القائمة الرئيسية

الصفحات

‏ ذكريات من وحي البْحِيرة ‏


  بوزيان بغلول

    

ذكريات من وحي البْحِيرة

 

    

  في يوم من أيام الربيع، هناك حيث الشرق البعيد تجلّت هالة نجمية قالوا أنها سليلة السّماء الأُلى ودُعيت من حينها "بنت النجم". تمكنت واستوت حتى قبضت على ﺃرواح السماء الدُّنيا جميعها ثم ﺃلقت بهم إلى نهر الخلود، قربانا لملك الملوك، سيد الأرواح وملهم النور، لينتشلها من هاجس الرِّق وليعلوا بها مصاف اﻵبِدين لكن يحصُل وﺃن انفلت بعض نور، ثمًةَ شيء قد بُعث في المغرب.. ﺃطلقوا صراحَه. هيئُوه للغد الجديد، هكذا نفرّج عن الموت ونفلِّق قلب الحياة ثم نضبط الوقت إلى حين قال صاحب العظمة الجاثم فوق الربيع، الواقف على ثرى الخريف، المستتر في الجميع.

   أيها الضّيف المُبجًل لوعةٌ عارمة تجتاحني في الرُّكن الذي ﺃنا فيه، إلى ماضٍ في فجري الذّبيح، ﺃنوي النّواح في دارك ﻷِستقيم أو ﻷِتطلّع إلى الوقت الحي نفسا نفسا، والمُزركش، والدياجير، وشُطآن الرحمة الغائرة في منفاك البعيد. ﺃتلوى في قبضة زعانف مُقرفة ﺃنا لذا سأنزل القِفار الآن مركبا وجناح وﺃنتشر إليك، ﺃشرب المرفأ وﺃعبد الطريق حتى أهتدي إلى الدار.

   رهابنة الدِّير اسعَوا لبُّو النداء، رحمةﹰ بالماجن[1] والغدير وجحافل تطير، فأنا ما سرت إلى التَّليد في نفسي؛ روح الصغير يهفُو حتى استنار لي الطريق زماناﹰ مهودجا مُباح، وقامت الفراشات إلى القرنفل الوضًاح تغسل الرّبيع وتفُك قيدهُ والينابيع، وراحت خلوةٌ عن بكرة أبيها تصحبُه لقطف الحرير. ﺃملٌ ساطعٌ ونفرٌ قاعدين عند العتيد الأخير. وتأجج حين المُستقر ليطلُبَ المستحيل؛ ينطلق نحو "البْحِيرة" ليغرس شُجيرة وفَسيلة ويسقي حنيناﹰ ﺃرض المبجّلين من أمثاله... دار الخلود ﺃين ﺃبي وﺃمي؟ تركتهم ههنا حيث المشهد العزيز، عبر الباب، عند مَفرق الشّمس، على الأدرج، ها أنا اﻵن قد عدت لأِتوارى خلفهما وأثبت لأنبُت من جديد.. كم أجازني الناموس عندما نكرني الفرض! وفي مكر ودهاءٍ خبيث.

  بيت الدنيا والدين! لم تعد لي قوائم فضيلة! فقد غزت أفرادها حصون الأفئدة فارتبكت لأجلها سنون الزمهرير، لا مناص من أقف إلى الكانون وقوداً مستعيرا، ويقودوني الرّذاذ إلى وكرٍ مُشتعل كبير وآخر مُكتنز صغير. عند ﺃطراف الغاب وكرٌ لي فيه ثعلوب يقرضُ الأشجان والأشجار وينحني للشتاء، يزورني حين المساء عند المُحتطب أعلى الواد لما أنكّس الأعلام، للصبابة عنده ألف حكاية يرويها عويلا في استحياء، وإذا ما انكبّ العشق الجنوني على مصراعَيْهِ نعود وعلى أمل في لقاء، نلهث وراء مسيرة الضباب، بالفأس نُهشم الأعواد، نتركُها للزَّريبة تقتلع حُضنها كيفما تشاء، ويحيا الصبي في حلمِ الغناء ونجمة الدفء الغريبة تغزوه، في هدوء تَسكُن الثلوج.. تنطلق به إلى المجمرة، تخبئهُ في روحها، وتحكيه.. تنفيه إلى البعيد البعيد، تزهو لهُ تعلِمهُ، تقص عليه قصة الزمردي وأبو حناء فيطرقُه الدّوار، يحِن،.. يهرع للشُّباك.. يشتاق إلى اللوزة[2] مقبرة الألحان ومرتع بعض الخلود، يعد الأعشاش واللآلئ ثم يُطبِق في هدأة كانون. هو الذي ينتعش اﻵن وينأى بروحه عالما من الشرور ويحلُم يحلُم كي يعود إلى الخلاء الفسيح.. إلى النّبض "البْحِيرة".

