افتعال المُخيّلة/ النص المقتطف: يومٌ لم يكن قط في التاريخ



بوزيان bouziane بمساهمة نتاث يوسد

  
للقراءة والتحميل انقر على الرابط: 

 
 النص المقتطف:
 
 
 

يومٌ لم يكن قط في التاريخ

 

    يوم دار فيه زمان بين عشيةٍ وضحاها.. وذلك السُّور القديم الذي إلى الربوة المطلة على بيوتات الأهالي المتناثرة على مرمى البصر فيهم قائم مقام الدهور للدهور، لا يكل ولا يمل ما مرّ زمان، إنّه ذلك السُّور المهترئ ذي الأحجار السوداء التليدة وقربه شجرة، وظلّ هو المبارك لا الشجرة، يمرّ به الأهالي كل يوم لقضاء حواجهم من القرية المحاذية وربّما عبورا إلى بساتينهم ومراعيهم وفي عبورهم يقظة روحية تشدّهم إليه ولا تشدهم، لكن في هذا اليوم الموعود وككل يوم رُئي الأطفال يلعبون حوله مرارا وتكرارا دون أن يزعج صنيعهم أوليائهم؛ فإذا ما ابتعدوا عنه ترى بعض العصافير قد راوغتهم وغادرت أعشاشها لتحط على السُّور، ثم هي لا تفزع قط من بعض الشيوخ الذين بدأوا يتجّمعون قربه متبادلين أطراف الحديث، لكن عندما يقتربون أكثر ويستندون عليه ليلعبوا ويَسْمَروا تتطاير من حولهم وهي راضية وغير راضية.. ثم بعد لحظات وقد بدت السماء كالحة وجهها يأتيه غراب ويتسمّر عليه في صمت ووجل ورهبة، وقرٍ من حولهما يثير القشعريرة قد بدأ وكأنّهما يرويان لبعضهما قصة عمرهما.. ثم بعد قليل يطير الغراب المسكين وهو يعقعق تاركا خلفه تاريخا من عنفوان السؤال لم يجبنا عنه بعده سواه (وسمعت صدى يرجعه الزمان من فم الزمان فيه أين تختبئ حَدَءات وجُرابيات كأنها هي من تعيده على أسماعنا لا هو: ... أروووووواااااح أروووووااااح ... مسسسكوووونة مسسكوووونة ... فييييا فيييينا ... ).

   ولعلّها لحظة اللحظات تلك التي أعقبت فلاحا كان يتبع بقراته ثم يتركها تلحقه للزريبة ليستريح قبالة السور هو الآخر، لكن نواح حمامتين بيضاوين من فوق رأسه فوق السور مباشرة تجعله يلحق ببقراته وهو يذرف دموعا.. تالله ما خطب الرجل إلا يكون قد أصابه مكروه على حين غرة أو فقد عزيزا فجأة.. وبعد قليل ترى عقاب محلّق حول أرجاء سورنا القديم وهو يرسل بصيحات تجعل من دنو فرائسه أمرا مستحيلا.. تالله ما هذا بعمل يُؤخذ عليه العقاب لكن يتأمل فيه وفي سورنا العظيم، ألهذه الدرجة وصلت تسابيح الطير وغفرانها بإزائه، وهي جوعى تحتشد ذات اليمين وذات الشمال مختالة من فوقه وخلاله لكن تغادره فجأة كرا وفرا من دون سابق إنذار، بل وتحية له منها تعادل ألف تحية، ثم بعد العصر بقليل يمر على السور ريح صرصر مضعضع لأركان البدائن والطير مازال يركن إلى صاحبنا في صورة حسُّونات وشحارير.. وتنقر صمته بمناقيرها ثم تعود تتطاير لمّا يمر أحد بقُربها لكن تعود ومعها حمامة برية أو اثنتين ثم تجفل من بعضها بعض الحسونات والشحارير والحمائم الذكور المُتتبّعة للحمامة الأنثى.. وهكذا دواليك إلى أن يطبق الظلام رويدا رويدا ليأتيك منه صوت بوم دائب النوح ما أن تقترب منه حتى يغادر وجلا وفي ذكرى سورنا العظيم عصافير الضُّحى المسقسقة لم تزل، ليست بحشرجات آخر رمق في حياة خفافيش الغسق المرعبة، والتي يُخيّل أنها تدبه دبيبا بأقدامها كأنها تدهسه وتُضَيِّع من عمره يوما لا يعيده إلا تسابيح أخرى لطير الليل الذي يبغي ليلته فوقه.. لكنها أصوات الصراصير المحتمية بين صخوره الدافئة.. ويحدُث هذا بين عشيةٍ وضحاها بيد أن السماء ما برحت تنفرج لحظة بلحظة.. وتلقي أخيرا بظلالها من فوق فيعُم السلام مرة أخرى.. ثم لم ينم السّور بعدُ، ألَا فما أنت يا سور التجلي؟ أم حائط مبكى وعصارة حكمة الدهور؟

