القائمة الرئيسية

الصفحات

قيم الإنسان بين زمن الرخاء وزمن الشدة

قيم الإنسان بين زمن الرخاء  وزمن الشدة

 بوزيان bouziane، باحث

 


    كنت في مرحلة المراهقة المتأخرة قد تعوّدت بيعَ الحمّص في سوق تدعى عند أهلها بسوق الدَّلاَّلة[1]،  أجل وبعد مدة غير بعيدة وجدتُني أبيعه في سوق الدِّلاَلة[2] ولم أفرّط، أي نعم، وبين الدَّلاّلة والدِّلاَلة سمة الشّدة وقوة قلبها للمعاني والأشياء، فذلكم الحمّص الذي كانت تنتجه الكمونة الاشتراكية الفلاحية بعفوية سخائية، والتي تدعى محليا ﺑالـ " coopérative " حتى نهاية الثمانينات في عديد القرى الفلاحية في الجزائر، حيث كان الفلاح يرمي بذوره ويمرّر الماشط فتأتي الغلة والمحصول حتى الكل يشبع، الفلاح والحكومة وحتى الناس الغَلابة تجني  وتوفّر من دون أن يعترض سبيلها أحد  وأطفال البايلك يجنون هم أيضا والطيور تجني هي الأخرى.

    ومنذ ذلك الحين ما برحنا في حلّنا وترحالنا نجول ونصول، تارة بين نص لغوي ونص آخر عددي (لوغاريتمي) وطورا  بين نص بيولوجي داخل صفوف المدرسة وعلى أعتاب نص كودي قِراءاتي آخر مُعد فقط لفك ألغازه خارج أسوار المدرسة بالضرورة، حتى ولجنا منهم إلى معاقل الفكر وأغواره الوعرة فوقفنا على خبايا العقل العربي الراهن مختبرين بجد الأدب وقضاياه التراثية والمستجدة معاﹰ والمقال الإعلامي السطحي المستكنه لأغوار الكتابة ليس إلاّ كذلكم، لنَعْرُج منهم جميعا على كل ما من شأنه أن يُجلي الغامض ويؤجّج القريحة المفاهيمية ويشحذها ولربّما إلى درجة من الدهشة والاستغراب بالنسبة لبعضهم، مُستجلين ما استطعنا إليه سبيلا من أفقٍ للتقارب والتباعد بين التفكير العقلي والتجربة الشخصية الذاتية بمعونة المنهج البحثي الحديث؛ فالسؤال الذي ما انبرى يؤرقنا هو شتّان بين قواعد النظرية المجرّدة وظروفها الباعثة على الراحة والطمأنينة لدى الباحث، أي باحث وليس الباحث العربي فقط، والواقع العملي وظروفه الباعثة على القلق والشك الدائمين في تاريخ الفكر الإنساني كله، والذي تجلّى أكثر مع بروز التيارات المتطرفة الراهنة، من هذا الجانب أو ذاك، مستنيرين أفقه الحالك ليس ﺑ"لَمبَة" منهج الشك الديكارتي أحد المناهج الطهطوية الداعية إلى إعمال العقل والشك في كل شيء.

     هذا المذهب الذي أكل عليه الدهر وشرب؛ إذ  لم يبقى من مستعمليه في وقتنا الحاضر إلاّ من يعيشون بذكرياتهم في ذلك الماضي الجميل، أو قل الزمن الجميل؛ ماضي وزمن طه حسين والعقاد وأحمد أمين، ولكن بلَمْبة التجربة الشخصية الذاتية  الاجتماعية تبَعي؛ التي تخصني في أكثر من مكان وزمان  عبر هذا الحل والترحال أيضاﹰ، فإذا كان القذافي رحمة الله عليه كان في حلّه وترحاله عبر السّفانا الإفريقية توّج نفسه ملكا على ملوكها ــــــــ وكان شخصية براغماتية اشتراكية وذرائعية تتلون كالحرباء من أجل خدمة مصالح شعبه العربي الأمازيغي المور  وحده، كان شخصية براغماتية في عالم السياسة والاقتصاد ولم يكن شخصية جدلية إلاّ في مجال الفكر والثقافة؛  لسوء حظه استسهل هذا الميدان العميق وتوهم أنه يمكن أن يخوض فيه بنجاح كما فعل مع السياسة والعسكرية، حتى وإن كان جل المفكرين يشكّكون أن الكتاب الأخضر من تأليف جماعي لمستشاريه في الشؤون الفكرية ذات الأبعاد السياسية وليس من تأليفه المطلق، وما يؤيّد هذا الطرح هو المحاضرات السطحية (التي كان ألقاها في أكثر من جامعة ومنظمة فكرية أو دينية في ليبيا وخارجها): أسلوبه في الإقناع العلمي ضعيف وحججه لا تستند إلى قواعد علمية وركائز منهجية صحيحة، ناهيك عن ميله لتبني لِأفكار الحداثة الغربية من وجهة نظر مسيحية وليست إسلامية ولا حتى حيادية، كالحوار مع الآخر(الذي تبنته الفاتيكان) ومفهوم النبوة وسماوية الديانات وغيرها، التي وسّعت الهوة بينه وبين شعبه المتعلق بتاريخه الحضاري الإسلامي، على الأقل، وعزلت مشروعه الأممي "الولايات المتحدة الإفريقية"، حتى إذا جاءت فرصة الربيع العربي، فخاطبهم محرّضا فلم يستجيبوا له ـــــــ