   مُنية الرُّوح تخشعُ للخلاص، تعبُد الوهج المنكسر في جوفه، بين ضُلوعه قطرٌ متهاوي ينجو به "قلب الربيع" فيزدان فجر محبّة في ذاته. هكذا حدثني من وحي عبير الأكاليل والندَّى المزدهر.. عند مسقط رأسي الموكب الجليل، غدا أقطف ديني وأشمُّه وأحمل نعشي على وردة سلام، وحتى النخاع موغل في المنبسط الأخضر ذاك، أنهل الحنين، أتفرغ للورود، أضمُّها لمجدي، ألحق بالحقل، أطوف، أقفز، أتمرغ وسْطَ الفول، أحتمي بذكراك وملمس الفضاء منغمس فيَّا.. وفي قبضة حشيش، وأغوص وأُفضي بسري إلى جنة القرار الخضراء، وإذا ما رأيتك عَود السِّي عيسى[3] أهرع إلى البتلاَّت أستحم بطلع هواها الشذي، أخشى أن تصيبني تعويذة عالم مسحور، لكن لا أبالي حديقة الأرواح فضفاضة منثورة في جسدي الصغير، الرائع تسبيحة المُلك تزحفُ نحو الأمام تجرُني إلى القدر المحتوم: سِرْ فإنا ههنا ممهدون، سر ربيعا، سر ضيفا، سر مدللا، سر موكب أنس.

   هكذا فرِحت لك السنابل، وغنَّت لك الأنجاد والطلول، فالأسعى إذن زنبقةً حرّة إلى الريف.. موطني "البْحِيرة"، اليوم غمرة صبي، غداً لوعة فراق، بربِّي ستائرٌ من الغفلة ستحمي شُعلتك فلِما لا أشعل كل خصب وأغفل، وأذوق كل يانع مستساغ وأنهل، فأين اﻵن الزناد لأزيد حفنة التراب المُسغب حُرقة عن حرقة.

  أيها المعبدُ المستكين الملجأ إليك حوطةٌ ونذير. أنا بركة عائمة في صدري وقصة حافل يريد المدرسة لكن لا، يُعيبها، يُدرك لوعة الفراق، فراق المُغرِّد العندليب، فراق اللوزة ، فراق الأغصان... فراق الأشجان، فراق الصغير الضفدع الأخضر الجوال... أخشى أنه يقول بأني إلى الآن  لن أكبر إلاً بلسماﹰ وشَّاج؛ عُصفورا حراً سأبقى لقطر الندى مرتشفاﹰ، للفراش مسترسلاﹰﹰ، للنجم، لِعيدان القصب، للمخدع ، للسواقي، للأنين، للخفاق بجناحَيه، للخفاق بفؤاده، للرًب، للصبح وللوهم المُغدق، للغد الساحر و للدار تلك ولأمي وللكل فجر أنا وملاذ، وأجيش الوكر الكبير من مشرقِه الزًريبة مستطابة لي رائحة ثراها، والمَنقَب[4]، والنُّخالة ووشائج الألوان.