   فقد أدرك حكماء الحضارات أنى وجدوا في الزمان والمكان صنعة اسمها التجارة مع الله من دون إهمال لترقية معيشتهم وعن طريق منحهم صكوكا للناس ربحت تجارتهم وازدهرت حضارتهم، وفي جميع الأحوال صكوك النشاط الفكري هي، ومكافأة عن الجهد الإبداعي الخلاق، وحينما أطلقوا العنان لأنفسهم كي يشيدوا مراتع اللهو ويحشدوا فيها آلافا مؤلّفة من أجمل الجميلات من كل حدب وصوب ليجعلوا زبناءهم يدمنون على اقتنائهن صُبحا وعشية، وهكذا عندما يلتفتون إلى دنياهم الثانية وجدوا أعصابهم مرتاحة، وفي قمة العطاء فينتجون علما وأدبا وفنا، ويجددون الحضارة لأنهم جددوا خلاياهم ومنحوها طاقة الشباب(*). أما مانحوا صكوك الغفران شرقا وغربا فقد ألفيناهم يُجهدون أنفسهم أشد الجهد كي يعطلوا سنة الرب في خلقه، أجل، بأن يمسكوا بعقول الناس وأبدانهم عن ممارسة ما جبلها الخالق عليه والظاهر في البدن المنعكس على الروح، فما خُلِق الفم إلا للأكل والفرج إلا لليُصالب، فأصروا وعضا بأن يجعلوهم أناسا خملاء يَصْبِرون على حرمان النفس من ألذ ما تشتهي تحت طائلة التشريع بالحرام وإحقاق المنع السني والبابوي وغيرهما وعدم الخروج عن التقليد في الأخلاق، وقد كدّس في جيناتهم خمول الأعصاب وتشنجها بفعل اضطراب المنع والمنح لتُنادِم الاهتياج النفسي العصبي المزمن من ثمة قُل للراحة والطمأنينة التي تمكن من اشتغال الفكر والعضلات ألف سلام، ثم أنّ الغضب والنرفزة والضجر والسأم لأتفه الأسباب هو رد طبيعي من الجسد على الإكراه والاضطهاد من ثمة تضْمُر به هِمّة الالتماع الفكري إلى التواكل والحنين وإلى الأمر الواقع الوعظي كلّما قلّت تلك النباهة العصبية، معتقدين أنها راحة الإيمان والصبر ولذتهما الإلهية نقصد هبتها الإلهية في كتابه العزيز الحكيم، بيد أنه في الحقيقة إدمان من نوع آخر لما حاد عن إدمانه الطبيعي، إدمان على إراحة الذهن بأفعال مصطنعة من اختلاق البشر موجبة للتراخي والكسل.