    فأنا اليوم قد اعتراني ما اعترى القذافي دونما تقليده ـــ تمنهجت بمنهجه البراغماتي الحداثي قبل أن أتعرف على شخصه ـــ فكان إذا خاطبهم القذافي قائلاﹰ: « من أنتم أيها الملوك حتى تكونوا ملوكا على الناس؟ » قالوا: ومن تكون أنت؟ على لسان الملك عبد الله وصدام حسين معاﹰ، فرد قائلا بنبرة الاعتزاز كعادته: «(..) فأنا اليوم الحر الثوري سليل عمر المختار وتشي ڤيفارا، سأكون ملكا على من يستعبد الناس بتملكي عليكم، تحريرا للناس من استعبادكم لهم»، فأنا اليوم كذلكم وجدتُني أقول ما قاله القذافي لكن ليس للملوك، لأني لست سياسيا ولا قائدا، بل كناقد أُعمل الفكر ممنهجاﹰ وصولاﹰ إلى حقيقة لا تسقط في المعارضات والنواقض مع المنهج البراغماتي العقلاني للوهلة الأولى، لِذا سأخاطب أساتذة الجامعات الإفريقية المتخلّفة من يحملون درجة الدكتوراه بخاصة الجزائريين في قسم اللغة العربية وآدابها. والذين قد يحملونها زورا و بهتانا ويحملون درجة البروفيسورية الشاحذة لأطنان من الأموال (ما يعادل خمس أو ست مرتبات بناء أو فلاح بسيطين وهم يعرفون أنفسهم جيدا) دون أن ينعكس علمهم وفكرهم على مستوى هذا القسم وبعضا من حلقاته وطنياﹰ على الأقل، ولا على مستوى حديث المجتمع المنقسم على نفسه بين الفرانكفونيين والمستعربين، ولا على مجتمع أساتذة اللغة العربية و آدابها أنفسهم بمدينة ابن عكنون نفسها بلسان الضاد عابدين الطريق للأجيال الجديدة لتحذو حذو الرداءة والخيلاء وإفشاء الفساد، بل الأدهى والأمر تكريسٌ الطبقية والأمر الواقع بدهاء، المتمثل في ظاهرة الجلاد والضحية: السّيد المتفحشش أو المستكبر بجاه أو شهادة علمية عليا على الذات القصيرة اليد والطالب الناوي والباحث الغاوي (بحث حقيقي) والمواطن الغلبان، الذين يرومون كلهم تقديم الأفضل لأنفسهم وبلدهم فيصطدمون بهذا البون الشاسع بين ما تقوله النظرية وما يقوله الواقع في بلدانهم. هو تعسف في توظيف المسؤولية، فما أدراك أنت إذا كنت أستاذا في أمر سقيفة بني ساعدة وما أدراك في سر ترتيب سور القرآن حتى تفاجئ به طالب من المفروض أنه ذكي بما فيه الكفاية (الماجستير) لكي يهتدي إليه بنفسه.

    غلو واستكبار يتحول إلى استبداد بل استعباد قهري ثم سلوك عادي!  وإلى سياسة فيفتي فيفتي أي اعترف بي ـــــ بضعفي ــــ وتملّقني أعطيك شهادة وأزيد! لا يوجد استعبادا وظلما كونيا أشد فتكاﹰ من الاستعباد والظلم الفكريين، أي التغليط والهروب من الواقع بالدفع الراصد المُصر: إما على الرفض وإما على تبني الأطروحة الخاطئة بصخب العاطفة وحدها، وهو ما من شأنه عزل النخبة عن فضاءها المستعرب، وعزل النخبة عن فضاءها الفرانكفوني أيضا بالتالي تنحصر الثقافة عن الطبقة الوسطى التي هي أوسع طبقة في الجزائر، والسبب هو أن النقد والتقويم يصبح غائب، وهو أساس أي نهضة و تقدم، ففي عصرنا اليوم حتى الأنبياء لم يسلموا من النقد بيد أن هناك في جامعات الجزائر مازال منهم من يعيش سنوات السبعينيات! تلك السنوات التي سمحت لدويكتر في الأدب والنقد ليس بمقدوره التفوه بجملة عربية واحدة سليمة، ولا يعرف من النقد إلاّ تلك التي تطريه وتجعله يغمط العين عن أي مستوى حقيقي مُحرج؛ يصبح بين عشية وضحاها عصاميا في مصاف الأنبياء والمُرسلين بل متألها متعاليا عن النقد السياقي وما بالك بالنقد التفكيكي أو التأويلي داخل النص الذي يكون له علاقة به[3]، لأن صاحب النص ضعيف وهو لا يرغب أن يصبح موضوعا للحقيقة ولوحده! إما عملا بالمذهب الفلسفي القائل إذا فتحتُ نافذة فأنا أفتحها تحت مسئولية الجميع! وإمّا عملا بالآية « لا تزر وازرة وزر أخرى » ويلعب التعالي النخبوي الأيديولوجي والبورجوازي المتضاد بين الفرانكفونيين والماركسيين وبين الأصوليين (المستعربين) دورا في إقصاء وتهميش الفكر العقلاني النّير الصادق مع نفسه وغيره، فيؤثر أصحابه الهجرة على الاستعباد، وتصبح الطبقة التي تحمل رصيد معرفي، التي تعمل في ميدان الفكر(أساتذة الجامعات "دكاترة في العلوم إنسانية أو الطبيعة") بما يُملى عليهم أيديولوجيا تحت قناع الوطنية، ممثلين سذّج للخطاب الديني والسياسي الأيديولوجي وليس للفكر الأكاديمي المتنور بنور المنهج العلمي وجلهم من القسم المذكور أعلاه ليس لضعف مستوى القسم مقارنة بالأقسام الأخرى فحسب، لكن كون أساتذته غرباء على التخصص نفسه، إلاّ من رحم ربك! وإذا ما تجرأ وعلّم أحدهم النقد الحقيقي لطلبته حتماﹰ ستلغى علاقة الفيفتي فيفتي بينه وبين موكليه فيُفصل.

    هذه الأيديولوجية، وهذه السياسة، في معقل من المعاقل المعوّل عليها نهوضا بالأمة، في ميدان حساس ومؤثر على كل القطاعات (مع التحفظ لنسبيته)، لأنها كلها تستقبل كوادرها منه، ألا وهو قطاع التعليم العالي والبحث العلمي؛ يأتيك منها دكتورا مختصا في اللغة والأدب ولا يعرف كيف يصيغ جملة مفيدة بعربية سليمة، أجل إنها الحقيقة التي لم تلدغ أحدا، والنسبة نسبة مفزعة يا عالم، والمروّع أنه يتباهى أنه تعلمها أباﹰ عن جد أي عن الرواد ــــــ والرواد في تاريخ الأدب العربي بالجزائر عاشوا في مرحلة تعتبر من أسوء المراحل في تاريخها العلمي والأدبي (1909-1959) واكب قحطا اقتصاديا وثقافيا وحتى سياسيا رهيبا؛ سنوات مجاعة حقيقية مع ذلك كانوا روادا! لعلّ ههنا تبدو نظرية القطيعة المعرفية الأدونيسية[4] شاكية باكية مولولة عند أقدام علماء الجزائر ومفكريها المعاصرين متوسلة أياهم أن طبّقُوني على تراثكم المعرفي الذي أنجب روادكم طبقُوني أنا في حماكم طبقُوني.. آه كم أنا أتألم طبقوني! ــــ  وهذا الدكتور الذي نعني هو دكتور بل دويكتر تخصص علوم اللغة العربية وآدابها، وليس غيرها، سيصبح بروفيسورا في مدة قياسية يطلب منك أن تحترمه وتلقي عليه السلام وتمجّده وتتملقه بالإطراء النقدي في شخصه وفي أعماله بين قوسين، أما إلقاء السلام؛ السلام في مضمونه الإنساني الشامل، ستجده كأنه لم يسمعه يعني مرفوض بالنسبة له! إذاً من أنت في ظلمك واستبدادك بحق السماء؟ حسبُك، فما أنت إلاّ دويكترٌ ولج التخصّص مستسهلاﹰ محتقرا[5] في نظر الدكتور الحقيقي، كاحتقار ملوك إفريقيا لرؤسائها، ولكل مخلوق لا تشع  منه الأُبّهة الملكية، فمن أنت حتى أتملّقك؟ بل أنظر نفسك في المرآة أولاﹰ لتتعرف على نفسك، بربّك من تكون؟ أَوَلاَ تعلم من درس الأدب المقارن أن الآخر هو انعكاس للذات؟ إني سأحقّر ذاتي وأهين إنسانيتها، حتى ولو جاملتك مجاملة الطالب لأستاذه، فضلاﹰ أني أقر بضعفي عندما أعترف بضعفك وضعف من تقاسموا ويتقاسمون معك كعككم حينئذ.