   أحكي اليوم التوحُد معبدُ سرِّي، نافذٌ متطلعٌ للولوج، ومن فوق جروح قابع بين السماء والأرض. مشتاق لسرمدية تنثر كياني في شموخ زفيري. حقاً ضباب ساقية في جوفي ورياح. أمي الضّباب الضّباب، ورعشة تهزني فحضِّري الموقد، يود الرَّبيع لو يفنى في حضرة المستبد ﺃنا لكن ينتظرني يُعلمني الفداء. نقتُل اليوم نهارهُ الأخير، بعد هُنيهات نلمح جنازتُه تبكيها العروش: الجوى، الشفق المشتعل، اللّوم، الطير والماضي الكئيب.

 .. وتمضي أيامه كأنها معلقة على شجرة خلد خروبية، في حلاوة وعذاب، بين الخمائل والدروب والمجاري تشكو الضيق، تبغي الفرار إلى المستنقع النائم شمال الوطن العزيز. وبحق التّيار، اﻵن لو أسبح ضد النّجاة لأرتفع إلى التيار بيدِ ممدودة للسماء تبغي علق[5] الساقية تهمع فيه وفيَّا رغبة جامحة هي روعة انتظار تتمنى اكتساحا جدوليا منقطع النظير. طحالب معلقة بالعلق أم علق معلق بالطحالب؟ خميسين منقادين للزوال أم أنا والأزرق نقبل رائحة الموت؟ لا بالأحرى يدٌ مقبضة بالحياة وأخرى بزرقة مشتهاة. إنها أزلية الصراع؛ يد العلق الخفية والصّخر المتشبث بالطُّحلب الكل رابضٌ مزرورقٌ في سمة فناء مبني للمجهول.

   رائحةُ الوجود تلك التي أشم أم سرها الفاني من هذا الوجود؟ أنا أخضر سأبقى مُعلق كالعلق مُتشبث بالأزرق، أستقي كُنهي من روح الطُّحلب المُتعفن، وسأفضح مؤامرة الركود لا أؤمن بالمستحيل، أتبع الساقية إلى آخر مجراها ثم أعود، أتبع حضارة الشمس إلى منتهاها وأعود لأتحكَّم في المسار وأنتهي.. أختفي.. أنطفي في الدار.. في الوجود.

   اﻵن الوقفة المجنّحة، حوالَيْ طلقات كأنها الصُّداح، ونائية أخرى مستمرة في الانزواء كأنها بنت نجمٍ آخر، إنه تحليقٌ حولها في حلقات، وفي مدد ومدد، إلى حيث نُسيمات منتقاة من ثرى الربيع كي تحملني والأمواج إلى الغفيرة روحي، أتابع الصقيع والدُّرر الكامنات خلف الزَّخات، كمن صُعد بِهِ مغتادا والبرق راعداً إلى الأعالي الشاهقات حيث الأفق الرَّحبة أُفق المطر البعيد في ذاك المغرب المشرئِب يمتزج مداه بالمازوت وينحصر فيه السواد، الماكنة والفوسفات، لكن ماذا إن هو تعكر صفو الولوج؟ أمي حينئذ وأبي فلن أُطيل المكوث، فقرب التينة[6] سقسقة علَّها صفت لحبَّة فوسفات[7] أو ﺃنها صفت بالروح كي تهيم لأيلول، ما أسعد التيه فيكَ أسطورة أيلول، بين اللحظة واللحظة فيكَ زمن متدحرجٌ إلى الخلود؛ في رفيقي الصبي أنا المتجاسر تحت مظلة التاريخ؛ الموغل دوما في المُخملي وفي الرّمادي وفي الفُتات. في الوحدة المُضنية، في المضجع النّبيل يسأل عنك خريف الذكريات، يصعد السفرجلية[8] كي لا يَبين، يرحل في تلوية كأنها استراحة ألوية هي ومبعث مجد قريب، وينشدُ ينشد للكروم ملبيا معهُ نداء الطرقات وأنساق أنساق وراء الوريقات المختفيات كالذكريات متناثرات عبر الأزمنة المختليات بي خريفا متربص لكن مداوم لأسطورة عصافير وهي ترقص إذَّاك على مرقصها الكئيب وتداعب الأنين تُناجي ذَينك المساء الحزين، وتمسح دموع الحفيف على شُطآن الصنوبر المنسم قدرا ونواح.. حواليكِ بشرٌ أيتها العصافير نافرٌ لكن من جحيم فوداعا حنين، قد حان الرحيل لمتاهات المنبسط اﻵخر فصلا خلابا على مرج المروج علني أجد لي مساءاً آخر مندحر ككل مساء! وليهُمَّ بالرجوع معي من أفق الشفق الأحمر إلى أفق النّجم الأُلى.