   ولما أدرك صاحبنا الذي من الصنف الأول سره راح من يومه إنسانا آخر كأنه الذئب خاليًا أسَدٌ، لا يهادن بالاستبداد أنّى وُجد، لكنه يرى في الحرية موطن ادراك خير الإنسانية، وأن هناك يوم عظيم ينشده سيُحقق نبوءته لا ريب ويحقق صنيع حكماء الحضارة الجدد، بيد أنه يوم لا ينفع معه لا مشروبات الطاقة ولا لحوم الخنزير المجفّفة المنقوعة في شحومه، ولا أي مأكولات أخرى مشبوهة وغير مشبوهة، لكنه تيقّن أنه لا بد من التّحضير لذلك اليوم الجلل لِمَا فيه من مكابدة الطريق ومشاق مترتبة عن صعوبة المسالك الوعرة، والتي قد لا يطيقها أشجع وأذكى الشبان المفتولي السواعد، المتمرسين على أخطر المغامرات. جاء ذلك اليوم أخيرا لأن الرّب شاء لحدوثه في شكل ابتلاء وامتحانا لمن وقعت عينه عليه، ولمعرفة الطريق السوي الذي ترتضيه حكمته على الأرض، عقلا وقلبا، لابد من ذلك اليوم، يومٌ موعود يستعد له بسبعة أيام كاملة، فيها يأكل ويخشع ويتحرك حركات جد مضبوطة تبعا لتقاليد مدارس الشرق في الخشوع الذهني بين يدي إله الحكمة. إله الحكمة الذي سمع قولا "أنتم أبعد عن الحقيقة بُعد السماء عن الأرض" فأراد أن يؤكد لهم حقا على لسان الحقيقة لا ساخرة ولا مفجوعة: "أنتم بعيدون عني، بعيدون حقا وكما تبعُد السماء عن الأرض"

  وكل ذلك إنّما سيكون في الريف القريب من قريته، لأن هوائه منعش وبستانه مثمر بأنواع البقول والخضروات والفواكه وأطيب المأكولات التي تساعده على استعادة عافيته في بدنه المنعكس لا محالة على قدراته الذهنية، أجل إنه بعد أن يُتِم تلك الأيام السبعة سيخوض في يوم واحد رحلة تعبُّد ولا أجل ولا أخشع في التاريخ كله قط: إنه سيصلي أخشع صلاة في أرفع مكان مقدس لدى المسيحية ثم يأخذ الطائرة قافلا إلى أرفع مكان مقدس لدى المسلمين ليصلي فيه أيضا صلاة كلها خشوع وتسليم بعدها يتوجه إلى أقدس بقعة عند اليهود ليفعل الفعل ذاته ثم أخيرا يتوجه بكل سرعة وحزم إلى أقدس مكان عند البوذيين والكنفوشيو سية ليصلي فيه صلاة أسطورية كالذوبان بيد الله، إذن سيخشع في يوم واحد بين يد ربه في بيت المقدس، وفي كعبة مكّة، وفي تابوت العهد قُدْس الأقداس، وفي بوذا جايا، وعند ضريح كونفوشيوس، وقد أخبره ربه أنه عندما يفعل ذلك سيعرف بفعل رد فعل الناس المحيطين به عندئذ كيف يرتب تلك الأديان ترتيبا إلهيا من وحي ردود أفعال الناس إزائه وهو يُبتلي بينهم خاشعا بينهم فيستلهم أي الأديان أقرب إلى الله حقا وأيها أبعد منه فهو مختلق تقليدا وغيرة لدين البرهان الذي مِن عند ربك إذن.

  وأتم صاحبنا الرحلة التعبدية إلى الشرق العظيم في أقل من يوم واحد كما قطع العهد على نفسه، لكنه خرج بما يشبه الوساوس الجديدة تنبش في حقيقة الأنبياء والرسل، خذ "قضية الرسول من عند الله" أو النبي المبعوث من قبل الآلهة مثلا، والتي لم يعتبرها بقضية جديدة لكن لها جذورها الضاربة في التاريخ.. وممّا يروى أنه كانت في العصور الحجرية المتوسطة شبه نقابات أو كمُونات بالمفهوم المعاصر تراقب من يخرج عن نظام وطوع القبائل ويدّعي أنه رسول من عند الله، وكانت هذه المجموعات تتكون في الغالب الأعم من حوالي 10 شجعان واحد من كل قبيلة يجوبون الأمصار بأمر من رؤساء القبائل، يعْرُجون على المزارع وعلى المصايد الغابية ويسألون أصحابها بخاصة المتوحدّين في كهوفهم الجبيلة البعيدة قائلين: "هوڤاكي هاڤاكي"، أي طاب نهارك ثم يبادرونهم بالسؤال اللغز: ـــ هل أنت رسول؟ فإذا قال "لا" انتهى كل شيء يستأذنونه ويمضون لحالهم أما إذا قال لهم "نعم" يقولون له إذن إاْتينا بمعجزتك، فإذا لم يأتي بها انهالوا عليه ضربا حتى أفقدوه وعيه، وإن عاد استغفر لذنبه انفكوا عنه وإن عاندهم وتصلب زادوه حتى لربّما قتلوه.