    إنّ هذا هو هدفي؛ هو تحقير " هؤلاء وأولئك " كما فعل القذافي مع ملوك إفريقيا تماما ولن يكونا ـــــــ هؤلاء وأولئك ـــــــ غير الصّنفين اللذين ذكرنا، وقد صادفتهما عمليا في الواقع لا كما ذكرتهم الكتب، فأثناء دراستي الجامعية في قسم الترجمة التقيت ليبراليين مُلحدين وفي قسم اللغة العربية التقيت بأصوليين متطرفين، وأنا الآن بصدد تتويج نفسي دكتورا عليهم بل بروفيسورا عليهم أي دكتور الدكاترة وبروفيسور الأساتذة بإصرار وترصد فمن سيمنعني؟ لِأني سأحسبُني حينئذ ثائرا حرا مثل القذافي، لكن على الجمود الفكري المُطبق، وعلى الاستغلال والاسترزاق، والتهميش والرشوة والحقرة والفساد، وتوظيف المنصب لطموحات ومرام شخصية.. ولأننا بصدد الفكر العربي الذي نعمل به وإليه وليس منه وإليه ونروم تحريرا له كمن رام الشاق العسير من الطلب، ولهؤلاء وأولئك في القسم المذكور معاﹰ نقول: من خوّل لكم تحجير الفكر وتبييء النقد هكذا وفرض حصارا وطمسا للحقائق على شعوبكم، بل من أعطاكم التفويض في التّدكتر على الناس وأنتم لم تقدموا له سوى الذل والاستعباد ثم الخمول فالانحطاط والتقوقع؟ لم تعلّموا شيئا غير ثقافة التدجين والرّضى والمهادنة ها!! يا ريت لو أنكم قمتم مرة واحة على أرجلكم وقلتم لا، لكنكم لم تقوموا ساكنين جاثمين! لِتقولوا لا للتخلف، لا لخضوع المفكر والمثقف للسياسي، أبدا. طفقتم تقاسمون طاغية السياسة وطاغية العقيدة استعبادهما وتسكتون كما تسكت المازوشية في ماخورها، متملّقين متبجحين، متمطّعين بمراكزكم أمام الأميين والمستضعفين فقط، أما الأقوياء فتنتكسون أمامهم، تبيعون أنفسكم لهم وأنتم تعلمون أنه كان قد باعهم العز ابن عبد السلام منذ عشر قرون خلت، ليت شعري، بل أنتم الأسفلون من سكرة جهلكم لا تبرحون جافلين أبدا، بلى، إنكم تشاطرون الطغيان طغيانا إذن فهل ستنطلي حيلكم الخبيثة المُحكمة الحبك على صناديد أبرياء، طامحين لكسب بشرف ما يأخذون من علوم. فمتى تدركون أنكم تشاطرون فقط وجدلياﹰ السبات والخمول والرجعية؟

    لعلّه من دواعي هذا الإدراك الخطير كذلكم فيض التجربة الخاصة المتكئة على التجلي وإمعان العقل معاﹰ، فأنا صادفت على أرض الواقع شيوعيين وملاحدة وإرهابيين أصوليين من ورثة فكر الخوارج[6] قبل أن أقرأ عنهم، وكانت قد عجّت بهم بعض حواضر الجزائر و مازالت لخاصية يمتازون بها عن غيرهم وهي العُصاب الزائد  والميل الفطري للأنانية، وكادوا أن يرموا بي في غياهب الجب أكثر من مرة حتى قبل أن أعرفهم وأقرأ فكرهم المتطرف، ذنبي أني كنت من القلائل المحسوبين على اللغة العربية وآدابها، لا أميل إذا ملت لغير سواها، كما مال إليها الطيب صالح متبنيا موقف بطله مصطفى سعيد حين رجع إلى قريته غريبا غرابة الفسّاق وحين عاش في مدينة الفسق غريبا غرابة المتدينين قائلا (أنا إنسان بسيط المتدينون يعتبرونني ماجناً والمعربدون يحسبونني متديناً) ولعلّ ما صقل هذه التجربة وسدّدها نحو هدفها هو المنهج الشّكي العقلي العلمي الحر، السليم الناجع ـــــ ولا فرق عندي هنا بين مصطلحي العلمي الحر والعلماني الحر ـــــ ولا زالا كلا الفريقين يقولان: « لا وجود للعقلانية و الحرية إلا عندنا!» فأي عقل وأي حرية تلك التي تتجاوز حرية الآخرين؟! لعلّها تتحول بذلك إلى نقيضها وتصبح تحقيرا للذات واستعباد لها جدليا.

   فعقلية جادله فجدله التي أضحت جزءً من تراث الفكر العربي وراهنه هي أبعد ما تكون عن التصور الحداثي للحرية والعقلانية، ذلك التصور الذي قاد العالم إلى ما هو عليه اليوم من تطور معرفي علمي وتقني هائل، متحدّر من مقولة الفقيه الفرنسي مونتسكيو في كتابه روح الشرائع: » تنتهي حريتك عندما تبدأ حرية الآخرين « وهي أبعد ما تكون عن احتقار الآخر، لأن من يحتقر الآخر هو المحتقر لنفسه بعيدا عن العلم وما بالك إذا احتقرها في معاقل العلم، وهي الجامعات والأكاديميات، سيكون حينئذ في مهب جنون الإصرار على التخلف لمّا ينتهز ويستغل ما لا يُنتهز ولا يُستغل وهو la logique كما يستغل الرأسمالي عامله! بذلك لا يتصور بهكذا فكر أن تقارب الشيوعية ولا الإسلام المتطرف، كليهما بأي شكل من الأشكال، التطور الحضاري الحاصل في الغرب؛ ولا نقصد بالجدلية ههنا النظرية الجدلية المادية والتاريخية بل نقصد بالجدلية المحاجة العقيمة وشدة الخصومة وثباتها بطلانا بالباطل واللغط لا أكثر، كتلك التي أجلتها مقولة أفلاطون « أيهما جاء أولا.. الدجاجة أم البيضة؟»