    أيّها المعبدُ شفقاً أحمر خافت أوتدلني على أرض لا تموت؟ لكي أتدلى فيها من عرقُوبي وأستنسخ فيها جُدودي، أتباها فيها بشيء يدعُونه الخُلود! كيف لا معبدي ساحةَ الجُدود؟ وأنعام اليوم إذ تعود إلى روضة الشَّم، وحيٌ على طريق مستل من أُلى يسمو إلى الحي النّبيل معها، تُقبِّل أرواحها روحاً شُغفت بوطني والمساء دُعي جار النجم، انزوى وحتى صار، استقر تحت رحمة كبدِ الغدِ الموحش في القدم ثم صار... سأُخضِعُكِ في ذاكرتي "البْحِيرة" إذن وأذُرُّ عليكِ رماد الموقد المفتونِ بكِ، وروحهُ التي هي روحي أنثُرها في موكب عزائُك أيها المساء المستفحل طفلا غضا يجنح فيَّا حلمهُ بل صار حلمهُ أزليا لما صار.

 انطواء، أقفاص، عبور ثم عودة إلى التسامي، وجُوه شموسِﹺ آيلة للزوال تنحني كل مساء للأوراق مُستعطفة أمصاري من على حوافِ الدُّروب والممرات.. اﻵن إليك ملك الرّوعة النادرة ألقيت قدري فخلّصني من براثِن حضارة المُرتزقة، أنقذني من ورائية مترفة، من مرجعية منبطحة غازية حقودة ذلولة. مِل بِي إلى الأنا الخالد ولا تسأل إن كنت بعده أضيع أو أضيع.

   مُذ ولجتَ معبد الأرواح فُضتَ روحين، روح فتيّة بيضاء سلسة كحمامة سلام وروح أخرى عارمة تحمل آية الخريف.. وآية مبجَّل صغير يقف يصف الجنة لِأمه وأبيه، ثم يقعد سعيدا وسط أشجان ومتاريس مقيدا خلاصهُ زُهداً، طارقاً باب العودة إلى حضنه الأول بقلب هو ليس قلبه ومُنثال انثيال ساقيةَ بستان، ساطع نجم روح راهب، غير آبه بأنوار العبودية مبتدعة كانت أو عتيقة قرب دار الأبدية، دار الحنان الدائم، دار الطفولة الأولى، هم وحدهم يفيضُون إليكِ أيتها الدار، المبجَّلون هم أيتها الرَّبيع.

 



[1] - حوض كبير من الحديد الصلب تجمع فيه المياه للغسل والسقي.

[2] - شجرة اللوز.

[3] - عود السي عيسى: جرادة خضراء كبيرة من يؤذيها في عرف الأطفال تصبه اللعنة.

[4] - مكان يخصص لأغذية الدواجن.

[5] -  حيوان من الدود الحلقيات. أكثره يعيش في المياه الحُلْوة كالسواقي.

[6] - شجرة التين.

[7] - أكياس سماد الفوسفات لتخصيب التربة عادة ما تكدّس على أطراف البساتين.

[8] - شجرة السفرجل.

author-img
موقع تنويري فكري وشبه أكاديمي، يتغيا تقديم إضافات نقدية تخص تحليل الخطابات الثقافية ونظرية النقد والأدب متوسلا بجماليات التلقي والنقد الثقافي، كما يعنى بنشر إبداع قصصي جديد ليس له ما يماثله على الساحة الجزائرية، والمقال المتناول للشؤون السياسية والإعلامية والاجتماعية المقاربة للظاهرة الأدبية والمحاكية المكملة لها.

تعليقات