القائمة الرئيسية

الصفحات

الشموع الإعلامية الذاوية وعقيدة البَخس

 
 
بوزيان bouziane


   كثيرا هم الصحفيون العرب الذين تحولوا إلى قطر وإلى غير قطر بدءا من منتصف تسعينيات القرن الماضي، ممّن كانوا مجرد شموع ذاوية وسط قناديل ومصابيح ساطعة في عديد المنابر الإعلامية المشهود لها تاريخيا بالجودة والاقتدار، كراديو bbc العربي بلندن ، والدوتشي فيلة ، ومونتي كارلو العربيين. ويعد الصحفي السوري الجنسية الدكتور فيصل القاسم من أبرز من ينطبق عليهم الوصف المذكور ، من جملة قافلة لا تحصى ولا تعد موزعة بخاصة وبالأساس على وسائل اعلام خليجية ، تُرى لماذا هذا التحول من مجرد قلم هامشي خاوي الوفاض في اﻟ bbc إلى قلم لاغط يستأثر باهتمام المشاهدين العرب؟ ويلعب على عواطفهم بشكل يبعث على الحيرة ، أو دعنا نقول ما أسباب الفشل هناك وأسباب النجاح هنا ، هل يعود الأمر إلى المستوى المعارفي الثقافي واللغوي ـــ فصاحة وبلاغة ـــ أم إلى سياسة استراتيجية قامت عليها و سائل اعلامية قطرية وهي الحرص على ضم العمالة القابلة للتطويع من هنا وهناك ، للدفاع عن خطها الافتتاحي المنوط بدولة لها ما تريد قوله شرق أوسطيا على الأقل ، وذلك يعتمد في جميع الأحوال على عقلية ــ دبلوماسية ـــ تقاسم المنافع ؛ أخدِمني وعقيدتي أجعل منك نجما عربيا ساطعا ؛ العقلية التي أنهكت العقل العربي الراهن وأفسدته ، وكرست لتذيل المشهد الإعلامي العربي بإصرار للساحة العالمية ، كغيره من المجالات الأخرى كالأدائين الاقتصادي و البحث العلمي وغيرهما؟
    لعلّنا لا نقصد بمفردة البَخس هاهنا التحيز الناتج عن النقص فقط ، الذي ما فتئ فيصل القاسم يكرسه ضد ضيوفه العلمانيين بل نقصد به معنيين : فبَخَسَ فلان فلانا بمعنى سلبه حقه ، أما المعنى الثاني فناتج عن المعنى الأول فهو البُخس[*] من بَخَس غيره أتوماتيكيا عند الناس/ الناس الصفوة النبيهين ، أي فقد الاحترام والتقدير عندهم ، حيث كان منذ التسعينيات في برنامجه "الاتجاه المعاكس" بقناة الجزيرة القطرية كلّما أدار مناظرة بين إسلامي وآخر علماني ، أو أدار حوارا أثير بالتحليل والمناقشة إعلاميا على الأقل ، تحيّز إلى الطرف الإسلامي وتملقه حتى ولو كان شخصية معروفة بتطرفها الفكري ـــ بالمقاطعة المستمرة لمنافسه الضيف العلماني وتسريعه في الكلام وحتى لومه ــــ  شرط أن يكون ضيفه الإسلامي هذا المنحاز له شخصية لها حظوة ومعروفة كالشيخ القرضاوي أمام جلال صادق العظم مناظرا، ومحمد عمارة أمام نصر حامد أبو زيد وعبد الوهاب المسيري أمام السيد القمني، ومنذ ذلك الحين إلى يومنا الذي بلغت فيه الميديا بقنواتها السمعية البصرية الفضائية درجة مذهلة من التوسع والتطور ، فالميديا المصرية خذ منها القنوات الخاصة مثلا ستجد معظم البرامج التحليلية الفكرية الثقافية والسياسية تنحو نفس الخط الذي إنتهجه فيصل القاسم وهو التحيز لأحد الطرفين المدعوين ضد الطرف الآخر، عند محاولة إثراء النقاش حول موضوعات حساسة ، الموضوعات التي زادت لهباﹰ وجذبا للإهتمام الإعلامي والسياسي مع أحداث الربيع العربي ، حيث إذا كان الضيف المدعو شيخا معروفا من مشايخ جامعة الأزهر، سنقف حينئذ على نوع من تملُّق مُجل من قبل الصحفي المدير للنقاش لهذا الشيخ ، أما إذا كان شيخا غير معروف( ناطق إعلامي مكلف من الأزهر) فإنه سيتصرف(النجم الإعلامي الذاوي) مع الضيفين المتناقشين المتجادلين تصرف مربيُو كباش وديكة المصارعة في أمريكا الجنوبية (التحريض على المصارعة) فيعمد حينئذ إلى التفكيه على المشاهدين والترويح عنهم بدون قصد ، كما حدث في مناظرة جمع فيها فيصل القاسم بين سيدتين واحدة علمانية والأخرى محافظة محجّبة ما جعل هذه الأخيرة تنسحب على الهواء ، وهو أول انسحاب فيما أذكر يحدث في برنامج يبث حياﹰ على قناة فضائية شرق أوسطية ،  و يرجع برأيي سبب ذلك أولاﹰ إلى المستوى الثقافي المعارفي السطحي للصحفي ـــ حتى وإن كان يحمل درجة دكتوراه تكون الأبعد عن الثقافة  بما كان بخاصة الدراسات التراثية ــــ حيث لا يكون بمقدوره إحراجهم/ الاسلاميين بسؤال دسم واحد ، وثانياﹰ إلى ضغط المجتمع النفسي على العلمانيين وهم قلة فيه أمام المحافظين وهم كثرة فيه ، فيكون وقع ذلك الضغط البسيكولوجي بادياﹰ في شكل نزعة غير مقتنعة بتحيزها لكنها تتحيز، حيث يضطرون إلى معايشة هذا الواقع برغم أنه واقع مر. وثالثاﹰ إلى إتباع أكثر من قناة شرق أوسطية كالتي استوعبت تلك الشموع الذاوية في قطر والإمارات لسياسة البلد . أما عن القناديل والمصابيح الساطعة الحقة فلم تستفزها العروض المُغرية من الجزيرة وأخواتها أبدا ، ولم يرجع بعضهم من الإذاعات العالمية السابقة الذكر أعلاه  إلى البيت الإعلامي الأم ، إلاّ بعدما أن تقدم بهم العمر كجورج مصري وأيوب صادق و علي أسعد من الbbc العربية ، رجعوا إلى إذاعة بلدانهم الأصلية للإشراف على تلقين المذيعين المبتدئين وتدريبهم.
   أما الفئتين من الصحفيين الذين أصبحت قطر والإمارات الوجهة المفضلة لهم  منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي : فئة لم تجد ضالتها وسط زحام من أقلام كثيرة لامعة هناك خلف البحار؛ حيث كان مستواها جد عادي ضمنها ؛ وإلاّ لما إختارت التحفيزات المالية المسيلة للعاب وآثرتها على المستوى الإعلامي التقني العالمي النيّر، ناهيك عن رفاهية بلد الإقامة وطيب مقام العيش الكريم فيه ، كحال فيصل القاسم وفيصل الأحمر ونور الدين زرقي[†] هؤلاء الذين عهد القسم العربي لهم ببرامج تسجيلية فقط ولمدد طويلة ، كتعليم الإنجليزية بالراديو وقراءة ترجمات المترجمين وتحاليل المراسلين الإنجليز. والفئة الثانية هي قوافل صحفيو المغرب العربي التي وصلت إلى الجزيرة وأخواتها منذ إطاحة حمد بن خليفة آل ثاني بوالده ، خاصة من القطر الجزائري الذي ثارت به حربا أهلية و ربطته علاقة استراتيجية مع قطر والامارات ، فهؤلاء الصحفيين أُشْعِر بالحاجة إليهم لسببين رئيسيين ، بعيدين كل البعد عن المعقولية كما قد يعتقد الجميع ، وهو الكفاءة الإعلامية ، فلسان حال الصحفي الجزائري تقنياﹰ هو لسان حال بلعومه الخشن الصوت وثغره الأملد زائد إلمامه باللغة الأجنبية لا غير، والشواهد غير خافية لمن أراد التأكد ، والسببان هما : القصور في الطاقات والاطارات البشرية في دويلات الخليج العربي و الشعبية التي حظيت بها بعض الجوه الإعلامية بالجزائر دون سواها ، نتيجةﹰ للاعتبارات المذكورة أعلاه ، ولعبت التحفيزات المالية في ظل إنخفاض قيمة العملة الجزائرية دورا كبيرا في سيلان تلك الموجة وتدفقها المستمر في اتجاه واحد معلوم.