    يندرج ضمن هذه البنية العقلية الجدلية التي هي سمة كونية، احتقار أحد المشايخ والأساتذة الدكاترة الكبار[7] الذي درس في أمريكا ويدرّس في جامعة الخروبة في العاصمة الجزائر، للآخر في مقولته المضللة، والذي إن كشف عن شيء كشف عن حملِه لفكر أصولي مقيت، والقائل بأن الوحي حرر الإنسان من شهواته أما العقل الغربي فاستعبد الإنسان، دنّسه بجعله أسير شهواته! وهذا في معرض إجابته عن سؤال، ما مفهوم الحرية في الإسلام؟ ويضرب مثالا جدليا بامتياز قائلاﹰ: قول لا إله إلا الله هو قمة الحرية، العبودية في الإسلام هي إرادة من الله لتحرير الإنسان (ثم يستشهد بمقولة عمر ابن الخطاب المعروفة) ثم يواصل قوله: أنظروا إلى عدد البقر في الهند الوثنية التي تقدس البقر كم أصبح؟ أصبح 320 مليون بقرة تموت فتُحرق بينما نفس العدد من البشر يموتون جوعا! لكن لماذا لا تنظر حضرتك إلى عدد الخنازير في مضارب الجزائر وفجاج أريافها، كم أصبحت قطعانها المخيفة لا تفسد الزرع فقط بل تقتل البشر! من هو الأفيد لحماﹰ للجوعى عندئذ البقرة أم الخنازير؟ ها أنت دونهم في الحرية التي ادعيتها لنفسك ونفيتها عن الآخر غير المسلم، وأين غابت عنك حادثة استعباد عمر ابن الخطاب للناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟ حين جاء يسقي للرسول فرمى إناء الرجل اليهودي ووضع إناء الرسول قائلا له: لا أحد يسقي قبل رسول الله! أم أنك دون مستوى طاقة التفكير البشري ومنهجه السوي نتيجة تحرير الوحي والدكتوراه لك! بل ستثير معشر الملاحدة الفنانين[8] إثارة عصبية لا إثارة جدلية فحسب، فيروحون فاتحين قنوات اليوتيوب كي يمارسوا ما تكرهون ويردّون الصاع صاعين: يظهرون الديوثية والتخنث في غمرة رد فعل عصبي يغيب عنهم احترام الناس الآخرين ــــــ الذين من هم بحاجة للاحترام، مسلمين معتدلين كانوا أو نصارى ــــــ مثَلُهم كمثل المعلمة التي تتعرى لعشيقها المعلم أمام التلاميذ إلا كي تحرق قلب ابن طليقها السابق في الصف، وتُشفي غليلها منه، لكن ما ذنب التلاميذ الآخرين، ففي سلوكها قسوة على البراءة ما بعدها قسوة!

   وبالرجوع إلى من يعيشون على ذكريات زمن الرخاء، الزمن الجميل، سأجدُني واحدا منهم بلا أدنى شك، فأي عبق أطيب وأزكى للنفس وأريح لها من استعادة ذكرى سنوات الصبا الحالم؟ من خلال شم  عبير دون غيره أو نبتة دون غيرها أو لمح لون أرجوان أو نمنات ونقوش، كانت تسجى بها حلوى الترك الثمانينية، وإذا ما اقترنت تلك الألوان والروائح بأصوات الأم أو الأب المميزة فإنها تكون أقوى  تحفيزا وإيقاظا لتلك الذكريات التي قد علقت بها، فجاءت بها مسترسلة عند كل مصادفة؛ فهو عطر الذاكرة و لون و صوت الذاكرة و أي ذاكرة إنها ذاكرة الزمن الجميل... أذكر مرّة وأنا في حدود العاشرة من العمر كيف أحضرتُ رزمة من الحُمّص الأخضر إلى البيت، ففركته أمي رامية بالسيقان إلى المعزة ، وتناولت لأول مرة في حياتي من يديها شُربة الحمص الأخضر، والذي يقال عن الحمّص الأخضر يقال عن الفول الذي لا تزرعه الكوباراتيف بكميات كبيرة كون زراعته متاحة للقاصي والداني، بل تزرعه في شكل مربع داخل حقول القمح أو حقول لافيس/البرسيم، لأنه ببساطة كانت البلدة قروية وفي ذلك الوقت تعيش تحت رحمة أُلفة الزمن الجميل، جميع الأهالي لهم بقعة قرب منازلهم يستغلونها برمي بذور الفول هكذا عفويا ثم تمرير الفأس الماشط هم أيضا وتأتي الغلة وفيرة، وإذا ما مرّ غريب على الغلة فإن الأب يأمر الأطفال بجني الفول له كصدقة، أما إذا كان شخصا معروفا في الحي فإنه يجني من دون مشورة صاحب الفول، أنه ببساطة الزمن الجميل الذي نحِن بعد طول فراق إلى حياته الهنية وطيبة معيشته وبساطته أيّما حنين.

    أجل، كنّا نمجد الله والوطن ونباركهما أيّما تمجيد وأيّما تبريك بفيض وجداني غامر ملؤه الأخوة و المودة الإنسانية، كنّا هكذا ببساطة ننوي الخير للجميع ولا ننويه: النية تبقى في قرارة صاحبها، حتى الدعاء يبقى مهموساﹰ حتى لا يقال تشدُّق وتشهير[9] برغم من أني كنت في سن الخامسة سنوات 8119، 1982، 8319 السنوات الذهبية لذلك الزمن غير أنه مع مجيئ العام 1984 بدأ الحال في التغير، حقا، تلك السنوات الطاهرة الشريفة ما كانت لتكون لولا ظروف اقتصادية وديمُغرافية مساعدة مرّت بها الجزائر قاطبة منذ 1966 حتى العام 1984 لكن بدأت الأمور تتغير مع انخفاض مفاجئ في أسعار النفط والتحول من الاشتراكية إلى اقتصاد السوق رويدا رويدا بعد أكتوبر 1988، حتى ولم تختفي الكمونات باقتسام أدوات الإنتاج والأراضي الفلاحية بين أعضائها في القرى والبلدات النائية إلا مع بداية التسعينيات، في حين حدث ذلك في المدن والحواضر الكبرى مبكرا، غير أنّ التحول إلى اقتصاد شبه ليبرالي بدت ملامحه تظهر باختفاء أسواق الفلاح والمونوبري نهائيا، وانتفاء مظاهر الاحتفاء بالمحاصيل الكبرى، كمحصول الحمّص الذي ذكرنا فتقلصت تْويزات، وانحصر التكافل الشعبي العفوي بين الناس في القرى والمداشر، فحتى " الوعدات" وهي احتفاليات موسمية تكريساﹰ لوالي من الأولياء الصالحين بدأت تقام بين ذوات البين فقط.  