   لكن مع ذلك حدث وأن أتى بعض المسئولين كما تذكر الروايات بمعجزات فاقت حدود التصور وكان لجلهم أشكالا متميزة كأن طاروا من ربوة إلى ربوة أو إرسال شرر من الشر المتطاير من أجسادهم، فلم يكن من بد حينئذ من الكمُونة إلا أن تسجد للرسول وتعظمه وتبايعه نبيا مبجلا مكرما قائلين له بصوت واحد " ڤودا ڤودا، هوها هاها هيها" أي ربّنا ربّنا، رجالا وإناثا وصغارا نعبُدك، ثم انصرفوا لكي يحضرون له ما لذّ وطاب من المآكل وهي في غالب الأحوال فريسة يشوون بعضها في حينها على الجمر، ويعطون القسم المتبقي الطازج لأهله.

   أما البعض الآخر منهم فتظاهروا بالنبوة والعصمة وخدعوا الكمونة، فلم يكشف حيّلهم السحرية غير زوجاتهم حيث لما يرجع الرسول النبي المعظم تنكره زوجة وهي قائلة له: أوبلغت بك الجرأة أيها النذل، أيها الساحر الوقح، فعلتها ضللتهم وأحضرت لنا رزقا حراما!  أما عن الرّسل في عصر المستقبل الذي تحدث عنهم العلم فكثيرٌ، مضافين إلى من نعرف حاليا مما جعل الدول العلمانية الأكثر تحضرا تبحث عن كوكب آخر وتجده وتنقل إليه جميع ممتلكاتها ثم تقوم بتفجير الأرض نكالا من المتدينين مع رسلهم المزيفين حسب تصورهم. أجل وحصل أن اتفقوا على حفر حفرة عظيمة في القطب الشمالي بعمق أكثر من عشرة كيلومترات ووضعوا فيها كل ما يملكون من أسلحة دمار شاملة منتقمين بضغطة واحدة من الأرض وما حملته من رسل وتباع رسل.

   والحقيقة أن رحلة صاحبنا الروحانية تلك لم تقع في يوم بالتمام والكامل ولكنها وقعت في ثلاث وعشرين ساعة. أما الساعة التي أتم بها يومه التاريخي، فكانت حين استلقى على أريكة سيارة أجرة كي توصله من مطار بلده إلى شقته في الضواحي، فقد استلقى وما هو بمستلقٍ، ومن شدة العياء لم يدري السائق أنائم زبونه أو مستيقظ كون عيناه ما كانتا مغمضتين ولا منفتحتين لكنها كانتا في حالة متقدمة من السبهللة، ليُتم ما وُعد به، فقد دخل في معركة الوعد الأخيرة فعلا حين رأى أربعة من عباد الله كأنهم منه وإليه(عبد اللاّوي وعبد الله وعبد النّبي وعبد الودود)، مطالعهم تشبه الملائكة، في جزالة ألسُن وكياسة منطق، واقفين على ساحة عظيمة هي ساحة المناظرات الفكرية الضاربة التي دأب عمالقة الفكر البشري عليها منذ فجر التاريخ، وتبعد عنهم مباني البلدة المحيطة بالساحة تارة بُعدا أرضيا وطورا بعدا سماويا مستغرق في ديمومته والذي لم يفهمه سائق سيارة الأجرة نفسه، أجل ومتحلّقين حول نصب تذكاري قديم؛ حازوق طالما حزّ رؤوس البشر عبر تاريخهم الطويل وما شاء له أن يحزّ، ومن المفترض أن الواحد فيهم الذي يدعى عبد الله يثير فضولهم حتى يدخلوا في لب حوارهم الفكري حول سؤال كذاك الذي يتبادر إلى ذهن القصي والداني: (كم من رأس تكون قد حصدت هذه الآلة الصادئة التي قارب عمرها العشرين ألف قرنا؟) وهو عمر جميع حضارات الأرض معدنية وغير معدنية زراعية وغير زراعية تكنولوجية وغير تكنولوجية، لكنه لم يفعل بل قد دخل في خصام مع عبد النبي فما برح عبد الله ساخرا من عبد النبي: " أنا اُدعى عبد الله بالرغم من أني أؤمن بأن المسيح ابن الله وروحه القدس، قُدّست روحه قد فدى الإنسانية المذبوحة بهذه الآلة، وبغير هذه الآلة، مسكينة هي الإنسانية حُزقت حتى العظم، فقد حمل قُدّسِت روحه الأمانة عنهم على صليبه، فنحن معشر المسيحيين حتى وإن وضعنا الله في مكانة ابن الله تبقى مكانة معنوية فقد للدلالة على ثقل الأمانة التي وضعها البشر بعضهم على بعض على كاهل سيدنا المسيح، أما في عالمنا الواقعي فالتواضع سمة من سمات ابن الله، هكذا تجيئ هكذا تذهب، لا شرف لمخلوق على مخلوق آخر، الكل سواسية أمام الله، فهم مثلي عباد الله لا عباد النبي، مثلكم أنتم معشر المسلمين، فكيف تسمي نفسك عبد النّبي أو بالأحرى من سماك بهذا الاسم المخجل (ترتسم بسمات على محيا البوذي عبد الودود واليهودي عبد اللاوي)