   لعلنا نلمس هاهنا علاقة الاستلزام بين كفاءة وبراعة ودهاء الانسان والقيم التي يحمل ، وهذا ما أثبته الواقع وفشلت النظرية في إثباته فالواقع هو رب الصنعة كما يقال ، وأي إفاضة في الموضوع تبقى من قبيل الجدال ولغط كلام لا غير ؛ فالاعلاميون العرب الذين وصلوا شبابا إلى البي بي سي   bbc في لندن وغيرها للعمل ، كانوا قد أختيرو بدقة وجُرّبت كفاءتهم وبعد إستقدامهم مباشرة استطاعوا لبس معطف ديمقراطية المجتمع الغربي ومدنيته بتكيّف عال ، وبالتحلي بقيم الانسان الغربي ، الصرامة في العمل ، تبعه حتماﹰ صرامة في التّحلي بالقيم الاجتماعية من ثم الوفاء والإخلاص لرب البيت ولسلطان القانون والديمقراطية.  أما من لم يقدروا منهم فلأن مستواهم التقني كان محدودا ، مبررين مغادرتهم عند أول عرض تلقونه من الجزيرة وشقيقاتها بأنهم كانوا يعيشون وسط الكفار! و وسط مجتمع خالي من القيم الروحية وغيرها من التراهات ، فالواقع هو خير من يعلي من شأن مجتمع القانون والديمقراطية الركنين الأساسيين في بناء المجتمع المدني، ويدحض المجتمع الديني والمجتمع السلطوي القائمين على الترهيب ونشر الخوف بين مواطنيهما، والمفارقة التي تستقى من واقع الطبيعة نفسها هو في الإحساس الأبدي لقوى الشر بالنقص والبخس أمام قوى الخير، فتعمل على التكاتف والاتحاد فيما بينها ؛ مازال رئيس دولة قارة ، تفيض بالخيرات والطاقات البشرية كدولة الجزائر، يعيش بعصب واحد غير أنه يحظى بدعم قوى الشر التي تزيّن له عمله وهو ماضٍ في تصفية كوادر البلاد وطاقاته الشابة وتنحيتهم ، ليس ممن يحملون الكفاءة فقط بل من يتجلى فيهم أبدع الإبداع ، والمفروض الأقرب للواقعية والمنطق هو أن يتنحى هو ، لأنه عندما تستفحل السقطات والأزمات المندلعة هنا وهناك وفي كل شبر من ربوع البلد يصبح الرئيس هو المسئول الأول والمباشر عنها ، لذا وجب أن ينّحي نفسه عن السلطة قبل أن ينّحي غيره لتستقيم أوضاع البلاد ثانية وهكذا تبطل النظرية المستقاة من الدين ؛ التي تَرُد كل ضعف وتخلف إلى إنتفاء الايمان وطاعة أولياء الأمور، و المستقاة كذلك من دستور الدولة اللاديمقراطية والتي تعمل على الحفاظ على هيبة الفقيه والمرشد أمام الصانع والمبتكر، وهذا مدخل من أحد مداخل اللاّعدالة والتفرقة الاجتماعية ـــــ فمن المفروض أن الله هو الذي يكافئ الفقيه والمرشد الديني جزاءا على سلوكه الخلقي ، وليس الانسان والانسان الحاكم مثله ـــــ وتَرُد (النظرية) التخلف بدورها لرُجحان كفة التغريب  على كفة التقاليد! وإلى عدم تطبيق النظرية الاقتصادية الفلانية أو العلانية ، كالنظرية الماركسية وما شابهها تطبيقا حرفيا صارما! وهكذا بتبادل قوى الشر للمنفعة بينهم يستمر التخلف ، وتنتكس النظرية وأفق تطلعاتها وتصبح مجافية للواقع بغرابة : لأنها (الشريعة والنظرية المذهبية في حماية السلطوية) سوف تبقى عمياء أسيرة صفحات الكتب ، قوانينها مجافية للواقع وغير قابلة للتناغم مع الطبيعة ومنطق العقل العملي فتثبت فشلها ، ولأن الشرق اليوم يعيش على مبتكرات الغرب ، العملي ، والقوي ، والخيّر، بأياديه الممدودة للإنسانية جمعاء ، فالواقع بالتجربة العقلية هما عينا كل نجاح وتطور.