    أجل، كان إذا دخل الربيع تجد كل الناس لديهم محاصيل ربيعية وفواكه ربيعية منها الفول الربيعي الأخضر والفلفل الوفير والتين والخرُّوب، حتى لو لم تهطل الأمطار بشكل كافي، أما إذا جاء الصيف الطويل حيث يفرغ التلاميذ من المدارس والناس من أشغالهم، فالصيف عندنا لا بحر ولا رحلة  ولاهم يحزنون، فالوجهة هي حوطات وأحواز البلدة من شمالها إلى جنوبها حيث موعد جني المحصول، حمصاﹰ كان أو قمح أو ذرى، أو بطاطس وبطيخ ، بيد أن أشد لحظات  وطأة وأسرا للذاكرة إلى ذلك الزمن الجميل المختلج دوما لوجداني هو محصول الكوبارتيف من الحمّص، أجل، وكان الجني يمتد ليشمل شهر أوت كله، ربّما لأنه واكب مرحلة شديدة التأمل من صِباي. أما عن "موضة" ذلك الزمن، زمن الرخاء وزمن رحابة النفوس ورفاهيتها عن الدنايا والأحقاد الملهم من شساعة الحقول والمساحات المفتوحة على البساتين وممراتها الضيقة الساحرة المؤدية  للغابات والبراري المجاورة الممتدة، فهو البساطة وللباس التقليدي "القشّابية" و"البرنوس" وضيق بيوت الإسمنت والخرسانة مقارنة ببيوت الطوب لقلة الخلق آنذاك، حيث كانت الجزائر الاشتراكية آنذاك لا تُحصي أكثر من 15 مليون أغلبهم يقطنون المدن الكبرى. أما الموضة الأخرى فهي تْويزة وتبادل "الصدقة" بين الجيران بمناسبة وغير مناسبة، وهي إن لم تكن عشاءً أو غذاءً تقليديا كالبَغْرير أو المْسمّن بالسمن البلدي الحار، أو شخشوخة أو طبق " كسكسي" فإنها تكون عبارة عن طبق تقليدي يُملأ بقطع من خبز الدار المُسوْنج وحلويات: القريوش وتشّاراك والمقروط، وبسكويت تجاري وحفنات من التمر الرطب والكرموس أي التين المجفف. أما شيوخ مركز البلدة الأمازيغ، فما من صباح جمعة أو إثنين شَهِده صباي لم أرى فيه أحدهم يحمل إبريقين كبيرين من القهوة والحليب مع صينية مملوءة بالفطير والبسبوسة ويضعها تحت شجرة في أطراف البلدة ليقف قبالتها موجهاﹰ كل من يمر بالمكان إليها.

وعلى ذكر الموضة[10]، هل مرّ علينا القرن العشرين بدون أن يكتب صفحة تاريخية  من صفحات البشر و الناس مع الموضة..؟ كانت الموضة التي طبعت الوجوديين مع بداية الحرب العالمية الثانية هي العبث و اللهو فغدت حياة الجزائريين المفرنسين آنذاك مسكونة بلبس المعطف الطويل والقبعة الهيتشكوكية، ثم عندما أطلت مرحلة البنيوية بعدها عمّت موضة ملابس التيرڨال العريضة الفُتحات   والشعر المنسدل الطويل الرّومانسي، ثم بعدها عمّت موضة سروال اللوبية والجينز، ومع  بداية القرن اﻠ 21 أتتنا موضة السراويل المُقلفطة القصيرة مع الصاك الرجالي من مرسيليا، وبعدها بقليل وصلنا إلى موضة التفكيكيين الحقيقية وهي الجينز المقطّع واطلاق اللّحى، بدأها اللاّعب ميسي منذ العام 2014 وانتشرت حتى عمّت جميع الشباب مسلمين وغير مسلمين، رياضيين وموسيقيين وطلبة، مع أنه لا علاقة لهم بالإسلام إطلاقا، لكن ربما هو الهاجس النفسي اتجاه الشواذ التي شكّلت مواقع التواصل الاجتماعي والأنترنت حماية وفضاءً ناشطا آمنا لهم، لأن اللّحية علامة الذكورة ضد الديوثة قبل أن تكون علامة التدين والاستقامة الخلقية.

    في حقيقة الأمر أن ليسوا الشواذ في مواقع التواصل الاجتماعي (التعصب الهستيري الأعمى اتجاه الحريات الفردية) بأفضل حال من المتشددين، كونهم شكل مُقابل ووجودي للتعصب الأعمى اتجاه الحريات الجماعية مثل الحرص على إقامة المجتمع الإسلامي بأصوله القروسطية،  فكلا الفريقين هم في حيص بيص من أمرهم، ولعلّ الذي شغلنا في مواقع التواصل الاجتماعي هو ليس أمر هؤلاء وأولئك، بل أمر من اتخذ نفسه فجأة آلهة يعظمها ويجللها بل أكود أجزم أنه يكاد يعبدها عبدا، سيرا وراء آراء مغلوطة ومتطرفة تنم عن تعطش هيستري للشهرة على حساب الحقيقة العلمية أو الفكرية أو الأدبية الجمالية؛ والغالبية العظمى من فتحوا لهم مواقع ومدونات[11] أنترنتية ـــــ تكاثرت في السنتين الأخيرتين مقلقة حتى أجهزة الأمن مستنفرة فيالق المخابرات في أكثر من دولة ـــــ فمنهم من ولج في أول ولوج له قلاعاﹰ حصينة هندسة وعتادا وعدة، أقصد التي يُعنى فيها أصحابها فيما يُعنون بشؤون الفكر ودروبه الوعرة، فهم عن جهل وعدم دراية اقتحموها، اقتحموها ليُفتوا كما يُفتي الجهلة من أصحاب الشيخ الفركوس و رسلان والقرضاوي، يُفتوا في قضايا الدين والسياسة بتركيز غير مسبوق على الحداثة والإسلام كموقع أسمه موقع صحيفة المثقف، وآخر أسمه موقع الإصلاح وآخر مدونة المهتدين ومدونة أهل السنة ومدونات الجزيرة نت و" قرار إزالة" و"جيرون" وهلم جر.. ليطرق بعضهم موضوعات الإعجاز العلمي في القرآن العصية على الطرق، بل ليخلص إلى ركاكة القرآن! لعمري إن حال هؤلاء الطفيليين لمثير للشفقة حقا، وهم لأشبه ما يكونون فيها لِحال الرُّويبضة الذي تحدث عنه النبي محمد (ص مع هذا اقتحموها "المساكين" كما يقتحم الهاكرز المُخدّر الحواس لموقع نجمه المفضل! وذلك إن دل على شيء إنما يدل أولاﹰ: على انتفاء الحرية وقيمها في مجتمعاتهم، فحالهم يشبه حال الحمير التي تنعتق من الرباط ولشدة فرحها بحريتها تركض مباشرة إلى حقل القمح أو بستان الخُضار فما تفتأ أن يصيبها رجوعاﹰ إلى مكانها الأول أو رد فعل  لا يحمد عقباه، وثانياﹰ: على عدم الكفاءة و الهوس إلى تقليد المفكّرين الرواد عن نقص منهجي ومعرفي بيّن، ويكفينا دليلاﹰ على ذلك، استقاء حكمة من اعوجاج عنق وساق السنبلة المثمرة لدرجة أنها تُطوى داسةً رأسها المثقل بالحب بين أخواتها فتحفظ حياتها وكرامتها. بينما السنبلة الخاوية ترفع رأسها عالية بين أخواتها حتى تجثّها الرّيح أو يطوي بها الطير.