ـــ نحن نتسمّى بعباد النّبي في ثقافتنا الإسلامية لنقتفي بآثار نبينا محمد (ص) وخلاله الكريمة ونتبرك ببركاته فقط، فالعبودية لله تعالى، فمن أحبّ نبيه أحبّه الله في ديننا، لكنكم أنتم المسيحيين من تعديتم حدود الله بتأليهكم المسيح ابن مريم... يقاطعه عبد الله:

ــــ لكن الواقع والمعنوي ينقلبا رأسا على عقب بيننا وبينكم، فالواقع المادي لا يشي بما تقول إطلاقا، فإذا كنا نحن نتسيّد العالم في سلم الحضارة فلأننا نسير مع منطق الواقع وإذا تذيلتم أنتم سلم العلم وقيمه فلأنكم تقولون ما لا تفعلون؛ تؤولون المعنويات تأويل حقيقة وتؤلون الحقائق المادية الدامغة تأويلا معنويا فتسقطون في انتكاسة تفكيركم إلى ما يشبه منطق الخرافة، أولم تكادوا تعبدون نبيكم محمدا عبادة حتى في تبرككم به اضحى في مصاف الأساطير والخرافات، شعرة من شعره وبصقة من بصقه يا عباد الله أضحت عندكم بمثابة تلك النبتة أو الزهرة الأسطورية التي أعادت الحياة إلى صاحبها في التاريخ المظلم للبشرية، ليت شعري، فأنتم بهذا السلوك عباد النّبي حقا لا عباد الله.

وهنا أراد عبد الودود البوذي أن يتدخل ليهدّئ من روع المتخاصمين عبد الله وعبد النبي ويحكم بينهم بالعدل لأن عبد اللاوي قد انحاز إلى عبد الله منذ البداية والمسافة بينه وبين عبد الودود وعبد الله تؤشر إلى ذلك بيد أنه ما فتئ لعبد النبي أن يُقاطعه قائلا:

ـــ هداك الله يا هذا، أوتدري لماذا أن محمدا هو خير الأنام وأمته خير أمة؟ (ثم يدخل في سلسلة من الأسئلة يعقبها بالإجابات) لأنها تجلُّه كما تجل أنبياء الله، أوتدري من هو النبي الذي مات ولم يولد؟ (هو آدم عليه السلام) ومن هو النبي الذي ولد ولم يمت؟ (هو عيسى عليه السلام) ومن هو النبي الذي مات ولم يدفن؟ (هو إدريس عليه السلام، وقبضت روحه في السماء الرابعة) من هو النبي الذي دفن في نهر النيل؟ (هو يوسف عليه السلام) ومن هو خطيب الأنبياء؟ (هو شعيب عليه السلام) ومن هو النبي الملقب بأبي اليهود؟ (هو يعقوب عليه السلام) ومن هو النبي الذي أهلك قومه بريح صرصر عاتية (هم قوم هود) ومن هو شبيه إبراهيم عليه السلام من الأنبياء؟ (هو النبي محمد "ص") ومن هو النبي الذي كان عمه إبراهيم عليه السلام؟ (هو النبي لوط عليه السلام) ومن هم أبناء الخالة من الأنبياء (هما يحي وعيسى عليهما السلام) ... ثم صمت...