    والحقيقة أن هناك فئة ثالثة من الشموع الإعلامية الذاوية تقع بين الفئتين المذكورتين ( لنختم بها) وهي التي ولجت الميدان مؤخرا فقط ـــــ منذ 2008 فصاعدا تحت مسمى الاعلام الجديد ــــ عن طريق فسحة فضاءات الكتابة والنشاط الإعلامي عبر الأنترنت ، كانت مواقع بلوجر ثم تطورت إلى مواقع لمجلاّت وقنوات إلكترونية أرادت بسرعة الضوء أن ترتقي إلى عنان السماء ، بولوجها أوعَر الموضوعات المطروحة للنقاش بل أعقدها جميعا ، كالتي تعنى بنقد الفكر الديني والحداثة الغربية ، إلاّ كي تفصح عن نوايا أصحابها في الهوس بالشهرة مهما كلفهم الثمن ، أتحدث هاهنا عن سبيل المثال لا الحصر عن موقع كموقع صحيفة المثقف وموقع كموقع جيروم وموقع الجزيرة نت .. وهلم جر ، لعله الغياب الفاضح للتجربة والخبرة والتخصص لهؤلاء ، مع هذا تجرأوا النبش في أعقد القضايا الفكرية الراهنة ، المستقطبة للساحة الفكرية و المثيرة للتعصب والعنف ، وعن غير عمق معرفي وتجربة وتخصص أكاديمي ، وهذا يدخل برأينا في نطاق ثقافي سائد وهو عدم إحترام ذات الشرقي سواء كان علمانيا أو إسلاميا للآخر المحلي المنافس ، والمخالف له في الرأي ، حتى إمتاز بخاصية نفسية أخلاقية ترجع لتأثير البيئة أي للمنطقة المدارية الحارة ، حيث يُرجح عالم الاجتماع مونتسكيو في نظريته « أثر البيئة الطبيعية في اختلاف الشعوب » ــــــ يرى مونتسكيو أن الاختلاف في درجات الحرارة بين الارتفاع والانخفاض يصحبه إختلاف كبير في شتى النواحي للبشر منه الاختلاف الأخلاقي[‡] ــــــ أن عوامل الحرارة التي لا تطاق تاريخيا تجعل من الانسان أكثر عصبية/عدم تقبّل الآخر والاعتراف به ، وأكثر شهوانية ، فالسلوك مرده طفرة في شفرة الجين العقلي النفسي رقم كذا وكذا في البطاقة الجينية للانسان ADN ، وهو ما ينطبق على سكان الوطن العربي و الدول الاسكندنافية . و عندما بحثت عن نظراء أولئك المتطفلون عبر اعلامهم الجديد على الأنترنت ، متطفلين على شؤون لا تخصهم من قريب أو بعيد في شيء ، من يناظرهم من بلوجريين وسياسين وإعلاميين وعلماء طبيعة من أحسبهم متطفلين غربيين فلم أجد ، إلا نادرا.
                                                                           