    لعلّه سيقودنا راهن اليوم المكهرب بين هؤلاء وأولئك الذي زادته استقطابا حرية وأمان مواقع التواصل الاجتماعي إلى اقتراح حلولاﹰ، من منطلق حِسِّنا النقدي والحاجة لشهادة شاهد من أهلها، شهد ذلك الزمن الجميل المتسم بالصفاء والسماحة، فلو أن نبي الإسلام محمد (ص) عاد إلى الحياة ثانية لخلّص العالم من هذا الاستقطاب، الذي أصبح حادا بين الإسلام والعلم ولفرّج عن كربة الضعفاء كونهم هم أول من يتحمل مشاق الأزمة المزمنة تلك. لا شك في أن النبي سينزع حينها في الناس مُخاطبا: « ما أنا بينكم سوى بشر، يخطئ كما يخطئ البشر.. وطبقا لِما أعلمتنيه ملائكة الرحمن، لا بد من أن تعلموا أن هناك زلل ترتب عن زيغ في تأويل قوله تعالى (يبدأ في تأويل جديد لجميع الآيات المتشابهات التي تسببت في تخلف المسلمين) مبتدئا بقوله: « وَأعدوا لَهُم لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به.. » مرجعا إياها إلى الحقيقة التي نزلت بها « وأُبْدُوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به..» مذكرا أن الإعداد هو غير الإبداء الذي من ورائه يرجى التخويف قصد الدفاع لا غير، لا التّجهز الحقيقي المنطوي على الهجوم.

 أما قوله تعالى " من يتّبع غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين" فديناﹰ هنا نقلها إليَ جبرائيل خطأً بل هي ليناﹰ أي اتّبع الإسلام باللين وللهو. وتأويل قوله تعالى: « وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين » أيضا والحقيقة أني ما بُعثت للعالمَين إلاّ بمعنى  وصف لحدود بعثتي داخل شبه الجزيرة العربية، المحصورة بعالمَين بحريين؛ عالم الشرق الشمالي (الفرس والوثنيين) وعالم الغرب الجنوبي (مسيحيين ويهود) أما قوله تعالى: « وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا.. » فقد أوّلناه زللاﹰ[12] أيضا فالمقصود بالناس هم أهل الجزيرة العربية فقط، فلو كان جلّت قدرته يقصد الكون كله لجاز له أن يقول "إن أرسلناك للبشر كافة.." وقد أعلمني ربي عن طريق ملائكته الكرام، أنه كل مسلم يكفّر أخاه في الإنسانية ويدنّسه يجرّم ويحبس، أما الآيات الدالة على ذلك والتي سبق وأن أولناها خطئا فسنتناولها بالشرح هي وآية الكلالة وإياكم في مواعيدنا اللاحقة وبعد أن آخذ قسط من الراحة، والسلام على من اتّبع الهدى من على لسان رسوله مباشرة، وكذلك يَجتبِيك رَبُك ويعلمكَ من تَأويل الأحادِيث» انتهى كلام رسول الله (ص).

    فالسنّة النبوية الشريفة، ممثَّلة في أقوال الرسول (ص) آنذاك، هي تعبير عن فهمه الخاص لآيات نص القرآن، وليست أقواله وَحْياً، كما اعتقد الفقهاء، فجعلوا السنّة من مرتبة القرآن[13]، وهكذا تزول الشّدة بقراءة النبي الجديدة فلا يضل المؤمنون بعده أبدا، برسمه حدود جديدة الإسلام وتأمينه للآخر يحدث انفراج في العلاقات الدولية، تنتهي أزمة الشرق مع الغرب، ويتوقف عنف السلفية والإرهاب المنسوب إلى الإسلام إلى غير رجعة، ويُقبر الصراع العربي الإسرائيلي وصراع التراث مع الحداثة إلى الأبد، وتضمحل الجنايات الأخلاقية في عالم ما كان يعرف باسم "العالم الإسلامي" حتى تنتهي. لكن قد يقول قائل لن يحدث ذلك أبدا لأن إرادة الخالق أرادت الاختلاف (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) نقول بل سيحدث وعندما يحدث لا يحدث بمنتهى التمام، يعني دائما تبقى النسبة المتطرفة القليلة، وهي المعنية في قوله أعلاه، ذلك أنه لم ينمو ويتطور علم التأويل كعلم معاصر سديد إلا عندما وجد سنده في تطور الفكر النقدي الحديث في شاكلة مدرسة فرانكفورت التي أفرزت نظرية القراءة، فتعدد القراءة كما يقول بول ريكور وحدها كفيلة بأن تخلق حيوية التأويل لتناسل المعنى: "سوف انطلق من التعريف الذي يعتبر الهيرمينوطيقا فنا لتأويل النصوص، فعندما تؤدي المسافة الجغرافية والتاريخية والثقافية التي تفصل النص عن القارئ إلى وضعية انعدام الفهم، .. وبهذا الشرط الأساسي يغدو التأويل باعتباره موضوعا مركزيا للهيرمينوطيقا نظرية للمعنى المتعدد"[14]   

