفتحت أكمامها. أكثر الأزاهير المخلدة أزاهير الربيع التي تدعى الحُمَيض منحنية كمآكل شهية للبهيم المختال عبرها، و رياحين كانت وظلت متآلفة مع العصافير والفراش المُسربل حولها حتى لكاد الزمن ينتشي ألفةً " لا عبق"... وهكذا هبطت من عليائها راحة سرمدية تعلي من شأن الدار في حوزتها والبطاح التي يغدق عليها الربيع كل عام من أفضاله الحسان، ولو أن جوهر تلك السكينة التي بالريف سر قصة بدأت بعجف تبعه موات وانتهت بخضرة ونعيم تبعته حياة. قد تكون في فخامتها زهرة خفيضة تنبت ملتصقة بالثرى تدعى زهرة الربيع أو زهرة الحُمَيض وعصفور صادح إزاءها بالليل والنهار يدعى حَمر ازديرو، وساقية خريرها يثير الشم وفضول مجد قائم لا يتوانى في دوارنه، وهي تنبع قرب الزريبة عندما يفيض البئر مُتّبِعة في مجراها الأخفض فالأخفض مصيبة في طريقها بركة صغيرة جعلاها ضفدع و سلحفاة صغيران بيتهما إلى أن تدرك الجدول المحاذي للحقل.


    كانوا يقولون إن اسمى بيت وضع للناس ذاك الذي ببكة مباركا، بلى إن اسمى وأزكى أريج في الزمان والوجود ذاك الذي عبقت به الحوزة واحتضنه الحوش مهدا زكيا مصفى للأنام ؛ خليط من شذى صوف النعاج وشعر الماعز ممزوج بشذى بعرها فلكأنك حيال سمو روحي حلولي عندما تطلع إلى الحوش أو تصَّعدُ عليه بمتاريسه وعفشه القديم وكرمه وديوكه وبطه السارح يحل فردوس الرب العظيم بك، وبقايا قشور الخضراوات و النخالة مابرحت هناك أيضا مذ تركتها آخر عهدك بها؛ فيتلقفك الجمعان جمع مبعوث إلى وفِي فناء الدار وجمع من حوزته، فلكأنك إزاء ريح الجنة المختلج من عطرين أو نسمتين لم يسمو أحدهما عن الآخر إلاّ كي يلج فيه معانقة وتسبيحا، أما الجنان الذي يلي الحوش منه ساقية تجري و الكرمات الغير مزروعة لكن مطروقة متروكة قائمات مع رمّانات وفسحة حشائش وقطائف من نعنع وقُصبر مزروعة بينها، وعندما يأتي الخريف ويستقبل أديمه أول غيث السماء تنبعث منه رائحة ولا أجل ولا أسمى كنسيم الجنة هي منتشلة تعاضدها نسائم آتيات من البستان الذي يلي الجنان، فيترك الحقل وراءه مباشرة وقد ارتكز عليه بظهره وسيان عندك عندئذ أريج الزمان الطالع من فناء الدار وحوزته وأريج الثرى المنبعث عند أول لقاء للغيث بأديم الأرض العطش، فإذا وقفت بين الحد الفاصل بين البستان وجنان الحوزة فستثمل من ذلك العبير المزكّى سنة الرب في عرش جماله، هب أنك واقف حينئذ على بؤرة الزمن ومركز ثقل الكون، ثم نسيم مُبعث من جريان الساقية بين ثرى البستان المزروع حديثا، وآخر من أول لقاء للغيث بأديم أرض البستان فكأنك لم تزل نازلا على أقدس وأطهر بقعة على وجه البسيطة ماحيي زمان؛ إنه بانوراما أريج ما استنشقه خشم إنسان قبلك ولا بعدك قط.


هكذا ما كانت لتصبغ البرية على الحوزة وبستانها لونا واحدا غامقا وُهبت مع نسيم الضحى كالوحي في تجليه فطفق يبني حضارة، و وديع ، رقّت له كل النسائم حتى صعود أبريل، والآن أيها الربيع قد عرف من عرف قصتك وسيعرفها إن عاجلا أم آجلا من لم يعرفها، فكيف السبيل إليك؟


( ربما هو يقصد بالكرمات غير المزروعة كرَامات الكرم، تفهم حسب مستوى المقدرة التأويلية للقراء/ لينوفر نبات مزهر ينبت في المياه الراكدة )


 بوزيان bouziane
بواسطة : بوزيان bouziane
موقع تنويري فكري وشبه أكاديمي، يتغيا تقديم إضافات نقدية تخص تحليل الخطابات الثقافية ونظرية النقد والأدب متوسلا بجماليات التلقي والنقد الثقافي، كما يعنى بنشر إبداع قصصي جديد ليس له ما يماثله على الساحة الجزائرية، والمقال المتناول للشؤون السياسية والإعلامية والاجتماعية المقاربة للظاهرة الأدبية والمحاكية المكملة لها.
تعليقات