ــــ هذا تراث الأجيال البائدة عبَّدَت به طريق الأجيال اللاحقة، وجميع الذين ذكرت هم عباد الله، مثلك ومثلي، ولدو وماتوا كما نولد ونموت حتى وأنْ أتى بعضهم بمعجزات وقد زادت في تعجيز معجزاتهم الدهور، غير أنكم عبدتمُوهم عبادة لأنكم العبيد أنفسهم، لا عبادة لمخلوق لمخلوق آخر مثله..

ـــ اسكت يا عبدَ الشيطان.

ـــ بل أنا عبد الله وأنت عبد البشر أوليس اسم الفعل عَبْدْ يقوم مقام فعله؟ فأنت عبد فلان الفلاني يعني ڤارسونه ولكنكم تَضمِرون ذلك باحتيال كعادتكم، فإن عبادة الله تقتضي عبادته بعقولنا وإلا تحولت العبادة إلى استعباد ورق.. وهنا يتدخل عبد اللاوي لكن عبد الودود سبقه قائلا: الله الله، مهلا مهلا، ماذا داهكم يا عبدا نفسيكما، قد أضحيتما تنتسبان إلى الأرض كليكما وتدافعان عن دنياكما بوخز العاطفة ونسيتُم الدفاع عن السماء بالبينة وحدها؛ واحد منتسب إلى نبيه العربي ويفخر بذلك والآخر منتسب إلى عباد اللهـ لكن خف وزنه إلى درجة تصور أن وزنه سيثقل عندما يدافع عن الله قبل الآخرين، بل يحمل مسؤولية الآخرين في الدفاع عن الله! إن كليكما ترجوان منافع الدنيا لأنفسكما لأن الله في عباده، فكيف يحتاج إلى من يدافع عليه وكما يدافع موكلو النيابة العامة عن موكليهم أو حاشية الملك عن ملكها!

ثم إذْ بعبد اللاوي متدخلا: ــــ صدقت يا عبد الله، اقصد صدقت يا إنسيَ الله.

...ثم صمت مُطبق يعم... والأربعة منتصبين في أماكنهم انتصاب جذوع نبات الخزيران حول منبع جارٍ، وريح خفيفة من حوليهم قد قامت مولولة مصفرة ثم ما برحت تشتد وتشتد حتى هدتهم منسحبين إلى بيوتهم الواحد تلو الآخر وهم منتكسين كرهبان حطم أفئدتهم الإيمان. ولم يقدر صاحبنا أن يأخذ منهم العلم الذي يجعله يفاضل بين الأديان كما أوحى به إليه ربّه لكنه أقرّ أنه عبد ربّه في يوم لم يكن قط في التاريخ قبل أن يوقظه سائق الأجرة أن أفق فقد وصلنا إلى المكان.

ــــــــــــــــــ

(*): لمن يرغب التفقه في الموضوع ينظر: غيضان السيد، القيم بين البرجماتيين والوضعانيين المناطقة، متون، العدد3، ديسمبر 2016، ص47ــ78.    

وعليه بهذه الدراسة العلمية المصرية على الرابط:

chrome-extension://ieepebpjnkhaiioojkepfniodjmjjihl/data/pdf.js/web/viewer.html?file=https%3A%2F%2Fwww.univ-saida.dz%2Fssh%2Fwp-content%2Fuploads%2F2018%2F05%2F%25D8%25A7%25D9%2584%25D8%25B9%25D8%25AF%25D8%25AF-14.pdf

 بوزيان bouziane
بواسطة : بوزيان bouziane
موقع تنويري فكري وشبه أكاديمي، يتغيا تقديم إضافات نقدية تخص تحليل الخطابات الثقافية ونظرية النقد والأدب متوسلا بجماليات التلقي والنقد الثقافي، كما يعنى بنشر إبداع قصصي جديد ليس له ما يماثله على الساحة الجزائرية، والمقال المتناول للشؤون السياسية والإعلامية والاجتماعية المقاربة للظاهرة الأدبية والمحاكية المكملة لها.
تعليقات