    لعلّنا في ختام مقالنا نكون قد وصلنا إلى فكرتين رئيسيتين وجليلتين، ولعلّ فهمهما يجلي بعض الحقيقة التي نصبو إليها جميعا، الفكرة الأولى هو أنه لا بد من إقصاء الفكر المتطرف و تهميشه سواء كان مصدره الشرق أو الغرب؛ أي كان مصدره الدين الإسلامي أو المذهب الفلسفي الذي ترعرع في أحضان الروس ــــــ وشكّل لحقبة من زمن صراعا عقديا خالقا أزمات جدلية لم تفضي إلى شيء، بل أفضى إلى نوع من التراجع كالذي حدث مع الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة ــــــ وروسيا اليوم ليست كروسيا الأمس صحيح هي بلاد شرقية لكن من ينظر لخريطتها يجد القسم الأهم الذي يحوي عاصمتها يندرج ضمن نطاق أروبا، أي الغرب. أما الفكرة الثانية فهي أنه بعدما أصبح الشرق والغرب خاليان من مظاهر التطرف دينيا كان أو مذهبيا، جاز النظر حينئذ للدين الإسلامي وللحداثة الغربية في جوهرهما وليس إلى قشورهما التي علقت بهما فنحن ههنا قد عزلناها فرضا وعزلناها واقعا أيضا: بالاحتكام إلى دين إسلامي جديد لا دخل لنا في صحة سماويته من عدمها في شيء، المهم فيه هو كيف يُنظر إلى الإنسان المنتمي إليه والإنسان الذي لا ينتمي إليه، أي كيف ينظر إلى الآخر، وهذا كي نقارنه بالحداثة الغربية التي نزعت القداسة عن الإنسان وأعطتها لعقل الإنسان، منذ القرن الرابع عشر فكان الانعتاق، بينما ظل الإسلام يقدس الإنسان من جانبه الروحي، الإنسان أكمل التجليات كما يقول ابن عربي اجتمعت فيه النفخة الإلهية والطين؛ الإنسان الذي يُعمِل قِوَى التجربة الروحية لا قِوى العقل فراوح زمانه ومكانه، وراوده التخلف من كل حدب وصوب. ليت شعري، أخشى أن الزعيم الليبي الراحل لم يتملّك على ملوك إفريقيا إلاّ لهذا السبب ولم ﻳتدكتر زياد بوزيان على دكاترة إفريقيا[15] إلاّ للشأن ذاته أيضا.

   وأخيرا وليس آخرا قد يقول قائل: خَسارة، أنت ما كان عليك بيع حمصا في سوق الدلّالة بل بيعه في..، نقول له: لم تعي مقالنا هذا، ومازلت تكرر نفس الأخطاء الواقع فيها أترابك من المثقفين بثقافة أخْطِي راسْي وnewlook السطحية المعاصرة، لأني ما كنت لأبيع حمصا في سوق الدِّلالة قط لو لم أبيعه يوما في سوق الدَّلَّالا، أجل فاللحظة الحاسمة في التاريخ مدينة للحظة السابقة دوما، كما الرخاء مدين للشدة.



[1] - سوق الدَّلاَّلة أو الدّلاّلا هي سوق خاصة بالنساء الجزائريات اللواتي يبعن فيها ذهبهن وحليهن.

[2] ـ الأدب بتوابعه أو دعنا نسميه بمصطلح حداثي بالخطاب الأدبي وتوابعه لا يشترى، فهو قيد تجربة صاحبه الذاتية، فهو إنساني يباع ولا يشترى قط. وعند الحديث عن ماهية اللغة وماهية الأدب يجب عدم الاكتفاء بإجراءات الماهية، بل بمعايشة الماهية نفسها؛ أن يُعاش الأدب والنقد لحظته الوجودية الإنسانية في الوقت الذي يدرس ويحلل برصد تمفصلاته الماهيتية والبنيوية. ولولا هذا لما كان يصل دي سوسير إلى التفرقة بين الكلام واللسان وقبله عبد القاهر وابن جني، ولما صار الحديث عن الأسلوب أمرا ممكنا.

[3] - قبل الحديث عن رعاية أغلب هؤلاء الأساتذة للأبحاث والدراسات ومذكرات التخرج التي توظف المناهج البنيوية دون سواها لأنها تعزل التحليل الواقعي الخارجي عن النص، ولأن التفكيكية والمنهج التاريخي والنفسي والمعياري يضع الأستاذ نفسه في موقع محرج أمام طلبته!؛ لابد من الحديث عن اللغة التي يتكلمها هؤلاء الجزائريين والذين يكتبون بها شيئا اسمه أدب، أهي لغة عربية حقا كلغة أهل المشرق العربي؟ ولا بد إذن من المنهج المعياري في نقد هذه اللغة قبل نقد الأدب.

[4] - نظرية إحداث القطيعة المعرفية مع التراث المغالي في تقديس الجوانب الروحية في سبيل إحداث الوثبة المعرفية الحداثية.

[5] - إما لأنه يعيش وسط طبقة فرانكفونية التي تمقت كل شيء له صلة بالعربية، وهذا حال المدن الكبرى بالجزائر فيعمد حينئذ على معايشة التخصص والتكيف معه.  وإما أن يجده صاحبه التخصص الملائم مقارن بعلم الاجتماع أو الفلسفة أو علم النفس ظانا أنه ميدان الشعر والرواية سهل لبلوغ المأرب، أي الدكتوراه، وإذا حصل وأن صادف عكس ما توقع فانه ينقلب عليه بالحيلة والتماس السبل غير الأخلاقية كالغش والمحاصصة واقتسام المنفعة وغيرها من الطرق الملتوية التي تخرجه باحثا دكتورا بالاسم فقط.

[6] - الخوارج اسم أطلقه مخالفوا فرقة قديمة محسوبة على الإسلام  كانوا يسمون أنفسهم بـ"أهل الأيمان"، ظهرت في السنوات الأخيرة من خلافة الصحابي عثمان بن عفان، واشتهرت بالخروج على علي بن أبي طالب بعد معركة صفين سنة 37هـ؛ لرفضهم التحكيم بعد أن عرضوه عليه. وقد ارتبط الخوارج على مدى تاريخهم بالمغالاة في معتقداتها الدينية وبالتكفير والتطرف. وأهم عقائدهم : تكفير أصحاب الكبائر، ويقولون بتخليدهم في النار، ويكفرون عثمان وعلي وطلحة والزبير وعائشة ، ويقولون بالخروج على الحكام الظالمين والفاسقين، وهم فرق شتى، وقد وصفهم نبي الإسلام بأنهم كلاب أهل النار. ينظر محمد بن علي الشوكاني: الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني، الجزء1، ص856. 

[7] - هو الأستاذ الباحث في التراث الإسلامي محمد بلغيث أدلى بحديثه في معرض حصة إذاعية "حديث في الفكر والثقافة " من إعداد الإذاعة الجزائرية القناة الأولى، بثت يوم 29/1/2017، الساعةh 21 .

[8] - ذكرنا الملاحدة الفنانين ولم نذكر الملاحدة العلماء لأن مجال عملهم يجعلهم الأجرأ على إظهار تخنثهم، حتى منهم من ينشر صوره التخنثية والديوثية اليوتيوبية تحت قناع، ليس لشيء إلا كي يغيظ المسلمين ويفقدهم صوابهم...من هم في شاكلة المشايخ القائلين بأن لا حرية خارج الاعتقاد.