[*] - البُخس بالضم غير صحيحة صرفيا وهي عامية جزائرية لكن تحمل نفس معنى المصدر الصحيح صرفيا البَخس.
[†] - إستمع كاتب هذا المقال شخصيا لهذه البرامج وكان قريبا من عمر الشباب حينها ، لذا قد يقول قائل أن رؤيته هاته هي من قبيل الغيرة أو طيش الشباب التي استعادته ذاكرته ، فلمن يذهب بهم المقام إلى هذا القول نقول : هناك موجات من صحفيو المغرب العربي المتميزين بين قوسين ، سارت الجزيرة وأخواتها على عهدها ومنذ إنشائها في المطالبة بهم من مؤسساتهم وتتضمن القوائم لموجات جزائرية أقلام رياضية وثقافية بالخصوص ، كل خمس سنوات تصبو بل تشدد على ضمهم ، فلو فرضنا أني كنت واحدا من بينهم هل سأكون لأقبل؟ هل المسألة تكمن حقا في الغيرة أم في رؤية نقدية تكدست بالتراكم في شكل تجربة؟ والذي يقال عن الغيرة يقال أيضا عن الغرور ومحاولات تشويه الصورة : فأنا مازلت بعد ما مضى بي العمر، مازلت أبعث بمقالاتي وكتاباتي هنا وهناك وأقول أني أكتب لمجرد تطبيق ما تعلمته في الجامعة / فنيات التحرير ،  لا أكثر ولا أقل ، فمن استساغ أفكاري فبها ونعمة ومن لم يستسغها فالتنوع والاختلاف سنة الكون.
[‡] - أحمد العجلان : التوظيف السياسي لنظرية البيئة الطبيعية بين ابن خلدون ومنتسكيو ، دار رسلان سوريا 2008 ، ص 157.
author-img
موقع تنويري فكري وشبه أكاديمي، يتغيا تقديم إضافات نقدية تخص تحليل الخطابات الثقافية ونظرية النقد والأدب متوسلا بجماليات التلقي والنقد الثقافي، كما يعنى بنشر إبداع قصصي جديد ليس له ما يماثله على الساحة الجزائرية، والمقال المتناول للشؤون السياسية والإعلامية والاجتماعية المقاربة للظاهرة الأدبية والمحاكية المكملة لها.

تعليقات