[9] - بعض مناطق سكان الجزائر الداخلية البعيدة عن الاحتكاك بالمدن الكبيرة والتأثيرات التي تأتيها من الخارج، كانت بمعزل عن الحركات الإسلامية المستجدة آنذاك في أفغانستان ومصر والسودان بحيث كان الأهالي ينظرون إليها بازدراء وغرابة ويساوون بينها والمستعمر الفرنسي بل بينها وبين حالات الجنون التي تعتري الإنسان فتجعله يطلق لحيته ويرتدي ثيابا خشنة وكثيرة، لذلك فإن نفوس هذه المناطق في السبعينات والثمانينات كان يغمرها الإسلام الصوفي السمح دون أن يعلموا بأن أخلاقهم تلك صوفية! يميزهم هدوء وطيبة وحمد وقناعة وإقبال على العمل لأجل العمل، أخوة وإحسان وأخلاق مستمدة من الإسلام لكنها معتدلة لا إكراه ولا ترهيب واحْنا مْسَلمين ومكتفين دون أن يمقت الأب ابنه أو الجار جاره إن هو ارتكب فاحشة أو جريمة، بل كل ما في الأمر هو أن يأخذه عند الحراز ويكتب له حرزا ويلقى شفاءً وتعود الحياة إلى سابق عهدها.. هكذا كانت الحياة في ربوع الجزائر القصية، وكان فيض من استجابة علوية غامرة كنتيجة مباشرة لذلك الصفاء ألا وهو سقوط للغيث دون أن يوقع أضرارا كما هو حاصل الآن؛ يبيت الغيث يتساقط مدرارا وفي الصباح تنقشع الغيوم ويطلع الناس لأعمالهم ودون مطاريات وكأنه كان غيث أحلام! كنا نعي ما نقول عندما قلنا أننا اشتقنا إليها كثيرا. وإن هناك نوعا من النزعة الإنسانية يمكن أن تقف ضد الأيديولوجيا ومهما كانت، حتى النوع المقابل من النزعة الإنسانية أيضا والابتزاز التهديدي للتنوير/الحداثة؛ أي إما قبول التنوير والبقاء في سياق تراثه العقلاني، أو في الهروب من مبادئه العقلانية. بينما الذات كما يقول فوكو امتداد للتنوير/الحداثة، لذا وجب التوجه نحو ما لم يعد مهما لتشكيل ذواتنا، كذوات مستقلة الإرادة. وهو لا يرى مانعا من المزج بين التنوير والنزعة الإنسانية التي وضعت أملها بالعلم لأنها تؤمن بالاختلاف والتعدد وبالتحول، والتي وقفت بالضد للنزعة الإنسانية بوصفها مذهبا معارضا (تركز على القيمي والميتافيزيقي وتعادي العلم) وإذا كانت سلبية هذه النزعة أنها طرية ومتقلبة كما يذكر فوكو فيمكن لجمها بالقانون أي أن يسايرها التنوير، ينظر ميشيل فوكو، ما التنوير؟، ترجمة كريم الجاف، ص 257.

[10] - أكدت الدراسات السيميائية للموضة مع المفكرين البنيويين رولان بارث وكلود ليفي شتراوس أنه لا وجود لمعنى ثابت في الكون فالأبستمولوجيا تجدد النظرية العلمية ونفسها باستمرار، والثقافة سائرة إلى لا ثبات وتشظي دائم نتيجة تشظي بنية العقل وتوالد المعاني، وهو ما أدى بجاك دريدا الجزائري المولد إلى التبشير بالتفكيكية كمذهب ومنهج فكري بديل للبنيوية في بداية ستينيات القرن الماضي..

[11] - المطّلع عل هذه المدونات الإلكترونية سيجد أن جلها أغلقت وهجرها أصحابها بعد مدة ليس لأعباء مالية فقط، بل أيضا أن أصحابها يشتغلون في وظائف مختلفة تماما عن تخصصهم فينسون بالتقادم ما تعلموه، حتى يصبح حامل شهادة الماجستير منهم غير قادر على تحرير فقرة بسيطة.

[12] ـ والزلل غير الخطأ، قد يقع فيه حتى الأنبياء المعصُومين نتيجة عوامل نفسية وظروف استراتيجية كما حدث مع النبي محمد إثر حادثة الغرانيق المذكورة في القرآن، من تلك الظروف التيسير على البشر لأنه الأصل في خلقتهم بإعطائهم لا الأخذ منهم، فحين كان الروم المعاصرين للرسالة المحمدية في ضعف وتشتت والصينيون كذلك تقريبا ولا يُخشون ناهيك أنهم بعيدون جدا كان النبي يؤول القرآن لغير العرب تأويلا يأخذ بعين الاعتبار مستواهم الاقتصادي والطبقي، فإذا كانوا فقراء أغلظ عليهم قليلا لأنه ليس لهم ما يفقدونه من جاه ونسب (بالتالي كرامة نفسية) بدخولهم في الإسلام بل بالعكس ربما ينالون منفعة اقتصادية كبيرة منه، أما لو كان العكس فنخشى أن النبي كان سيُغير من استراتيجيته اتجاههم بمباركة إلهية وباللين والرفق وتأويل القرآن لهم تأويلا يجعلهم يحافظون على جاههم وقوتهم و عزهم الكبير الذي يفوق العرب. أما في عصرنا ففعلا هناك أقوام وشعوب كثيرة تفوق العرب غنًا وتقدُّما فنخال أنه سيأتي بالتأويل المذكور أعلاه استراتيجيا. 

[13] - مجلة الاجتهاد والتجديد: نقد الفقه الإسلامي عند الصادق النيهوم من مسؤولية أداء الشعائر إلى مسؤولية الأمور الدنيوية، العدد 45 ، لبنان، شتاء 2018، ص82.

[14] ـ بول ريكور: البلاغة، الشعرية، الهيرمينوطيقا، أوان، العدد 9، فبراير 2005، ص112.

[15] - نقصد بعض دكاترة الجزائر، وإنما التمسنا إفريقيا لتطابق مقولة القذافي ملك ملوك إفريقيا لا غير.

author-img
موقع تنويري فكري وشبه أكاديمي، يتغيا تقديم إضافات نقدية تخص تحليل الخطابات الثقافية ونظرية النقد والأدب متوسلا بجماليات التلقي والنقد الثقافي، كما يعنى بنشر إبداع قصصي جديد ليس له ما يماثله على الساحة الجزائرية، والمقال المتناول للشؤون السياسية والإعلامية والاجتماعية المقاربة للظاهرة الأدبية والمحاكية المكملة لها.

تعليقات